withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


نزول جبريل بالوحي أول مرة من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

نزول جبريل بالوحي أول مرة من كتاب خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

اسم الكتاب:
خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم

التقى بالروح القدس:

196- روح القدس هو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وكما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1» .

لقد جاء إليه جبريل عليه السلام، وهو فى غار حراء «2» يتعبد الله تعالى، حيث علا قلبه إلى المقام القدسى، فارتفع من الأرض، إلى ملكوت الله تعالى، فصارت نفسه صالحة لتلقى نور السماء، فنزل رسول أمين من رب العالمين. إلى رسول الخلق أجمعين ليحمل رسالة ربه، ويبلغها للعالمين، من رب غفور، وقد توالى النزول.

ولكن متى ابتدأ؟ قالوا إنه فى الأربعين من عمر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهى أشد العمر، وهى سن النضج فى الروح، وفى البدن، وفى العقل، فهى سن القدرة على الاحتمال، وقد قال الله تعالى فى هذه السن حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ «3» وإذ قد بلغ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هذه السن، فقد أوزعه الله سبحانه وتعالى إليه، وجعله له خالصا، وقد تهيأ لذلك، وأنشأه صفوة خلقه، وجعله نبيا رسولا.

__________

(1) سورة الشعراء: 93، 94.

(2) غار حراء كهف صغير بأعلى حراء، جبل فى الشمال الشرقى من مكة، يبعد عنها بما يقرب من ثلاثة أميال، وهذا ليس بذى زرع ولا غرس، بل هو مملوء بالصخور لا عمران فيه ولا يأوى الناس إليه، ولا يستأنسون به، يمشى الماشى فى طريق مدعثر، لا يصل إليه إلا فى مقدار من الزمن قد يسير فى طريق غير معبد إلى نحو الساعتين، فإذا وصل إلى سفح الجبل بعد هذه المدة لا يرتفع إلى الغار إلا فيما يقرب من ساعة، وإذا ارتفع وجده موحشا يحس فيه الداخل برهبة، وهو أعلى الجبل، فيزداد المقبل عليه عزلة عن الناس، بل عن الأرض وما فيها، ويكون الغار من وراء صخرتين كبيرتين تعترضان داخله، قد ضيق الله ما بينهما، وإذا تجاوزهما، ودخل الغار أحس بأنه قد صار معزولا عن العالم عزلة كاملة. وإن اختيار محمد بن عبد الله ذلك المكان، لأن فيه العزلة الكاملة عن الناس، والوحشة من كل شىء إلا الأنس بالله واحده، وكان اختياره بإلهام الله تعالى ليكون مقدمة جهاده، ويعيش فيه حياتين، أولاهما- رهبة، والثانية صعبة، وإن كانت نهايتها سعيدة.

(3) سورة الأحقاف: 15.

كان الالتقاء بالروح القدس على مرتين أولاهما تمهيد لاخراهما، كانت الأولى، وهى كاملة، وإن كانت فى منام هو كالصحو، إذ لا يقل عنه وضوحا، وقد تلقى فيه أول القران الكريم فوعى ما وعى، وحفظ ايات ربه الأولى، ولما ذهب عنه النوم الصافى كان يحفظ كل ما حفظ، لا ينسى منه شيئا.

ولما رأى الوجود ببصره، كما كان فيه ببصيرته التقى بالذى راه فى منامه، راه وهو شهيد، وقد استأنس بالرؤيا التى صدقها، وخاطبه مرة أخرى فى عالم الشهادة، ولولا أنه قد استأنس به ابتداء فى الرؤيا الصادقة، لعظمت المشقة عليه، وهنا فى هذه المرة أدرك أنه ينادى بالرسالة من قبل الله تعالى، وأنه شرفه بها، وكان عليه الصلاة والسلام فى هذين اللقاءين محفوفا بالنور القدسى، وإن كان شديدا على النفس البشرية التى عاشت فى الأرض، ولو كانت بصفائها متطلعة إلى النور الربانى الذى يملأ أطوارها، ويحيط بثناياها.

وفى هذا اللقاء النورانى نزل أول القران الكريم، وكانت ليلته ليلة القدر التى فرق فيها الأمر وأبرم برسالة محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «1» على كلام فى ذلك سنتصدى لبيانه.

ويقول الرواة أن ذلك كان فى الليلة السابعة والعشرين من رمضان بعد أربعين سنة من عام الفيل، وقيل أنها كانت الرابعة والعشرين من ذلك الشهر المبارك، ومهما يكن اختلاف الرواة فى تعيينها فإنها كانت فى رمضان كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «2» على كلام فى ذلك أيضا.

,

قلق الزوجة الصالحة:

197- بإلهام المرأة الصالحة الذكية القلب، الطاهرة النفس أحست خديجة زوج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بما فيه زوجها من مشقة، فانزعجت عليه على غير عادة، وقد ألفت منه الغيبة فى شهر رمضان، وكانت هى التى تزوده بزاد المادة، والله تعالى يزوده بزاد التقوي، انزعجت، فأخذت تسأل عنه، وهى تعلم أنه فى غار حراء، لأنها أحست أنه فى جهاد روحى، جهاد من ينزع من الأرض، ليتصل بالسماء.

__________

(1) سورة القدر كلها.

(2) سورة البقرة: 85.

وبينا هى قلقة مضطربة لغيبته على غير عادة إذ هو مقبل قد تغير لونه، يرجف فؤاده، فزال قلقها، وان استغربت حاله- وقالت:

يا أبا القاسم، أين كنت، فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك، حتى بلغوا مكة المكرمة ورجعوا لى.

وقد حدثها بما رأى فى رؤياه، وما شاهد فى عيانه، وفؤاده يرجف وهو يقول: «زملونى» فزملوه حتى ذهب منه الروع، وهو يقول «خشيت على نفسى» .

وعندئذ جاء دور الزوجة الرفيقة الصالحة فى القول، فقالت بمنطق الفطرة، وهو أن من أحسن لا يجازى إلا إحسانا «كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقرى الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر» رأت فى زوجها الأمين الطاهر كل هذا، وبإحساس الفطرة، رأت أنه لا يمكن أن يكون ثمر الطيب إلا طيبا. ويقول ابن إسحاق، إنها قالت بعد أن علمت الخبر، وقالت ما قالت: «أبشر يابن عم، واثبت فو الذى نفس خديجة بيده، إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة» وما قالت ذلك إلا وقد تواردت الأخبار بأن نبيا سيبعث فى هذا الزمان.

,

إلى ورقة بن نوفل:

198- لا أدرى أهى فرحة بما توقعته من خير عظيم يجيء لزوجها ونور عميم ينبثق من بيتها، أم هى فرحة اللقاء دائما يدفع إلى الحركة، ومهما يكن فقد وجدت منها رغبة إلى العمل فى الموضوع الذى طرأ، وتوقعت منه أن يغير مجرى حياتها، قامت فجمعت ثيابها، ثم انطلقت مع محمد بن عبد الله عليه أفضل السلام وأتم السلام إلى ورقة بن نوفل، وكان من الحنفاء الذين هجروا عبادة الأوثان واختاروا أن يعبدوا الله.

واختار النصرانية، إذ كان يعرف العبرانية، فدرسها منها، ودرس التوراة، فعلم الديانتين من الينابيع الأصلية، ويظهر أنه علمها ديانة واحدانية لا ديانة تثليث، لأنه دخيل عليها، ولأن نصرانية الشرق التى كانت فى العراق وأطراف الجزيرة العربية كانت تتبع نسطورس الذى أنكر أن يكون المسيح إلها أو ابن الله، إذ كان يعتقد أن عبارة الابن التى وردت فى بعض كتبهم أضلتهم، وإن ماضى حياته ما كانت تسمح لنا أن نقول أنه مثلث، لأنه ترك عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع، فكيف يعتنق تثليثا غير متصور فى العقل.

لقد بلغ علم الرجل بالعبرية أنه كان يكتب بها ويقرأ ويدرس، فكان على علم بالبشارات التى جاءت فى التوراة والإنجيل بالنبى عليه الصلاة والسلام. وهى تبشر برسول اسمه أحمد.

وقد بلغ الشيخوخة فنضج فكره، وقد جاءت إليه ابنة عمه خديجة بنت خويلد. وكان بصره قد كف، قالت خديجة فى هذا اللقاء: يابن عم اسمع من ابن أخيك. فأخبر النبى عليه الصلاة والسلام ورقة بما رأى وعاين. قال ورقة: هذا الناموس الذى كان ينزل على موسى، يا ليتنى كنت فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متعجبا، كيف ينطق بالحق، ويخرجوه؟ قال: «أو مخرجى هم» . وتلك هى براءة الفطرة، قبل أن يمرسه الله تعالى بشدائد الدعوة، وقبل أن يلقى الباطل فى طغواته بالحق فى نوره.

قال ورقة الذى علم أخبار النبيين، وما لقوا من بأساء وضراء وشدائد: «نعم (أى هم مخرجوك) لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك هذا أنصرك نصرا مؤزرا» .

إن هذه كلمة ورقة، وهى ثمرة الدراسة المبينة لتجارب الأنبياء.

وهنا قد يسأل سائل: لماذا ذكر موسى عليه السلام، وهو التوراة، ولم يذكر الإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام؟ والجواب عن ذلك أن التوراة كانت فيها شريعة قائمة عمل بها النبيون من بعد موسى عليه السلام،. وجاء عيسى لإحيائها بعد أن أهمل اليهود تعاليمها، ولم يطبقوها لغلظ رقابهم، فجاء عيسى لإعلان حقائقها، وروى عنه أنه قال: «جئت لإحياء الناموس» ، ولقد جاء النص فى كتب النصارى أنه يؤخذ بشريعة التوراة، ما لم يجيء نص فى الإنجيل يخالفها.

ولم يكتب الله تعالى للشيخ ورقة بن نوفل أن يحضر المعركة التى قامت بين الحق والباطل، فلم يلبث أن توفى ولم يحضر الدعوة المحمدية، إذ أنه قد مكث مدة، حتى أمر محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة ربه، وأن يصدع بما يؤمر.

,

الشهر الذى نزل فيه الوحى:

202- جاء فى كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) ، للإمام ابن القيم ما نصه:

«لما كمل له أربعون أشرقت عليه أنوار النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه، واختصه بكرامته، وجعله أمينه بينه وبين عباده، ولا خلاف أن مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوم الاثنين، واختلف فى شهر المبعث، فقيل لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قول الأكثرين، وقيل: بل كان ذلك فى رمضان؛ واحتج هؤلاء بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» قالوا أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته وأنزل عليه القران فى رمضان جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم أنزل منجما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة ... » .

وإن هذا الكلام يستفاد منه بصريح اللفظ أن النبى عليه الصلاة والسلام بعث فى سنة 41 من عام الفيل عند الأكثرين، وإذا كان النبى عليه الصلاة والسلام قد ولد باتفاق المؤرخين فى عام الفيل، فيكون النبى عليه الصلاة والسلام قد بعث بعد أن بلغ الأربعين وتجاورها بسنة، ولكن يظهر أن أنوار النبوة كما قال ابن القيم أشرقت عليه قبل أن يبلغ الحادية والأربعين، وتكون أنوار النبوة سابقة على البعث، ببضعة أشهر، إذ أن كلامه يفيد بصريحه أن أنوار النبوة جاءت فى الأربعين، لا بعد مرور سنة الأربعين كاملة.

والمشهور الذى عليه الجمهور هو أنه بعث فى سنة الأربعين فى رمضان فى اليوم السابع والعشرين من رمضان، وهذا هو المشهور، وهو الراجح، وقيل فى السابع، وقيل فى الرابعة والعشرين.

وإننا نستطيع التوفيق بين هذه الروايات، فنقول:

إن أول مجيء الوحى كان فى السابعة والعشرين من رمضان سنة 40، ولكن التكليف بالتبليغ كان فى شهر ربيع فى الثامن من ربيع، ويكون الفارق الزمنى بين الأمرين هو أربعة أشهر (شوال وذو

__________

(1) سورة العلق.

(2) سورة البقرة: 185.

القعدة وذو الحجة، والمحرم، وسبعة أيام من ربيع) ، أى أربعة أشهر وبعص الشهر، وإن ذلك يهدينا إلى مدة الفترة التى انقطع فيها الوحى النبوى، والتى كانت شاقة، وقد جاء هذا بالإشارة لا بالعبارة فى شرح المواهب اللدنية، فقد جاء فيها ما نصه: «وجمع بين النقلين» أى النقل بأنه بعث فى رمضان، والنقل الذى يقول إنه فى ربيع، بما ما فى ذلك حديث عائشة «أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة» فيكون نبيء فى شهر ربيع بالرؤيا الصادقة، ثم أتاه جبريل فى رمضان «1» .

ونرى أن صاحب المواهب نقل عن ابن حجر فى فتح البارى ذلك التوفيق، ولكنا نوافقه فى أصل التوفيق، ونخالفه فى استنباطه فى القول بالرؤيا الصادقة كان فى ربيع سنة 41 ونزول جبريل كان فى رمضان سنة 41 أيضا، وذلك لأن الذين قالوا إن النزول كان فى رمضان، قالوا وقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأربعين لا الحادية والأربعين، وللتوفيق الكامل نقول أنه كان فى رمضان سنة 40 كانت الرؤيا الصادقة، التى أعقبها لقاء جبريل، وقد ذكره بما رأى وكان تصديقه بالمعاينة ثم فتر الوحى من بعد ذلك فترة شقت على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان نزول القران الكريم وتتابعه، وهذا يعطينا بيان مدة الفترة، الذى ذكرناه ظنا، ونراه الان رواية صادقة، وأنه ملتقى الروايات التى يبدو فيها تضارب، ولكنه يتكشف بهذا أنه لا تضارب، بل تلاق بين النصوص.

,

أول ما نزل من القران الكريم:

203- إن السياق الذى ذكرناه انفا وهو الذى أجمع عليه رواة السيرة، أن جبريل روح القدس عليه السلام خاطب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد رؤياه الصادقة بما جاء فى وحى الرؤية تماما، فقال له اقرأ، فقال لا أقرأ.. إلى اخر المذاكرة الروحية بينهما، التى انتهت بأن نقل عن ربه قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ... «2» .

وإذا كانت هذه من القران الكريم، ومن ينكر ذلك فعليه أن يتوب، فإنها بلا ريب أول القران الكريم نزولا، واذا كنا قد انتهينا إلى أن أول القران الكريم نزولا كان فى رمضان، وأن أول الوحى كان فى رمضان، فرمضان شهر القران الكريم، كما هو شهر الوحى، وكما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «3» .

__________

(1) شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 207

(2) سورة العلق: 1- 5.

(3) سورة البقرة: 185.

هذه حقائق سائغة، لا ريب فيها، ولا اختلاف، ولا تثير ريبا ولا خلافا.

ولكن الروايات تجىء بما يفيد ظاهرها المعارضة بينها وبين ذلك الحق الصادق الذي لا ريب فيه، ولا مجال للريب فيه، ولنذكر بعض هذه الروايات لنبين أنه لا تعارض فى حقيقة الأمر.

لقد ثبت فى الصحيحين البخارى ومسلم عن يحيى بن أبى كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أى القران أنزل قبل غيره فقال: «يا أيها المدثر» فقلت: واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ؟

فقال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فنوديت فنظرت من بين يدى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو على العرش فى الهواء، فأخذتنى رعدة، أو قال وحشة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى فأنزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وفى رواية أخرى ما يشير بأن هذه الاية ليست الأولى، وليس ما فيها أن رؤية جبريل روح القدس الأولى، فقد قالت: فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض «1» فجنبت منه فرقا- إلخ، وهو ذكر لما تضمنه الضمير فى الرواية الأولى التى تقول: «فإذا هو على العرش فى الهواء» .

وإن هذا يفيد بلا ريب أن الوحى جاء ابتداء فى غار حراء، وفيها نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم جاء ثانيا وليس أولا كما توهم أبو سلمة نزول الوحى «يا أيها المدثر» .

وإن نظرة فاحصة تبين لنا أن أول القران الكريم نزولا هو اقرأ، كما هو الأصل الذى لا مراء فيه، ولكن فترة الوحى هى خمسة أشهر وبعض الشهر، ثم جاء فيها الوحي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ... وقد انتهينا إلى أن الفترة ابتدأت بعد أن نزل قوله تعالى اقْرَأْ فى رمضان من سنة 40 هـ، وانتهت الفترة فى ربيع سنة 41 هـ من عام الفيل.

والحق أن الروايات غير متضاربة للمتأمل البصير، فإن أول ما نزل بالقران الكريم لم يكن فيه الأمر بالتبليغ، بل كان فيه اللقاء بروح القدس، والإعلام بالقران الكريم، ويمغزاه الأول، وهو تعليم الخلق، وبيان الحق، وأنه كتاب الله تعالى، يقرأ باسمه ويعرف به ذكره، أما تكليف القيام بالتبليغ، فقد جاء فى قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.

وإلى هذا أشار ابن كثير، فقال فى الرواية التى جاءت فى البخارى عن عبد الرحمن بن أبى سلمة: «لا ينفى هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ثم التقى به جبريل بعد نزول قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، ثم حمى الوحى وتتابع- أى تدارك شيئا بعد شيء- وقام حينئذ رسول الله صلى الله تعالى

__________

(1) البداية والنهاية ج 3 ص 17.

عليه وسلم فى أداء الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله تعالى القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فامن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.




كلمات دليلية: