withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


المسلمون الأوائل من كتاب السيرة الحلبية

المسلمون الأوائل من كتاب السيرة الحلبية

اسم الكتاب:
السيرة الحلبية

باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم

أي بعد البعثة: أي الرسالة، وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة.

لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا، واتبعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا، فطوبى للغرباء» ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله عنها.

أقول: نقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء عليه. وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين. وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.

وفيه أن بناته الأربع كنّ موجودات عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن، إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن، أخذا مما يأتي.

وعن ابن إسحق أن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها وأخبرها به.

ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول هذه الأمة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه» وجاء «أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما» وكان لم يبلغ

الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه، كان سنة ثمان سنين، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره، لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاآ إليه وقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا، فلم يزل عليّ مع رسول الله» .

وفي خصائص العشرة للزمخشري «أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى تسميته بعليّ وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه» فعن فاطمة بنت أسد أم عليّ رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه، ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام، قالت: فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله عز وجل» هذا كلامه فليتأمل.

وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعليّ فتقوّس في بطنها فمنعها من ذلك. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته، فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين، وبين جعفر وأخيه عقيل كذلك، وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا، فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين، فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم عليّ: أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه.

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم «يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك» .

وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال: إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترشا عمتك حمالة الحطب، والراكب خير من المركوب.

ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه عليّ لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك، فقال له: لأذهبنّ إلى رجل هو أوصل إليّ منك، فذهب إلى معاوية فأعطاه معاوية مائة ألف درهم، ثم قال له معاوية: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليّا على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد يعني عقيلا، لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا

وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وأسأل الله تعالى خاتمه الخير. توفي عقيل في خلافة معاوية.

قال: وسبب إسلام علي كرم الله تعالى وجهه «أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وإلى الكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدّث أبا طالب، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا، فمكث ليلته. ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم» اهـ.

أقول: وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة، وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي: أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الاثنين، وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة، وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم.

وفي أسد الغابة «أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعليّ على يمينه، فقال لجعفر رضي الله تعالى عنه: صل جناح ابن عمك، فصلى عن يساره، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. قال بعضهم: وإنما صح إسلام علي: أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم: أي ومن ثم نقل عنه أنه قال:

سبقتكمو إلى الإسلام طرّا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي

أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق، لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين، لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر.

وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق. وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز.

هذا، وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا. وقيل لم يقل إلا بيتين: أي ولعل أحدهما ما تقدم، ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله:

تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما برّوا ولا ظفروا

فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ... بذات ودقين لا تبقي ولا تذر

وذات ودقين: هي الداهية.

وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل ابن خمس عشرة

سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة.

ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم: كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد.

ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سنّ الزبير حين أسلم ست عشرة سنة، وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سلّ سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك.

ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين: أي بناء على أن سن إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا.

ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه، فولدت ولدا حسنا. ويرد القول بأن سنه إذ ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة.

أقول: قال بعض متأخري أصحابنا: وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه، لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به. وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع: وأما علي بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا، لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده، يتبعه في جميع أموره، فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم، هذا كلامه فليتأمل، فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده.

وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له: أدعوك إلى الله وحده إلى آخره.

ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في «الإمتاع» وهو «ثلاثة ما كفروا بالله قط:

مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب، ة وآسية امرأة فرعون» .

والذي في العرائس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب يس، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم» إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم. وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له: «وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى» وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط.

وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية: أي لم يأت بها: أبا

بكر الصديق، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، ورباب بن البراء، وأسعد بن كريب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأبا قيس بن صرمة. ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها، لكن في كلام السبكي: الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى، فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة، هذا كلامه، وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم.

وفي كلام الحافظ ابن كثير: الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد:

خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم، فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد، وكذا يتأمل قول ابن إسحق: أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن.

وعن ابن إسحق: ذكر بعض أهل العلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي مستخفيا من قومه فيصليان فيها، فإذا أمسيا رجعا كذلك، ثم إن أبا طالب عثر: أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان: أي بنخلة، المحل المعروف، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به؟ فقال: هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه، فقال أبو طالب: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه» . وفي رواية «أنه قال له: ما بالذي تقول من بأس، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا» وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا على يمينه، لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك؟ فقال: تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، فقال: ما هذا الفعل الذي أرى؟ فلما أخبرناه قال: هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا، إني لا أحب أن تعلوني استي، فلما تذكرت الآن قوله ضحكت. وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي، وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا.

وذكر أن أبا طالب قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله ورسوله، وصدقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته، فقال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.

أي ويذكر عنه أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني

أخاف أن تعيرني نساء قريش لا تبعته.

وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال: كنت امرأ تاجرا قدمت للحج، وأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان العباس لي صديقا، وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينما أنا عند العباس بمنى: أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع: أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ فأسبغ الوضوء: أي أكمله ثم قام يصلي: أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات، ثم خرج غلام مراهق: أي قارب البلوغ فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، قال عفيف بعد أن أسلم: يا ليتني كنت رابعا» أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت، فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه، لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه كان قبل إسلام علي، وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم، بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي، ويؤيده ما قيل: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، لكن في الاستيعاب لابن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام.

وفيه أن عليا قال: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين، أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة.

وقوله في هذا الحديث: فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط.

أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه، والجماعة في ذلك جائزة، وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النقل المطلق، وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس.

وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها، فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا، كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك، وفي مكة كانت مباحة، لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر

الصحابة. وفيه أن القهر إنما ينافي إظهار الجماعة لا فعلها، إلا أن يقال تركت حسما للباب. وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل، والله أعلم.

ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل.

وقال ابن هشام: شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة، أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم، أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية، أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا، فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع، أي وعمره ثمان سنين، فإنه أسر من عند أخواله طي، وعليه اقتصر السهيلي.

فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه، أي وقيل اشتراه من سوق حباشة بأربعمائة درهم، ويقال بستمائة درهم، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها، فلما تزوّجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي.

أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنها جاء إلى خديجة، فقال: «رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه، ولو كان لي ثمنه لاشتريته، قالت وكم ثمنه؟ قال سبعمائة درهم، قالت: خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها، وقال: إنه لو كان لي لأعتقته، قالت: هو لك فأعتقه» وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك.

وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن اسمه زيدا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جدّه قصيّ حين تبناه.

ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه فقام إليه وقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال لا، قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: مملوك، قال: عربيّ أنت أم أعجمي؟ قال: بل عربيّ، قال: ممن أهلك؟ قال من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود، قال: ويحك ابن من أنت؟ قال ابن حارثة بن شرحبيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال: طيّ، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه وقال ابن حارثة ودعا أباه، فقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه.

وفي رواية أنا ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا

أباه ووصفوا له مكانه، فجاء أبوه وعمه.

وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون اجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس، فلما جاء أهلك في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله، فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد ذكر أنهم لما جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا ابن عبد المطلب يا ابن سيد قومه: أي وفي لفظ، لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن عبد المطلب يا ابن هشام يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون الأسير العاني، وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك، فقال: وما ذاك؟ قال: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء، فقالوا، زدت على النصف. وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه فقال:

تعرف هؤلاء؟ قال: نعم أبي وعمي، ولعل سكوته عن أخيه لاستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه، على أن أكثر الروايات الاقتصار على مجيء أبيه وعمه.

وفي كلام السهيلي «أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان؟ فقال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل، وهذا كعب بن شرحبيل عمي. فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له: أنا من علمت، وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم، فقالا، ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال نعم، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر: أي الذي هو محل جلوس قريش، فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا» .

وفي كلام ابن عبد البر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنه ثمان سنين، وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول: هذا ابني وارثا وموروثا، ويشهدهم على ذلك، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول، دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف: أي من حالفه، فنسخ ذلك، وهذا الذي ذكره ابن عبد البر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي، وأن ذلك كان قبل مجيء أبيه وعمه، وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجيء أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل.

وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم. وفي كلام بعضهم: لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري.

ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد، ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد باسمه إلا هو كما سيأتي. قال ابن الجوزي: إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجلّ الذي في قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: الآية 104] اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم.

أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد، ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب.

ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي، ولم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسنّ منه.

سئل جبلة: من أكبر أنت أم زيد؟ فقال زيد: أكبر مني وأنا ولدت قبله: أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام.

ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. قال بعضهم في سبب إسلامه، إنه كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته، وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم، فكان متوقعا لذلك، فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبيّ مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره، فقص عليه قصته المتضمنة لمجيء الوحي له بالرسالة، فقال صدقت، بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فيقال إنه سماه يومئذ الصديق، وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثر: الآية 1] بعد فترة الوحي، بناء على ما تقدم، وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافي ما سيأتي أنه سمي بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش، لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ.

وقد جاء في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزّمر: الآية 33] أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر. قال: ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر، خرجت وعليها خمار أحمر فقالت: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة، واسمه عبد الله: أي سماه بذلك رسول صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة، فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، ولقبه عتيق لحسن وجهه، أو لأنه عتق من الذمّ والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار، فهو أول لقب وجد في الإسلام.

وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة

ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش. قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول: عتيق وما عتيق، ذو المنظر الأنيق.

وفي كلام ابن حجر الهيتمي: وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة، وأنه غلب عليه من يومئذ. قال: وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه، وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلام السهيلي.

قيل وسمي عتيقا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار.

وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس. كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال، محببا في قومه، حسن المجالسة، وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا، ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذا العلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأنساب العرب.

فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال: إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش، فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر، وكان لا يعدّ مساويهم، فمن ثم كان محببا فيهم، بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فإنه كان بعد أبي بكر، أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم، وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم.

وفي كلام بعضهم: كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم، يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد.

قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر، لابتكاره الخصال الحميدة، وكان نقش خاتمه «نعم القادر الله» وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه «كفى بالموت واعظا يا عمر» وكان نقش خاتم عثمان «آمنت بالله مخلصا» وكان نقش خاتم عليّ «الملك لله» وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح «الحمد لله» .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة.

أي وقفة وتأخر وتردد- إلا ما كان من أبي بكر» .

وفي رواية «ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي عليّ وراجعني في الكلام، إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه» أي ومن ثم كان أسدّ الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، لخبر تمام «أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر» ونزل فيه وفي عمر وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يشاوره في أموره كلها.

وقد جاء «إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء: اثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل، واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر» وفي حديث رواته ثقات «إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر» وفي رواية «إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض» .

وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن مجلس أبي، فقال: مجلس أبيك والله لا مجلس أبي، فأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن رأيي، فقال: والله ما اتهمتك.

ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين، فإنه قال له وهو يخطب: انزل عن منبر أبي، فقال له: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام عليّ فقال له: ما أمره بهذا أحد، ثم قال للحسين: لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، صدق منبر أبيه.

قال: وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وبراهين صدق دعوته قبل دعوته، ولرؤيا رآها قبل ذلك. رأى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره، فقصها على بعض أهل الكتاب، فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه، وأنه يكون أسعد الناس به، ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا. فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته، وخليفته بعد مماته.

أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة: أي علم أنه النبي المنتظر، لما مر عن بحيرا الراهب، ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن، فقال له أحسبك حرميا، فقال أبو بكر نعم، فقال له أحسبك قرشيا، قال نعم، فقال له أحسبك تيميا، قال نعم قال له: بقيت لي فيك واحدة، قال وما هي؟ قال له: تكشف لي عن بطنك، فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك؟ فقال: أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى وكهل. فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة: أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا، بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت فيك الصفة: أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفي عليّ، فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سوداء فوق سرتي، أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر، فقال أنت هو ورب الكعبة، قال أبو بكر: فلما قضيت أربي من اليمن أتيته لأودعه، فقال: أحافظ عني

أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي؟ قلت نعم، فذكر له أبياتا، قال أبو بكر: فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري، فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذا قد جئت فأنت الغاية والكفاية: أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إليّ وقال لي: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات، فقلت:

ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي، قلت مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه:

فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي. وفي لفظ أشد سرورا مني بإسلامي، ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه.

ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين، وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه:

وأول الناس منهم صدق الرسلا

وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره، بل قال: صدقت يا حسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة.

وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أوّل الناس إسلاما بعد خديجة، ثم مولاه زيد بن حارثة، لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر.

أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار.

أي غير الموالي أبو بكر، ومن الصبيان عليّ ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، وهذا ما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ، وإلا فلا حاجة لزيادة «ليس من الموالي» تأمل.

أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام: أي في إظهار الإسلام، لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف عليّ، فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن أبا بكر رضي الله عنه سبقني إلى أربع وعدّ منها إظهار الإسلام وقال وأنا أخفيته، ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب، لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي، فالأولية في إظهار الإسلام إضافية.

قال ابن كثير: وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنا أول من أسلم، ولا يصح إسناد ذلك إليه. قال وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه. وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان؟ فالأولية إضافية.

ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم. البشاشة فخ المودة، والصبر قبر العيوب، والغالب بالظلم مغلوب، العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي.

وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.

وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم.

وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي: إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل، لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه، وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي، وهو يردّ القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة، فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام. ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة، لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر، وذلك نافع له في الآخرة. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفي ورقة: «لقد رأيت القس- يعني ورقة- في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني» إلى آخر ما تقدم.

وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم: أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها، بل يكفي ولو قبل ذلك، فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى: أي محكوما بإيمانه.

ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة: أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله: الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي. والمراد بالرسالة نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثر: الآية 1] لا إظهارها، ونزول قوله تعالى:

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] بناء على تأخر الرسالة عن النبوة.

وحين أسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.

أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال: ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع.

وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. وجاء «لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان» .

وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر، وقيل عبد الكعبة، وقيل عبد الحارث، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن قال: وكان أمية بن خلف لي صديقا، فقال لي يوما:

أرغبت عن اسم سماك به أبواك؟ فقلت نعم، فقال لي: إني لا أعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله، فكان يناديني بذلك.

قال: وسبب إسلام عبد الرحمن بن عوف ما حدث به قال: سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري، فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة.

وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن ابن عوف: «أنت أمين في أهل الأرض أمي في أهل السماء» وجاء «أنه وصفه بالصادق الصالح البار» .

وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص: أي فإن أبا بكر لما دعاه إلى الإسلام لم يبعد، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبر به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة، وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه: «سعد خالي فليرني امرؤ خاله» .

وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها، فقالت له: ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحمن وبر الوالدين؟

قال: فقلت نعم، فقالت: والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد: أي وتمس إسافا ونائلة، فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب، فأنزل الله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: الآية 8] الآية، وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب. قال سعد: فلما

رأيت ذلك قلت لها: تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج نفسا نفسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت.

وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال: أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر:

أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح: ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرته فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث؟ فرجعت من حيث جئت، وقلت: لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا، ثم أرسلت إليّ أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي، فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول: هو البر لا يفارق دينه، ولا يكون تابعا، فلما أسلم عامر لقي منها ما لم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة، ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت: ما شأن الناس؟ فقالوا: هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا، وهي تعطي الله عهدا لا يظلها نخل ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته، فقلت لها: والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئي مقعدك من النار.

وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عنده الحارث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قوم وينتفع بك آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس، فقال: والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله، هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء؟ قال نعم، فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال» وهذا استدل به على إسلام الحارث بن كلدة، لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك، فهو معدود من الصحابة. وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله.

وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبد الله التيمي فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم.

أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام أخذهما نوفل بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، ولذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية» .

أقول: سبب إسلام طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال:

حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل ثم

من أهل الحرم أحد؟ فقلت: نعم أنا، قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين يدعو إلى الله، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فسر بذلك وأسلم طلحة.

وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه، وهو طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:

وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ [الأحزاب: الآية 53] الآية، لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة. وفي لفظ يتزوّج محمد بنات عمنا ويحجبهنّ عنا، لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده، فنزلت الآية.

قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر، لأن طلحة أحد العشرة أجلّ مقاما من أن يصدر عنه ذلك، حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه هذا كلامه.

والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم:

عثمان وطلحة بن عبيد الله، ويقال له طلحة الفياض، وطلحة الجود، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وزاد بعضهم سادسا، وهو أبو عبيدة ابن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بزازا، وكان الزبير جزارا، وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل، والله أعلم، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.

وذك



كلمات دليلية: