withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


حديث الإفك من كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

حديث الإفك   من كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

اسم الكتاب:
السيرة النبوية في ضوء القران والسنة

حادثة الإفك

وهي حادثة أخرى تمخضت عنها هذه الغزوة، وهي أشد شناعة وفظاعة من الأولى؛ لأنها تناولت بيت النبوة في أحب نسائه إليه وهي الصدّيقة بنت الصدّيق. وإليك هذه القصة كما رواها الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما بالسند عن عائشة رضي الله عنها- واللفظ للبخاري- قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج- يعني إلى سفر- أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين اذن ليلة بالرحيل، فقمت حين اذنوا بالرحيل فمشيت، حتى جاوزت الجيش- يعني لقضاء حاجتها- فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار «1» قد انقطع فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه.

وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة «2» من الطعام، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا.

__________

(1) جزع بفتح الجيم وسكون الزاي، خرز معروف في سواده بياض كالعروق. وظفار بفتح الظاء وكسر الراء الأخيرة للبناء: مدينة باليمن.

(2) العلقة: القليل من الطعام.

فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السلمي من وراء الجيش، فادلج «1» فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين راني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «2» حين عرفني، فخمّرت- غطيت- وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة «3» ، فهلك من هلك، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.

فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريا بني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم؟» «4» ثم ينصرف، فذاك يريا بني ولا أشعر بالشر.

حتى خرجت بعد ما نقهت «5» ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع «6» وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ... فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة «7» ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح،

__________

(1) ادلج بتشديد الدال: سار من اخر الليل.

(2) قوله: «إنا لله وإنا إليه راجعون» إعظاما وتألما لما حدث من تأخرها بغير قصد.

(3) موغرين: نازلين للاستراحة. نحر الظهيرة: في وقت شدة الحر.

(4) تيكم: اسم إشارة للمؤنثة.

(5) نقه: بفتح القاف الذي برأ من مرضه ولم تكتمل صحته.

(6) المناصع: مكان خارج المدينة.

(7) مسطح: بكسر الميم وسكون السين. أثاثة: بضم الهمزة.

فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه «1» أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك.

فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم قال: «كيف تيكم» ؟ فقلت: أتأذن لي أن اتي أبويّ؟ وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبويّ فقلت لأمي: يا أمتاه، ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوّني عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «2» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن «3» فتأكله.

فقال رسول الله وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني «4»

من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، لقد ذكروا

__________

(1) يعني يا هذه.

(2) أغمصه: بالغين والصاد أي أعيبه.

(3) الداجن: ما يألف البيوت من شاة أو طير.

(4) يعذرني: من ينصرني عليه وينتقم منه.

رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج- وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته «1»

الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير «2»

وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين «3»

، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله يخفّضهم حتى سكتوا وسكت.

فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بقيت ليلتين ويوما ... فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأننا، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال:

«أما بعد: يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» فلما قضى مقالته قلص دمعي «4»

حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله، قلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القران: إني

__________

(1) احتملته: أي غلبته العصبية.

(2) أسيد: هو بالتصغير في اسمه واسم أبيه.

(3) أي صنيعك في المجادلة عن ابن أبيّ صنيع المنافقين.

(4) قلص: جف من شدة الحزن والأسى.

والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم إني بريئة- لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني، والله ما أجد لكم ولي مثلا إلا قول أبي يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.

ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1»

، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان «2»

من العرق وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي ينزل عليه.

فلما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّي عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها: «يا عائشة أما الله عز وجل فقد برّأك» فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل الله- عز وجل-:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ... العشر الايات كلها- يعني إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» .

فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة- يعني عنها- ما قال، فأنزل الله:

وَلا يَأْتَلِ «4»

أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ

__________

(1) بضم المواحدة وفتح الراء وبالمد: الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي.

(2) الجمان: بضم الجيم حبات اللؤلؤ أو الفضة.

(3) سورة النور: الايات 11- 20.

(4) ولا يحلف.

وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» .

قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي!! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت» ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا قالت: وهي التي كانت تساميني «2»

من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» » .

وقد بينت الروايات الاخرى في الصحيحين وغيرهما أن الذين خاضوا في هذا الحديث الاثم رأس النفاق ابن أبيّ، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وأن الذي تولّى معظم الحديث والإرجاف به ابن أبيّ، وتليه حمنة في هذا، وقد تاب هؤلاء- ما عدا ابن أبيّ- ولا سيما حسان بن ثابت، فقد اعتذر عما كان منه وقال يمدح عائشة بما هي له أهل:

حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيّب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل «4»

__________

(1) سورة النور: الاية 22.

(2) تناظرني وتحرص على أن تكون لها حظوتي عند رسول الله.

(3) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة النور، صحيح مسلم- كتاب التوبة- باب حديث الإفك.

(4) حصان: عفيفة. رزان: عاقلة. تزن بضم التاء: ترمى وتتهم. الغوافل: جمع غافلة أي عن الشر والإثم. عقيلة: كريمة. خيمها بكسر الخاء: أصلها.

وزاد الحاكم في رواية له من غير رواية ابن إسحاق:

حليلة خير الخلق دينا ومنصبا ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل

رأيتك- وليغفر لي الله- حرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل

وقد تخلّقت السيدة عائشة بأخلاق زوجها وأبيها فعفت، وكان يستأذن عليها لما كبر وعمي فتأذن له، بل كانت تكره- رضي الله عنها- أن يسب عندها لمنافحته عن رسول الله وال بيته وتقول: إنه الذي قال:

فإنّ أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء

,

إقامة الحد على من قذف عائشة

ولما نزلت الايات ببراءة عائشة أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على مسطح وحسان وحمنة، رواه أصحاب السنن، وهذا يرد ما رجّحه الماوردي من أنهم لم يجلدوا اعتمادا على أن الحد لا يثبت إلا بإقرار أو بيّنة!! ولا أدري أي بينة بعد النص القراني الدال على كذبهم، وهو يستلزم ثبوت الحد، وأما ابن أبي رأس النفاق فقيل إنه لم يحدّ سياسة وتأليفا لقومه وأتباعه، وإلى هذا ذهب ابن القيم في الهدي، والذي رجّحه الحافظ ابن حجر في الفتح أنه أقيم عليه الحدّ استنادا إلى ما رواه الحاكم في الإكليل «1» .

,

صفوان بن المعطل السلمي

ويقال له الذكواني نسبة إلى ذكوان بن ثعلبة بطن من بني سليم، صحابي فاضل، لا يغمص في دين ولا في خلق، أول مشاهده المريسيع، وقيل الخندق، وبحسبه تزكية قول الرسول فيه: «ما علمت عليه إلا خيرا» . وقد ثبت في الصحيحين أنه لما بلغه حديث الإفك قال: سبحان الله: (والذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط) . وما زعمه ابن إسحاق أنه كان حصورا لم يثبت، ففي بعض الروايات الصحيحة أنه تزوج، وفي الصحيح أنه قتل شهيدا في سبيل الله، فقيل: استشهد في غزوة أرمينية في خلافة عمر سنة تسع عشرة،

__________

(1) فتح الباري، ج 8 ص 388.

وقيل بل عاش إلى سنة أربع وخمسين فاستشهد بأرض الروم في خلافة معاوية «1» .

,

وقفات عند قصة الإفك

وما كان لنا أن نمر بهذا الحادث دون أن نقف وقفات، نستخلص منها عبرا وعظات، وأخلاقا ساميات، منها:

1- صيانة الله سبحانه أنبياءه أن تقع من زوجاتهم خيانة زوجية، وذلك لأن زنا الزوجة مما يمتد أثره السيّىء إلى الزوج، فصان الله زوجاتهم عن ذلك حتى لا يكون منفرا منهم، ومعوّقا عن الاهتداء بهم، أما الكفر فيجوز عليهن، وذلك كامرأتي نوح ولوط عليهما السلام، لأن الكفر لا تتعدى معرّته إلى الزوج، وأما ما ذكره الله عنهما في قوله:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً «2» .

فقد أجمع المفسرون سلفا وخلفا على أنه ليس المراد الزنا وإنما الخيانة في الدين، روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ما زنت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تخبر أنه مجنون، وإذا ما امن به أحد أخبرت به قومه الكافرين، وكانت امرأة لوط تدل قومه على أضيافه إذا نزل به ضيف) .

2- إن في هذه القصة عزاء وسلوى للعفيفات اللاتي يرمين زورا وكذبا بالفاحشة، فهذه الصدّيقة بنت الصدّيق، وزوج الرسول، والمبرأة من فوق سبع سماوات قد رميت بما هي براء منه، من المنافقين ومن شايعهم من ضعفاء الإيمان، ومن قبل رمى اليهود صدّيقة بني إسرائيل السيدة مريم البتول بالزنا،

__________

(1) فتح الباري، ج 8 ص 371.

(2) سورة التحريم: الاية 10.

فما دنس ذلك من شرفها، ولا أنزل من كرامتها عند ربها، بل زادها رفعة وشرفا، ولا تزال هذه القصة تتكرر على مسرح الحياة، فليكن للمحصنات المؤمنات الغافلات اللاتي لا يسلمن من قالة السوء فيها عزاء وسلوى.

3- أدب الصحابة رضوان الله عليهم في معاملة النساء المسلمات ولا سيما نساء النبي، والمبالغة في توقي مواطن الريبة والتهمة، فقد ثبت أن صفوان رضي الله عنه اكتفى بالاسترجاع حتى استيقظت السيدة عائشة، وفي استرجاعه ما يدل على استفظاعه وأسفه أن تترك زوجة النبي في العراء، ولم يكلمها قط غير أنه سألها عن شأنها وعرض عليها الركوب، وحين الركوب أولاها ظهره ولما ركبت قاد بها ولم يسر خلفها.

وقديما فعل نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ذلك مع ابنة شعيب عليه الصلاة والسلام، فقد قال لها: سيري خلفي ودليني على الطريق، خشية أن تضرب الريح بثوبها فتكشف أو تصف بعض جسمها. وهذا غاية الأدب والعفة، ولذلك قالت ابنة شعيب- وقد سمعت ورأت- كما قال الله سبحانه:

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ «1» .

4- حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه، ورحمته بهم، وضبط النفس حتى في المواقف التي يستبد بالنفس البشرية فيها الغضب، فتخرج عن حد الاعتدال فعلى الرغم مما قيل في عائشة مما يجرح القلب، ويؤذي النفس كان يدخل عليها وهي مريضة فيسأل عنها وإن لم تجد منه صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تجده منه حينما كانت تشتكي، وغاية ما يطمع فيه من بشر كريم في مثل هذا الموقف المؤلم المحيّر أن يكظم غيظه، ويكف غضبه، أما الملاطفة فأمر خارج عن طوق البشر، ولن تكون إلا ممن فقد غيرته، وذهبت من نفسه معالم الرجولة والنخوة.

__________

(1) سورة القصص: الاية 26. أما أمانته فقد حدثناك عنها. وأما قوته فقد قيل: لأنها شاهدته وهو ينحى عن البئر، وما كان يطيق ذلك إلا الجماعة من الرجال، وقيل: لأنها رأته وقد دفع الرعاء عن البئر على كثرتهم، ولم يخشهم، وسقى لهما.

ويبلغ السمو الإنساني بالرسول في معاملة عائشة حينما دخل عليها وهي في بيت أبيها وقال لها: «يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» !!.

يا لعظمة النفس، إن العظيم حقا هو الذي يعلم أن كل بني ادم خطاء، وييسر للمذنبين طريق التوبة، والقوي حقا هو الذي يرحم ضعف الناس!!.

كان يمكن للنبي صلوات الله وسلامه عليه أن يطلق عائشة، وبذلك يستريح من ألم النفس الواصب، ويقطع قالة السوء، ولكن كيف يكون هذا؟

وهو الذي وسع بصدره وخلقه الناس جميعا على اختلاف مشاربهم وفطرهم وطبائعهم، حتى استحق ثناء الحق جل وعلا حيث يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

5- كرامة بيت أبي بكر رضي الله عنه على ربه، فقد شاء الله أن يبرىء عائشة من فوق سبع سماوات، وأن ينزل في شأنها قرانا يتلى إلى يوم الدين، وهذا بعض ما جوزي به رجل دخل في الإسلام من أول يوم، وبذل نفسه وأهله وماله لله ولرسوله، ولم يزد- وقد تلظّى بنار هذه الفتنة- على أن قال: (والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزنا الله بالإسلام) !! وما جوزيت به سيدة قدمت للرسول كل خير، ووفرت له كل وسائل الراحة النفسية والبيتية حتى تفرغ لأداء رسالة ربه، ولم تملك حينما نزل بها البلاء؛ وحل المصاب، إلا أن قالت كما قال نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ «1» .

__________

(1) سورة يوسف: الاية 18.

,

تفسير ايات الإفك

قال الله تبارك وتعالى:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .

بِالْإِفْكِ: أشنع الكذب وأفحشه. عُصْبَةٌ مِنْكُمْ: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، منهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ: خطاب للمسلمين ولا سيما من بلغ منهم الأذى مبلغه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ:

يعني في الدنيا والاخرة: أما في الدنيا فلأنه نزل بسببه تشريع عام خالد يحفظ الحرم ويصون المجتمع، ولما تمخّض عنه من تبرئة عائشة حبيبة رسول الله والشهادة لال بيت الرسول بالطهر والعفاف، وتبرئة الرجل الصالح صفوان، وأما في الاخرة فلما لهم من رفعة الدرجات بالصبر على المحنة والبلاء. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ: كبر الشيء معظمه، وهو ابن أبي فهو الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه.

ثم أدّب الله المؤمنين والمؤمنات مما كان ينبغي أن يسلكوه في هذه القصة من أدب فقال:

لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ «2» .

لَوْلا: هلّا. مُبِينٌ: بين ظاهر. يعني هلّا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، وظنوا بإخوانهم خيرا، ولو أنهم فعلوا لتبين لهم أن أم المؤمنين أولى البراءة وأحرى، ولتعففوا عن النطق بهذا الهجر من القول، وممن تأدب بهذا

__________

(1) سورة النور: الاية 11.

(2) سورة النور: الاية 12.

الأدب الإلهي السامي سيدنا أبو أيوب الأنصاري، فقد قالت امرأته أم أيوب:

أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك!!.

ثم قال تعالى:

لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «1» .

«عند الله» : يعني في حكمه وشريعته، لأنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بشهداء، وحكم القاذف في الإسلام إن لم يأت بهم أن يحدّ حد القذف، وقد حدّ النبي صلى الله عليه وسلم الأربعة الذين صرحوا بالقذف لما تبين كذبهم بشهادة الوحي.

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» .

«لولا» : حرف امتناع لوجود: يعني لولا أني فضّلت أن أتفضل عليكم بضروب النعم في الدنيا التي من جملتها الإمهال، وقبول توبة التائبين، والترحم عليكم في الاخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقوبة في الدنيا والعذاب الدائم في الاخرة. وهذا فيمن عنده إيمان يقبل الله بسببه التوبة كحسان ومسطح وحمنة، فأما من خاض فيه من المنافقين كابن أبي وأضرابه فليسوا مرادين لأنهم ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يؤهلهم لاستحقاق هذا.

ثم بين سبحانه الأحوال والملابسات التي كانت توجب أن ينزل بهم العذاب فقال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ: أي يتلقفه بعضكم من بعض من غير تحر وتثبت ثم يذيعه، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: يعني أن قالة

__________

(1) سورة النور: الاية 13.

(2) سورة النور: الاية 14.

السوء التي نطقتم بها ليس لها ما يسندها من علم أو دليل، وليست نابعة عن اعتقاد وإنما هي شكوك وأراجيف لا تعدو طرف اللسان، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ «1»

: هذه جريمة من جرائمهم وهي استصغارهم لذلك وهو عظيمة من العظائم عند الله، ولو لم تكن عائشة زوجة نبي لما كان هينا، فكيف وهي زوجة خاتم الأنبياء، وسيد ولد ادم على الإطلاق، وهي بالمنزلة التي لا تخفى عليكم نسبا وشرفا ودينا؟

ثم قال سبحانه:

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ «2»

«سبحانك» : كلمة تعجب من الأمر المستفظع «بهتان» : كذب فاحش وهذا تأديب اخر للمؤمنين أنه كان الأليق بهم أن يستعظموا هذه المقالة، ويطهروا ألسنتهم من النطق بها، ثم حذرهم سبحانه أن يعودوا لمثل هذه المقالة الفاحشة التي تجافي الإيمان فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» .

ثم قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4»

. هذا تأديب إلهي ثالث لمن سمع قالة السوء أو علم بفاحشة ألايذيعها ويشيعها، لما في إشاعة الفاحشة من إثارة بواعث الشر في النفوس، وإيقاظ الفتنة بين الناس، وفي ذلك ما فيه من الإضرار بالأسر والجماعات.

ومن أدب النبوة في هذا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والاخرة» رواه مسلم، وقال: «يا معشر من امن بلسانه ولم يدخل الإيمان

__________

(1) سورة النور: الاية 15.

(2) سورة النور: الاية 16.

(3) سورة النور: الايتان 17، 18.

(4) سورة النور: الاية 19.

قلبه لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتّبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته» رواه أبو داود.

ثم قال سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1»

. جواب لولا محذوف أي لعاجلكم بالعقوبة، وفي هذا تكرير للمنّة بترك المعاجلة، وفي حذف الجواب إيجاز معجز لتذهب النفس فيه كل مذهب، فلله در التنزيل، ما أبلغه وما أكثر بركاته!!.

ومما يتصل بايات الإفك قوله سبحانه:

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) «2» .

«المحصنات» : العفائف، «الغافلات» : يعني عن الفاحشة، وهذا أسمى وصف يدل على العفة، فإن من العفائف من تخطر الفاحشة ببالها ثم لا تلبث أن تزول، ولكن أعف العفة أن تكون المرأة غافلة عن التفكير فيها والخطور بنفسها، ويدخل في هذه الأوصاف أمهات المؤمنين دخولا أوليا ولا سيما عائشة التي كانت سبب نزولها، فالذين يرمون بالزنا المحصنات الغافلات المؤمنات ملعونون في الدارين على ألسنة الخلق والملائكة، ومطرودون في الاخرة من رحمة الله، ولهم عذاب هائل لا يقادر قدره لعظم ما ارتكبوه.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «3» .

ومعنى شهادة الجوارح المذكورة أنه عز وجل ينطقها بقدرته، فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من الذنوب والاثام. دِينَهُمُ الْحَقَّ: أي يعطيهم

__________

(1) سورة النور: الاية 20.

(2) سورة النور: الاية 23.

(3) سورة النور: الايتان 24، 25.

جزاءهم المطابق لمقتضى العدل والحكمة وافيا تاما. الْحَقُّ الْمُبِينُ: الحق الظاهر ألوهيته والظاهر حقيته.

ثم ساق سبحانه دليلا على براءة السيدة عائشة على ما هو السنة الجارية الغالبة فيما بين الناس، فقال: الْخَبِيثاتُ: أي من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ: ذكره وإن كان مفهوما مما سبق مبالغة في التأكيد. وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء لا يتجاوزوهن إلى من عداهن، وحيث كان رسول الله أطيب الطيبين، وخير الأولين والاخرين، فقد ثبت كون الصدّيقة من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الترهات.

أُولئِكَ: إشارة إلى ال البيت النبوي رجالا ونساء، ويدخل فيه السيدة عائشة دخولا أوليا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ: منزهون عما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: مغفرة لما عسى أن يقع منهم من خلاف الأولى، أو ما لا يسلم منه إنسان من الذنب، ورزق دائم لا يزول ولا يحول وهو الجنة.

ورحم الله الإمام الزمخشري حيث قال في تفسيره: (ولو قلّبت القران، وفتشت ما أوعد به العصاة، لم تر الله قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الايات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه- ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث «1»

لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الاخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيّهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فأوجز في ذلك وأشبع، وفصّل وأجمل، وأكّد

__________

(1) يريد قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ... ، إلى قوله تعالى: الْحَقُّ الْمُبِينُ.

وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا بما هو دونه في الفظاعة وما ذلك إلا لأمر.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القران، حتى سئل عن هذه الايات فقال: «من أذنب ذنبا ثم تاب عنه قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة» ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه «1»

، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وبرّأ عائشة بهذه الايات العظام، في كتابه المعجز، المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على أنافة محل سيد ولد ادم، وخيرة الأولين والاخرين، وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق من عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدم قدمه، وإحرازه لقصب السابق دون كل سابق- فليتلق ذلك من ايات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه) «2» .

__________

(1) هذه القصة رويت في صحيح البخاري، وقد أشار إليها الله في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً، وكانوا رموه بأنه «ادر» أي منتفخ الخصية، وبينا هو ذات يوم يغتسل في البحر وقد ترك ثيابه على حجر، إذ فرّ الحجر بثوبه، فصار يجري وراءه وهو يقول: ثوبي يا حجر، فرأى الناس أن ليست به أدرة.

(2) تفسير الكشاف، ج 2 ص 78.




كلمات دليلية: