واشتدت سكرات الموت بالنبي، ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة، فعرف أنه يدعو له، وأخذت السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها «2» ونحرها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله ينظر إليه، فقالت عائشة: اخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه، فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: «في الرفيق الأعلى» «3» .
__________
(1) السنح بضم السين: مكان خارج المدينة كان للصديق مال فيه وبيت.
(2) السحر: الرئة. والنحر: الثغرة التي في أسفل العنق.
(3) الرفيق الأعلى: هم الذين ذكرهم الله في قوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. وقيل هم الملائكة، وقيل هو الله جل جلاله، وهو من أسماء الله الحسنى وصفاته، يعني في كنفه ورحمته.
وكان اخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم «لا يبقى بجزيرة العرب دينان» وقوله: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل يغرغر بها صدره، وما يفصح بها لسانه.
فلما اشتد الضحى، فاضت أطهر روح في الدنيا من جسدها، وصعدت إلى بارئها راضية مرضية، وخرج أكرم إنسان على الله في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها، ولم يترك مالا ولا دينارا ولا درهما، ولا ولدا إلا فاطمة رضي الله عنها، وإنما ترك هداية وإيمانا، وشريعة عامة خالدة، وميراثا روحيا عظيما، وأمة هي خير الأمم وأوسطها.
وكان ذلك يوم الاثنين لهلال ربيع الأول، وقيل لليوم الثاني منه، وقيل لليوم الثاني عشر منه من العام الحادي عشر للهجرة. والأول هو الأرجح، ويليه الثاني، وأما الثالث فعليه مأخذ وإن اختاره ابن إسحاق والواقدي وابن سعد «1» .
,
وشاع الخبر في المدينة، فإذا لهم ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج بالإحرام، وأذهل النبأ سيدنا عمر فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي مات، ويقول: ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات.
,
وبعد هذه البيعة العامة انصرف المسلمون إلى تجهيز رسول الله، مقتدين في كل ما أشكل عليهم بالصدّيق رضي الله عنه في تغسيله، وتكفينه، ودفنه.
وقد حضر غسله من ال البيت: العباس، وعلي، والفضل وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد، وصالح مولى الرسول. ودخل معهم بعد الاستئذان أوس بن خولي الأنصاري، وقد أسند علي النبي إلى صدره وعليه قميصه، وتولى غسله يعاونه العباس وابناه، وكان أسامة وصالح يصبان الماء.
ولم ير علي من النبي ما يرى من الميت، فصار يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا!! وكان يغسل بالماء والسّدر «1» ، فلما فرغوا من تغسيله كفّنوه في ثلاثة أثواب بيض يمانية من قطن، ولم يجعلوا في كفنه بردة حبرة كما زعم بعض كتاب السيرة المحدثين «2» ، بل أبوا ذلك كما رواه مسلم وأبو داود «3» .
وبعد أن كفّنوه وضعوه على سريره في الحجرة، ودخل الناس عليه أرسالا يصلون فرادى، لا يجتمعون على إمام، فلما فرع الرجال صلّى النساء ثم الصبيان.
وبعد أن فرغوا من الصلاة اختلفوا في أي مكان يدفن؟ أيدفن في مسجده، أم يدفن بالبقيع مع أصحابه، أم يدفن في بيته، وحسم الصدّيق
__________
(1) السدر: نبت طيب الرائحة يغسل به الميت كالصابون.
(2) حياة محمد، ص 494.
(3) البداية والنهاية، ج 5 ص 263.
الخلاف بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قبض نبي إلا ودفن حيث قبض» ، فقرّ رأيهم على أن يدفن في حجرة السيدة عائشة حيث مات.
وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح «1» لأهل مكة، وكان أبو طلحة الأنصاري- وهو الذي كان يحفر لأهل المدينة- يلحد «2» . فأرسل إليهما العباس رسولين، فأما رسول أبي عبيدة فلم يجده، وأما الثاني فقد وجد أبا طلحة، فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأهل المدينة، ونزل في الحفرة العباس، وعلي، وقثم، والفضل، وشقران، ومعهم أوس بن خولي أيضا، وأخذ شقران مولى رسول الله قطيفة كان يلبسها ففرشها للنبي في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
وبين الأسى والحزن والدموع، وتفطر القلب على الحبيب المغيب في اللحد، أهالوا التراب على القبر الشريف، ثم رشّوا عليه الماء، وكان ذلك في ليلة الأربعاء بعد يومين من وفاته صلى الله عليه وسلم، فلما توفي الصدّيق دفن بجانب صاحبه، وكان هناك موضع قبر كانت عائشة تدّخره لنفسها، فلما طعن الفاروق أوصاهم أن يستأذنوا عائشة في أن يدفن بجانب صاحبيه، فلما قبض استأذنوها، فأذنت واثرته على نفسها، وتحققت رؤياها، فقد كانت رأت أن ثلاثة أقمار سقطن في حجرتها، فكان الثلاثة هم الثلاثة أقمار الذين ملأوا الدنيا إيمانا وهدى، وعدلا ورحمة، ونورا وضياء، ووضعوا الأساس الصالح للحضارة الإسلامية الفذة التي أرسى قواعدها هؤلاء السادة الأخيار، وعزت عن أن يكون لها مثيل.
ولم تكن القبور الثلاثة داخل المسجد حتى كان عهد الوليد بن عبد الملك، فأمر نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أن يوسع في المسجد من جميع جوانبه، فاضطروا إلى إدخال الحجر في المسجد ومنها حجرة عائشة، ومع هذا احتاطوا غاية الاحتياط، فأحاطوا القبور بحائط مرتفع كيلا تظهر في المسجد فيصلي إليها
__________
(1) في القاموس: ضرحه كمنعه. وضرح الميت حفر له ضريحا، والضريح البعيد، والقبر أو الشق وسطه أو بلا لحد. فالمعنى يشق وسط القبر.
(2) في القاموس: ولحد القبر كمنع وألحده عمل له لحدا: وهو الشق بجانب القبر ثم يوضع فيه الميت.
العوام، ثم بنوا جدارين من ركني الحجرة الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على هيئة رأس مثلث من الشمال، حتى لا يتمكن المصلي من استقبال القبور في الصلاة، عملا بتحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في مرض موته وأكثر من القول:
«لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: «اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» «1» .