withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

اسم الكتاب:
خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

ما اقترن بالهجرة المحمدية:

322- اقترنت الهجرة بواقعة وقعت من قريش، فظن كثير من كتاب السيرة أن هذه الواقعة هى سبب الهجرة، وأن الهجرة كانت أمرا مسببا لها، ولكن الهجرة كانت أمرا مقررا، وتنظيما محكما.

يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» فهم يدبرون من جانبهم، والله تعالى يدبر أمرا، قد وجه النبى صلّى الله عليه وسلّم إليه، وهو الهجرة، والأمر الذى مكروا به وتامروا عليه خلاصته ما ذكرته الاية الشريفة.

__________

(1) سورة الأنفال: 30.

رأى المشركون أن مكة المكرمة قد خرج منها الذين اتبعوا محمدا عليه الصلاة والسلام، ليتجمعوا، وليكونوا مع أهل يثرب قوة تقاوم الشرك وتنقض على المشركين، وأنهم بلا ريب أشد أعداء محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فلابد أن تكون تلك القوة عليهم، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يستفحل، وأن تتحقق المارب.

وإذا كان الأتباع قد هاجروا، ولم يبق إلا ضعيف أو عبد، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يزال بين ظهرانيهم، وهو الرأس وغيره أتباع، فإذا نالوا منه، فقد تحقق مأربهم.

قال ابن إسحاق فى سيرته: لما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم، وغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم- عرفوا أنهم أصابوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.

اجتمعوا فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب، وكانت مجتمع أمر قريش، لا يقضون أمرا ذا بال إلا فيها، اجتمع فى الندوة كبراء قريش، ودلف عليهم رجل من نجد، حضر جمعهم، قيل إنه إبليس، وإن لم يكن هو فهو مثله خبثا.

تشاوروا فى أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا.

فقال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذى كانوا قبله، ومن مضى منهم من هذا الموت.

قال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ولئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا إليكم، لينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره.

فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فو الله ما نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إن غاب عنا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

فقال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، فو الله لو فعلتم ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم فى بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، فروا فيه رأيا غير هذا.

فقال أبو جهل بن هشام، والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أري أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا نسيبا وسيطا فتيا، ثم نعطى كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم اذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فيرضوا منه بالعقل (أى الدية) فعقلناه لهم.

قال الشيخ النجدى: القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأى الذى لا رأى غيره.

انتهوا إلى ذلك فأعلم الله تعالى نبيه بما دبروا، وأمره ألا ينام الليلة على فراشه.

,

فى غار ثور:

325- كانت الهجرة هى النصر الأول، بل هى أعظم النصر، لأن النصر الذى جاء من بعدها كان ثمرة لها، فهى باب للفتح، ولقد عدها الله سبحانه وتعالى النصر الأول، وذكر محمدا صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه فى غار ثور هذا، إذ قال الله تعالت كلماته: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ، إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «1» .

__________

(1) سورة التوبة: 40.

خرج النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى غار ثور، وهو على مسافة من مكة المكرمة بأسفله، وسار هو وصاحبه الصديق فجعل أبو بكر يكون أمام النبى صلّى الله عليه وسلّم مرة، وخلفه مرة، فسأله النبى صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك. ويروى أنه قال إذا كنت أمامك خشيت الطلب، وإذا كنت خلفك خشيت الرصد.

وروى البيهقى عن عمر بن الخطاب قال: «لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أبا بكر مالك تمشى ساعة خلفي، وساعة بين يدي، فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشى خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشى بين يديك، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني. قال:

نعم، والذى بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار. قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبريء لك الغار فدخل حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبريء الجحر، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبريء، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل، قال عمر: والذى نفسى بيده، لتلك الليلة خير من ال عمر» «1»

مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطمئنا إلى وعد الله تعالي، راضيا بالمشقة فى سبيل الدعوة، وتبليغ الرسالة، وقد رضى أن يفارق مكة المكرمة، وهى أحب بلاد الله تعالى فى سبيل اقامة الدولة الإسلامية، التى لم يمكنه أهلها من الدعوة، وحاولوا قتله، وكانت هذه المحاولة مع عنادهم، وكفرهم، وجحودهم بالايات سببا فى أن يخرج يريد أرضا لدولة الإسلام فى غيرها.

علم المشركون، أو العتاة منهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج، وأن الذى نام مكانه علي، وأنهم ترصدوا عليا، وهم يحسبون أنهم يترصدون النبى عليه الصلاة والسلام ليقتلوه، حاولوا أن يعرفوا من على أين ذهب النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلم يجدوا عنده ما يطلبون، فأخذوا يتقصون أثره، ويتأثرون خطاه ليعرفوا أين يكون، وأطلقوا فى الأسواق والأماكن من يأتى به حيا أو ميتا وقد اقتفوا أثره، وتتبعوه، حتى وصل بهم الأمر إلى جبل ثور الذى بغاره الصاحبان، ولكن اية الله تعالى أن جعلت العنكبوت ينسج نسيجه، وكأنه من سنين، وأن حمامتين عششتا على بابه، فكانت اية حسية من خوارق العادات، ولكن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يتحدث لإثبات نبوته إلا بالقران الكريم، لأنه المعجزه الكبرى الباقية إلى يوم الدين. وهو حجة على الخليقة فى كل الأجيال، ولكل الأجناس.

جاء رجال قريش يطلبون النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد انتهى بهم الأثر الى الغار، ولكنهم، وجدوا ما وجدوا وقالوا إذ رأوا نسج العنكبوت: لم يدخل أحد. وهم لو ألقوا بأنظارهم إلى داخله لرأوا الرسول وصاحبه، ولكن

__________

(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 180.

صرف الله تعالى أنظارهم، والنبى صلّى الله عليه وسلّم أمن مطمئن، ولذا كان قائما يصلي، وأبو بكر يرتقب، فلما أتم النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاته، قال أبو بكر خائفا على النبى عليه الصلاة والسلام «إن قومك يطلبونك أما والله أنى لأئل «1» على نفسي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره» ، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخف إن الله معنا» .

هذا ما كان من القوم، وما كان يجرى داخل الغار، وكان أبو بكر قد دبر الأمر بالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، لقد كلف ابنه عبد الله أن يأتيهما وهما فى الغار بأخبار قريش، وما تدبر من أمرها، وهو غلام شاب ثقف مدرك لقن، فيدلج من عندهما فيصبح مع قريش بمكة المكرمة، ولا يسمع أمرا يكيدون به لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، فيريحها عليهما وهما فى الغار، وذلك فى ساعة العشاء، فيبيتان وأرسال لبن الغنم تصل إليهما، حتى إذا جاء الغلس، أخذ عامر بن فهيرة الغنم، وعاد إلى مكة المكرمة، فيكون من اللبن غذاء، ويذهب سير الغنم باثار من يجيئون إلى الغار، حاملين أخبارا، أو حاملين طعاما.

وكانت أسماء بنت أبى بكر تعد لهما سفرة من الطعام فى جراب، ولما لم تجد ما تربط به قطعت نطاقها، فربطت بقطعة منه على فم الجراب، ولذلك سميت ذات النطاقين، وكانت تذهب بالطعام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه كل يوم، أو كلما أمكنتها الفرصة.

,

سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

326- مكث النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الغار ثلاث ليال، حتى يسكن طلب قريش، ويئسوا من أن يصلوا إليه، صلّى الله عليه وسلّم، وبعدها خرجا قاصدين إلى المدينة المنورة، ومعهما دليلهما المشرك، ولكنه كان أمينا عليهما، غير مدلس ولا مماليء؛ فسلك بهما طريق الساحل، حتى لا يتبعهم أحد من قريش، لأنهم لا يتصورون أنه يسلك هذا الطريق وهم يتتبعونه، ويقتفون طريقه، وقد جعلوا لمن يعود به حيا أو ميتا مائة ناقة كما أشرنا من قبل.

وقد طمع سراقة بن مالك بن جعشم فى أن ينالها، وقد روى ابن إسحاق عنه أنه قال:

«لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة المكرمة مهاجرا، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم.

فبينما أنا جالس فى نادى قومي، إذ أقبل رجل منا.. فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على انفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، فأومأت إليه بعينى أن اسكت، ثم مكثت قليلا ... ثم أمرت بفرسى..

وأمرت بسلاحى. ثم أخذت قداحى أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتى «2» ، فاستقسمت،

__________

(1) هى من أل المريض أو الحزين بمعنى رفع صوته وصرخ عند نازلة تنزل به.

(2) الدرع.

فخرج السهم الذى أكره، وكنت أرجو أن أرده على قريش، فاخذ مائة الناقة،. فركبت على أثره، فبينما فرسى يشتد عثر بي، فسقطت عنه، فقلت: ما هذا، ثم أخرجت القداح فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت فى أثره فبينما فرسى يشتد عثر بي، فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها، فركبت فى أثره، فلما بدا القوم ورأيتهم عثر بى فرسي، فذهبت يداه فى الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يداه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع عني، وأنه ظاهر، فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جعشم، أنظرونى أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وماذا تبغي منا؟

قلت: تكتب كتابا يكون بينى وبينك» .

يلاحظ أنه ذكر له ما كان يسعى إليه، ولكنه عندما رأى ما رأى، وعلم اليقين فى الرسالة، استوثق من أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم منصور بأمر الله تعالي.

فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا، ثم ألقاه إليه.

وقد استمر سراقة حافظا لهذا الكتاب، حتى جاء الفتح المبين بفتح مكة المكرمة، ثم فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين والطائف ذهب سراقة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتاب، ويقول فى ذلك «دنوت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفعت يدى بالكتاب، وقلت يا رسول الله، هذا كتابك لى، أنا سراقة بن جعشم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هذا يوم وفاء» .

أعلن سراقة إسلامه، ويظهر أنه كان مؤمنا بصدق النبى صلّى الله عليه وسلّم من يوم أن رأى ما رأى، ولذلك أراد أن يأخذ هذا الكتاب.

وقد سأل النبى صلّى الله عليه وسلّم عن سقى الإبل الضالة قائلا: الضالة من الابل يغشى حياضى، وقد ملأتها الإبل هل لى من أجر فى أن أسقيها؟

قال الرسول عليه الصلاة والسلام الرحيم: «نعم فى كل ذات كبد حرى أجر» .

ولقد حسن إسلامه فرجع إلى قومه، وساق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقته.

,

الركب يسير فى طريق وعر:

327- لم تكن الرحلة المباركة سهلة، لأن الطريق فى الصحراء، ليس سهلا فى ذاته، بل هو طريق وعث تجتاز فيه الرمال والوهاد والاكام، وقد اختار الدليل طريقا هو أشد طرق الصحراء وعورة، وذلك لكيلا تتبعهم قريش إذا سار فى الطريق الذى ألفوا السير فيه، وقد يكون معبدا إلى حد مناسب للصحراء.

لقد سلك بهم طريق الساحل، ولم يكن مألوفا فى الوصول إلى يثرب منه، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فى سيرته يذكر الأماكن التى مر بها فهو يقول:

«لما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط (أريقط) سلك بهما أسفل مكة المكرمة، ثم مضى بهما (النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر) على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجار بهما حتى عارض بهما الطريق، بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة محاج «1» ، ويقال له مجاج، ثم سلك بهما مرجع مجاج، ثم تبطن بهما مرجع ذى العضوين، ثم بطن ذى كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما سلم، من بطن أعداد مدلجة تعهن (وزن فعلل) اسم عين ماء، ثم على العبابيد.. ثم أجاز بهما الفاحة» .

قال ابن هشام: «ثم هبط بهما العرج، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما. فحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر، على جمل له يقال له ابن الرداء- إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية الفا عن يمين ركوبه، حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما قباء لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل» «2» .

هذا هو البيان الذى ذكرت فيه أسماء الأماكن التى مر بها ذلك الركب المبارك، فما ذكر كله أسماء أماكن فى الصحراء العربية، وهى مجاهل فيها، ما كان ليعلمها إلا خبير بها، وهو ذلك الدليل الذى كان عليما بها، وكان أمينا على من معه مع بقائه على الشرك.

وهذا البيان يدل على مقدار صعوبة الرحلة، حتى أجهدت الرواحل، واضطر النبى صلّى الله عليه وسلّم إلي تغيير الراحلة.

,

أم معبد:

328- هذا خبر عن امرأة نقية طاهرة مخلصة، التقى بها النبى صلّى الله عليه وسلّم فى القديد فى أثناء رحلته، وقد ظهر فى لقائه بها عليه الصلاة والسلام من خوارق العادات، مما يضاف إلى خارقة خروجه عليه الصلاة والسلام، وقد وضع الله تعالى على بصرهم غشاوة، فلم يروه، ويضاف نسج العنكبوت فى الغار، وإلى تعشيش الحمام عليه، وإلى غوص قوائم فرس سراقة، وعثرته عدة مرات.

__________

(1) في معجم البلدان لياقوت (مجاج)

(2) سيرة ابن هشام ج 1: 2 ص 491. 492.

فإن كل هذه خوارق عادات حسية، لا تقل عن معجزات موسى وعيسى الحسية، ولكن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يتحد قريشا بها، ولم يتحد الوجود الإنسانى بها، بل تحداه بالقران الكريم المعجزة الكبرى.

والخارق الذى بدا فى المرور على أم معبد، هو أن اللبن در من شاة عجفاء حائل لا لبن فيها، وسقى جميع الركب، وتكرر السقى، وشاركهم أهل المنزل الذى نزل فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإليك القصة كما رواها البيهقى بسنده عن أبى معبد الخزاعى:

«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمتى أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبى بفناء الخيمة فسألوها هل عندها لحم أو لبن، يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، وإذ القوم مرملون مسنتون (أى فى سنة جدب) .

فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا شاة فى كسر خيمتها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: هى شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال عليه الصلاة والسلام: فهل بها من لبن؟ فقالت هى أجهد من ذلك. قال عليه الصلاة والسلام: تأذنين لى أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله تعالي، ودعا بإناء لها يريض الرهط «1» ، فتفاجت واجترت فحلب منها ثجا حتى ملأه، وأرسله إليها، فسقاها، وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل «2» ، حتنى اذا أرووا شرب (أى عليه الصلاة والسلام) اخرهم، وقال: ساقى القوم اخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا. فما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزات عجفا يتساوكن هزلا لا نقى بهن «3» ، فلما رأى اللبن عجب، وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة فى البيت، والشاة عازب؟ فقالت: لا، والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت، وكيت، فقال: صفيه، فو الله إنى لأراه صاحب قريش الذى تطلبه، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة «4» ، قسيم وسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أكحل، أزج، أقرن (أى سيد) فى عنقه سطع، وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما، وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم

__________

(1) أى يشبع الجماعة، وتفاجت معناها فرجت بين رجليها.

(2) النهل الشرب الأول، والعلل الشرب الثانى.

(3) النقى: المخ.

(4) التجلة: ضخامة البطن، والصعلة: صغر الرأس والوطف: كثرة الشعر.

يتحدرن، أبهى الناس وأحلمهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، ربعة، لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود، محسود، لا عابس ولا مفند.

فقال بعلها: هذا والله صاحب قريش الذى تطلب، ولو صادفته لألتمسن أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

هذه قصة أم معبد. وهذه أقوالها، وقد أشرنا إلى ذلك فى صفات النبى صلّى الله عليه وسلّم، واسمها كما جاء فى كتب السيرة عاتكة بنت خلف بن معد بن ربيعة بن أضرم. وأبو معبد زوجها- اسمه أكثم بن العزى ابن معبد بن ربيعة بن أضرم، فهو من أبناء عمومتها، وقيل أنه أسلم، وهاجر.

,

خوارق أخرى:

329- سار الرائد الذى سلك بالنبى عليه الصلاة والسلام وصاحبه غير الطريق الجاد، وسار فى طريق غير مطروق، مر بأماكن كثيرة وقد حدثت فى هذه الطريق خوارق للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكلها يتعلق بمسير السائر فى الصحراء، وحاجته إلى الزاده والماء، فكانت الخوارق تجيء مناسبة لذلك.

وقد روى البيهقى بسند عن قيس بن النعمان قال: «لما انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر رضى الله تعالى عنه مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال ما عندى شاة تحلب، غير أن هناك عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت «1» ، وما بقى لها من لبن، فقال عليه الصلاة والسلام: ادع بها، فدعا بها، فاعتقلها النبى صلّى الله عليه وسلّم، ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بوعاء فحلب، فسقى عليه الصلاة والسلام أبا بكر، ثم حلب، فسقى الراعى، ثم حلب، فشرب صلّى الله عليه وسلّم. أخذ العجب الراعى فقال:

من أنت، فو الله ما رأيت مثلك قط، قال عليه الصلاة والسلام: «وتراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فإنى محمد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) . فقال الراعى المخلص: أنت الذى تزعم قريش أنه صابيء!! قال إنهم ليقولون ذلك، قال فإنى أشهد أنك نبى، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أنى قد ظهرت فأتنا» .

وقد روى هذا أيضا أبو يعلى.

__________

(1) أي ألقت ولدها بعد أن صار تام الخلق ولكن نزل قبل أوانه ويقال أيضا إذا ولدته قبل تمام الحمل ناقص الخلق.

وروى أبو نعيم بسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبى معيط بمكة، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقال صلّى الله عليه وسلّم «يا غلام عندك لبن تسقينا» فقلت: إنى مؤتمن، ولست بساقيكما فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟

قلت: نعم، فأتيتهما بها، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الضرع، فدعا، فحفل الضرع. وجاء أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، وسقيانى، ثم قال للضرع أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: علمنى من هذا القول الطيب: يعنى القران الكريم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«إنك غلام معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعنى فيها أحد» .

وهذه القصة لعلماء السيرة فيها كلام، وذلك أن ابن مسعود رضى الله عنه كان من المسلمين الذين أسلموا قبل الهجرة، وأوذوا فى سبيل الله، وهاجر إلى الحبشة، والقصة توهم أنه كان إسلامه فى أثناء رحلة النبى صلّى الله عليه وسلّم.

وكلام علماء السيرة، لا يمنع أصل القصة، ولب الخوارق للعادة، فإن ذلك ثابت فى الصحاح، وربما كان الكلام منصبا على السياق، لا على أصل الواقعة وغيره ثابت بلا ريب.

وقد سقنا ذلك الكلام، وليس فيه تطويل، لأنه صدق، ولا تطويل فى نقل الصادق من الأخبار.

وإن هذا كله يدل على أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء على يديه من الخوارق الحسية ما يزيد على التسع التى اختص بها موسى عليه السلام، إذ أحيا الموتى باذن الله، وإذ أخرجها من قبورها بإذن الله، واختلاف النوع لا يدل على ضعف الروحانية فى خوارق محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالإسراء والمعراج خارق للعادة مادى روحى، وغوص فرس سراقة، ونبع اللبن بين أصابعه وتكرره يدل على قوة روحية لا تقل عن إحياء الموتى، ومع ذلك لم يتحد النبى صلّى الله عليه وسلّم إلا بالقران الكريم أنزله عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.

وصول النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى قباء

استمر الركب المبارك محمد صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه سائرا فى طريق وعر فى وعثاء الصحراء، وقد استطال فرارا من الطلب، وايات الله تتبعها اية، وكثرت فى الطريق، وتوالت، ليعلم النبى صلّى الله عليه وسلّم بالواقع أن الله سبحانه وتعالى معه حيث حل وحيث ارتحل، كما علم من قبل بعين الإيمان، إذ قال لصاحبه وهو بالغار، لا تحزن إن الله معنا. فأراه الله تعالى الايات فى رحلته، كما أراه الايات فى نبوته.

وقد انتهت شدة الرحلة بالوصول إلى قباء، حيث المنعة والنصرة، وحيث لقاء أهل الإيمان الذين كانوا يترقبون شخصه، ويستشرفون لحلوله بينهم.

يقرر ابن إسحاق بسنده فى هذا عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة المكرمة وتوقعنا

قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما يبرح حتى تعلينا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا ... وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخلنا البيوت، فكان أول من راه رجل يهودى، وقد رأى ما كنا نصنع، وأن ننظر قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- علينا.

فصرخ بأعلى صوته يا بنى قيلة (الأنصار) هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركبه الناس أى (ازدحموا) عليه وما يعرفونه من أبى بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام أبو بكر، فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.

نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيما يذكر علماء السيرة الطاهرة على كلثوم بن هند، وبعض العلماء يقول أنه نزل عند سعد بن خيثمة، وقد وفق ابن إسحاق وغيره بين الخبرين، فقال إنه صلّى الله عليه وسلّم نزل عند كلثوم، ولكنه كان إذا خرج للناس وجلسوا إليه، كان ذلك فى بيت سعد.

ولقد جاءت عبارات تفيد أنه كان يختار الجلوس فى بيت سعد، لأنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزله منزل الأعزاب من المهاجرين.

ونزل صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر على خبيب بن أساف.

وفى قباء التقى علي بن أبى طالب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ مكث ثلاث ليال وأيامها بمكة المكرمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرد الودائع، ثم أخذ سمته إلى يثرب، وكأنه أقام فى مكة المكرمة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام المدة التى مكثها النبى وصاحبه فى الغار إذ أنهما مكثا فى الغار ثلاث ليال.

ونزل على كرم الله وجهه فى المنزل الذى نزل فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو منزل كلثوم بن هند، ويظهر أن حضوره إلى قباء كان بعد حضور النبى صلّى الله عليه وسلّم بليلة على الأقل، لأنه أقام بقباء ليلة أو ليلتين، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أقام فى قباء أربعة أيام بلياليها، فذكر أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفى هذه المدة التى أقامها بقباء أنشأ مسجدها، وهو الذى أشار الله تعالى إليه فى قوله تعالى:.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» ، فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم أقام فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو جدير بأن يسمى مسجد الهجرة، وأنه مسجد الذين يحبون أن يتطهروا فى عبادتهم غير مرائين ولا منافقين. ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصل فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، وكان يوم الاثنين، وقيل فى اليوم التالى، والأول هو الذى يرجحه الرواة.

__________

(1) سورة التوبة: 108.

,

دخول المدينة

331- كان دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة يوما مباركا على أهل المدينة المنورة، وعلى الأخلاف، وعلى الخليقة كلها، لأنه اليوم الذى انتقل فيه الإسلام من الدعوة فى مكة المكرمة وما حولها، غير معلم بنظام ثابت مقرر عام بل كانت الدعوة فى دائرة العقيدة، وبيانها، وبيان ما يتعلق بها، من غير أن تكون نظاما مفروضا يتبع وينفذ، انتقل الإسلام من ذلك الحيز إلى عموم الدعوة فعلا، للبلاد العربية، فى كل صقع من أصقاعها، ثم تجاوز حيز العرب، إلى الدول المجاورة، ومنها انساب إلى ما وراءها من إقليم إلى إقليم.

ولقد أحس أهل المدينة المنورة بما حباهم الله به من فضل، وبما اختص المدينة من شرف، إذ صارت موطن الإيواء والنصرة أولا، وموطن النظام الإسلامى ثانيا، والمكان الذى يأرز إليه الإسلام ثالثا، وأحست بأن الوثنية اذنت بأفول، وأن اليهود فيها صاروا لا يتطاولون بعلم علموه، أو كتاب سبقوهم به.

ولذا خرج الناس مهللين مكبرين بمقدم النبى صلّى الله عليه وسلّم يستقبلون من يرونه فيه الهداية فرحين واجدين فى مقدمه العزة والكرامة، والإخلاص والطهر من الوثنية.

روى الشيخان البخارى ومسلم بالسند المتصل عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال: «خرج الناس حين قدمنا المدينة فى الطريق، وعلى البيوت الغلمان والخدم يقولون: «الله أكبر جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله، فلما أصبح انطلق، وذهب حيث أمر» .

وروى البيهقى فى دلائل النبوة، وأبو بكر المقرى فى الشمائل، والطبرى فى الرياض، عن ابن عائشة، واسمه عبيد الله بن محمد بن حفص، وأمه عائشة بنت طلحة، أنه صعدت ذوات الخدور تعلن تهنئة له حال دخوله:

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع «1»

روى هذا الخبر فى سنن الترمذى والنسائى عن السائب بن يزيد.

__________

(1) يقول ابن القيم إن هذا الدعاء قيل عند عودة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم من غزوة تبوك، ويحذف البيت الأخير من الأبيات الثلاثة، والسبب في قوله أنه أرجف المرجفون في المدينة عن النبي في غزوة تبوك مما جعل المؤمنين يستبشرون ويفرحون بمجيئه، فخرج الغلمان والنساء يقولون، وإن ثنية الوداع في مدخل المدينة من قبل الشام، لا من قبل مكة، ويقول في ذلك ابن القيم: لما دنا رسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد تعلن طلع البدر علينا. من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا. ما دعا لله داع، وبعض الرواة يقول. إنما كان ذلك عند مقدمه من مكة إلى المدينة وهو وهم لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، ولا يراها القادم من مكة إلي المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلي الشام.

هذا استقبال رائع- صحبه تكبير أهل المدينة لمقدم النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان هناك استقبال عملى أروع فى معناه، وهو تزاحم أهل كل بطون الأوس والخزرج، فى أن يأخذ بناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتكون إقامته بينهم.

جاء رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا فينا العدد والعدة والمنعة، وأخذوا بزمام الناقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» .

وجاء رجال من بنى بياضة. فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة، اعترضه سعد ابن عبادة والمنذر بن عمرو فى رجال من بنى ساعدة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والمنعة، فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه معاذ بن ربيعة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة، فى رجال من بنى الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك، ومنهم أم عبد المطلب جد النبى صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هلم إلى العدد، والعدة، والمنعة، فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها.

فانطلقت حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت، وكان ذلك عند دار أبى أيوب الأنصارى، ويقول ابن إسحاق: لما بركت لم ينزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، حتى وثبت، فسارت غير بعيد، ورسول الله، واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه. ثم نزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته، ونزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بنى المسجد، وبنى له دارا.



كلمات دليلية: