withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


وفاة أمه من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

وفاة أمه من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

اسم الكتاب:
خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

موت الطهور امنة:

93- أقامت امنة بدار بنى النجار ما طابت لها الإقامة، ولم ترد الاستمرار بعيدة عن بنى هاشم وعن الجد الطيب عبد المطلب كافله، فكان لابد من العودة، فأخذت فى السير إلى مكة، ولكنها وهى عائدة إليها أدركها الموت بمكان اسمه (الأبواء) ، وهو بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، كما يقول صاحب الروض الأنف «1» . وبذلك صار محمد صلّى الله عليه وسلّم يتيما من أبويه إذ ادخره الله تعالى للإنسانية هاديا بالحق، داعيا إلى الرحمة، فكان نبى الرحمة، لأن الرحمة بالناس تنبع من الالام الذاتية التى تعترض فى أثناء الحياة، فإنه لا تنبعث الرحمة بالضعفاء إلا ممن ذاق مرارة الضعف، وأى ضعف أشد من اليتم، وإن القسوة فى كثير من الأحيان تكون من الذين ينشئون فى الحلية فاكهين فى نعيم الحياة.

ولقد ماتت الأم الطاهرة، وهو يدرك الحياة، وقد ذاق حلاوة حنانها، ولطف عطفها، وهى التى كان هو لها كل الوجود، واستبشرت به، واتخذت حبه عوضا عن الحب الزوجى الذى فقدته فى باكورة زواجها، وإذا كان قد فقد أباه من قبل، فقد كان ذلك هو فى غيب الله المكنون، وقد عوضه جده

__________

(1) يقول فيه صاحب الروض الأنف: وقيل سمى الأبواء، لأن السبل كان يبوء فيه.

عطف الأب فلم يحس بألم الفقد، لأنه لم يعلمه، واستقبل الحياة بهذه الحال، ولم يجعله جده عبد المطلب يحس بالفقد الذى لم يعه، أما الأم فقد فقدها وهو فى وعى، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وإنه لا شئ يعوض عطف الأم الرؤم، وهو حرمان من شئ موجود شعر به، وأصابته لوعته، علمته الصبر وعوده أخضر.

وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت، وهما غريبان، وليس لهما إلا الصحراء، وطريق مدعثر، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وأ لم الفقد، وأ لم الانقطاع، وصار الركب فى رعاية الله تعالى الذى صنعه على عينه، وذلك ليحس مع الصبر واحتمال الالام كريم الرعاية الالهية، والعناية الربانية، ويكون له من هذا زاد نفسى يذكره عندما يلاقى الشدائد فى الدعوة إلى الحق، ومناوأة الشرك وتكاثف المشركين عليه، وتعرضه للأذى والتجائه إلى الله إذا أحس بالضعف.

وإن الذى حلمه، وحل محل أمه فى حضانته جارية حبشية، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأته وحمته.

وإن ارتباط حياته الطاهرة بأمة حبشية تزويد من الله تعالى له بزاد إنسانى. ليشعره بأن الناس سواسية، وأن كل الفضل فيمن يحسن فى عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنة التى لا يستغنى عنها محمد صلى الله عليه وسلم أمة حبشية، لأنه تربية ربانية على المساواة الإنسانية، وأنه لا شرف إلا بالنفع، والعاطفة. لذلك لم يكن غريبا من الذى حضنته جارية حبشية أذاقته حب الأمومة. وإن كان دون حبها، وأوصلته إلى جده محوطا بعناية الله وعطفها- أن يكون نصير الأرقاء، والمانع للرق الإنسانى، فليس غريبا أن يغضب أشد الغضب، عندما يسمع بعض صحابته يعير اخر بقوله «يا ابن السوداء» ويقول فى قوة: «لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى فمحمد ابن البيضاء حضنته السوداء فكان ابنا لهما معا» .

94- ذاق حب الأم، وذاق لوعة فراقه، ولذلك زار قبرها، بعد أن بلغ أشده، وصار رجلا مكتملا سويا ورسولا نبيا، جاء فى الروض الأنف «وفى الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء. فبكى وأبكى» وهذا حديث صحيح، وفى الصحيح أيضا أنه قال: «استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى، فأذن لى واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لى» وفى سند البزاز من حديث بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام فى صدره، وقال له: لا تستغفر لمن كان مشركا، فرجع وهو حزين. وفى حديث اخر ما يصححه، وهو أن رجلا قال له: يا رسول الله أين

أبى؟ فقال: فى النار، فلما ولى الرجل قال عليه السلام: إن أبى وأباك فى النار» وليس لنا أن نقول نحن هذا فى أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات» وإنما قال النبى عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل ما قال، لأنه وجد فى نفسه، وقد قيل أنه قال أين أبوك أنت، فحينئذ قال، وقد رواه معمر بن راشد بغير هذا اللفظ، فلم يذكر أنه قال إنه قال إن أبى وأباك فى النار.

ولا شك أن الخبر الذى يقول أن أبا محمد عليه الصلاة والسلام فى النار خبر غريب فى معناه، كما هو غريب فى سنده، لأن الله تعالى يقول: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وقد كان أبو محمد عليه الصلاة والسلام وأمه على فترة من الرسل، فكيف يعذبون؟!! إن هذا مخالف للحقائق الدينية، لقد مات أحدهما قبل أن يبرز الرسول إلى الوجود، وماتت الاخرى وهو غلام لم يبعث رسولا، ولذلك كان الخبر الذى يقول أنهما فى النار مردودا لغرابة سنده، أولا، ولبعد معناه عن الحقيقة ثانيا.

ولعل نهى النبى عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار، لأن الاستغفار لا موضع له، إذ أنه لم يكن خطاب بالتكليف من نبى مبعوث، وليس كاستغفار إبراهيم لأبيه الذى نهى عنه، لأن أبا إبراهيم قد خوطب برسالة إبراهيم فعلا، فهو مكلف أن يؤمن بالله، ويكفر بالأوثان.

وفى الحق أنى ضرست فى سمعى وفهمى عندما تصورت أن عبد الله وامنة يتصور أن يدخلا النار؛ لأنه عبد الله الشاب الصبور الذى رضى بأن يذبح لنذر أبيه، وتقدم راضيا، ولما افتدته قريش استقبل الفداء راضيا، وهو الذى كان عيوفا عن اللهو والعبث، وهو الذى برزت إليه المرأة تقول هيت لك، فيقول لها أما الحرام فالممات دونه، ولماذا يعاقب بالنار، وهو لم تبلغه دعوة رسول، ونفى الله تعالى العذاب إلا بعد أن يرسل رسولا، ولما تكن الرسالة قد وجدت، ولم يكن الرسول قد بعث.

وأما الأم الرؤوم الصبور التى لاقت الحرمان من زوجها فصبرت، ورأت ولدها يتيما فقيرا، فصبرت، وحملته صابرة راضية فى الذهاب إلى أخواله، أيتصور عاقل أن تدخل هذه النار من غير أن يكون ثمة رسالة تهديها ودعوة إلى الواحدانية توجهها.

إنى ضرست لا لمحبتى للمصطفى الحبيب فقط وإن كانت كافية، ولكن لأن قصة امنة جعلتنى لا أستطيع أن أتصور هذه الصبور معذبة بالنار، وقد شبهتها بالبتول مريم العذراء لولا أن الملائكة لم تخاطبها.

95- ويظهر أن النبى صلى الله عليه سلم كان كلما مر بقبر أمه غلبت عبراته، ولا عيب فى ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام أن البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان، ولقد ذكر الرواة أنه

__________

(1) سورة الإسراء: 15.

بكى عندما مر بالأبواء، وبكى من معه لتذكر أمه، ولقد قال القرطبى فى تذكرته «جزم أبو بكر الخطيب فى كتاب السابق واللاحق، والناسخ والمنسوخ، وأبو حفص عمر بن شاهين بإسناديهما عن عائشة رضى الله عنها، قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على قبر أمه، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم إنه نزل، فقال: يا حميراء استمسكى، فاستندت إلى بيت البعير، فمكث عنى طويلا، ثم عاد إلى وهو فرح مبتسم، فقلت: يأبى أنت وأمى يا رسول الله نزلت من عندى وأنت باك حزين مغتم، فبكيت لبكائك، ثم عدت وأنت فرح مبتسم، فيم ذا يا رسول الله، فقال «ذهبت لقبر امنة أمى، فسألت أن يحييها الله تعالى، فأحياها فامنت بى» .

روى فى إحياء أمه وأبيه خبر مثل ذلك بسند فيه مجهولون.

ونحن نرى أن توافر السند الصحيح فى هذه الأخبار غير ثابت، ولكن نقول ما قاله صاحب الروض الأنف- «الله قادر على كل شيء، ولا تعجز رحمته وقدرته عن أى شيء، ونبيه عليه الصلاة والسلام أهل أن يخصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته صلوات الله تعالى وسلامه عليه» .

ولقد روى الحافظ ابن كثير أحاديث كثيرة فى هذا الباب، وذكر أن فيها غرابة، وذكر الخبر الذى سقناه عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، سأل ربه أن يحيى أبويه فأحياهما وامنا به ثم قال فيه: «إنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى- لكن الذى ثبت فى الصحيح يعارضه» «1» .

وخلاصة القول، وهو ما انتهينا إليه بعد مراجعة الأخبار فى هذه المسألة أن أبوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى فترة، وأنهما كانا قريبين إلى الهدى، وإلى الأخلاق الكريمة التى جاء به شرع ابنهما من بعد، وأنهما كانا على فترة من الرسل، ونعتقد أنه بمراجعة النصوص القرانية والأحاديث الصحيحة لا يمكن أن يكونا فى النار، فأمه المجاهدة الصبور، الحفية بولدها. لا تمسها النار. لأنه لا دليل على استحقاقها، بل الدليل قام على وجوب الثناء عليها هى وزوجها الذبيح الطاهر.

وما انتهينا إلى هذا بحكم محبتنا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كنا نرجوها ونتمناها، ولكن بحكم العقل والمنطق والقانون الخلقى المستقيم، والأدلة الشرعية القويمة، ومقاصد الشريعة وغاياتها.

__________

(1) البداية والنهاية ج 2 ص 281.



كلمات دليلية: