withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest

فتح مكة_22356

فتح مكة من كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

اسم الكتاب:
السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

كتاب حاطب إلى قريش

ولما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله، ثم أعطاه مولاة لبعض بني عبد المطلب تسمى سارة، وجعل لها جعلا على أن تبلّغه قريشا، فجعلته في عقاص شعرها، ثم خرجت به، فإذا الوحي ينزل على رسول الله بما صنع حاطب، فبعث عليا والزبير والمقداد وقال: «انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» . فانطلقوا تتعادى بهم خيلهم حتى أدركوها، فقالوا لها أخرجي الكتاب، فقالت: ليس معي كتاب، فقالوا لها: لتخرجنّ الكتاب، أو لنكشفنّ

__________

(1) لا مخالفة بين هذا وقوله عليه الصلاة والسلام: (ويجير على المسلمين أدناهم) لأن المراد بالثاني من يجير واحدا ونفرا يسيرا، وأما قول السيدة فاطمة فالمراد به الإجارة العامة أي لا يمنع أحد الإمام من غزوه قوما.

الثياب، فخافت وأخرجته من عقاصها، فأتوا به إلى النبي فإذا فيه: «يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل. فو الله لو جاءكم واحده لنصره الله، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام» «1» .

فقال النبي: «يا حاطب ما هذا؟» فقال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش- يعني حليفا ولم يكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي بها، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال الرسول العظيم: «أما إنه قد صدقكم» .

فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول:

«إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطّلع على من شهد بدرا فقال:

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فبكى عمر وقال: الله ورسوله أعلم!! فأنزل الله هذا التأديب الإلهي وهو صدر سورة الممتحنة:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ إلى قوله سبحانه:

فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «2» .

,

العظيم من يرحم الضعفاء

وإن لنا هنا لوقفة، فما كان حاطب منافقا، ولا ضعيف الإيمان، بتزكية الرسول له. ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى عليها في بعض الأحيان، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه لنفسها، وكل بني ادم خطّاء، وما كان هذا الضعف الإنساني ليخفى على صاحب القلب الكبير، والقوي الأمين صاحب الخلق العظيم، فلا تعجب إذا كان الرسول صدّقه فيما قال، ورحم ضعفه،

__________

(1) فتح الباري ج 8 ص 420.

(2) سورة الممتحنة: الاية 1.

ونافح عنه، والقوي حقا هو الذي يرحم الضعفاء، والعظيم حقا هو الذي يلتمس المعاذير لمن يستزلهم الشيطان في غفوة من صدق الإيمان ووازع الضمير!!.

,

مسيرة الجيش إلى مكة

ثم مضى رسول الله لغزوته واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، وكان خروجه لعشر مضين من رمضان من السنة الثامنة، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد- موضع بين مكة والمدينة- أفطر حتى قدم مكة وانسلخ الشهر، وخرج معه المهاجرون والأنصار لم يتخلف منهم أحد، وانضمّ إليهم الاف من سليم ومزينة وغطفان وغيرها، وما إن وصل مرّ الظهران حتى صار تعداد الجيش عشرة الاف وقيل اثنا عشر ألفا، وشهدت الصحراء العربية الجيش العرمرم الذي لم تشهد له مثيلا من قبل، في عقيدته وإيمانه، وإيثاره الموت على الحياة والاخرة على الدنيا.

,

إسلام العباس وبعض القرشيين

وكان العباس بن عبد المطلب عم الرسول قد خرج من مكة مهاجرا إلى الله، واحتمل معه أهله وولده، فلقي الرسول بالجحفة «1» فأسلم، وقد سرّ الرسول بإسلامه غاية السرور، إذ قد كان ناصرا له ومؤيدا، وفي هم شاغل به وبدعوته مع بقائه على دين قريش، وإقامته بمكة على سقاية الحاج، وخرج من قريش أيضا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، فلقيا رسول الله «بنيق العقاب» والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما وقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك يلتمسان الدخول عليك فقال: «لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فبالغ في إساءتي،

__________

(1) وقيل برابغ، والقريتان متجاورتان، وقد درست الجحفة وبقيت رابغ، ويرى بعض المؤرخين أن العباس كان قد أسلم من قبل ولكنه أخفى إسلامه لمصلحة الدعوة، فقد كان بمثابة العين لرسول الله على قريش، ثم أعلن إسلامه قبل الفتح، ومنهم من يرى أنه ذهب إلى المدينة قبل الفتح وأسلم وسار مع جيش الفتح، ويشكك بعض المؤرخين في هذا وذاك، والصحيح ما ذكرناه أولا.

وأما ابن عمتي فهو الذي قال بمكة ما قال» ، فلما بلغهما ذلك كان مع أبي سفيان بنيّ له فقال: والله ليأذننّ لي، أو لاخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبنّ في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ النبي ذلك رقّ لهما، فدخلا عليه وأسلما.

,

تخوف العباس على قريش

ورأى العباس علو نجم ابن أخيه وقوته، وأحسّ منزلة النبي في قلوب هذه الالاف المؤمنة التي لا يقدر على أن يصدها عن غايتها صاد، والتي لا قبل لمكة ولا لغيرها بهم، فقال: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى اخر الدهر، فركب بغلة رسول الله البيضاء وذهب ناحية الأراك عسى أن يجد حطّابا أو صاحب لبن أو ذا حاجة ذاهبا إلى مكة فيخبرهم بمكان رسول الله حتى يخرجوا إليه فيستأمنوه، فكان أن التقى بأبي سفيان وصحبه.

,

أبو سفيان يستطلع الأخبار لقريش

ها هو رسول الله والجيش قد وصل إلى مر الظهران «1» ، وقد عميت الأخبار عن قريش لا يأتيهم خبر عنه، ولا يدرون ما هو فاعل بهم، وبينما هم في حيرة من أمرهم خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يستطلعون الأمر لقريش، وكان رسول الله قد أمر أصحابه أن يوقدوا نارا فأوقدوا عشرة الاف نار، حتى كانوا قريبا من مرّ الظهران رأوا نيرانا كنيران الحجيج في عرفة، فقال أبو سفيان ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا!!، فقال بديل: هذه والله خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أذلّ وأقلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وبينما هما يتحاوران عرف العباس صوت أبي سفيان، فقال: أبا حنظلة! وأجاب أبو سفيان: أبا الفضل! فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجيش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ فقال العباس: فاركب في عجز هذه البغلة حتى اتي بك رسول الله فأستأمنه لك،

__________

(1) قرية بالقرب من مكة بوادي الظهران يقال لها اليوم: وادي فاطمة.

فركب وسار الاخران وراءهما، فكلما مروا بنار قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله وأنا عليها قالوا: عمّ رسول الله على بغلة رسول الله، حتى مروا بنار عمر بن الخطاب وعرف أبا سفيان فوجأه في عنقه، وهمّ بقتله حتى أجاره العباس، وأركض العباس البغلة، وعمر يشتد في إثرها حتى دخل العباس ومعه أبو سفيان على رسول الله، ثم دخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد فدعني فلأضرب عنقه، فقال العباس: أنا أجرته.

ثم جلس إلى رسول الله يناجيه، فلما أكثر عمر في شأن أبي سفيان قال العباس: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه من بني عبد مناف!! فقال عمر: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب!!، وحسم رسول الله الخلاف بينهما فقال: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به» ، أما حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقد أسلما.

,

إسلام أبي سفيان

وبات أبو سفيان ليلته ورأى فيها ما ملأ نفسه إعجابا!! رأى المسلمين لما سمعوا الأذان انتشروا فتوضأوا، ثم اقتدوا بالرسول يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فقال: يا عباس، ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه؟! قال: نعم والله، لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه! ورأى أعجب من ذلك، ذلك أنه لما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا يبتدرون وضوءه، فقال: يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر!!.

وفي الصباح غدا به العباس إلى رسول الله فقال له: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟» ، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال الرسول: «ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» ، فقال: أما هذه فإنّ في النفس منها حتى الان شيئا.

فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا

رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق وأسلم، فقال العباس:

إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، فرأى رسول الله بنور قلبه، وواسع عقله أن يكون هذا الشيء مما يتعلق بحقن الدماء، ونشر الأمان، وأن لا يقتصر على أبي سفيان حتى يأمن أكثر عدد من الناس فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو امن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو امن، ومن دخل الكعبة فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن أغلق بابه فهو امن» .

,

حبس أبي سفيان بمضيق الوادي

ورأى الرسول الحكيم أن يوقف أبو سفيان حيث تمر عليه كتائب جيش المسلمين ليرى قوة المسلمين، فيكون نذيرا لقريش بالتسليم والجنوح إلى السلام إبقاء على أنفسها، فقال: «يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم «1» الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها» .

فخرج بأبي سفيان- وقيل كان معه حكيم وبديل- فحبسه حيث أمره رسول الله، ومرّت القبائل على راياتها، فمرّت قبيلة فقال: يا عباس من هذه؟

قال: غفار، فيقول: ما لي ولغفار، وهكذا كلما مرّت قبيلة قال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، فقال: يا عباس من هذه؟، فقال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار- أي يوم الحرمة ورعاية العهد-.

,

الكتيبة الخضراء

ثم مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء يحيط به المهاجرون لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد «2» ، يحمل الراية الزبير بن العوام، فقال سبحان الله يا عباس!! من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين، فقال

__________

(1) خطم الجبل: هو المكان الناتىء منه في الطريق، ليتمكن من رؤية الجيش كله.

(2) أي عدة الحروب من قوس، ومغفر، وسلاح، والعرب تعبر عن الاسوداد بالاخضرار، والعكس، ومنه قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ أي خضراوان شديدتا الخضرة حتى كأنهما سوداوان.

أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!! فقال العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة!! قال:

نعم إذا.

وبلّغ أبو سفيان الرسول مقالة سعد بن عبادة فقال: «كذب- أي أخطأ- سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» «1» ، وأمر بالراية أن تؤخذ من سعد وتعطى لابنه قيس، وقيل أعطاها لعلي بن أبي طالب، وقيل للزبير، والذي نرجّحه الأول وهو ما يتّفق وما عرف عن الرسول من حكمة وبعد نظر، إذ لم يرد أن يغضب أبا سفيان وصحبه بإبقاء الراية مع سعد، وقد يطغى سيفه فيسرف في القتل، فأخذها من سعد تأديبا له وزجرا عما قال، وفي الوقت نفسه لم يغضب سعدا لأنه أخذها منه وأعطاها لابنه، وأي إنسان لا يود لابنه من الفخار والمنزلة ما يود لنفسه بل وأكثر!

,

رجوع أبي سفيان إلى مكة

ثم رجع أبو سفيان مسرعا حتى إذا وصلها نادى بأعلا صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به!! فمن دخل دار أبي سفيان فهو امن، فقالوا وما تغني دارك؟ فقال: ومن أغلق عليه بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، إلا من غلبت عليه الحمية وصمم على القتال.

دخول مكّة

وسار الجيش الإسلامي حتى وصل (ذا طوى) ، وفي هذا المكان رأى الرسول الحكيم والقائد المحنك أن يفرّق الجيش فرقا، وأوصاهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفلها من كدى، وأمر الزبير بن العوام أن يدخل في فرقته من شمالها، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري من جانبها الغربي.

__________

(1) هذا ما ذكر في صحيح البخاري، وذكر ابن إسحاق أن ذلك عند الدخول، والذي نرجحه ما في الصحيح.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعلاها من كداء بين يديه أبو عبيدة بن الجراح في فرقة من الجيش، دخلها وهو راكب ناقته ومطأطىء رأسه حتى إن شعر لحيته ليمس واسطة رحله تواضعا لله وشكرا، ومعظما له ومكبّرا، حين رأى ما أكرمه الله من الفتح، وقد أردف وراءه أسامة بن زيد، فلما بلغ الحجون «1» أمر أن تركز رايته هناك وأن تضرب له قبة، فضربت فاستراح بها هو وزوجتاه ميمونة وأم سلمة، فقال له أسامة بن زيد: أين تنزل غدا يا رسول الله؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» ؟ وفي رواية أخرى: «منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» «2» رواهما البخاري.

ودخلت الجيوش مكة ولم يلق منها مقاومة تذكر إلا جيش خالد بن الوليد فقد كان يقيم في أسفل مكة أشد قريش عداوة للرسول، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض عهد الحديبية، هؤلاء لم يرضهم أن يستسلموا من غير إراقة دماء، ولم يعتدّوا بما منحوا من أمان فأعدوا عدتهم للقتال، ومن هؤلاء: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وحماس بن قيس، فلما دخل جيش خالد أمطروه بنبالهم، ولكن خالدا لم يلبث أن فرقهم، ولم يقتل من رجاله إلا اثنان ضلّا طريقهما، أما قريش ففقدت ثلاثة عشر رجلا في رواية، وأربعة وعشرين في رواية أخرى، ولم يلبث صفوان وعكرمة وسهيل أن ولّوا الأدبار منهزمين.

وكان حماس بن قيس يعد سلاحا قبل مقدم جيش المسلمين، فقالت له امرأته: لماذا تعدّ ما أرى؟ فقال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء، فقال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فلما شهد

__________

(1) مكان بأعلى مكة بالقرب من مقبرتها، و (كداء) بفتح الكاف كسحاب جبل بأعلى مكة، و (كدى) بالضم والقصر جبل بأسفل مكة.

(2) يعني لما تحالفت قريش ألايبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤوهم وحصروهم في الشعب وقد اختار النبي ذلك المكان ليتذكروا ما أصابهم من بلاء، فيشكروا الله على ما أنعم عليهم من الفتح العظيم ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا، ومقابلتهم بالعفو والإحسان، وقد كان الخيف وجاه الشعب.

الموقعة مع صحبه وهزموا جاء حماس لاهثا وهو يقول: أغلقي عليّ بابي، فقالت: فأين ما كنت تقول؟! فقال لها:

إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه

وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه

يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «1»

ولما قيل لرسول الله: هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: «قم يا فلان فأت خالدا فقل له يرفع يديه من القتل» . وكان هذا الفتح المبين في صبيحة العشرين من رمضان سنة ثمان، فلا عجب أن كان المسلمون يحتفلون في هذا اليوم بالذكرى الخالدة: ذكرى الفتح المبين.

,

إجارة أم هانىء رجلين

وكانت السيدة أم هانىء بنت أبي طالب زوج هبيرة بن أبي وهب المخزومي فرّ إليها يوم الفتح رجلان من أحمائها «2» ، وهما: الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية المخزوميان، فدخل عليها أخوها علي بن أبي طالب يريد قتلهما فمنعته أم هانىء، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أعلى مكة، فلما راها قال: «مرحبا بك وأهلا يا أم هانىء ما جاء بك» ؟ فقالت: يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي فأراد عليّ قتلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» «3» . وقد أسلم الحارث وزهير، وأما هبيرة زوجها فلم يسلم وأقام بمكة حتى مات كافرا.

__________

(1) الخندمة: المكان الذي كانت به الموقعة، أبو يزيد: سهيل بن عمرو، المؤتمة: الاسطوانة أو المرأة مات عنها زوجها، الغمغمة: أصوات غير مفهومة، نهيت: صوت الصدر، همهمة: كلام خفي أو صوت يتردد في الصدر عند الحرب والطعن.

(2) أحماء: جمع حم: أقارب زوج المرأة كالأب والأخ والعم.

(3) رواه البخاري ومسلم.

,

في جوف الكعبة

ثم دعا النبي عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار حاجب الكعبة، فأخذ منه المفتاح ففتحت له الكعبة، فدخلها وكبّر في جوانبها وصلّى فيها ركعتين، ورأى على جدرانها صور الملائكة وغيرهم، وصورة إبراهيم وإسماعيل بيدهما الأزلام يستقسمان بها فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قط» !! وأمر بالصور فأزيلت، وبالأصنام فأخرجت.

,

أذان بلال على الكعبة

وبعد أن طهرت الكعبة من الأصنام أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالا فأذّن فوقها، مما أهاج غيظ الذين لم يكونوا قد تخلّصوا من عنجهية الجاهلية، حتى لقد قال بعضهم: الحمد لله الذي توفى فلانا قبل أن يرى هذا العبد الأسود على ظهر الكعبة!! ومن يومها ومنذ أربعة عشر قرنا إلى يومنا وإلى ما شاء الله وبلال وخلفاؤه ينادون الناس كل يوم خمس مرات: (ألاإله إلا الله وأن محمّدا رسول الله) وأن الله أكبر من كل كبير، وداعين الناس إلى الفلاح، وإلى خير العمل وهي الصلاة.

,

اليوم يوم بر ووفاء

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومفتاح الكعبة بيده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعي له فقال: «هذا مفتاحك يا عثمان،

اليوم يوم بر ووفاء» وقال: «خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» «1» .

ولا يزال مفتاح الكعبة فيهم إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، ويقال للحجبة: الشيبيون نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، وله أيضا صحبة للنبي ورواية، فقد انتقلت من عثمان بن طلحة إلى ابن عمه شيبة وما زالت في نسله إلى اليوم، وفي هذه الحادثة نزل قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الاية «2» .

,

خطبة يوم الفتح

ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة، وقد تكاثر الناس في المسجد، وأوجس المشركون خيفة، وكادت تغص حلوقهم بقلوبهم من شدة الخوف، وصارت أبصارهم مشدودة إلى الرسول، ولكن المظلوم المنتصر أبى إلا أن يضرب مثلا نادرا في العفو، فقام خطيبا وكان مما قال:

«لا إله إلا الله واحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية، أو دم، أو مال يدعى، فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج فإنهما أمضيتهما لأهلها على ما كانت ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلّظة مائة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالاباء، الناس من ادم، وادم من تراب» ثم تلا هذه الاية:

__________

(1) فتح الباري، ج 8 ص 15.

(2) سورة النساء: الاية 58.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» .

ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم» ؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» !!.

,

العفو عند المقدرة

ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الأحقاد وعلى الانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، والعفو عن من؟ عن قوم طالما عذبوه وأصحابه، وهموا بقتله مرارا، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولم ينفكّوا عن محاربته والكيد له بعد الهجرة!!.

إن غاية ما يرجى من نفس بشرية كانت مظلومة فانتصرت أن تقتص من غير إسراف في إراقة الدماء، ولكنه النبي!! والنبوة من خصائصها كبح النفس ومغالبة الهوى، والعفو والتسامح، أليس من صفاته التي بشّرت بها التوراة أنه ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح؟ لقد ضرب النبي صلوات الله وسلامه عليه بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها، وللأجيال المتعاقبة مثلا في البر والرحمة، والعدل والوفاء وسمو النفس لم تعرفه الدنيا، ولن تعرفه في تاريخها الطويل.

ارجع ببصرك قليلا إلى ما فعله الغالبون بالمغلوبين في الحربين العالميتين في قرننا هذا: قرن الحضارة كما يقولون، لتعلم علم اليقين فرق ما بين النبوة وغير النبوة، والإسلام وغير الإسلام.

,

إسلام أبي قحافة

وبعد الفتح جاء أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة يقوده وقد كفّ بصره، فلما راه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلّا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا اتيه» ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسه بين

__________

(1) سورة الحجرات: الاية 13.

يديه، ثم مسح صدره وقال: «أسلم» فأسلم، وهنأ رسول الله أبا بكر بإسلام أبيه، وكان رأس أبي قحافة قد اشتعل شيبا، فقال الرسول: «غيّروا من شعره، ولا تقربوه سوادا» .

إسلام الحارث وعتّاب

وكان الحارث بن هشام، وعتّاب بن أسيد وأبو سفيان بن حرب جلوسا بفناء الكعبة، وبلال يؤذن فوق ظهر الكعبة، فقال عتّاب: لقد أكرم الله أسيدا ألايكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمات لأخبرت عني هذه الحصا، فطلع عليهم رسول الله فقال: «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكره لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك!!

,

إسلام فضالة بن عمير

وكانت نفسه قد حدثته أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال له الرسول: «أفضالة» ؟ قال نعم فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدّث به نفسك» ؟ قال لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي ثم قال: «استغفر الله» ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه.

فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلمّ إلى الحديث- تعني حديث الهوى والغرام- فقال: لا، وانبعث يقول:

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسّر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيّنا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام

نعم إن الإسلام يغير من سلوك من يعتنقه، ويرشده إلى القيم الخلقية الكريمة، ويغيّر من نظراته إلى الحياة حتى يصير منه إنسانا اخر في عقيدته، وسلوكه، وأخلاقه.

,

إهدار النبي بعض الدماء

لقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه حريصا غاية الحرص على أن تبقى لمكة حرمتها، وأن يتم الفتح من غير إراقة دماء، وقد أوصى أمراء الجيوش ألايقاتلوا إلا مكرهين، وتوّج هذا بالعفو عن أهل مكة عفوا شاملا، بيد أنه استثنى بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله، وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار، وهم: عبد العزّى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد- مصغّرا- ومقيس بن صبابة، وهبّار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل: فرتنى وقريبة، وسارة مولاة بني عبد المطلب، وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، وذكر الحاكم أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة «1» .

ومن هؤلاء من قتل، ومنهم من جاء مسلما تائبا فعفا عنه الرسول، وحسن إسلامه، إليك بعضا منهم.

,

عبد الله بن خطل وقينتاه

كان اسمه عبد العزّى، فلما أسلم سمي: عبد الله، وقد بعثه رسول الله

__________

(1) فتح الباري، ج 7 ص 9.

مصدّقا «1» ، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له فغضب عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكانت قينتاه تغنيان بهجاء رسول الله والمسلمين، فلهذا أهدر النبي دمه ودم قينتيه، وقد اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي، وسعيد بن حريث المخزومي، وقتلت إحدى قينتيه، واستؤمن للاخرى.

,

عبد الله بن أبي سرح

كان ممن يكتب الوحي لرسول الله، ثم ارتد وزعم أنه كان يزيف الوحي على الرسول، ولما أهدر الرسول دمه ذهب مع أخيه من الرضاع عثمان بن عفان كي يطلب له الأمان، فأعرض عنه الرسول طويلا، ثم قال: «نعم» ، فلما انصرف مع عثمان قال الرسول: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين راني قد صمتّ فيقتله» ؟ فقالوا: يا رسول الله، هلّا أو مأت إلينا، فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» وقد حسن إسلامه فيما بعد، وولاه الفاروق عمر بعض أعماله، وكذلك فعل عثمان.

,

الحويرث بن نقيد

ولما تحمّل العباس بن عبد المطلب بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله، نخس بهما الحويرث الجمل الذي هما عليه فسقطتا على الأرض، وهي نذلة وعمل عار عن المروءة، وقد قتله سيدنا علي بن أبي طالب.

,

مقيس بن صبابة

كان قتل أخ له مسلم خطأ، فأخذ ديته ورضي، ثم التمس من القاتل غرة فقتله وارتد مشركا، فقتله رجل من قومه نميلة بن عبد الله.

,

هبار بن الأسود

كان أبو العاص بن الربيع زوج السيدة زينب بنت الرسول أسر في بدر فأطلقه المسلمون، فأخذ عليه رسول الله أن يرسل إليه ابنته، فوفى بما وعد،

__________

(1) المصدق- بتخفيف الصاد وتشديد الدال- هو الذي يأخذ صدقات النعم، وأما المصدق- بتشديد الصاد- فهو الذي يعطي الناس، ويتصدق عليهم.

وأرسل بصحبتها أخاه كنانة بن الربيع «1» ، فلما علمت قريش بخروجها علانية سعوا إليها كي يردوها، فكان أول من أدركها هبّار بن الأسود فروعها بالسيف وهي في هودجها، فسقطت وكانت حاملا فأجهضت، ولم يزل يعاودها المرض بسبب هذا حتى توفاها الله.

فلما أهدر النبي دمه هرب، حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرّانة بعد الفتح لقيه فأسلم، وقال: يا رسول الله هربت منك وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل فقال العفوّ الكريم: «قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله» .

,

عكرمة بن أبي جهل

لما أهدر النبي دمه هرب قاصدا اليمن، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث قد أسلمت قبل الفتح، فأخذت له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحقته وقد همّ بركوب البحر، فقالت: جئتك من عند أبر الناس، وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك. فرجع معها، فلما راه رسول الله وثب قائما فرحا به، وقال: «مرحبا بمن جاءنا مسلما مهاجرا» ، ثم التمس من النبي أن يستغفر له كل عداوة عاداه إياها فاستغفر له، وكان رضي الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين، وأشدهم غيرة على الإسلام ومن أبطال الفتوحات الإسلامية.

,

هند بنت عتبة بن ربيعة

زوج أبي سفيان، وهي التي أغرت وحشيا بقتل حمزة، والتي مثلت بقتلى المسلمين في أحد، وكانت اختفت ثم جاءت إلى النبي مسلمة، فعفا عنها

__________

(1) هذا ما ذكره ابن إسحاق، وذكر الحافظ في الإصابة أنه كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى، فهو ابن عم أبي العاص لا أخوه. وقال ابن عبد البر إنه ابن أخيه (الإصابة، ج 3 ص 307) ، ولعله للاختلاف في نسبه أهو أبو العاص بن الربيع بن ربيعة بن عبد العزى، أم أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى كما ذكر الحافظ في الفتح.

فقالت: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك!!.

وأما وحشيّ بن حرب قاتل سيد الشهداء حمزة فقد مضت قصة إسلامه في غزوة أحد، وأما كعب بن زهير فتأتي قصته بعد.

,

خطبة النبي غداة الفتح وإسلام أهل مكة وبيعتهم

وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيبا فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسفك فيها دما، ولا يعضد- يقطع- فيها شجرا لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلّها لرسوله ولم يحلها لكم.

يا معشر خزاعة: ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينّه، فمن قتل بعد مقامي هذا، فأهله بخير النظرين: إن شاؤوا قدّم قاتله، وإن شاؤوا فعقله» «1» .

ثم ودى رسول الله الرجل الذي قتلته خزاعة، فأي احترام لحرمة الدماء حتى ولو كانت غير مسلمة فوق هذا؟ وهل يشك أحد في حرمة البلد الأمين بعد هذه الخطبة البليغة المؤثرة، واستمرارها إلى يوم القيامة؟.

__________

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق ابن إسحاق صاحب السيرة، ورواه أيضا من غير طريقه، وأصل الحديث في الصحيحين، والعقل: الدية.

,

إسلام قريش رجالا ونساء

لقد كان من أثر عفو النبي الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أهدر دماءهم أن دخل أهل مكة رجالا ونساء وأحرارا وموالي في دين الله، طواعية واختيارا، وبانطواء مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجا، وتمت النعمة، ووجب الشكر، وصدق الله حيث يقول:

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

فالمراد بالفتح في هذه السورة فتح مكة، ولما نزلت قال النبي: «نعيت إليّ نفسي» فقد فهم منها قرب انتهاء أجله «1» ...

__________

(1) كان نزولها في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع كما سيأتي، وإنما ذكرتها هنا استشهادا على انتشار الإسلام بعد الفتح حتى عم الجزيرة، ولبيان أن المراد بالفتح في الاية فتح مكة.

,

بيعة الرجال

وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعا الرجال والنساء، والكبار والصغار، وبدأ بمبايعة الرجال، فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بعد يوم الفتح فقال يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» ، فقال: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد» «1» .

وقد روي في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» ، والمراد أن الهجرة التي كانت واجبة من مكة قد انتهت بفتح مكة، فقد عز الإسلام، وثبتت أركانه ودعائمه، ودخل الناس فيه أفواجا، أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من بلد لا يقدر أن يقيم فيه دينه ويظهر شعائره إلى بلد يتمكن فيه من ذلك فهي باقية إلى يوم القيامة، ولكن هذه دون تلك، فقد تكون واجبة؛ وقد تكون غير واجبة؛ كما أن الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع وباق إلى يوم القيامة ولكنه ليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل فتح مكة قال عز شأنه:

لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ «2» .

__________

(1) رواه البخاري.

(2) سورة الحديد: الاية 10.

,

بيعة النساء

ولما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقّبة متنكرة، على ألايشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبي: ولا يسرقن قالت هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بنيّ، فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها: «خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف» . ولما قال:

ولا يزنين قالت هند: وهل تزني الحرة؟ ولما عرفها رسول الله قال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟» ، قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.

وقد بايعن رسول الله من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لا والله، ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ، وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة» «1» .

__________

(1) البداية والنهاية، ج 4 ص 319.

أكان فتح مكة عنوة «1» أم صلحا؟

وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجماهير العلماء، وأهل السير: إن مكة فتحت عنوة.

وقال الشافعي- ورواية عن أحمد- إنها فتحت صلحا.

وقد احتج الجمهور بأدلة منها:

1- حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه، فقال أبو هريرة: لبيك يا رسول الله، قال: «اهتف لي بالأنصار» ، فلبوا سراعا، قال: فأطافوا به، ووبّشت قريش أوباشا لها «2» وأتباعا، فقالوا: نقدّم هؤلاء فإن كان لهم شيء- يعني من النصر- كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترون إلى أوباش قريش، وأتباعهم» ، ثم قال «3» بيديه إحداهما على الاخرى «4» ثم قال: «حتى توافوني بالصفا» ، قال: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت

__________

(1) قال في المصباح المنير: «عنا يعنو عنوة إذا أخذ الشيء قهرا ... وفتحت مكة عنوة أي قهرا» .

(2) أي جمعت جموعا من قبائل شتى لمحاربة جيش المسلمين.

(3) قال: أشار.

(4) يريد الإشارة إلى القتل.

خضراء قريش «1» ، لا قريش بعد اليوم!! ثم قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو امن» «2» .

2- وقوع القتال من خالد بن الوليد وجيشه، وهذا أمر ثابت في الصحاح وكتب السير.

3- قوله صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين-: «أحلت لي ساعة من نهار» ، ونهيه عن التأسّي به في ذلك.

4- إذنه صلى الله عليه وسلم أن ينادى في الناس بقوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو امن، ومن ألقى سلاحه فهو امن» ، فلو كان دخولهم مكة صلحا لم يحتج إلى هذا.

5- حديث أم هانىء- وهو في الصحيحين- حين أجارت رجلين من أحمائها أراد علي أخوها قتلهما، فأخبرت النبي بذلك، فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» ، فكيف يكون دخولها صلحا ويخفى على مثل عليّ؟!

واحتج الإمام الشافعي بأمور منها:

1- ما قاله الإمام النووي من أنه احتج بالأحاديث المشهورة من أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمرّ الظهران قبل دخول مكة.

2- لأنها لم تقسم بين الغانمين، ولم يملكوا دورها، بل بقيت على ملك أهليها.

وقد رد الجمهور بما يأتي:

1- أي أحاديث مشهورة رويت في هذا؟! وما ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى- إن أراد به ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان

__________

(1) يعني جماعاتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد، والخضرة، ومنه السواد الأعظم.

(2) صحيح مسلم- كتاب الجهاد والسير- باب غزوة الفتح.

فهو امن ... » ، فإن ذلك لا يسمّى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة والسير أن قريشا لم يلتزموا ذلك، بل استعدوا للقتال، وجمعوا أوباش القبائل كما في حديث مسلم، وإن كان المراد بالصلح وقوع عقد بين النبي وبينهم فهذا لم ينقل قط.

2- وأما عدم القسمة بين الغانمين، فإنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة، ويمن الإمام على أهلها، ويترك لهم دورهم، لأن قسمة الأرض المغنومة بين الغانمين ليس متفقا عليها بل الخلاف ثابت بين الصحابة فمن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم، وذلك في زمن عمر وعثمان، مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة على ذلك بأمر يمكن أن تكون مختصة به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسكين- الحج والعمرة- ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرما امنا سواء العاكف فيه والباد.

وجنحت طائفة منهم الإمام الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة، لما وقع بينهم وبين خالد وجيشه من قتال، وإن كانت دارت عليهم الدائرة، وبعضها وقع صلحا. وقد قرر ذلك الإمام الحاكم في «الإكليل» .

والحق أن الراجح والصحيح أن فتحها كان عنوة، وبقوة السلاح، ولو أمكنهم أن يقاتلوا أيضا الجيش الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوا، وقد ناوشوا جيش خالد، ولكنهم لم يلبثوا أن هزموا واستسلموا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم للاعتبارات التي ذكرناها، وتأليفا لقلوب من لم يدخل منهم في الإسلام يوم الفتح عاملهم معاملة من فتحت بلدهم بأمان وصلح «1» ، وبحسبنا هذا القدر في هذا المقام.

__________

(1) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 12 ص 130، 131؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 8 ص 9، 10.

,

مخاوف الأنصار وتبديدها

لما رأى الأنصار سرور رسول الله بالفتح، وحفاوته بالكعبة والمسجد الحرام، وذهابه إلى الصفا داعيا وشاكرا لله على عظم نعمائه- تخوفوا أن يقيم رسول الله في بلده، ولا يرجع إليهم فيحرموا منه، فقال بعضهم لبعض فيما بينهم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟

فأوحى الله إليه بما جرى، فذهب إليهم فأخبرهم بما قالوا فأقروا، فطمأنهم قائلا: «كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم» ، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال رسول الله: «إن الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم» .

,

مدة إقامة النبي بمكة

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بضعة عشر يوما، قيل: خمسة عشر يوما، وقيل سبعة عشر يوما، وقيل تسعة عشر وهي أرجح الروايات، لأن أكثر الروايات الصحيحة على هذا «1» ، وكان النبي يقصر الصلاة في هذه المدة ويفطر، لأنه كان على سفر ولم يرد الإقامة، وكان إذا صلّى قال: «يا أهل البلد صلّوا أربعا فإنا سفر» «2» .

وفي هذه المدة أرسل النبي بعض الصحابة للدعوة إلى الإسلام، وهدم الأصنام والأوثان، والأنصاب.

__________

(1) فتح الباري، ج 2 ص 449.

(2) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.

,

إقامة النبي بمكة

ومكث النبي والمسلمون بمكة ثلاثة أيام، يطوفون بالبيت ويصلون، ويعبون من ماء زمزم، وقد قضوا بعض حاجات النفس المشوقة إلى بيت الله

__________

(1) البداية والنهاية، ج 4 ص 228؛ فتح الباري، ج 7 ص 402.

(2) الاضطباع: أن يضع منتصف إزاره تحت إبطه اليمنى، ثم يطرح طرفه على كتفه اليسرى. والهرولة فوق المشي العادي، ودون الجري مع تقارب الخطا وهز الكتفين، وهي مشية تنم عن القوة والفتوة، وهذا أصل هذه السنة، ثم أبقاها الشارع لما فيها من التذكير بنعمة الله على المسلمين حيث أعزهم بعد ذلة، وقواهم بعد ضعف، ونصرهم ومكن لهم في الأرض بعد ضيعة، وقد ذكر المرحوم الشيخ الخضري في سيرته: أن النبي طاف بالبيت وهو على ناقته، واستلم الركن بمحجن في يده، وهذا ليس بصحيح، وإنما كان ذلك في حجة الوداع، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذكره ابن إسحاق وثبت في الأحاديث الصحاح.

الحرام، وفي صبح اليوم الرابع جاء سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى إلى رسول الله وهو يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: نناشدك الله والعهد لما خرجت عن أرضنا فقد مضت الثلاث، فقال سعد: كذبت ليس بأرضك ولا بأرض ابائك والله لا يخرج، ولكن رسول الله حسم المخاصمة وقال لهما:

«إني قد نكحت فيكم امرأة- ميمونة- فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا» وذلك تطييبا لنفوسهم، وتأليفا لقلوبهم، ولكنهما أبيا فأمر رسول الله أبا رافع فأذّن بالرحيل، فارتحل الرسول وأصحابه حتى نزلوا بسرف- قرية قرب مكة- وأقاموا هناك، وفيها بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزوجه ميمونة، ثم ارتحلوا إلى المدينة وألسنتهم بالشكر والثناء على الله، أن صدق وعده، ونصر عبده وهم يرددون قول الله سبحانه:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «1» .

,

تمهيد

لما أبرم صلح الحديبية كان من شروط الصلح أن من أحب أن يدخل في عهد النبي فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فليفعل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وقد مضى على الصلح قرابة عامين ولم يحدث من المسلمين ما يخل بالعهد، وقد حدث بعد مؤتة أن خيّل إلى قريش أن المسلمين قد ضعفوا وزالت هيبتهم، وخيّل إلى بني بكر أن ينالوا من خزاعة أحلاف الرسول، وقد كان بين بني بكر وخزاعة ثارات في الجاهلية ودماء، فبيّت بنو بكر خزاعة وهم على ماء يسمى (الوتير) وأصابوا منهم، وأعانتهم قريش بالرجال والسلاح تحت جنح الليل، وما زالوا يقاتلونهم حتى ألجؤوهم إلى الحرم، ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء، ومولى لهم يسمى أبا رافع.

فركب عمرو بن سالم إلى رسول الله بالمدينة يخبره بغدر قريش وإخلافهم العهد، ولما وقف على النبي أنشده أبياتا منها:

يا ربّ إني ناشد محمدا ... حلف أبيه وأبينا الأتلدا

فانصر رسول الله نصرا أعتدا «1» ... وادع عباد الله يأتوا مددا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

__________

(1) أعتدا: حاضرا، من الشيء العتيد، وهو الحاضر.

وزعموا أن لست أدعو أحدا ... فهم أذلّ وأقلّ عددا

هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركعا وسجّدا

فقال رسول الله: «نصرت يا عمرو بن سالم» .

ثم خرج أيضا بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله فأخبروه بما جرى، ثم انصرفوا ايبين إلى مكة، وفي الطريق لقيهم أبو سفيان وهو ذاهب إلى المدينة فقال له: لعلك ذهبت إلى محمد بالمدينة، فأنكر بديل وتعلّل بتعلّات أخرى، ولكن أبا سفيان جاء إلى مبرك ناقته، فرأى في بعرها نوى يثرب، فأيقن أنه جاء النبي مستنصرا.

,

سفارة أبي سفيان بن حرب

وأدركت قريش مغبة غدرها ونقضها للعهد، فأرسلت أبا سفيان إلى المدينة يؤكد العهد ويمد في المدة، فلما وصلها قصد إلى بيت ابنته أم حبيبة زوج الرسول، فلما همّ بالجلوس على فراش رسول الله طوته، فعجب وقال: يا بنية أرغبت بي عن الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس عليه!! وكانت صدمة له لم يفق منها حتى قال: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر، وخرج مغضبا.

ثم كلم رسول الله في العهد وإطالة المدة فلم يحظ منه بطائل، فخرج قاصدا أبا بكر فكلمه أن يكلم رسول الله فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال له: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فو الله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله والحسن غلام يدب بين يديه، فقال: يا علي، إنك أمسّ القوم بي رحما وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله، فقال له: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى اخر الدهر،

فقالت: والله ما يبلغ بني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم «1» فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، فقال علي: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، فقال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ فقال:

لا والله، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان فقال: إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وعاد من حيث أتى، فلما قدم على قريش أخبرهم بما كان وإجارته بين الناس، فقالوا له: هل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويحك ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت.

,

تجهز النبي للخروج

ولم يلبث رسول الله أن أخذ التجهز للخروج إلى مكة، وأذّن في الناس بالتجهيز، وأخفى مقصده إلا عن بعض خاصته كالصدّيق، وكان غرض رسول الله أن يبغت قريشا في عقر دارها من غير أن تأخذ أهبتها، حرصا أن لا تراق الدماء في بلد الله الحرام، فلما تجمعت الجموع وتهيأت للمسير أخبرهم بمقصده وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها» .




كلمات دليلية: