withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة الأحزاب (الخندق) من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

غزوة الأحزاب (الخندق) من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

اسم الكتاب:
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

خامس عشر: الإعلام الإسلامي في غزوة الأحزاب:

قام شعراء الصحابة بدورهم الجهادي، فقالوا قصائد رائعة وضحوا بها موقف المسلمين في غزوة الأحزاب, نقتطف منها أبياتًا منها كنماذج لهذه القصائد، فمن ذلك قول كعب بن مالك، أخو بني سلمة:

وسائلة تسائل ما لقينا ... ولو شهدت رأتنا صابرينا

_________

(1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 375).

(2) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 375).

(3) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 98).

(4) انظر: سيرة الرسول لعزة دروزة (2/ 202).

(5) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 98).

(6) المصدر نفسه (2/ 99).

صبرنا لا نرى لله عدلاً ... على ما نابنا متوكلينا

وكان لنا النبي وزير صدقٍ ... به نعلو البرية أجمعينا

نقاتل معشرا ظلموا وعقوا ... وكانوا بالعداوة مرصدينا (1)

نعالجهم إذا نهضوا إلينا ... بضرب يعجل المتسرعينا

ترانا في فضافض سابغات ... كغدران الملا متسربلينا (2)

إلى أن قال:

لننصر أحمدًا والله، حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا ... وأحزاب أتوا متحزبينا

بأن الله ليس له شريك ... وأن الله مولى المؤمنينا

فإما تقتلوا سعدًا سفاها ... فإن الله خير القادرينا

سيدخله جنانا طيبات ... تكون مقامة للصالحينا

كما قد ردكم فلا شريدًا ... بغيظكم خزايا خائبينا

خزايا لم تنالوا ثم خيرًا ... وكدتم أن تكونوا دامرينا

بريح عاصف هبت عليكم ... فكنتم تحتها متكمِّهينا (3)

* * *

_________

(1) المرصد: المعد للأمر عدته.

(2) متسربلينا: بلبسون الدروع

(3) متكمهينا: العمى الذين لا يبصرون.

الفصل الثاني عشر

ما بين غزوة الأحزاب والحديبية من أحداث مهمة

المبحث الأول

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها

ومع استمرار حركة السرايا، وبناء الدولة, وبسط هيبتها في الجزيرة العربية، كانت حركة البناء التشريعي والاجتماعي للأمة الإسلامية تتكامل, فنظام التبني يهدم، والحجاب يفرض، وأدب الولائم يقرر، وضرورة الالتزام بطاعة الله ورسوله يؤكد على وجوبها، وتحارب الأعراف التي تعارض شرع الله تعالى, ففي زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش حِكَمٌ ودروسٌ وعبرٌ بقت خالدة على مر العصور وكر الدهور وتوالي الأزمان، وهذه قصة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.

أولاً: اسمها ونسبها:

هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر الأسدية، أخت عبد الله بن جحش، وحمنة بنت جحش رضي الله عنهما.

أمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - (1).

يقال كان اسمها: برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت تكنى أم الحكم (2).

وكانت زينب رضي الله عنها من المهاجرات الأول، ورعة صوامة قوامة، كثيرة الخير والصدقة، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدًا, قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا, قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق (3).

_________

(1) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (1/ 372).

(2) المصدر نفسه (4/ 1849).

(3) مسلم في فضائل الصحابة (4/ 1907) رقم 2452.

وقد مدحتها السيدة عائشة رضي الله عنها كثيرًا، وقالت في حقها: لم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة (1).

ثانيًا: زواجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه -:

أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحطم تلك الفوارق الطبقية الموروثة في الأمة المسلمة من عادات الجاهلية ليكون الناس سواسية كأسنان المشط, لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وكان الموالي وهم الذي جرى عليهم الرق ثم تحرروا طبقة أدنى من طبقة السادة، ومن الموالي كان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعتقه ثم تبناه, فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيدًا من شريفة بني أسد، وهي ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها، ليبطل تلك الفوارق الطبقية بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتتخذ منه الأمة المسلمة أسوة وقدوة، وتسير البشرية على هداه في هذا الطريق.

وأيضا لعلَّ من الحكمة في هذا الزواج أنه كان مقدمة لتشريع آخر لا يقل أهمية في حفظ توازن المجتمع وحماية الأسرة عن الأول، وإن لم تظهر هذه الحكمة في بداية الأمر (2).

انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطب لفتاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى فانكحيه» , قالت: يا رسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان أنزل الله تعالى هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].

فقالت: يا رسول الله قد رضيته لي زوجًا؟ قال: «نعم» قالت: لا أعصي رسول

الله صلى الله عليه وسلم، وقد زوجته نفسي (3).

وكان زيد بن حارثة إذ ذاك لا يزال يدعى زيد بن محمد، فتزوجها زيد، وأصدقها في هذا الزواج عشرة دنانير، وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفة، ودرعًا, وخمسين مُدًّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر (4).

ثالثًا: طلاق زيد لزينب رضي الله عنها:

شاءت حكمة الله تعالى أن لا يتوافق زيدٌ وزينبُ في زواجهما، وأصبحت حياة الزوجين لا تطاق، وصمم زيد على فراق زوجه زينب، وكان قبل ذلك يشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم

_________

(1) مسلم في فضائل الصحابة (4/ 1892) رقم 2442.

(2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات, حفصة بنت عثمان الخليفي ص205.

(3) انظر: جامع البيان للطبري (22/ 11).

(4) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 489).

استطاعته البقاء مع زينب، ورسول الله يأمره بإمساك زوجه مع تقوى الله في شأنها، حتى أذن الله بالطلاق فطلقها زيد، وانفصمت العلاقة بينهما بعد أن قضى زيد وطره، وبعد أن مكث معها ما يقرب من سنة، قال ابن كثير: فمكثت عنده قريبًا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما (يعني الخلاف) فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتقِ الله» (1).

لم يبقَ لزيد رغبة في إبقاء العلاقة الزوجية معها؛ لأنه كان كريم النفس لا يريد أن يبني سعادته وراحته على شقاء الآخرين وتعاستهم والإضرار بهم؛ ولهذا صمم على الفراق وعدم الإضرار بها؛ لأنها كانت تعيش في قلق واضطراب, وانتهى زواج زيد بن حارثة - رضي الله عنه - بزينب بنت جحش على هذا الوضع دون أي تدخل خارجي بينهما، ووقع ذلك الطلاق بمحض اختياره وإرادته، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهاه عن ذلك، ويأمره بتقوى الله وإمساك زوجته (2). قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا السبب: (ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها فلا نوردها) (3).

رابعًا: الحكمة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب:

كانت عادة التبني متغلغلة في نفوس الناس ومشاعرهم، وليس من السهل التغلب عليها وإلغاء الآثار المترتبة عليها، هذه العادة في صدر الإسلام في مكة وفي أول الهجرة إلى المدينة، ثم شاء الله تعالى فنزلت الآيات في نفي أن يكون الأدعياء أبناء لمن ادَّعاهم في الحقيقة، وإنما ذلك حسب دعوى المدعي فقط، وذلك لا يغير من الواقع شيئًا, فقال تعالى: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4].

ثم أمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، فهذا من العدل والقسط والبر، فقال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن زيد بن حارثة - رضي الله عنه - مولى رسول

الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن) (4).

_________

(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 491).

(2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص209.

(3) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 491).

(4) البخاري في التفسير باب (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ) (3/ 276) رقم 4782.

ولم يجعل الله سبحانه وتعالى عدم معرفتهم لآبائهم الحقيقيين مبررًا لإبقاء تبنيهم لهم، بل حرم التبني في هذه الحالة، وأخبر أنهم حينئذ إخوانهم ومواليهم، فقال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 5]. أي فإن لم تعرفوا آباءهم فليس بينكم وبينهم إلا الأخوة في الدين والموالاة، وذلك عوضًا عما فاتهم من النسب، فيقال: فلان مولى فلان، أو مولى بني فلان (1).

وهذه الأخوة في الدين والموالاة لها أهمية كبرى، فهي ثابتة حتى للذين عرف آباؤهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة - رضي الله عنه -: «أنت أخونا ومولانا» (2) أي أخونا في الإسلام والولاية، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]. وجاءت نصوص أخرى تعالج هذا الأمر من جهة أخرى، وهي جهة الابن، فجاء تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقي والمنتسب يعلم ذلك تحريمًا قاطعًا لا شبهة فيه (3) , قال صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتهى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صرفًا ولا عدلاً (4)» (5).

وقد جعل الشارع لنشوء النسب سببًا واضحًا هو الاتصال بالمرأة عن طريق الزواج أو ملك اليمين، وأبطل ما كان يجري عليه أهل الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق العهر والزنا قال صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (6) ومعناه أن من يجيء من الأولاد ثمرة لفراش صحيح قائم على عقد الزواج أو ملك اليمين يلتحق نسبه بأبيه، وأن العهر والزنا لا يصلح أن يكون سببًا للنسب، وإنما يكون سببًا لشيء آخر هو الرجم والحجارة (7).

ثم إن الله سبحانه وتعالى بعد أن منع وحرم دعوة الابن بنسبته إلى من تبناه وأمر بدعوته منسوبًا إلى أبيه الحقيقي إن عرف، أو إلى الأخوة في الدين والموالاة بعد ذلك بين حكم من أخطأ أو تعمد مخالفة هذا التشريع الإلهي, قال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا

_________

(1) انظر: تفسير السعدي (4/ 136).

(2) البخاري في الصلح (2/ 267) رقم 2699.

(3) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص189.

(4) صرفا: توبة، وقيل: نافلة، عدلا: أي فدية وقيل: فريضة.

(5) البخاري في الحدود (4/ 254) رقم (6818).

(6) البخاري في الحدود (4/ 254) رقم 6818.

(7) انظر: علاقة الآباء بالأبناء في الشريعة الإسلامية، د. سعاد الصانع، ص52، 53.

تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 5].

فقد نفى الله سبحانه وتعالى الجناح (الإثم) عمن أخطأ في نسبة الابن إلى غير أبيه في الحقيقة، وذلك بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع أو نسي فنسب الابن إلى غير أبيه بجريان لسانه بذلك، وأثبت الحرج والإثم لمن تعمد الباطل وهو دعوة الرجل لغير أبيه بعد علمه بتحريم ذلك (1).

كانت عادة التبني مستحكمة في نفوس الناس، وقد أخذت أبعادها مع مرور الزمن فكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب إلغاءً عمليًّا وليس إلغاء ذهنيًّا فحسب (2).

إن الحكمة في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب حكمة واضحة وظاهرة، وقد بينها الله تعالى بقوله عز وجل: (لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب: 37].

وقد ذكر المبطلون من الكفار وفروخهم ومقلدوهم بما ينعقون به، ويردده الجهال متعلقين بروايات مكذوبة خلاصتها كما يفترون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هوي زينب بنت جحش بعد أن تزوجت بزيد بن حارثة، فلما علم زيد بذلك أراد طلاقها ليتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم (3) , فهذا قول باطل، وقد نسف الإمام ابن العربي هذا القول من جذوره فقال: فأما قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها أي رأى زينب بنت جحش فوقعت في قلبه، فباطل, فإنه كان صلى الله عليه وسلم معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج؟ حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه:131] والنساء أفتن الزهرات فيخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات؟ ثم إن قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب: 37] يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لا سواه أقول: فلو كان الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حبه لها لأبداه الله تعالى وأظهره فتيقنا أن الذي أخفاه رسول الله من أمر زينب هو نكاحه إياها وليس ما تخيله المبطلون من حبه لها (4).

إن الشرع أراد تأكيد إبطال نظام التبني وإبطال كل نتائجه وتعميق هذا الإبطال في النفوس وتأكيده بالتطبيق العملي، والقدوة والتأسي بمن يقتدي به في تطبيق هذه الأحكام الجديدة الناسخة، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواجه بزينب بأمر من الله تعالى العزيز الحكيم (5).

_________

(1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص191، 192.

(2) انظر: من معين السيرة، ص311.

(3) انظر: المفصل في أحكام المرأة, عبد الكريم زيدان (11/ 474، 475).

(4) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1531، 1532).

(5) انظر: المفصل في أحكام المرأة (11/ 476).

خامسًا: قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب وما فيها من دروس وعبر:

لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها عليَّ فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن (1) , وأصدقها أربعمائة درهم، وكان زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب في السنة الخامسة على المشهور, وقال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة (2).

وأولم الرسول صلى الله عليه وسلم في عرس زينب وليمة كبيرة، فأولم بشاة وقد دُعِيَ إلى الوليمة كل من لقيه أنس - رضي الله عنه - بناء على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة (3).

وهكذا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، زينب بنت جحش -رضي الله عنها- بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها، وفي زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب وما نزل فيه من القرآن وما واكبه من أحداث عظات وعبر (4) وقفنا عند بعضها, ويجدر بنا أن نتأمل في بعض الدروس والعبر التي نقف عليها منها:

1 - كان خاطب زينب للنبي صلى الله عليه وسلم هو زوجها الأول زيد بن حارثة - رضي الله عنه - , ولعل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد مقصود لذاته، ليقطع بذلك ألسنة المتقولين وما قد يزعمونه من أن طلاقها وقع بغير اختيار منه، وأنه قد بقي في نفسه من الرغبة فيها شيء، وفي هذا يقول ابن حجر: (هذا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوَّجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرًا بغير رضاه، وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟) (5).

وفي هذا من الحكمة أيضا أن ما يقع بين الزوجين من نفرة وخلاف ثم طلاق لا يجوز أن يكون مانعًا من نصح أحد الزوجين للآخر، وأن يراعي فيه حقوق الأخوة الإيمانية، فهذا زيد رغم ما وقع بينه وبين زينب، ورغم أن هذا كان بسببها إلا أنه ذهب يخطبها لرسول الله، بل ويقول لها: (يا زينب أبشري).

2 - في الآية التي نزلت بشأن هذا الزواج عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه، إذ كان حين يأتيه زيد يشكو

_________

(1) مسلم في النكاح (2/ 1048) رقم 1428.

(2) انظر: البداية والنهاية (4/ 147).

(3) البخاري في النكاح باب من أولم على بعض نسائه (3/ 3870) رقم 5171.

(4) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص312.

(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (8/ 524).

زينب ومعاملتها له ورغبته في طلاقها يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله) أي اتق الله ودع طلاقها، أو اتق الله فيما تذكره من سوء عشرتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي في نفسه ما أبلغه الله به أن زيدًا سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له، ويخشى متى وقع هذا من كلام الناس في قولهم: تزوج مطلقة من تبناه وهو زيد بن حارثة. روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتق الله وأمسك زوجك» قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية) (1).

3 - في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) منقبة عظيمة لزيد بن

حارثة - رضي الله عنه - فقد انفرد بهذا، إذ لم يسم القرآن أحدًا من الصحابة غيره، قال السهيلي: (كان يقال: زيد بن محمد حتى نزل (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ) فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد، فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر, وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا) يعني من زينب, ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنًا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له. ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا» فبكى، وقال: أو ذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنًا يتلى مخلدًا لا يبيد, يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة أبدًا, لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لا يزال مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القويم وهو باقٍ لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء ولزيد بن حارثة تعويضًا من الله تعالى له ما نزع منه (2).

4 - زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها كان بأمر ربه، وهو الذي زوَّجه إياها, قال تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب: 37].

وفي هذا شرف عظيم ومنقبة جليلة لزينب رضي الله عنها، كانت تفاخر بها

_________

(1) البخاري في التوحيد (4/ 388) رقم 7420.

(2) انظر: تفسير القرطبي (14/ 194).

وحق لها ذلك، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله من فوق سبع سموات (1)، وفي رواية أخرى: (كانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء) (2).

ولعل هذه المنقبة وهذا الشرف لزينب رضي الله عنها كان جزاء لها حين أذعنت وخضعت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرها بالزواج من مولاه زيد بن حارثة، وكانت لذلك كارهة، ثم لما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرها بذلك قبلت الزواج منه (3).

5 - في وليمته صلى الله عليه وسلم على زينب علامة من علامات نبوته ودلالة من دلائلها, وهي تكثير الطعام بدعوته، وفي هذه الوليمة أيضا كان نزول آية حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم وما شرع من آداب الضيافة (4).

فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله قال: فصنعت أمي أم سليم حيسًا فجعلته في تور (5) , فقالت: يا أنس: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا منا قليل يا رسول الله، فقال: «ضعه»، ثم قال: «اذهب فادع لي فلانًا وفلانًا، ومن لقيت» وسمى رجالاً، قال: فدعوت من سمى ومن لقيت قال: قلت لأنس، عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة.

وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنس: هات التور» قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: «يا أنس، ارفع» قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه ثم رجع، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد أثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى خرج عليّ، وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأهن على الناس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ

_________

(1) البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء (4/ 388) رقم 7420.

(2) المصدر نفسه، (4/ 388) رقم (7421).

(3) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص218.

(4) المصدر نفسه، ص218.

(5) تور: الإناء.

إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) [الأحزاب: 53].

قال الجعد (1): قال أنس بن مالك: أنا أحدث الناس عهدًا بهذه الآيات، وحُجبن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وقد حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه لنزول آية الحجاب التي قال المولى عز وجل فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ... ).

وقد كان نزول آية الحجاب من موافقات عمر - رضي الله عنه -، روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: قال عمر - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب (3).

وبنزول هذه الآية كان تشريع الحجاب في الإسلام بالنسبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عدم إبداء شيء من أجسامهن للأجانب عنهن، وعدم محادثتهن أو طلب شيء منهم إلا من وراء حجاب، أي ستر يكون بينهن وبين غيرهن، ولما نزلت قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟. فأنزل الله قوله: (لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [الأحزاب: 55].

ونزل أيضا في شأن نساء النبي في أدب الخطاب والإقامة في البيوت قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:32، 33].

وقد فصل سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ما يتعلق بالنساء المسلمات: من غض البصر، وحفظ الفرج، وعدم إبداء مواضع الزينة من عنق وساق وعضد وساعد وشعر، ونحوها من العورة

_________

(1) الجعد بن دينار، أبو عثمان اليشكري، البصري من أصحاب أنس.

(2) البخاري في النكاح، باب (الهدية للعروس) (3/ 378) رقم 5163.

(3) البخاري في التفسير (6/ 29) رقم 4790.

الظاهرة إلا للمحارم (1). وقد جاء ذلك في سورة النور، وقد بينت السنة النبوية كل ما يتعلق بالنساء من احتجاب وتصون وتعفف، وعدم السفور والخلاعة والابتذال بما لا مزيد عليه (2).

هذه بعض الدروس والعبر استخرجت من قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش, وما واكب ذلك الزواج من نزول آيات بينات في أحكام الحجاب، وما شرع من آداب الضيافة.

هذا وقد توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، وكانت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أول نسائه لحوقًا به (3) , وقد بلغت مروياتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفق كتاب بقي بن مخلد أحد عشر حديثًا (4) ولها في الكتب الستة خمسة أحاديث (5) , اتفق لها في البخاري ومسلم عن حديثين (6) , فقد تركت ذكرًا طيبًا في تاريخ الأمة الإسلامية (7).

* * *

المبحث الثاني

الآن نغزوهم ولا يغزوننا (8)

كان صلى الله عليه وسلم يعمل حساب كل القوى المجاورة، ولا يغفل عن أي قوة منها، وقد صرح بعد غزوة الخندق بأن الخطة القادمة هي غزو قريش, فقد تغيرت موازين القوى، وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر من قبل، فسعى صلى الله عليه وسلم لبسط سيادة الدولة على ما تبقى من قوى حول المدينة؛ لأن ذلك له صلة بالإعداد لغزو قريش في مرحلة لاحقة، فقد قام صلى الله عليه وسلم خلال عام واحد -العام السادس- بغزوتين وأرسل أربع عشرة سرية غير ما قام به في نهاية العام الخامس الهجري، وهذه الأعمال والتحركات قصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش وإحكام الحصار، وتقليم أظفارها من خلال اقتطاع كل ما يمدها بالقوة من حلفائها (9) , فقد استثمر رسول الله وأصحابه ما حققوه من نجاح في صد الأحزاب وإفشال خططهم، وردهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطًا واسع النطاق ضد خصومهم على جميع الجبهات، فقد ضيقوا

_________

(1) انظر: السنة النبوية لأبي شهبة (2/ 312).

(2) المصدر نفسه (2/ 314).

(3) انظر: الطبقات الكبرى (8/ 115).

(4) انظر: تلقيح الفهوم لابن الجوزي، ص370.

(5) انظر: تحفة الأشراف للمزي (11/ 321 - 323).

(6) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 121).

(7) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، ص58.

(8) البخاري في المغازي (5/ 58) رقم 4110.

(9) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص139.

الخناق الاقتصادي على قريش من جديد, كما نفذوا العديد من السرايا لمعاقبة المشركين في الأحزاب من جهة أو للثأر من القبائل التي كانت قد غدرت بالدعاة, أو ناصبت الإسلام العداء، وقد تمثل النشاط العسكري الإسلامي خلال هذه الفترة فيما يلي:

أولاً: سرية محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء:

كانت العشائر النجدية من أجرأ العناصر البدوية الوثنية على المسلمين؛ لأن النجديين أهل قوة وبأس وعدد غامر، وقد رأينا كيف أن العمود الفقري لقوات الأحزاب الضاربة كان من هذه القبائل النجدية، حيث كان رجال هذه القبائل الشرسة يشكلون الأغلبية الساحقة من تلك القوة الضاربة، ستة آلاف مقاتل من غطفان وأشجع وأسلم وفزارة وأسد، كانت ضمن الجيوش التي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين فحاصرهم أهل المدينة.

ولهذا فإن أول حملة عسكرية وجهها النبي صلى الله عليه وسلم لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة التي جردها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضربة (1) , على مسافة سبع ليالٍ من المدينة، ففي أوائل شهر المحرم عام خمس للهجرة وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجه صلى الله عليه وسلم (2) سرية من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6هـ (3) , وقد داهموهم على حين غرة فقتلوا منهم عشرة وفر الباقون, وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم. وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك.

إن تنعم تنعم على شاكر, فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟، فقال عندي ما قلت لك, فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله, يا محمد, والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين إليَّ والله ما كان بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبحت بلدك أحب البلاد إليَّ، وأن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكني أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى

_________

(1) قرية عامرة قديمة على وجه الدهر في طريق مكة من البصرة من نجد.

(2) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص24.

(3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص351.

يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1). وقد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام (2) , فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة: أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم، فامتثل ثمامة أمر نبيه، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة, فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة (3). وفي هذه القصة دروس وعبر منها:

1 - جواز ربط الكافر في المسجد.

2 - جواز المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء, لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل.

3 - الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثمامة حين أسلم.

4 - الإحسان يزيل البغض وينبت الحب.

5 - يشرع للكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم أن يستمر في عمل ذلك الخير.

6 - الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه (4).

7 - الإسلام يغير سلوك المؤمن حين يضع المسلم قدراته تحت إمرة الإسلام والمسلمين, كما فعل ثمامة بعدم إرساله القمح لأهل مكة إلا بإذن من الرسول عليه السلام.

8 - ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان, وعند تركه للكفر, كل علاقاته السابقة، والتزامه بأوامر رب العالمين بعد إيمانه (5).

ثانيًا: سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر:

تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، استمرارًا لسياسية النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية لإضعاف قريش ومحاصرتهم اقتصاديًّا على المدى الطويل، فقد بعث صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قبل الساحل, ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع, فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية, فصاروا يحاولون الإبقاء

_________

(1) انظر: نضرة النعيم (1/ 330).

(2) المصدر نفسه (1/ 330).

(3) انظر: السيرة الحلبية (2/ 298)، الاستيعاب لابن عبد البر ترجمة ثمامة بن أثال الحنفي.

(4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص386، 387.

(5) المصدر نفسه، ص387.

على التمرة أكبر وقت ممكن (1). يقول جابر - رضي الله عنه - أحد أفراد

هذه السرية: (كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل) (2) وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا - رضي الله عنه -: ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت (3).

وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر - رضي الله عنه -: وكنا نضرب بعصينا الخبط (4) , ثم نبله بالماء فنأكله (5) (فسمى ذلك الجيش جيش الخبط) (6)، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة, وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر (7) , ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه (8).

فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم (9) , فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر (10)، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمَّنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب (11) عينيه بالقلال (12) الدهن، ونقتطع منه الفدر (13) كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها (14) , وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (15) فقال: «ما حبسكم؟» قلنا: كنا نتبع

_________

(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص118.

(2) أبو داود كتاب الأطعمة، رقم (3840).

(3) فتح الباري (8/ 77).

(4) الخبط: ضرب الشجر بالعصا لينثر ورقها واسم الورق الساقط خبط.

(5) شرح النووي (13/ 84).

(6) فتح الباري (8/ 78).

(7) جمع جزور، والجزور: البعير، أو خاص بالناقة.

(8) فتح الباري (8/ 78).

(9) الكثيب: التل من الرمل.

(10) العنبر: سمكة كبيرة يتخذ من جلدها التراس.

(11) الوقب: النقرة التي تكون فيها العين.

(12) القلال: الجرة العظيمة.

(13) الفدر: جمع فدرة وهي القطعة من اللحم.

(14) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص121.

(15) انظر: شرح النووي (13/ 85: 87).

عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة (1)، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله (2). كانت هذه السرية على الأرجح قبل صلح الحديبية، وليس في رجب سنة ثمانٍ كما ذكر ابن سعد (3) , وذلك لسببين: السبب الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغز ولم يبعث سرية في الشهر الحرام، والثاني: أن رجب سنة ثمان هو ضمن فترة سريان صلح الحديبية (4).

وذكر ابن سعد والواقدي (5) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة، وقال ابن حجر (6): إن هذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش ويقصدون حيًا من جهينة، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم (7) أن البعث كان إلى أرض جهينة (8).

وفي هذه القصة دروس وعبر منها:

1 - حكمة أبي عبيدة - رضي الله عنه - حيث جمع الأزواد، وسوى بين المجاهدين في التوزيع ليستطيع تجاوز الأزمة بهم، وذلك درس تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليًا أكثر من مرة.

2 - كرم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، في وقت عصيب، ليس بيده يومها ما يخفف عن الناس، ففي رواية الواقدي: «أن قيس بن سعد - رضي الله عنه - استدان هذه النوق من رجل جهني، وأن أبا عبيدة - رضي الله عنه - نهاه قائلاً: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك (9) , فأراد أبو عبيدة الرفق به (10).

وقد بدأ سعد ينحر وينحر حتى نهاه أبو عبيدة, فقال له سعد: يا أبا عبيدة أترى أن أبا ثابت يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، لا يقضي عني تمرًا لقوم مجاهدين في سبيل الله (11)، وقال ذلك قيس لأبي عبيدة؛ لأنه قد اتفق مع رجل من جهينة على أن يشتري منه نوقًا ينحرها للجيش على أن يعطيه بدل ذلك تمرًا بالمدينة وقد وافق الجهني على تلك الصفقة.

_________

(1) صحيح سنن النسائي للألباني (3/ 910).

(2) شرح النووي (13/ 87).

(3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 132) , والذهبي في المغازي، ص519.

(4) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص125.

(5) انظر: المغازي (2/ 774) , السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.

(6) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.

(7) مسلم (3/ 1537) رقم 1935.

(8) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.

(9) انظر: معين السرية، ص323، السرايا والبعوث النبوية، ص119.

(10) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص119.

(11) انظر: معين السيرة، ص323 نقلا عن الزرقاني في شرحه (2/ 282).

وعندما علم سعد بن عبادة بنهي أبي عبيدة لقيس بحجة أنه لا مال له، وإنما المال لأبيه، وهب ابنه أربع حوائط أدناها يُجذ منه خمسون وسقًا (1).

3 - الحلال والحرام: إن المسلمين في هذه السرية بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التمرة الواحدة طعام الرجل طوال يوم كامل في سفر ومشقة، ويمرون وهم على تلك الحال من فقد التمر وأكل الخبط على الجهني الذي اشترى منه قيس أو



كلمات دليلية: