withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من كتاب السيرة الحلبية

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من كتاب السيرة الحلبية

اسم الكتاب:
السيرة الحلبية

باب الهجرة إلى المدينة

لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم، جاءهما الدليل الذي هو الرجل الدؤلي براحلتيهما، فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامر بن فهيرة: أي رديفا لأبي بكر يخدمهما، أي وفي البخاري «أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لما سيأتي.

ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه» أي بركابه، والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاي: ركاب الإبل خاصة «فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أبشرك؟ قال بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة» قال الخطيب: هذا الحديث لا أصل له. قال السيوطي:

رأيت له متابعات «ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه: اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي» .

«وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل، وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي معك» أي وفي رواية: «من هذا الذي بين يديك؟» وفي رواية: «من هذا الغلام بين يديك» أي بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر «أله الناس» أي أشغل الناس عني: أي تكفل عني بالجواب لمن سأل عني، فإنه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب: أي ولو صورة كالتورية، فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر، وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه، لأن أبا بكر كان معروفا لهم، لأنه كان يكثر المرور عليهم في التجارة للشام: أي معروفا لغالبهم، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت؟ يقول: باغي أي طالب حاجة، فعلم أن الأنبياء لا ينبغي لهم الكذب ولو صورة، ومن ذلك التوراة، لكن سيأتي في غزوة بدر وقوع التوراة منه صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر ناقته» وفي التمهيد لابن عبد البر «أنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت اركب وأردفك أنا، فإن الرجل أحق بصدر دابته، فكان إذا قيل له من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل» .

أقول: لا مخالفة بين هذا وما تقدم، لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف

أبي بكر على ناقة أبي بكر، وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه، وأن ركوبه لها كان في أثناء الطريق، ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة، أو ترك ركوبها لأجل إراحتها، والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر، وإن كان الأوّل هو الغالب والله أعلم، وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله:

ونحا المصطفى المدينة واشتا ... قت إليه من مكة الأنحاء

أي وقصد صلى الله عليه وسلم المدينة واشتاقت إليه الجهات والنواحي من مكة. وقد جاء «أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] أي إلى مكة» .

وأهل الرجعة يقولون إلى الدنيا: أي من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى، وقد أظهرها عبد الله بن سبأ، كان يهوديا وأمه يهودية سوداء؛ ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، أظهر الإسلام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وقيل في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام، وتقدم ذلك في أثناء الكلام على بدء الوحي، وسيأتي ذلك عند بناء المسجد. وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة، أي فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان.

فعن سراقة قال «جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج: أي بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت أسودة: أي أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا: أي بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم، أي وفي لفظ «قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا عليّ آنفا» أي قريبا «إني لأراهم محمدا وأصحابه. قال سراقة: فأومأت إليه أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت إلى منزلي، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي خفية إلى بطن الوادي وتحبسها عليّ، وأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه في الأرض» والزج الحديدة التي تكون في أسفل الرمح «وخفضت عاليه» أي أمسكت بأعلاه «وجعلت أسفله في الأرض لئلا يراه أحد» وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره،

ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما، زاد في رواية «ثم انطلقت فلبست لأمتي، وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء يعني قومه.

قال: حتى أتيت فرسي» أي وكان يقال لها العود، والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى. قال في النور: والمراد هنا الأنثى، لقوله «فركبتها» أي بالغت في إجرائها «حتى دنوت منهم» ..

وفي لفظ: «فرفعتها تقرب بي» وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها، لأن التقريب دون العدو وفوق العادة «فعثرت بي فرسي» أي فوقعت لمنخريها كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.

زاد في رواية «ثم قامت تحمحم، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي على كنانتي فاستخرجت الأزلام» أي وهي عيدان السهام التي لا ريش لها ولم تركب فيها النصال «واستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره وهو عدم إضرارهم» أي لأنه مكتوب عليها افعل لا تفعل، ويقال للأوّل الآمر، ويقال للثاني الناهي «فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت» أي غابت «يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان» أي غبار «ساطع في السماء مثل الدخان أي مع كون الأرض جلدة، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان:

أي وقلت أنظروني لا أوذيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه» .

أي وفي رواية: «ناديت القوم، وقلت أنا سراقة بن مالك، انظروني أكلمكم، أنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي: أي أن بلغهم ذلك وأنا راجع رادّهم عنكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: ماذا تبتغي؟ فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم» .

وفي رواية «قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي» وفي رواية قال «يا هذان ادعوا لي الله ربكما، ولكما أن لا أعود ففعل: أي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس» وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخافة، «قال: فركبت فرسي» أي بعد نهوضها «حتى جئتهم، فقلت: إن قومك جعلوا فيك الدية: أي مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك» وهذا هو المراد بقوله في الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم، وكأنه رأى أن ذلك كاف في لحوقه بهم عن ذكر أبي بكر. «قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا وقالا:

اخف عنا» أي وفي رواية «عرضت عليهما الزاد والحملان» أي ولعل الحملان هو المراد بالمتاع، أي لأنه جاء «أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتي، وغنمي وإبلي

بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما، فقالا: اكفنا نفسك، فقال: كفيتماهما» .

أقول: وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم «يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك» . وفي رواية عن أبي بكر رضي الله عنه، قال «لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: الآية 40] أي وقد تقدم أنه قال ذلك له في الغار فلما، كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة» أي ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين، لجواز أن يكون ذلك في أوّل أمرها، ثم صارت إلى بطنها، وذلك كله في المرة الأولى، فلا يخالف ما في الإمتاع «لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال: ادع لي يا محمد أن يخلصني الله تعالى ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا فخلص فعاد فتبعهم، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ» الحديث إذ هو يدل على أنها في المرة الأولى وصلت إلى بطنها؛ وفي الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك. وقد يدل له ما يأتي عن الهمزية، ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها في الأرض في المرة الثانية. وفي لفظ «فقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا» .

وفي السبعيات للهمداني «أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعني الجبار الواحد القهار، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب، فساق سراقة فرسه فلم يتحرك، فقال: يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتني لأكونن لك لا عليك، فقال: يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده» .

وروي في بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد، وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه في الأرض؛ وهذا أي الاقتصار على غوص قوائم فرسه في الأرض لا ينافي الزيادة، فلا يخالف ما سبق، وفي السابغة تاب توبة صدق.

وفي الفصول المهمة «لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك في اليوم الثاني من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال: بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيكم يأتيني بخبره فوثب

سراقة، فقال، أنا لمحمد يا أبا الحكم. ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا: أي في أثر النبي صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دهينا، هذا سراقة قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور، فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم، فلما قرب منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأن شئت؛ فغابت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك، فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال: يا محمد أنت أنت وأصحابك، أي أنت كما أنت أي آمن وأصحابك، فادع ربك يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده قال: فأطلق الله تعالى قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما» أي ولعل هذا في المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم، وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافي الزيادة عليها، فلا يخالف ما سبق في هذه الرواية «ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا، فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة» وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل:

أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟

وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم في الجبل؛ لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه.

وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس في مجلس قومه؛ فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود في مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده.

ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار، ويسبقهم على قديد. ولا ينافي ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش، لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقة. ولا ينافي ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل. وفي كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبي جهل. ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما.

وفي رواية «أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه، فقال:

يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا» .

ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت. ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهي: فعثرت بي فرسي فخررت عنها. وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

قال سراقة «فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وفي السبعيات «قال سراقة: يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم؛ وتملك رقاب الناس، فعاهدني أني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني، فأمر عامر بن فهيرة، أي وقيل أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، أي وقيل في قطعة من عظم، وقيل في خرقة» .

أقول: وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك، فأحدهما كتب في الرقعة من الأدم، والآخر كتب في العظم أو الخرقة. أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم، فلا مخالفة.

«ولما أراد الانصراف قال له: يكف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى؟

قال كسرى بن هرمز؟ قال نعم» وسيأتي أن سراقة أسلم بالجعرانة، ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك.

وعن سراقة «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابي وأنا سراقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبشر، أدنه، فدنوت منه وأسلمت» .

ولما جيء لعمر رضي الله تعالى عنه في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته أي وبساطه وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا، منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، كان يبسط له في إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور- وجيء له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكنّ ثلاثا وعليهنّ الحليّ والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. وعند ذلك دعا سراقة وقال: ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك: أي ورفع عمر بها صوته

وصبّ المال الذي جيء به من أموال كسرى في صحن المسجد، وفرقه على المسلمين، ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين، فأصاب عليا رضي الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار. ثم جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنّ، وأن يزيل نقابهنّ عن وجوههنّ ليزيد المسلمون في ثمنهن، فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادي في صدره فغضب عمر رضي الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين، فقال له علي رضي الله تعالى عنه:

مهلا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فسكن غضبه، فقال له علي: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال له عمر: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: يقوّمن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومن وأخذهن علي رضي الله تعالى عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم، وأخرى لمحمد بن أبي بكر فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسريّ، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه.

ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب وأعجب سعيد بي يوما، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده، قلت له: يا عم من هذا؟ قال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض، فلما خرج قلت: يا عم من هذا؟ قال: ما أعجب أمرك! أتجهل مثل هذا؟

قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل عليه علي بن الحسين فجلس ثم نهض، فلما خرج قلت له: من هذا؟ قال: عجبت منك! أتجهل مثل هذا؟ هذا علي زين العابدين بن الحسين، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمي رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة فما لي في هؤلاء أسوة؟ فقال:

أجل وعظمت في عينه جدا.

ولما رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلا ردّه، يقول: سيرت أي اختبرت الطريق فلم أراد أحدا. وفي لفظ قال لقريش: أي الجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك: قد عرفتم بصرى بالطريق، وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا» أي فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أي ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم نزل في خيمة أم معبد كما سيأتي، أرسلوا سرية في طلبه، يقول قائلهم: اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة، فكان

سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أي سلاحا له.

وفي رواية «قال سراقة: خرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما، ورجعت وأنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما أحد» ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أمّ معبد.

ففي تتمة الخبر: أن تلك السرية جاءت إلى أمّ معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشفقت: أي خافت عليه منهم، فتعاجمت عليهم: أي أظهرت عدم علمها بذلك؛ فقالت: إنكم تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا، ثم قالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخنّ في قومي عليكم وكانت في عز من قومها، فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه: أي من أي طريق توجه، أي ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة سراقة قبل قصة أمّ معبد، وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله:

غرّت سراقة أطماع فساخ به ... جواده فانثنى للصلح مطلبا

وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله:

واقتفى أثره سراقة فاسته ... وته في الأرض صافن جرداء

ثم ناداه بعد ما سيمت الخس ... ف وقد ينجد الغريق النداء

أي وتبع أثره سراقة، فهوت: أي سقطت به صافن، وهي الفرس التي تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر، وهو وصف محمود في الخيل.

جرداء، قصيرة الشعر، وذلك وصف محمود في الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها. وقد يخلص الدعاء الغريق، كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.

قال: وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «أنه قال: سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد، رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت له فروة معي، ثم قلت: يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرّف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه: أي وهو الظل، فلقيته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته» أي وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الراعي ولا على اسم صاحب الغنم «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال نعم، فأخذ شاة فحلب لي في قعب معه» وفي رواية في إداوة معي على فيها خرقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت

حتى أستيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب، لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك أي كما تقدم، فلا ينافي ما جاء «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غير معرفة الراعي.

وأما قول بعضهم «إنما استجاز شربه لأنه مال حربي، ففيه نظر، لأن الغنائم:

أي أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ؛ ثم قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يأن للرحيل؟ قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس» انتهى.

أي وفي رواية «أن أبا بكر، قال: قد آن الرحيل يا رسول الله» أي دخل وقته، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر:

بلى، ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل «واجتازوا في طريقهم بأمّ معبد» أي واسمها عاتكة، وكان منزلها بقديد، أي وهو محل سراقة كما تقدم، ولعلها كانت بطرفه الأخير الذي يلي المدينة، ومنزل سراقة بطرفه الذي يلي مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل. «وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة تختبي بفناء بيتها وتطعم وتسقي وهي لا تعرفهم، أي وسألوها لحما وتمرا» أي وفي رواية «أو لبنا يشترونه، فقالت: والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم» أي للشراء، وفي رواية «ما أعوزناكم القرى» لأنهم كانوا مسنتين: أي مجدبين «فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم معبد هل عندك من لبن؟

قالت: لا والله، فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم» أي لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال «قال هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك» أي أصلح شأنك «بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها، فدعا بها فمسح ظهرها بيده» أي وفي رواية «فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام هات فرقا، فمسح ظهرها» وفي رواية «فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى، أي وقال: اللهم بارك لنا في شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت» أي فتحت ما بين رجليها للحلب «ثم دعا بإناء يربض الرهط» أي يرويهم بحيث يغلب عليهم الريّ فيربضون وينامون. والرهط من الثلاثة للعشرة، وقيل من التسعة إلى الأربعين «فحلب فيها ثجا» أي بقوة لكثرة اللبن.

ومن ثم قال «حتى علاه البهاء» وفي رواية «حتى علته الثمالة» بضم المثلثة: أي الرغوة. وفي رواية «فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل» أي مرة ثانية بعد الأولى «ثم شرب صلى الله عليه وسلم، فكان آخرهم شربا» وقال «ساقي القوم آخرهم شربا» ثم حلب فيه وغادره» أي تركه عندها وارتحل، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي بقوله في تائيته:

مسحت على شاة لدى أم معبد ... بجهد فألفتها أدرّ حلوبة

وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:

درت الشاة حين مرت عليها ... فلها ثروة بها ونماء

أي أرسلت الشاة لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة.

وعن أم معبد: أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة من الهجرة، ويقال لتلك السنة عام الرمادة: أي وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها، أي لخبث لحمها، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وعند ذلك آلى عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس: أي يجيء عليهم الحيا وهو المطر، وقال: كيف لا يعنيني شأن الرعية إذ لم يمسني ما مسهم، وهذا السياق يدل على أن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة.

وفي تاريخ العيني شارح البخاري، قال يونس «عن ابن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال اشربي يا أم معبد، فقالت اشرب اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك، فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد، فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم، ووصفوه لها، فقالت: ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذلك الذي نريده» .

وعند قول عمر رضي الله تعالى عنه ذلك، قال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وصنو أبيه، وسيد بني هاشم يعني العباس، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس، فصعد عمر المنبر ومعه العباس، وقال: اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنوا أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين؛ ثم قال عمر للعباس: يا أبا الفضل قم وادع، فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه: اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا. اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع. اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك، فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم، وخاضوا في الماء وأخصبت الأرض، وعاش الناس، فقال عمر: هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى، فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئا لك، سقينا في الحرمين.

وذكر السهيلي أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح في السحاب. أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.

هذا، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، لأستسقين غدا بمن يسقيني الله به، فلما أصبح غدا للعباس رضي الله تعالى عنه فدق عليه الباب، فقال من؟ قال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا، والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيبا وطيبهم، ثم خرج وعليّ أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا. اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره. قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي خمس مرات، أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي، هذا كلامه فلينظر الجمع.

قال ابن شهاب: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه: أي وكان لا يمر عمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس، وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال «احفظوني في العباس، فإنه عمي وصنو أبي» وفي رواية «فإنه بقية آبائي» .

قالت أم معبد في وصف تلك الشاة «وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا» أي بكرة وعشية وما في الأرض قليل ولا كثير: أي مما يتعاطى الدواب أكله «ولما جاء زوجها أبو معبد» قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم، وقيل خنيس، وقيل عبد الله «جاء عند المساء يسوق أعنزا عجافا، ورأى اللبن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عجب، وقال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب في البيت؟ أي والشاة عازب» أي لم يطرقها فحل، لكن رأيته في النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التي لا تأوي إلى المنزل في الليل. وفي الصحاح: العازب الكلأ البعيد الذي لم يؤكل ولم يوطأ.

قالت: «مرّ بنا رجل مبارك، قال: صفيه، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه» أي مشرقه «في أشفاره» أي أجفان عينيه أي شعرها النابت بها «وطف» أي طول «وفي عينيه دعج» أي شدة سواد في بياض، أي وهذا هو الحور، ومن ثم

فسر بعضهم الدعج بشدة السواد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض، بل كان أشكل العين. والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو دليل الشهامة، وهي من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة كما تقدم «وفي صوته صحل» أي بحة بضم الموحدة، أي ليس حاد الصوت «غصن بين الغصنين، لا تشنؤه من طول» أي لا تبغضه لفرط طوله «ولا تقتحمه من قصر» أي تحتقره من قصره «لم تعبه ثجلة» أي عظم البطن وكبرها «ولم تزر به صعلة» أي صغر الرأس، «كأن عنقه إبريق فضة» أي والإبريق السيف الشديد البريق «إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، له كلام كخرزات النظم، أزين أصحابه منظرا، وأحسنهم وجها، أصحابه يحفون به، إذا أمر ابتدروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه» .

قال: وفي لفظ «أنها قالت: رأيت رجلا ظاهرا الوضاءة أبلج الوجه» أي مشرقه «حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صعلة، وسيما قسيما» أي حسنا «في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل» أو قالت «صهل، أحور أكحل» أي في أجفان عينيه سواد خلقه «وفي عنقه سطع» أي نور «وفي لحيته كثافة» أي لا طويلة ولا دقيقة «أزج» أي رقيق طرف «الحاجب، أقرن» أي مقرون الحاجبين «شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به» أي ارتفع على جلسائه «وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة لا تشنؤه» أي تبغضه «من طول» أي من فرط طوله «ولا تقتحمه عين من نظر» أي لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له «غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا؛ له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود مخدوم محشود، له حشد وجماعة، لا عابس ولا مفند» أي يكثر اللوم اهـ «قال: هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجتهدن أن أفعل» .

أي وفي الإمتاع «ويقال إنها» أي أم معبد «ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، ووضعت لهم في سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة، وبقي عندها أكثر لحمها» .

وفي الخصائص الكبرى «أنه صلى الله عليه وسلم بايعها» أي أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها. وفي كلام ابن الجوزي أن أم معبد هاجرت وأسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم.

أقول: في شرح السنة للبغوي: وهاجرت هي وزوجها؛ وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر، واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ويقال إن زوجها خرج في أثرهم فأدركهم، وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع.

وفي الأجوبة المسكتة لابن عون، قيل لأم معبد: ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أشبه به من سائر صفات من وصفه: أي من الرجال، فقالت: أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟.

وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن هند بنت الجون «أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهي أعظم دوحة» أي شجرة ذات فروع كثيرة «وجاءت بثمر كأعظم ما يكون، في لون الورس، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برىء، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ فكنا نسميها المباركة، فأصحبنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر ورقها ففزعنا لذلك، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال:

والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة.

وعن أم معبد أنها قالت: مرّ علي خيمتي غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان، فقلت ما هذا؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاي: يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السير كي لا تنشف القرب، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو «إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إليّ من ماء زمزم» فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر» ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد في أبيات، منها:

جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد

فعلموا توجهه ليثرب: أي وفي طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد، قال بعضهم: وليست بأم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة.

ويجوز أن يكون الخبر الذي وصل إليهم في اليوم الثاني من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم، وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله:

وتغنت بمدحه الجن حتى ... أطرب الإنس منه ذاك الغناء

أي وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة في صورة الغناء الذي تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه، وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله:

إن يسلم السعدان يصبح محمد ... من الأمر لا يخشى خلاف المخالف

فقالوا: السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة، وسعد هديم، فلما كانت

القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول:

فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

فقالوا: سعد الأوس سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة، ففيه نظر، لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك؟ فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان.

أقول: يجوز أن تكون أن هنا بمعنى إذ: أي صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى خلاف المخالف لأجل إسلام السعدين، أو المراد دوامهما على الإسلام، على أنه ذكر في الأصل إن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ.

وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة: أربعة من الأوس: سعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن عبيد، وسعد بن زيد، وثلاثة من الخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة، والله أعلم.

قال: وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما في الأصل، وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذي صرح به جماعة اهـ.

أقول: ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد.

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: والله لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، أي وفي لفظ: طرح منها قرطي. والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، قالت. ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أي توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول:

جزى الله رب الناس

الأبيات كذا في الأصل.

وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في خروجه للغار، وقولها فمضى ثلاث لا ندري أين توجه يقتضي أن المراد خروجه من الغار، وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار، وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل.

وقد تبع الأصل في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قدّم خبر سراقة على قصة أم معبد، إلا أن يقال الدمياطي لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته، وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص. قيل هي قصة أم معبد وقيل غيرها، «وهي أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه؟ فقال لرجل من أسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وقال:

سلمت إن شاء الله تعالى، ثم قال للراعي: ما اسمك؟ قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: سعدت إن شاء الله تعالى» .

وفي الإمتاع: ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا: أي والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد.

وفي الشرف «أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طمع في ذلك، فخرج هو في سبعين من أهل بيته. وفي لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا، وحينئذ يراد ببيته قومه، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له: من أنت؟ قال: بريدة بن الحصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم: قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، قال: ممن أنت؟ قال: من أسلم من بني سهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم. ثم قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وكل من كان معه: أي وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم قال بريدة: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ بريدة عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه: أي وقال له كما في الوفاء: تنزل على من يا نبي الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ناقتي هذه مأمورة، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم» يعني قومه «طائعين غير مكرهين» .

ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة.

أقول: ولعلّ خروجهم كان في ثلاثة أيام، وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها في الغار، والله أعلم.

فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أي وأحرقتهم الشمس، وإذا رجل من اليهود صعد على أطم: أي محل مرتفع من آطامهم أي من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين: أي لأنهم لقوا الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما في البخاري.

وقيل إن الذي كساهما طلحة بن عبيد الله. فقال في النور: ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكره، وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطي لهذا القيل ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذي في السير. ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه في ابتداء أمره، فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة.

فلما رآهم ذلك اليهودي يزول بهم السراب، أي يرفعهم ويظهرهم: أي والسراب ما يرى كالماء في وسط النهار في زمن الحرّ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون، أي وفي رواية: فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار، أي ولا مانع من وجود الأمرين، فثار المسلمون إلى السلاح، فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، أي وفي لفظ: فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة، ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطمئنين.

وفي لفظ: فاستقبله زهاء خمسمائة أي ما يزيد على خمسمائة من الأنصار، فقالوا:

اركبا آمنين مطاعين، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقبا



كلمات دليلية: