withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة تبوك من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

غزوة تبوك من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

اسم الكتاب:
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

ثالثا: التدريب العملي العنيف:

كان في خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى تبوك فوائد كثيرة, منها:

تدريبهم تدريبا عنيفا، فقطع بهم صلى الله عليه وسلم مسافة طويلة في ظروف جوية صعبة حيث كانت حرارة الصيف اللاهب, بالإضافة إلى الظروف المعيشية التي كانوا يعانون منها، فقد كانت هناك قلة في الماء حتى كادوا يهلكون من شدة العطش، وأيضا كانت هناك قلة في الزاد والظهر ولا شك في أن هذه الأمور تعد تدريبا عنيفا لا يتحمله إلا الأقوياء من الرجال.

وفي هذا الدرس يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: تعمل الجيوش الحديثة على تدريب جنودها تدريبا عنيفا, كاجتياز مواقع وعراقيل صعبة جدا، وقطع مسافات طويلة في ظروف جوية مختلفة، وحرمان من الطعام والماء بعض الوقت، وذلك لإعداد هؤلاء الجنود لتحمل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب، لقد تحمل جيش العسرة مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف -إن لم تكن أصعب منها بكثير- لقد تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها, وقطعوا مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفًا, وتحملوا الجوع والعطش مدة طويلة.

إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه إعدادهم لتحمل رسالة

_________

(1) انظر: غزوة تبوك، باشميل, ص176، 177.

حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية ... فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, فلابد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى (1) وقد ساعد هذا التدريب العملي الصحابة في عصر الخلفاء فقاموا بفتح بلاد الشام وبلاد الفرس بقوة إيمانهم, وثقتهم بخالقهم, وساعدهم على ذلك لياقتهم البدنية العالية، ومعرفتهم العملية لاستخدام السيوف والرماح وأنواع الأسلحة في زمانهم.

رابعًا: أهم نتائج الغزوة:

أ- يمكن للباحث أن يلاحظ أهم نتائج هذه الغزوة وهي:

1 - إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب.

2 - إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة قادرة على تحدي القوى العظمى عالميا -حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية، وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حاليا على خليج العقبة) , وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم (2) وأصبحت القبائل العربية الشامية الأخرى التي لم تخضع للسيطرة الإسلامية في تبوك تتعرض بشدة للتأثير الإسلامي، وبدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة البيزنطية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويعد ما حدث في تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام (3)

وإن كانت هناك محاولات قبلها ولكنها لم تكن في قوة التأثير كغزوة تبوك, فقد كانت هذه الغزوة بمثابة المؤشر لبداية عمليات متواصلة لفتح البلدان، والتي واصلها خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، ومما يؤكد هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل موته جهز جيشا بقيادة

_________

(1) انظر: الرسول القائد، ص281، 282.

(2) انظر: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة, للشجاع، ص209.

(3) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، عبد الرحمن أحمد، ص102.

أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بمهمته إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد حقق الهدف المطلوب منه كما سيأتي (1) بإذن الله عند الحديث في سيرة الصديق - رضي الله عنه -.

لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسس الأولى والخطوات المثلى لفتح بلاد الشام والفتوحات الإسلامية.

3 - توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة كفتح مكة، وخيبر, وغزوة تبوك، فبادر كل قوم بإسلامهم بعد أن امتد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم ثم مصالحة نجران في الأطراف الجنوبية على أن يدفعوا الجزية، فلم يعد أمام القبائل العربية إلا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة؛ ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة

النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها, فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود (2).

وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المباركة غنية بالدروس والعبر التي تتربى عليها أمته في أجيالها المقبلة (3) , ومليئة بالدروس والعبر في تربية الأمة وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الله.

* * *

المبحث السادس

أهم الأحداث ما بين غزوة تبوك وحجة الوداع

أولاً: وفد ثقيف وإسلامهم:

لما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ورجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله, ثم إنهم رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب الذين أسلموا, فأجمعوا على أن يرسلوا رجالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدم عليه ستة منهم في رمضان بعد رجوعه من تبوك سنة تسع (4).

_________

(1) انظر: دراسات في عهد النبوة، للشجاع، ص209.

(2) انظر: نضرة النعيم (1/ 395، 396).

(3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون، (4/ 460).

(4) انظر: رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، ص199.

وكان الوفد يتكون من ستة من كبار بني مالك والأحلاف، ثلاثة لكل منهما وعلى رأسهم جميعا عبد ياليل بن عمرو (1) , وتكوين هذا الوفد على هذا النحو يدل على فكر سياسي عميق؛ ذلك لأن ثقيف تأمل في أن يتدخل المهاجرون من بني أمية للتوسط في إقرار الصلح مع الرسول بسبب علاقة بني أمية التاريخية بالأحلاف (2).

كان الصحابة يعرفون اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف؛ ولذلك ما إن ظهر وفد ثقيف قرب المدينة، حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول، وتنازل المغيرة لأبي بكر (3).

واستقبل الرسول الوفد راضيًا وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا, وكانت ضيافتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يفدون عليه كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه (4).

فمكث الوفد أياما يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم, وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم».

قال عبد ياليل: أرأيت الزنى؟ فإنا قوم عزاب بغرب (5) لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة, قال: «هو مما حرم الله على المسلمين, يقول الله تعالى (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)» [الإسراء: 32].

قال: أرأيت الربا؟ قال: «الربا حرام» قال: فإن أموالنا كلها ربا, قال: «لكم رءوس أموالكم, يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ)»

[البقرة: 278].

قال أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لا بد لنا منها.

قال: «فإن الله قد حرمها» ثم تلا رسول الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ

_________

(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 193).

(2) انظر: رجال الإدارة في الدولة الإسلامية، د. حسين محمد، ص76.

(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 193).

(4) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص670.

(5) أي: نذهب إلى بلاد بعيدة.

وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله والله لا تصبر ثقيف عن الخمر أبدا، ولا عن الزنا أبدا.

قال سفيان بن عبد الله: أيها الرجل، إن يرد الله بها خيرا تصبر عنها، قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه، مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصن في ناحية من الأرض, والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهرا لمتنا جوعا، وما أرى إلا الإسلام وأنا أخاف يوما مثل يوم مكة.

وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم الطعام فلا يأكلون منه شيئًا حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا.

قالوا: أرأيت الرَّبَّة، ما ترى فيها؟ قال: «هدمها».

قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا هدمها (1) قتلت أهلنا، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ويحك يا عبد ياليل, إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر, فأسلموا وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد، فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها, فأبى, قالوا: سنتين، فأبى، قالوا: سنة, فأبى، قالوا: شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها (2) فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلبهم ذلك، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين لا صلاة فيه» (3).

لقد طلب وفد ثقيف أن يعفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الفرائض وأن يحلل لهم بعض المحرمات إلا أنهم فشلوا في طلباتهم وخضعوا للأمر الواقع (4).

وقد أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادتهم وأحسن ضيافتهم في قدومهم وإقامتهم وعند سفرهم، وأمرَّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على الطائف، فقد كان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين، وكان أصغرهم سنًا (5) , ولقد تأثر الوفد من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اختلاطهم بالمسلمين

_________

(1) أي: أسرعنا السير في السفر.

(2) انظر: المغازي للواقدي (3/ 968).

(3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (8/ 50) , المغازي للواقدي (3/ 968).

(4) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص221 - 223.

(5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 519).

حتى إنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر ومكثوا في المدينة خمسة عشر يوما ثم رجعوا إلى الطائف (1) وبعد رجوعهم جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومشاركة المغيرة بن شعبة (2) - رضي الله عنه - وأبي سفيان بن حرب - رضي الله عنه - (3) وبعثهم في أثر الوفد (4).

وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة (5) وكان ذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود (6) , وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا -لقرب عهدهم بالشرك- لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة (7).

وكان المغيرة رجلاً فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة فقد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطًا (8) وقالوا مخاطبين أفراد السرية: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها, فوالله لا تستطيع أبدًا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هي لكاع (9) حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه (10).

أكمل المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفا على أحر من الجمر ينتظر نقمة الربة وغضبها على هؤلاء العصاة (11)، فما إن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلا: سترون إذا انتهى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم (12) , فلما سمع المغيرة - رضي الله عنه - بذلك السخف قال لقائد السرية: دعني أحفر أساسها, فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبهتت ثقيف (13) وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم (14).

وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها, فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله على نصرة نبيه وإعزازه دينه (15).

_________

(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 519، 520).

(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 195).

(3) المصدر نفسه، (4/ 195).

(4) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (5/ 303، 304).

(5) المغازي (3/ 671).

(6) انظر: دلائل النبوة (5/ 304).

(7) انظر: السرايا والبعوث، ص300.

(8) المصدر نفسه، ص300.

(9) لكاع عند العرب: العبد, ثم استعمل في الحمق والذم.

(10) انظر: دلائل النبوة (5/ 303).

(11) انظر: السرايا والبعوث، ص300.

(12) انظر: المغازي (3/ 972).

(13) انظر: دلائل النبوة (5/ 303).

(14) انظر: السرايا والبعوث، ص301.

(15) انظر: تاريخ ابن شيبة (2/ 507) نقلا عن السرايا والبعوث، ص301.

وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الرب الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص (1) - رضي الله عنه - عامله على الطائف حيث أمره (بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم) (2).

ثانيًا: وفاة زعيم المنافقين (عبد الله بن أبيّ ابن سلول):

مرض عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، في ليالٍ بقين من شوال, ومات في ذي القعدة من السنة التاسعة (3).

قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ في مرضه نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود»، فقال عبد الله: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمات (4).

ولما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني الله فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 80]. وسأزيده على سبعين» قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84] (5).

وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء له على حكم الظاهر وهو الإسلام، ولما فيه من إكرام ولده عبد الله -وكان من خيار الصحابة وفضلائهم- وهو الذي عرض على النبي أن يقتل أباه لما قال مقالته يوم غزوة بني المصطلق كما بينَّا، ولما فيه من مصلحة شرعية، وهي تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله، ولو لم يجب ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة وعارا على ابنه وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى (6).

_________

(1) انظر: السرايا والبعوث، ص301.

(2) انظر: دلائل النبوة (5/ 299 - 303)، المغازي (3/ 970 - 972).

(3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص659.

(4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في العيادة رقم 3094.

(5) البخاري، كتاب تفسير القرآن رقم 4670.

(6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 533، 534).

وأما إعطاؤه صلى الله عليه وسلم القميص فلأن الغنى به بخل بالكرم، وقد كان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد طالب حاجة قط، على أنه كان مكافأة له على إعطائه العباس عم الرسول قميصه لما جيء به أسيرًا يوم بدر، وكان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته رد الجميل بخير منه (1).

وبموت عبد الله بن سلول تراجعت حركة النفاق في المدينة, حتى إننا لم نجد لهم حضورًا بارزًا في العام العاشر للهجرة، ولم يبق إلا العدد غير المعروف إلا لصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان (2) , وكان عمر -فيما بعد- لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليه حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، وقد أخبره رسول الله بهم (3).

كان العام التاسع حاسمًا لحركة النفاق في المجتمع الإسلامي، فقد وصل النظام الإسلامي إلى قوته؛ ومن ثم لا بد من تحديد إطار التعامل مع كل القوى بوضوح (4)، ولهذا عبر الإمام ابن القيم عن خطة الإسلام أمام المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أن يصلى عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم (5).

وجاءت هذه الخطة وفق النصوص القرآنية التي احتوتها سورة التوبة (براءة) , (الفاضحة) حيث يستغرق الحديث عن المنافقين أكثر من نصف السورة فيفضح نواياهم وأعمالهم ووصف أحوالهم النفسية والقلبية، وموقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة حيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصفوف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والعمل (6).

ومن أهم الأحكام التي برزت في هذه المرحلة ضد المنافقين:

1 - عدم الصلاة على من مات منهم، ودمغهم بالكفر:

(وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ - وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُّعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 84، 85].

_________

(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص621، 622، السيرة لأبي شهبة (28534).

(2) انظر: دراسات في عهد النبوة, للشجاع، ص221.

(3) انظر: معين السيرة النبوية، ص464.

(4) انظر: دراسات في عهد النبوة، ص219.

(5) زاد المعاد (2/ 91).

(6) انظر: المنافقون، محمد جميل غازي، ص92، 93.

2 - تهديم مسجدهم الذي بنوه للإضرار بالمسلمين، وهو مسجد الضرار وقد تحدثت عنه فيما مضى بنوع من التفصيل.

3 - إصدار الأمر بمجاهدة المنافقين كمجاهدة الكافرين:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم: 9] , وسواء أكان الجهاد بالقتال أم في المعاملة والمواجهة والكشف والفضح فإن طريقة التعامل مع المنافقين بعد سورة براءة، غير المعاملة قبلها.

4 - الكشف عن صفاتهم وأعمالهم بوضوح: كما جاء في سورة التوبة أيضا؛ فهم الذين قالوا تثبيطا للمسلمين: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81] وهم الذين يلمزون المطوعين في الصدقات ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والفعل (1) ... إلخ. هذه معالم المنهج النبوي في التعامل مع حركة النفاق في المجتمع الإسلامي في العام التاسع الهجري.

ثالثًا: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته (دروس في بيوتات الرسول صلى الله عليه وسلم):

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 - 29].

وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن نزول هاتين الآيتين كان بعد اعتزال

النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه بعد أن أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا، فاعتزلهن في مشربة له، وهي القصة المعروفة بقصة إيلائه (2) من نسائه, وكان تاريخ نزول هذه الآيات في العام التاسع للهجرة (3).

وأما سبب نزولها فهو طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم التوسعة عليهن في النفقة, فقد أخرج مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجمًا (4) ساكتًا، قال: فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, لو رأيت بنت خارجة (5) سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها (6) , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم

_________

(1) انظر: دراسات في عهد النبوة, الشجاع، ص220.

(2) الإيلاء: الحلف، قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص51.

(3) المصدر نفسه، ص68.

(4) واجمًا: هو الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام.

(5) بنت زيد امرأة عمر جميلة بنت ثابت نسبها عمر إلى أحد أجدادها.

(6) فوجأت عنقها: بمعنى طعنت عنقها.

وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» , فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: أتسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية (1).

كانت الحياة المعيشية في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجري على وتيرة واحدة بالرغم من إمكانية التوسع في بعض الأحيان, ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم هن من البشر، يرغبن بما يرغب به الناس، ويشتهين ما يشتهيه الناس (2) , فقد كان مساكنهن متواضعة بسيطة غاية البساطة, فقد وصفها الدكتور أبو شهبة فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى حُجرا حول مسجده الشريف لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخرفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت -كمسجده- مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وسقوفها من جذوع النخل والجريد قريبة الفناء، قصيرة البناء، ينالها الغلام الفارع بيده, قال الحسن البصري -وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: قد كنت أنال أطول سقف في حُجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. وكان لكل حجرة بابان، خارجي وداخلي من المسجد ليسهل دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليه (3).

وأما الإضاءة, فلم يكن هناك مصباح يستضاء به، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (4).

أما الفراش الذي يأوي إليه النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- فهو عبارة عن رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، ووسادته من أدم حشوها ليف (5) , فقد كانت معيشته صلى الله عليه وسلم تدل على الشدة, فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا (6) حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا (7) بعينه قط (8) , وعن عائشة قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات

_________

(1) مسلم في الطلاق (2/ 1104).

(2) انظر: معين السيرة، ص465.

(3) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (2/ 35، 36).

(4) البخاري، كتاب الصلاة رقم 513.

(5) البخاري، كتاب المظالم والغصب، رقم 2468.

(6) مرققًا: رقيقًا ضد الغليظ.

(7) سميط: الذي أزيل شعره بالماء المسخن وشوي.

(8) البخاري في الرقائق، رقم 6457.

رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء (1). هذا, وقد فتح الله على المسلمين بعد خيبر وفتح مكة، وغزوة تبوك, وقد قرأت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم آيات في كتاب الله تبيح التمتع بنعم الله دون إسراف، فرغبن أن ينالهن حظ من ذلك, كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].

وحض على أكل الطيبات من الرزق, قال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 32].

ودعا إلى التوسط في الإنفاق والاعتدال فيه فقال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29]. إلا أن هناك جانبا آخر يتعلق به صلى الله عليه وسلم ونمط من المعيشة اختاره بتوجيه من ربه عز وجل, فلم يلتفت لشيء من هذا كما أدبه ربه -سبحانه وتعالى- بقوله: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88] , وقوله سبحانه: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]. ولذلك جاءت آيات التخيير فوقف زوجاته صلى الله عليه وسلم من قضية التخيير موقفا حاسمًا لا تردد فيه، فإنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فقد كن يطلبن منه صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة, وكن يدافعن عن ذلك ما استطعن، فلما وصل الأمر إلى وضعهن أمام خيارين: الحياة الدنيا وزينتها، أو الله ورسوله والدار الآخرة, لم يترددن لحظة واحدة في سلوك الخيار الثاني، بل قلن جميعهن بصوت واحد: نريد الله ورسوله والدار الآخرة (2).

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» , قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله -جل ثناؤه- قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)» [الأحزاب: 28 - 29] , قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت (3).

وهكذا تتجلى في موقفهن -رضي الله عنهن- صورة ناصعة لقوة الإيمان، واختبار حقيقي للإخلاص والصدق مع الله تعالى، فإن الله تعالى في الآية الأولى من آيتي التخيير يقول: {إِن كُنتُنَّ

_________

(1) البخاري في الرقائق رقم 6459.

(2) انظر: قضايا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنات في سورة الأحزاب، ص77.

(3) البخاري، كتاب التفسير رقم 4786.

تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ) كالوعد بحصولهن على مبتغاهن في الحياة الدنيا وزينتها إن اخترن ذلك, ولكنهن رفضن هذا، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة, وفي قوله تعالى في الآية الثانية: (وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) إشارة إلى أن ما ينلنه من الأجر سببه كونهن محسنات، ومن ذلك اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، إذ لا يكفي لحصولهن على هذا الأجر كونهن زوجات للرسول صلى الله عليه وسلم (1).

وتنكير الأجر, ثم وصفه بأنه عظيم، فيه ترغيب لهن بالكف عن التطلع إلى الحياة الدنيا وزينتها, فهذا الأجر لا يقدر قدره إلا الله، وهو شامل لخيري الدنيا والآخرة (2).

ولقد اعتبر الخلفاء الراشدون قصة التخيير تلك معلمًا من معالم الإسلام, ومنهجًا نبويًا كريمًا ينبغي أن يسلكه بيت القيادة في الأمة، وإن النظرة الفاحصة في التاريخ لتبين أن هذا الجانب يعد معيارًا دقيقا به يعرف القرب من الاستقامة أو البعد عنها, وقد فهم قادة الأمة المؤمنون حينما وجدوا على امتداد تاريخ الإسلام، أهمية هذا الجانب فرعوه حق رعايته، وإن الأمثلة العملية من تاريخ الخلافة الراشدة هي من الوفرة والكثرة بمكان بحيث لا تتعب الباحث في التفتيش عنها (3).

إن قيادة الأمة تكليف ومغرم وليس مغنمًا, ولا بد للذين يتولونها أن يحسبوا أهمية التعالي على حطام الدنيا، والشوق إلى الله والدار الآخرة (4).

رابعًا: حج أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس:

كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة على كل الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والتعبدية, وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، فحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتَّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين (5) , فلما حل موسم الحج أراد صلى الله عليه وسلم الحج, ولكنه قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل صلى الله عليه وسلم الصدِّيق أميرًا على الحج سنة تسع، فخرج أبو بكر ومعه عدد كبير من الصحابة (6) , وساقوا معهم الهدي (7) فلما خرج الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا - رضي الله عنه - وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء, حتى أدرك

_________

(1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات في سورة الأحزاب، ص79.

(2) انظر: تفسير السعدي (4/ 148).

(3) انظر: البداية والنهاية (7/ 136).

(4) انظر: معين السيرة، ص475.

(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 536)، دراسات في عهد النبوة، ص222.

(6) انظر: نضرة النعيم (1/ 398)، الطبقات الكبرى (2/ 168).

(7) انظر: فتح الباري (8/ 82).

الصديق أبا بكر بذي الحليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سارا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية ويوم عرفة ويوم النحر، ويوم النفر الأول, فكان يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات ...

إلخ، وعلي يخلفه في كل موقف من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك (1). وقد أمر الصديق أبا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته (2).

إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية وأتباعها, حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم (3).

قال تعالى: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ - وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 1 - 3].

وقد أُمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم, فقال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4].

كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين, قال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 5].

وقد كلف النبي صلى الله عليه وسلم عليًا بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج, مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها, ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام؛ فلذلك تدارك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر

_________

(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص625.

(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 537).

(3) انظر: نضرة النعيم (1/ 399).

وأرسل عليًا بذلك, فهذا هو السبب في تكليف علي بتبليغ صدر صورة براءة, لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًا أحق بالخلافة من أبي بكر, وقد علق على ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور؟ (1) وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير؟! (2).

وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع (3). لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلا, فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد (4).

خامسًا: عام الوفود (9 هـ):

لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمد أربعة أشهر لقبائل العرب المشركين لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم قبل أن تتخذ الدولة الإسلامية منهم موقفا معينا، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه معلنة إيمانها وولاءها (5) , وقد اختلف العلماء في تاريخ مقدم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عددها, حيث أشارت المصادر الحديثة والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة؛ ولعل مما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم (6) فقد أورد محمد بن إسحاق أنه: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كل وجه (7).

وقد استقصى ابن سعد في جمع المعلومات عن الوفود، كما فصل كثيرًا وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار, ولا تخلو أسانيد ابن سعد -أحيانا- من المطاعن، كما أن فيها أسانيد من الثقات أيضا (8) ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين, رغم أن عددا كبيرا من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة (9) فقد أورد البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ووفود أخرى مثل: عبد القيس, وبني حنيفة، ووفد نجران،

_________

(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص624.

(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/ 540).

(3) المصدر نفسه (2/ 540).

(4) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية, ص283

(5) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص284.

(6) انظر: نضرة النعيم (1/ 396).

(7) انظر: البداية والنهاية (5/ 46، 47).

(8) انظر: نضرة النعيم (1/ 397).

(9) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 542).

ووفد الأشعريين، وأهل اليمن، ووفد دوس (1) وتعززت أخبار هذه الوفود بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السير والمغازي (2) وقد أورد مسلم أخبارا عن أغلب الوفود المذكورة آنفا (3) كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عددًا كبيرًا من الوفود (4).

إن قصص الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها من الأهمية بالمكان الكبير (5) وتبقى مسألة الحاجة الماسة إلى نقد تاريخي لمتون الأخبار المفصلة التي وصلتنا عن الوفود (6). لقد تركت لنا تلك الأخبار والقصص منهجًا نبويًا كريمًا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع الوفود يمكننا الاستفادة من هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع النفسية البشرية وتربيته ودقته وتنظيمه, ففيها ثروة هائلة من الفقه الذي يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف وبعد النظر وجمع القلوب على الغاية, وربط أفراد بأعينهم بالمركز بحيث تبقى في كل الظروف والأحوال مرتكزات قوية إلى الإسلام, إلى غير ذلك من مظاهر العظمة للعاملين في كل الحقول نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وإداريًا وسياسيًا وعسكريًا تعطي لكل عامل في جانب من هذه الجوانب دروسا تكفيه وتغنيه (7) هذا وقد تميز العام التاسع بتوافد العرب إلى المدينة, وقد استعدت الدولة الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال، بتهيئة مكان إقامة لهم وكانت هناك دار للضيافة (8) ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين (9)

واهتم صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كان



كلمات دليلية: