withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


صلح الحديبية_9267

صلح الحديبية من كتاب فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

اسم الكتاب:
فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

صلح الحديبية

كان في شهر ذي القعدة، آخر سنة ست للهجرة.

وسببها أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم أعلن في المسلمين أنه متوجّه إلى مكة معتمرا، فتبعه جمع كبير من المهاجرين والأنصار بلغ عددهم ألفا وأربع مئة تقريبا. وأحرم صلّى الله عليه وسلم بالعمرة في الطريق، وساق معه الهدي ليأمن الناس من حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا البيت ومعظما له.

وأرسل صلّى الله عليه وسلم وهو عند ذي الحليفة عينا له من قبيلة خزاعة اسمه بشر بن سفيان ليأتيه بخبر أهل مكة، وسار النبي صلّى الله عليه وسلم حتى وصل إلى غدير الأشطاط، فأتاه العين الذي كان قد أرسله، فقال له: «إن قريشا جمعت لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس.. فقال له أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدّنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله.

ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال له رجل من بني أسلم: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقا وعرا بين الشعاب، وسار النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حتى إذا كانوا في ثنية المرار (وهي طريق في الجبل تشرف على الحديبية) بركت به راحلته، فقال الناس:

حل، حل (اسم صوت كانوا يزجرون به الجمال) فلم تتحرك، فقالوا: خلأت القصواء، فقال صلّى الله عليه وسلم: ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على حفيرة قليلة الماء، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم

بالريّ حتى صدروا عنه «1» ، فبيما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر معه، فقال:

إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل «2» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا (أي استراحوا) ، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق بديل فحدّث قريشا بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود يعرض على المشركين أن يأتي النّبي صلّى الله عليه وسلم فيكلمه في تفصيل ما جاءهم به بديل بن ورقاء. فقالوا له دونك فاذهب.

فذهب، فكلّمه النّبي صلّى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به بديلا، فقال له عروة: أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس (أي أخلاطا منهم) خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه! ..

فالتفت قائلا: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. فقال: أما إنه لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك «3» . ثم جعل يكلّم النّبي صلّى الله عليه وسلم فكلما تكلّم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال له أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس «4» ؟

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له.

فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر

__________

(1) هذه من رواية البخاري في كتاب الشرط وابن إسحاق وغيرهما. وقد ذكر البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث. وقال: إنه جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبّه فيها. ثم قال دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الأمران واقعين معا. وأما حديث أنه صلّى الله عليه وسلم وضع يده في ركوة ماء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فتلك واقعة أخرى غير هذه. وكل ذلك ثابت صحيح.

(2) العوذ جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن والمطافيل الأمهات من النوق إذا كان معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا بكل ما يحتاجون حتى لا يرجعوا إلا بعد أن يمنعوا المسلمين من دخول مكة.

(3) اليد النعمة، واليد التي يقصدها عروة، أن عروة كانت تحمل دية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن.

(4) أراد عروة بذلك أن المغيرة بن شعبة قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا فودى له عروة المقتولين.

وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم محمدا! ..

وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

ثم إنهم أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ممثلا عنهم ليكتب بينهم وبين المسلمين كتابا بالصلح، فلما جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: هات أكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلم الكاتب (وكان الكاتب عليا رضي الله عنه- فيما رواه مسلم) فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما «الرحمن» فو الله ما أدري ما هي، ولكن أكتب باسمك اللهم، فقال المسلمون:

والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد الله» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني! .. اكتب محمد بن عبد الله. (وفي رواية مسلم: فأمر عليا أن يمحوها، فقال عليّ لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها) ، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلم: على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام القادم وليس مع المسلمين إلا السيوف في قرابها. فكتب.

فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاء منكم لم نرده عليكم، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! (والتفتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسألونه: أنكتب هذا يا رسول الله؟! قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا) «5» .

وكانت مدة الصلح بناء على هذه الشروط- على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد والحاكم- عشر سنين لا إسلال فيها ولا إغلال (أي لا سرقة ولا خيانة) وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: «نحن في عقد محمد وعهده» . وتواثبت بنو بكر فقالوا: «نحن في عقد قريش وعهدهم» .

ولما فرغ من الصلح والكتابة، أشهد على الكتاب رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين.

وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: «فأتيت نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألست على حق وعدونا على باطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلماذا نعطي الدنيّة في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. فلم

__________

(5) ما بين القوسين تفصيل لرواية مسلم. والحديث بطوله من لفظ البخاري مع زيادات لمسلم.

يصبر عمر حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فسأله مثل ما سأل النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يعصي ربّه ولن يضيّعه الله أبدا. فما هو إلا أن نزلت سورة الفتح على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياها. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟! .. قال: نعم، فطابت نفسه» «6» .

ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال لهم: «قوموا فانحروا ثم احلقوا- وكرر ذلك ثلاثا- فوجم جميعهم وما قام منهم أحد، فدخل على زوجته أم سلمة، وذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم.

ثم جاء نسوة مؤمنات (بعد انصرافه إلى المدينة) مهاجرات بدينهن، بينهن أم كلثوم بنت عقبة، فأنزل الله تعالى قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة 60/ 12] . فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يردهنّ بدينهن إلى الكفار» «7» .

,

كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

قبل أن نخوض في تفصيل ما ينبغي أن نقف عليه من دروس صلح الحديبية وعظاتها وأحكامها، نقول في كلمة وجيزة: إن أمر هذا الصلح كان مظهرا لتدبير إلهي محض تجلى فيه عمل النبوة وأثرها كما لم يتجلّ في أي عمل أو تدبير آخر. فقد كان نجاحه سرّا مرتبطا بمكنون الغيب

__________

(6) متفق عليه.

(7) صحيح البخاري.

المطوي في علم الله وحده، ولذلك انتزع- كما قد رأيت- دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم. ومن هنا، فإنّا نعتبر أمر هذا الصلح، بمقدماته ومضمونه ونتائجه، من الأسس الهامة في تقويم العقيدة الإسلامية وتثبيتها.

ولنتحدث أولا عن طرف من الحكم الإلهية العظيمة التي تضمنها هذا الصلح، والتي تجلت للعيان فيما بعد، حتى أضحت آية من آيات الله الباهرة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأحكام الشرعية التي تضمنتها وقائع هذا الصلح.

فمن الحكم الباهرة، أن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة. فقد كانت هذه الهدنة- كما يقول ابن القيّم- بابا له ومفتاحا. وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطّئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدل عليها.

ولئن، لم يكن المسلمون قد تنبهوا لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائب عنهم، فأنّى لهم أن يفهموا علاقة الواقع الذي رأوه بالغيب الذي لم يتصوروه بعد؟

ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفيا بالإسلام.

روى ابن هشام عن ابن إسحاق عن الزهري قال: «ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه (أي من صلح الحديبية) إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .

ولذلك أطلق القرآن اسم الفتح على هذا الصلح، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 27] .

ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّ جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحا بين وحي النّبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النّبي المرسل وتصرّف العبقري المفكّر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها. أراد الله عزّ وجلّ أن ينصر نبوة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلم أمام بصيرة كل متأمل عاقل، ولعل هذا من بعض تفسير قوله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، أي نصرا فريدا في بابه، من شأنه أن ينبّه الأفكار السادرة والعقول الغافلة.

فمن هنا أعطى المشركين كل ما سألوه من الشروط، وتساهل معهم في أمور لم يجد أحد من الصحابة ما يسوّغ التساهل فيها، ولقد رأيت كيف استبدّ الضيق والقلق بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى إنه قال عن نفسه فيما بعد- فيما رواه أحمد وغيره-: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، ولقد رأيت كيف ساد الوجوم القوم حينما أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالحلق والنحر، ليعودوا إلى المدينة، رغم أنه كرر عليهم الأمر ثلاث مرات، لقد كان السّر في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يتأملون في تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم، وهم يقفون على أرض من البشرية العادية، فلا يتبصرونها إلا بمقدار ولا يفهمون منها إلا ما تفهمه عقولهم البشرية القائمة على الخبرات المحسوسة، على حين كان النّبي صلّى الله عليه وسلم واقفا من تصرفاته هذه فوق مستوى البشرية وخبراتها وأسبابها، كانت النّبوة المطلقة هي التي توجهه وتلهمه وتوحي إليه، وكان تنفيذ الأمر الإلهي هو وحده الماثل أمام عينيه.

يتضح لك هذا من جوابه لعمر بن الخطاب حينما أقبل إليه سائلا ومتعجبا، بل وربما مستنكرا. فقد قال له: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. ويتضح لك هذا أيضا من وصية النّبي صلّى الله عليه وسلم، لعثمان حينما أرسله إلى مكة ليكلم قريشا فيما جاء له النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أمره أيضا أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عزّ وجلّ مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان.

فلا غرو أن يدهش المسلمون لموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي تمحض عن المفاهيم البشرية ومقاييسها في تلك الآونة. ولكن سرعان ما انتهت الدهشة وزال الغم واتضح المبهم، حينما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم سورة الفتح التي تنزلت عليه عقب الفراغ من أمر الصلح. وتجلى للصحابة رضي الله عنهم أن احتمالهم لتلك الشروط كان عين النصر لهم، وأن المشركين ذلّوا من حيث تأملوا العزّ، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والغلبة. وظهر من وراء ذلك كله النصر العظيم لرسوله والمؤمنين دون أن يكون في ذلك أي اقتراح للعقول والأفكار.

فهل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟ ..

ولقد تضايق المسلمون بادئ الأمر من موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم على الشرط الذي أملاه سهيل بن عمرو: «من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردّ عليه» . وازداد ضيقهم لما أقبل أبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) فارّا من المشركين يرسف في الحديد، فقام إليه أبوه آخذا بتلابيبه وهو يقول: «يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت، فجعل ينتره ويجرّه ليردّه إلى قريش، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، اصبر

واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا أعطينا القوم عهودا، وإنا لا نغدر بهم» .

ولقد أخذ الصحابة ينظرون إلى هذا الأمر، وقد داخلهم من ذلك همّ عظيم.

ولكن، فما الذي تمّ بعد ذلك؟ .. «لقد جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذهابه إلى المدينة رجل آخر قد أسلم من قريش اسمه: أبو بصير، فأرسلوا في طلبه رجلين من المشركين ليستردّوه، فسلّمه الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهما، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فغافل أبو بصير أحد حارسيه وأخذ منه سيفه فقتله، ففرّ الآخر. ثم عاد أبو بصير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، ثم إنه خرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت أبو جندل، فلحق به هناك، وأصبح ذلك المكان مثابة للمسلمين من أهل مكة، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير وإخوانه، فما كانوا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا المشركين وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يقبلهم عنده ويضمهم إليه، فجاؤوا إلى المدينة» «8» .

ولما كان فتح مكة، كان أبو جندل هذا، هو الذي استأمن لأبيه وعاش رضي الله عنه حتى استشهد في وقعة اليمامة «9» .

وهكذا صحا أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم من همهم ذاك، على مزيد من الإيمان بالحكمة الإلهية ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، روي في الصحيح أن سهيل بن سعيد رضي الله عنه قال يوم صفين: «أيها الناس، اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرددته!» .

ومرة أخرى نكرر ونقول: هل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟

ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّت قدرته إنما أراد أن يجعل فتح مكة لنبيّه فتح مرحمة وسلم، لا فتح ملحمة وقتال، فتحا يتسارع الناس فيه إلى دين الله أفواجا، ويقبل فيه أولئك الذين آذوه وأخرجوه، يلقون إليه السلم ويخضعون له الجانب مؤمنين آيبين موحدين. فجعل من دون ذلك هذا التمهيد، تؤوب فيه قريش إلى صحوها وتحاسب فيها نفسها وضميرها، وتشترك هي الأخرى مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أخذ العبرة من أمر هذا الصلح ومقدماته ونتائجه، فتنضج الآراء في الرؤوس وتتهيأ لقبول الحق الذي لا ثاني له.

وهكذا كان الأمر، كما ستعلم تفصيله في مكانه إن شاء الله تعالى.

__________

(8) من تتمة حديث البخاري السابق ذكره.

(9) راجع الإصابة: 4/ 24

,

الأحكام المتعلقة بذلك:

هذا عن بعض الحكم الإلهية المتعلقة بأمر صلح الحديبية، أما ما يتعلق بذلك من الدلالات والأحكام فإنه لكثير، وسنقتصر من ذلك على ما يلي:

أولا: (الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال) ، قلنا إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أرسل بشر بن سفيان عينا إلى قريش ليأتيه بأخبارهم. وبشر بن سفيان كان مشركا من قبيلة خزاعة. وفي هذا تأكيد لما كنا قد ذكرناه سابقا من أن أمر الاستعانة بغير المسلم يتبع الظرف وحالة الشخص الذي يستعان به. فإن كان ممن يطمأنّ إليه ولا تخشى منه بادرة غدر أو خديعة، جازت وإلا فلا. وعلى كل فإن النّبي صلّى الله عليه وسلم، في كل الحالات، إنما استعان بغير المسلمين بما دون القتال، كإرساله عينا على الأعداء أو استعارة أسلحة منهم وما شابه ذلك. والذي يبدو أن الاستعانة بغير المسلمين في القضايا السلمية أشبه بالجواز منها في أعمال القتال والحرب.

ثانيا: (طبيعة الشورى في الإسلام) ، لقد رأينا في عامة تصرفات الرسول صلّى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية الشورى وضرورة تمسك الحاكم بها، وعمل النّبي صلّى الله عليه وسلم هنا، يدل على طبيعة هذه الشورى والمعنى الذي شرعت من أجله، فالشورى في الشريعة الإسلامية مشروعة ولكنها ليست ملزمة، وإنما الحكمة منها استخراج وجوه الرأي عند المسلمين، والبحث عن مصلحة قد يختص بعلمها بعضهم دون بعض، أو استطابة نفوسهم. فإذا وجد الحاكم في آرائهم ما سكنت نفسه إليه على ضوء دلائل الشريعة الإسلامية وأحكامها، أخذ به، وإلا كان له أن يأخذ بما شاء بشرط أن لا يخالف نصّا في كتاب ولا سنّة ولا إجماعا للمسلمين.

ولقد وجدنا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الحديبية، وأشار عليه أبو بكر بما قد علمت، قال له: «إنك يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت، فتوجه له، فمن صدّنا عنه قاتلناه» .

ولقد وافقه النّبي صلّى الله عليه وسلم في بادئ الأمر، ومضى مع أصحابه متجها إلى مكة حتى إذا بركت الناقة، وعلم أنها ممنوعة.. ترك الرأي الذي كان قد أشير به عليه، وأعلن قائلا: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . وحينئذ تحول العمل عن ذلك الرأي الذي أبداه أبو بكر، إلى أمر الصلح والموافقة على شروط المشركين، دون أن يستشير في ذلك أحدا، بل ودون أن يصيخ إلى استعظام واستنكار المستنكرين كما قد رأيت.

فهذا يعني أن أمر الشورى يأتي من وراء حكم الوحي الذي هو اليوم: الكتاب والسّنة وإجماع الأئمة، رضوان الله عليهم، كما يدلّ أيضا على أن الشورى إنما شرعت للتبصر بها، لا للإلزام أو التصويت على أساسها.

ثالثا: (التوسل والتبرك بآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم) ، قلنا، إن عروة بن مسعود، جعل يرمق

أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم بعينيه، قال: «فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له» .

إنها صورة بارزة حيّة، أوضحها عروة بن مسعود لمدى محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له.

وإن فيها لدلالات هامة يجب أن يقف عليها كل مسلم.

إنها تدل أولا، على أنه لا إيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم بدون محبة له، وليست المحبة له معنى عقلانيا مجردا، وإنما هي الأثر الذي يستحوذ على القلب فيطبع صاحبه بمثل الطابع الذي وصف به عروة بن مسعود أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وهي تدل ثانيا، على أن التّبرك بآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع. ولقد وردت أحاديث صحيحة ثابتة عن تبرّك الصحابة رضي الله عنهم بشعر النّبي صلّى الله عليه وسلم، وعرقه، ووضوئه، وبصاقه، والقدح الذي كان يشرب فيه، وقد ذكرنا تفصيل بعض هذه الأحاديث فيما مضى «10» .

__________

(10) انظر ص 140، 141 من هذا الكتاب. حدثني صديق أجلّه أن رجلا عمد إلى الصفحة التي فيها كلام عروة هذا، من كتابي هذا: (فقه السيرة) فاستنسخ منها ما شاء من الصور بال (فوتوكوبي) وجعل يدور بها على الناس، متخذا منها وثيقة اتهام، بل انتقاص لرسول الله صلّى الله عليه وسلم! .. وأقول: أمّا ما عمد إليه هذا الرجل من استكثاره لهذه الصفحة التي تضمنت هذا البيان، ونشرها في الناس، ولفت أنظارهم إلى ما قد دلّت عليه، فلا ريب أنه مشكور على ذلك ومأجور، لو خلصت النية وصفا القصد.. فإنّ عمله هذا ليس إلّا تأكيدا لحقيقة ثابتة قد يجهلها كثير من الناس اليوم، ألا وهي شدة تعظيم الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمبلغ الذي بلغه حبهم العجيب له! .. وما أكثر الألغاز الجاثمة التي تتحدى العقل، في معالم الفتح الإسلامي وأحداثه، لو لم يفسرها هذا الحب العظيم الذي هيمن على مجامع القلوب، وامتد إلى أغوار النفوس، والذي جاء ثمرة اليقين العقلي الجازم بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين. وأمّا ما قصد إليه هذا الإنسان، من وراء ذلك، من تشويه مكانة محمد عليه الصلاة والسلام في القلوب، وإظهاره في أعين الناس في مظهر المدلّ على أصحابه، المتلذذ برؤية هذا الذي يتسابقون إليه، وإبرازه في صورة الثقيل السمج، دأبه أن يري الناس من نفسه ما كان خليقا به أن يستره عنهم، يروّضهم بذلك على حبّه والاستئناس بكل ما قد يتصل به أو ينفصل عنه ... أقول: أمّا ما قد قصد إليه هذا الرجل من ذلك، فقد أبعد النّجعة، وأخطأ الطريق، وخانه الهدف! ... كثيرون هم الذين سعوا هذا السعي؛ واعتصروا الفكر، واستنجدوا بالحيلة، وناشدوا التاريخ، كي يتاح لهم أن ينسجوا صورة من هذا القبيل لمحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما عادوا من سعيهم أو محاولتهم بأي طائل. وظلّ كل من العقل والتاريخ والفكر الحرّ أمينا على الكلمة الجامعة التي وصف الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. اقرأ ما تشاء من صفحات أي كتاب في شمائل هذا الرسول العظيم، تجد نفسك أمام المثل الأعلى، والنموذج الأتم

وإذا علمت أن التّبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع، فضلا عن التّوسل بذاته الشريفة.

__________

للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، وللإحساس المرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه. لم يكن يستقبل الوافدين إليه إلا بأنظف الثياب وأبهى الحلل. كان أشدّ ما يكون حرصا على أن لا يرى الناس منه إلا ما تسرّ به العين، وأن لا تقع أنوفهم منه إلا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلّ ماله في الطيب. لم يكن يأكل ثوما أو بصلا، أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفا في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرّة دون أن يطعم منها شيئا، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال: «لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أناجى (أي يزورني الناس وأحادثهم) أما أنتم فكلوا» . وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعد، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه؛ وربما أبصر صفرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال: «مالكم تأتونني قلحا لا تتسوكون؟» . هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سموّ أخلاقه، ورقة شعوره، وشفافية ذوقه، ونبل إحساسه. فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية، مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حبّ الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلّ زهوا على أصحابه، أو الدافع لهم إلى ما فعلوا. *** فإن أراد هذا الرجل أن يتحول، بعدئذ، بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب إلى ما صنعوا، فإنّ عليه أن يتبيّن قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد والاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلما وعدوانا. وإنما خصمه في هذه الدعوى هو الحب! ... الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك! .. والحب، هو الذي ليّن تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكنا، وجعل القبح جميلا، والملح الزّعاق حلوا طيب المذاق! .. هذا هو شأن الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه. فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطانا أقوى نفوذا إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليشكه إليه، وليستعده عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه، من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه! ... ولكن يا عجبا! .. يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل إلى القلب في غفلة من العقل، أو مع تحدّ للعقل وأحكامه، إذ يسوقه إلى شذوذات عجيبة في السلوك ويزجّه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئا، ولا تشعره نفسه الحساسة بأي قرف أو

وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلّى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، فآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم وفضلاته، لا تتصف بالحياة مطلقا، سواء تعلق التّبرك والتّوسل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

ومع ذلك، فقد ضلّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التّوسل بذاته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته، بحجة أن تأثير النّبي صلّى الله عليه وسلم قد انقطع بوفاته، فالتّوسل به، إنما هو توسل بشيء لا تأثير له ألبتة!

وهذه حجة تدل- كما ترى- على جهل عجيب جدا! ..

فهل ثبت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟!. إن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد جلّ جلاله، ومن اعتقد خلاف هذا يكفر بإجماع المسلمين كلهم.

فمناط التّبرك والتّوسل به أو بآثاره صلّى الله عليه وسلم، ليس هو إسناد أي تأثير إليه، والعياذ بالله وإنما المناط، كونه صلّى الله عليه وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد فهو التّوسل

__________

اشمئزاز، بل ما أكثر ما يبارك كتاب، وأدباء، وشعراء، هذا الشذوذ (الوردي) ، وما أسهل أن يتصوروه أو يصوروه تجسيدا رائعا للهيجان الخمري المعتّق! .. حتى إذا رأى صورة ذلك الحب العلوي الذي ينسكب في المشاعر من القلب والعقل معا، وأبصر شيئا من آثاره في حياة صاحبه وسلوكه، تعجب واستغرب، واصطنع التأفف والاشمئزاز، وأخذ يندب اللباقة والذوق الرفيع! ... ألا، فليعلم هذا الرجل وأمثاله أن كل شيء في الدنيا يخضع لقانون مستقل عنه، إلا الحب، فلن تراه خاضعا إلا لقانونه ذاته! .. والويل كل الويل لمن كان حب قلبه تمردا على عقله. وليهنأ ذاك الذي كان حبه القلبي تجاوبا مع قراره العقلي. وحسب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم شرفا وفخرا أن الحب الذي استبد بقلوبهم لرسول الله، كان شعاع إيمانهم العقلي بصدق نبوته، وسمّو مكانته عند رب العالمين جلّ جلاله. فليفعل بهم هذا الحب ما يشاء، وليحملهم على التبرك والتمسّح بعرقه وبصاقه وما يتساقط من شعره وما يتقاطر من ماء وضوئه.. فإنما هي لغة الحب.. ولا تصاغ لغة الحب إلا في داخل بوتقته ولا يتحكم بها غيره. وإني لأعلم أن في الناس اليوم من لو رأت أعينهم محمدا صلّى الله عليه وسلم، يمشي على الأرض، لهاج بهم هائج الحب، ولخرّوا إلى الأرض، يلعقون الثرى الذي سما وازدهى تحت قدمي رسول الله! .. ولا يخاصم منطق الحب هذا إلا من يقارعه بمنطق الكراهية والبغض. وخصومة كهذه، لا يقرها منطق ولا يدعمها عقل، إذ من البدهي أن الجدل حول أمر ما، لا يتحرك ويتفاعل إلا فوق أرض من اليقين بحقيقة مشتركة بين الطرفين. وقد التقطت حكمة الدهر كلمة قيل إن مجنون بني عامر قالها يوم سمع أن في الناس من يعيب عليه وينتقده لتعلقه بليلى، وهي فيما زعموا سمراء دميمة. فقال: لو نظروا إليها بعيني لعلموا أنهم مخطئون.

بقربه صلّى الله عليه وسلم إلى ربّه، وبرحمته الكبرى للخلق. وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلّى الله عليه وسلم في أن يردّ عليه بصره، فردّه الله عليه «11» ، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار، وقد مرّ في هذا الكتاب بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النّبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم «12» .

والفرق، بعد هذا، بين حياته وموته صلّى الله عليه وسلم، خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوّغ له.

رابعا: (حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد) ، لقد علمت مما سبق أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، كان واقفا على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف، وكلما أهوى عروة بن مسعود بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، قائلا: «أخّر يدك عن وجه رسول الله» .

وقد كنّا ذكرنا فيما مضى عند الحديث عن غزوة بني قريظة- أنه لا يشرع القيام على رأس أحد وهو قاعد، وأن ذلك من مظاهر التعظيم الذي تعارفه الأعاجم فيما بينهم وأنكره الإسلام، وإنه التمثّل الذي نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . فكيف كان الأمر على خلاف ذلك هنا؟

والجواب، أنه يستثنى من عموم المنع، مثل هذه الحالة بخصوصها، أي في حالة قدوم رسل للعدو إلى الإمام أو الخليفة، فلا بأس حينئذ من قيام حرس أو جند على رأسه، إظهارا للعزة الإسلامية، وتعظيما للإمام ووقاية له مما قد يفاجأ به من سوء «13» . أما في أعم الأحوال فلا يجوز ذلك لمخالفته مقتضى التوحيد والعقيدة الإسلامية، دون أي ضرورة إليه.

ويشبه هذا، ما مرّ بيانه، عند الحديث عن أبي دجانة في غزوة أحد، فقد قلنا: إن كل ما يدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعا ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة: إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع.

خامسا: (مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم) ، استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية

__________

(11) حديث توسل الأعمى برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورجوع بصره إليه، حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا أعمى جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهم جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر. فقال ليس لي قائد وقد شقّ عليّ فقد بصري. فقال: «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم فشفّعه فيّ» . وفي بعض الروايات بزيادة: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك. قال عثمان بن حنيف: فو الله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا فكان بصيرا.

(12) انظر ص 46 من هذا الكتاب.

(13) انظر زاد المعاد لابن القيم: 2/ 114

على جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة الحديبية كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه.

وأما إذا كانت المصالحة على مال يبذله المسلمون، فهو غير جائز عند جمهور المسلمين، لما فيه من الصغار لهم، ولأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السّنة على جواز ذلك، قالوا: إلا إن دعت إليه ضرورة لا محيص عنها وهو أن يخاف المسلمون الهلاك أو الأسر فيجوز، كما يجوز للأسير فداء نفسه بالمال.

سادسا: ذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وكثير من الأئمة إلى أن الصلح لا ينبغي أن يكون إلا إلى مدة معلومة، وأنه لا يجوز أن تزيد المدة على عشر سنوات مهما طالت، لأنها هي المدة التي صالح النّبي صلّى الله عليه وسلم قريشا عليها عام الحديبية.

سابعا: الشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى صحيحة وباطلة، فالصحيح كل شرط لا يخالف نصّا في كتاب الله أو سنّة نبيّه، مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة للمسلمين عند الحاجة، أو أن يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان، ولقد أطلق الأئمة صحة هذا الشرط الأخير، ما عدا الشافعي رضي الله عنه، فقد شرط لذلك أن تكون له عشيرة تحميه بين الكافرين، وحمل على ذلك موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم على هذا الشرط لقريش «14» .

والباطل، كل شرط فيه معارضة لحكم شرعي ثابت، ومنه أن يشترط ردّ النساء المسلمات أو مهورهن إليهم، أو إعطائهم شيئا من سلاح المسلمين أو أموالهم. وأساس الاستدلال على هذا عدم ردّ النّبي صلّى الله عليه وسلم النساء اللاتي جئن هاربات بدينهن، ونهي القرآن صراحة عن ذلك، كما مرّ بيانه في حينه.

ولعلك تقول: أفلم يخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك عهدا قطعه على نفسه، وذلك إذ وافق على ردّ كل من أتاه مسلما من مكة؟ .. والجواب أن ذلك ليس نصّا في خصوص النساء، بل يحتمل أنه لا ينحطّ إلا على الرجال وحدهم. ومهما يكن فقد علمت فيما سبق أن تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم لا تكتسب قوة الحكم الشرعي إلا إذا أقرها الكتاب بالسكوت عليها أو التأكيد لها. ولقد أقرّ الكتاب كل بنود المصالحة، إلا ما يتعلق بردّ النساء إلى بلد الكفر، فلم يقرّه، وذلك على فرض دخوله في بنود الاتفاقية وشروطها.

ثامنا: (حكم الإحصار في العمرة والحج) ، ودلّ عمل الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر

__________

(14) راجع للتوسع في موضوع الهدنة، مغني المحتاج: 4/ 260، والمغني لابن قدامة: 9/ 290، والهداية: 2/ 103، وبداية المجتهد: 1/ 374

الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة حيث أحصر أو ما يقوم مقامها ويحلق ثم ينوي التحلّل مما كان قد أهلّ به، سواء كان حجّا أو عمرة.

كما دلّ ذلك على أن المتحلّل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعا، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب. بدليل أن جميع الذين خرجوا معه صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء التي سيأتي ذكرها، إلا من توفي أو استشهد منهم في غزوة خيبر.




كلمات دليلية: