withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


الهجرة الثانية إلى الحبشة من كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

الهجرة الثانية إلى الحبشة من كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

اسم الكتاب:
السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

هجرة الحبشة الثانية

لما رأى المسلمون العائدون من الحبشة بعد الهجرة الأولى أن الأذى لا يزال مستمرا، والبلاء لا يزال قائما، بل اشتد أكثر من ذي قبل بعد المهادنة التي أعقبت إسلام الفاروق عمر- رضي الله عنه- خرجوا إلى الحبشة مرة أخرى، وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم، وعدتهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، واثنان وثمانون رجلا إن لم يكن فيهم، قال السهيلي: وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما «1» ، وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارا، ثم الذين ولدوا لهم فيها.

وقد عدّ ابن إسحاق منهم: جعفر بن أبي طالب، وزوجته أسماء بنت عميس، وقد ولدت له بها ابنهما عبد الله، وعبد الله بن مسعود، والمقداد بن عمرو المعروف بابن الأسود، وعامر بن أبي وقاص، وخنيس بن حذافة السهمي، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، والسكران بن عمرو، ومعه امرأته سودة بنت زمعة، وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيد الله بن جحش، ومعه زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وقد كانت عاقبة أمره خسرا، فقد افتتن هناك وتنصّر وأكبّ على شرب الخمر حتى مات، فصارت امرأته- رضي الله عنها- أيّما، وفي غربة من وطنها ومن أهلها، وتحمّلت كل ذلك في سبيل عقيدتها ودينها، فلما انتهت عدتها أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي ليعقد له

__________

(1) شرح المواهب، ج 1 ص 346.

عليها، ففعل، وأمهرها أربعمائة دينار، وبذلك صارت من أمهات المؤمنين يجلّونها، ويكرمونها، وينزلونها من أنفسهم منزلة الأم، وكان عملا جد كريم، من نبي كريم، يواسي بنفسه فضلا عن ماله، ولما علم بذلك أبوها أبو سفيان، وكان من زعماء الشرك قال: هذا الفحل لا يقدع أنفه «1» .

وقد بقيت بالحبشة حتى كانت سنة سبع، فقدمت فيمن قدم مع جعفر بن أبي طالب عقب خيبر، وقد تكفل ابن إسحاق وغيره بسرد أسمائهم، ومن ولد لهم، فمن أراد استقصاء فليرجع إلى الكتاب التي تكفلت بذلك «2» ، وقد أقام المهاجرون بخير دار إلى خير جار امنين على أنفسهم ودينهم حتى أراد الله لهم الأوبة.

,

وهم لابن إسحاق وغيره

وقد عدّ ابن إسحاق وغيره كأبي نعيم والبيهقي أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة إلى الحبشة، وهو وهم من بعض الرواة، والصحيح أنه خرج في اخرين راكبين البحر قاصدين مكة، فألقت بهم السفينة إلى الحبشة.

روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: «بلغنا مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فركبنا سفينة، فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لكم أهل السفينة هجرتان» «3» وهكذا رواه مسلم.

سعي قريش إلى النجاشي في ردّ المهاجرين

فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا واستقرارا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ولا يسمعون شيئا يكرهونه- ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين منهم جلدين، وأن يرسلوا معهما للنجاشي هدايا

__________

(1) هذا مثل يضرب للكريم الكفء يتزوج بالكريمة الأصيلة.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 322- 330؛ البداية والنهاية، ج 3 ص 66- 69.

(3) المراد هجرتهم من اليمن إلى الحبشة، وهجرتهم من الحبشة إلى المدينة.

مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الادم «1» ، فجمعوا له أدما، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما:

ادفعوا إلى كل بطريق «2» هديته قبل أن تتكلموا في شأنهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

فقدما عليهم، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا قدموا له هدية، وقالوا له:

إنا قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومنا ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدى إليه الادم، وذكر موسى بن عقبة في «مغازيه» أنهم أهدوا إليه فرسا وجبّة ديباج، فقالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم: اباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقال بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بهم، فأسلمهم إليهما.

فغضب النجاشي ثم قال: لا، لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم، فأنظر ما أمرهم؟ قوم لجأوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني!!

,

إحضار النجاشي للمسلمين وسؤالهم

ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما جاءهم رسوله قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا- وقد

__________

(1) الجلود، وهو بفتح الهمزة والدال، أو ضمهما، جمع أديم.

(2) البطريق: القائد العظيم الذي يلي عشرة الاف فما فوق.

استدعى النجاشي أساقفته «1» ، فنشروا مصاحفهم «2» حوله- سألهم، فقال لهم:

ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟!.

فتولى الكلام عنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه- فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.

فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنواحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله واحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة.. وعدّد عليه أمور الإسلام.

فصدّقناه، وامنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله واحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألانظلم عندك أيها الملك!!

فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال له جعفر:

نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت «3» لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا لحاهم حين

__________

(1) جمع أسقف بضم الهمزة، وسكون السين، وتخفيف الفاء وتشديدها. وهم علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم.

(2) أي أناجيلهم، وكانوا يسمونها مصاحف.

(3) ابتلت بالدموع.

سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة «1» واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.

,

محاولة أخرى للوقيعة بين المهاجرين والنجاشي

فلما خرجا من عند النجاشي قال عمرو بن العاص: والله لاتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم «2» ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد.

ثم غدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم ليسألهم عما يقولون فيه، فلما جاء الرسول قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول- والله- ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن!!

فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر:

نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا «3» عيسى بن مريم ما قلت هذا العود!!

فتناخرت «4» بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم «5» بأرضي، من سبكم غرم (ثلاثا) ، ما أحب أن لي دبرا «6»

__________

(1) المشكاة الكوة غير النافذة، وهي محط المصابيح غالبا، والمراد أن القران والإنجيل من مصدر واحد، وهو الوحي الإلهي.

(2) شجرتهم التي تفرّعوا منها.

(3) ما جاوز أمر عيسى بن مريم.

(4) تزاوموا لعدم الرضا.

(5) السيوم: الامنون، وفي السيرة: شيوم وفسره بالامنين.

(6) الدبر بلسان الحبشة: الجبل.

من ذهب وأني اذيت رجلا منكم، ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فخرجا من عنده مقبوحين، مذمومين مدحورين، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار، مع خير جار، حتى قدم منهم من قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد، وبقي من بقي حتى قدموا عقب خيبر سنة سبع.

وهكذا نرى من هذه القصة أن من يصدق الله يصدقه، وينصره على من يريد به سوا، ويجعل له من ضيقه وأزماته فرجا ومخرجا، وعسى أن يكون فيها عبرة للذين يتصدّون للدعوة الإسلامية، وذلك بأن يلتزموا جانب الحق والصدق في دعوتهم، وألايحرّفوا فيها، أو يغيروا، أو يداهنوا تبعا للأهواء السياسية وغيرها، وليجاهروا بالحقائق الإسلامية، وليكن في ذلك ما هو كائن.

,

إسلام النجاشي

ّ

وقد أسلم النجاشي، وصدّق بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه؛ لما علمه فيهم من الثبات على الباطل، والجمود على العقائد الموروثة وإن صادمت العقل والنقل. وقد روي في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلّى، فصفّ بهم، وكبّر أربع تكبيرات» .

وقد روي أيضا أن اسمه (أصحمة) ، فقد روى البخاري عن جابر قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» «1» وروي هذا عن غير واحد من الصحابة «2» .

,

جواز الصلاة على الغائب

وقد استدل بما صحّ من صلاة النبي والمسلمين على النجاشي على جواز الصلاة على الغائب، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء سلفا وخلفا، وصار شرعا متبعا إلى يوم القيامة.

__________

(1) بفتح الهمزة، وسكون الصاد، وفتح الحاء والميم كما في القاموس.

(2) البداية والنهاية، ج 3 ص 77. وانظر صحيح البخاري ومسلم- كتاب الجنائز.

,

خروج الصديق مهاجرا إلى الحبشة

وكان ممن ابتلي في الله، وأوذي لمنافحته عن الرسول وعن الدعوة الصدّيق أبو بكر- رضي الله عنه- وقد بدا له أن يهاجر إلى الحبشة ليلحق بإخوانه، ولكن أحد أشراف العرب أجاره وأرجعه. روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين- أي الإسلام- ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى بلغ برك الغماد «1» ، لقيه ابن الدغنّة «2» وهو سيد القارة «3» ، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «4» ، فأنا لك جار ارجع فاعبد ربك ببلدك.

__________

(1) بفتح الباء وسكون الراء، بعدها كاف، والغماد بكسر الغين وقد تضم وبتخفيف الميم: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن.

(2) بضم الدال والغين، وتشديد النون المفتوحة عند أهل اللغة، وعند المحدثين بفتح الدال وكسر الغين وتخفيف النون، وقد روي بالوجهين.

(3) بفتح القاف وتخفيف الراء قبيلة كبيرة من بني الهون- بضم الهاء- ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر كانت تشتهر بالرمي.

(4) قد مضى شرح هذه الفقرات في حديث بدء الوحي، ولكن الذي يستحق النظر أن هذه الأوصاف هي التي وصفت بها السيدة خديجة رسول الله، مما يدل على ائتلاف الروحين، وتوافق المزاجين، والخالقين، عند الصادق والصدّيق.

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها، وليقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا!!

فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القران، فيتقذّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران.

وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك «1» ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل «2» .

__________

(1) أخفر بالألف نقض العهد، وخفر وفى به.

(2) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.

وهذه القصة تدل دلالة واضحة على تأثير القران وإعجازه البياني والبلاغي في نفوس العرب الخلّص، وسواء في ذلك الرجال والنساء، بل والصبيان.

وقد مر بك من قرب ما كان من أثر القران الكريم وإعجازه في إسلام الفاروق عمر، وما كان من استماع زعماء الشرك أبي جهل، وأبي سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق إلى قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم سرا، وكل منهم يخفي أمره على الاخر، حتى إذا رجعوا، وتلاقوا في الطريق صدفة تلاوموا وأوصى بعضهم بعضا بعدم المعاودة، حتى تكرر ذلك ثلاث ليال، وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» بسنده عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: «أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، قال:

حسبي لا أبالي ألاأسمع غيرها» وروي أن أعرابيا سمع هاتين الايتين من النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب وهو يقول: ذرة، ذرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد فقه الرجل» !!




كلمات دليلية: