withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم من كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم من كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

اسم الكتاب:
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلى الرحمانى، وإلمام بمعهد العهد الربانى، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد فى تلك المواطن فخار وسمو، فإن المحال المحترمة لم تزل تفرع على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك فى هذا ما يحكى فى أبيات عن مجنون بنى عامر:

رأى المجنون فى البيداء كلبا ... فجر عليه للإحسان ذيلا

فلاموه على ما كان منه ... وقالوا لم منحت الكلب نيلا

فقال دعوا الملام فإن عينى ... رأته مرة فى حى ليلا

__________

(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 174) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه حفص بن واقد البصرى، قال ابن عدى: له أحاديث منكرة.

فينبغى للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى فى غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.

وروى ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد الحج فليتعجل» «1» . رواه أبو داود. وفى حديث على بن أبى طالب، عنه- صلى الله عليه وسلم-: «من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» «2» .

الحديث رواه الترمذى. وخطب- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث أبى هريرة. وفى رواية النسائى، من حديث ابن عباس مرفوعا: «إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال الأقرع بن حابس التميمى: كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت» «4» الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلفوا: هل هو على الفور، أو على التراخى؟ فقال الشافعى وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخى، إلى أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا فى وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف فى سنته.

فالجمهور على أنه سنة ست، لأنه نزل فيها قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «5» ، وهذا ينبنى على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيده

__________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (1732) فى المناسك، باب: التجارة فى الحج، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (812) فى الحج. باب: ما جاء فى التغليظ فى ترك الحج، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1337) فى الحج، باب: فرض الحج مرة فى العمر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(4) صحيح: أخرجه مسلم. وقد تقدم فى الذى قبله.

(5) سورة البقرة: 196.

قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعى بلفظ «وأقيموا» رواه الطبرى بأسانيد صحيحة عنهم.

وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضى تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع فى قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدى سنة خمس، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها.

وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا:

بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد.

ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا فى أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» الآية، فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمنادات بها إنما كان سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك فى مكة فى موسم الحج، وأردفه بعلى.

وفى الترمذى من حديث جابر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاث وستين بدنة، ثم جاء على من اليمن ببقيتها، فيها جمل فى أنفه برة من فضة فنحرها «2» ، الحديث. وعن ابن عباس: حج- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج «3» . أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبنى على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضى نفى الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا «4» .

__________

(1) سورة التوبة: 28.

(2) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى- صلى الله عليه وسلم-. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(3) تقدم فى الذى قبله.

(4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 642) و (3/ 56) وفى الموضع الأول رفعه جابر- رضى الله عنه-.

وقال ابن الجوزى: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان- صلى الله عليه وسلم- يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر فى حديثه الطويل- كما فى رواية مسلم-: مكث- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين لم يحج ثم أذن فى العاشرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:

كيف أصنع؟ قال: «اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى» ، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شئ عملنا به «1» .

وفى رواية عند النسائى: قال جابر: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذى القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة الحديث «2» . وكان خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر.

وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.

وفى الترمذى، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لإهلاله واغتسل «3» . وفى الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة «4» ، وفى رواية

__________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.

(2) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 155) فى مناسك الحج، باب: ترك التسمية عند الإهلال. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(3) صحيح: أخرجه الترمذى (830) فى الحج، باب: ما جاء فى الاغتسال عند الإحرام. من حديث زيد بن ثابت بن الضحاك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(4) صحيح: أخرجه البخارى (5930) فى اللباس، باب: الذريرة، ومسلم (1189) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارقه- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم «1» ، وفى رواية قالت: طيبته عند إحرامه، ثم طاف فى نسائه، ثم أصبح محرما «2» ، زاد فى رواية: ينضح طيبا «3» . وفى رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم «4» ، تعنى ليس له بقاء. وهذا يدل على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم فى الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابى عن أكثر الصحابة، وحكاه النووى عن جمهور العلماء من السلف والخلف.

وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان «5» ، رواه الدار قطنى. وفى حديث أنس عند أبى داود والترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل «6» . وفى رواية ابن عمر، عند البخارى ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد «7» ، يعنى مسجد ذى الحليفة.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (271) فى الغسل، باب: من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب، ومسلم (1190) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) تقدم فى الذى قبله.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1192) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(4) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (5/ 137) فى مناسك الحج، باب: إباحة الطيب عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. وقال الألبانى: «صحيح الإسناد» .

(5) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 226) .

(6) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 162) فى مناسك الحج، باب: العمل فى الإهلال. من حديث أنس- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .

(7) صحيح: أخرجه البخارى (1541) فى الحج، باب: الإهلال عند مسجد ذى الحليفة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وفى رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره «1» . وفى رواية: حين وضع رجله فى الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذى الحليفة. وفى رواية جابر- عند أبى داود والترمذى- أنه- صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن فى الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم «2» .

وفى حديث ابن جبير- عند أبى داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى إهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أوجب!؟ فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج- صلى الله عليه وسلم- حاجّا فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجبه فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.

قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه «3» ، وهو مذهب أبى حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، انتهى.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1799) فى الحج، باب: القدوم بالغداة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(2) صحيح: أخرجه الترمذى (817) فى الحج، باب: ما جاء فى أى موضع أحرم، من حديث جابر وقد تقدم. وصححه الألبانى فى صحيح الترمذى.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1770) فى المناسك، باب: فى وقت الإحرام. من حديث ابن عباس وضعفه الألبانى فى «ضعيف أبى داود» .

قلت: ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل «1» .

قال النووى: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضى وغيره عن الحسن البصرى أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قل:

لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.

وقد اختلفت روايات الصحابة فى حجه- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروى كل منها فى البخارى ومسلم وغيرهما.

واختلف الناس فى ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.

الثانى: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره.

الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدى ولم يكن قارئا.

الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.

الخامس: أنه حج مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.

السادس: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدى.

واختلفوا أيضا فى إحرامه على ستة أقوال:

أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.

الثانى: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.

الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.

__________

(1) تقدم.

الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.

الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.

السادس: لبى بالحج والعمرة معا.

وقد أطنب أبو جعفر الطحاوى الحنفى فى الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه فى زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضى عياض والنووى فى شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.

والذى ذهب إليه الشافعى فى جماعة: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج حجّا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما فى الصحيحين أن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا أهلّ بالحج وحده، وأهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج» . فهذا التقسيم والتنويع صريح فى إهلاله بالحج وحده. ولمسلم عنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده «1» . ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج «2» .

ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج «3» . وعن ابن عمر:

أنه- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخارى.

قالوا: وهؤلاء لهم قرب فى حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو

__________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2731) فى مناسك الحج، باب: القرآن. من حديث أنس قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالعمرة والحج جميعا فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبّى بالحج وحده ... الحديث.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1240) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج، من حديث ابن عباس، وبنحوه عن عائشة.

(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2966) فى المناسك، باب: الإفراد بالحج، وهو عند مسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

أحسن الصحابة سياقا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإنى كنت تحت ناقته- صلى الله عليه وسلم- يمسنى لعابها، أسمعه يلبى بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله فى خلواته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه فى الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة.

واحتجوا أيضا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على «الإفراد» مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله على- رضى الله عنه- لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران.

وذهب النووى إلى أن الصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر فى تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذى لا يعتمر فى سنته عندنا، ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران. انتهى. وقد صرح القاضى حسين والمتولى بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر فى تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور.

منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك. وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.

وبأن القران رواه عنه- صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.

وبأنه لم يقع فى شئ من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «1» .

وأيضا: فإن من روى القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفى التعارض، ويؤيده: أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران، لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.

وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّا. انتهى.

وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلى، وعمران ابن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد ابن أبى وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا، وعائشة، وابن عباس؟

وعائشة تقول: أهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفى لفظ: أفرد الحج، والأول فى الصحيحين، والثانى فى مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: أهلّ بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.

قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1558) فى الحج، باب: من أهل فى زمن النبى كإهلال النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.

وهذا يقتضى رفع الشك عنها والمصير إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثورى «1» وأبو حنيفة وإسحاق بن راهواه واختاره من الشافعية المزنى وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزى، ومن المتأخرين الشيخ تقى الدين السبكى، وبحث مع النووى فى اختياره أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه- صلى الله عليه وسلم- فى عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها فى ذى القعدة، وهى عمرة الحديبية التى صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط- مع أن الأفضل خلافه- لاكتفى فى ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.

ومذهب الشافعى ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، فإن قلت: إذا كان الراجح أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووى فى شرح المهذب:

بأن ترجيح الإفراد لأنه- صلى الله عليه وسلم- اختاره أولا، فأهلّ بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج، وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.

وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه- صلى الله عليه وسلم- تمناه، فقال: «لولا أنى سقت

__________

(1) زيادة من «فتح البارى» المصدر المنقول منه.

الهدى لأحللت» «1» ، ولا يتمنى إلا الأفضل. وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله تعالى له، واستمر عليه- صلى الله عليه وسلم-.

وأما القائلون، إنه- صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج «2» . وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذى أخبرنى سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه عمرة استمتعنا بها» «3» . وقال سعد بن أبى وقاص فى المتعة: صنعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه «4» .

وأجيب: بأن التمتع عندهم يتناول القران، ويدل له ما فى الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع على وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال على: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى على ذلك أهلّ بهما جميعا «5» .

فهذا يبين أن من جمع بينهما كانت متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ووافقه عثمان على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ فقد اتفق على وعثمان على أنه

__________

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1241) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (822) فى الحج، باب: ما جاء فى التمتع. من حديث سعد بن أبى وقاص والضحاك. وقال الألبانى: ضعيف الإسناد.

(5) صحيح: أخرجه البخارى (1569) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج، ومسلم (1223) فى الحج، باب: جواز التمتع.

- صلى الله عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضا: فإنه- صلى الله عليه وسلم- قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.

وفى فتح البارى عن أحمد: أن من ساق الهدى فالقران له أفضل ليوافق فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدى فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه. انتهى.

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قاله ابن تيمية.

وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدى فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة «1» ، وحديثه فى الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا فى غير حجة الوداع، لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرما، ولا يمكن أن يكون فى عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما: أنه فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح «وذلك فى حجته» «2» ، الثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: «وذلك فى أيام العشر» «3» وهذا إنما كان فى حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: 7 نه اعتمر فى رجب كما سيأتى. وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «4» وقوله: «إنى سقت الهدى وقرنت فلا أحل عن حتى

__________

(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 244) فى المناسك، باب: أين يقصر المعتمر، وفى الكبرى (3981) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(2) تقدم.

(3) تقدم.

(4) تقدم.

أنحر» «1» . وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلاط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله فى زاد المعاد.

وأما اختلاف الروايات عنه- صلى الله عليه وسلم- فى إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينها، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذى قدمته.

قال البغوى: والذى ذكره الشافعى فى كتاب «اختلاف الأحاديث» كلاما موجزه: «أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، فكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز فى لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائها، وكما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابى نحوه.

وقال النووى: كان- صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنا، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعنى حمله على ما أهل به فى أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوى والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد. وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.

وقالت طائفة: إنما أحرم- صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء يعنى بالحج والعمرة معا واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس فى صحيح مسلم سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: «لبيك عمرة وحجّا» «2» .

ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إهلالا بحج وعمرة معا.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1566) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج. من حديث حفصة ولفظه إنى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر. وقد تقدم أكثر من مرة.

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما فى البخارى من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة، وبدأ- صلى الله عليه وسلم- فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج.

وقد تقدم فى الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل فى هذا الحديث قوله:

«بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج» . وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أى لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: «لبيك بعمرة وحج معا» «1» ولبعضهم: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة «2» ، أى أمرهم بها أولا، أى بتقديمها على الحج.

ومذهب الشافعى: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعى، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمى. والضعيف لا يدخل على القوى. انتهى.

وعن ابن عباس قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الظهر بذى الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها فى صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين «3» ، رواه مسلم وأبو داود. وفى رواية الترمذى: قلد نعلين، وأشعر الهدى فى الشق الأيمن، بذى الحليفة، وأماط عنه الدم «4» . وفى رواية لأبى داود بمعناه، وقال: ثم

__________

(1) تقدم.

(2) تقدم.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1243) فى الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4) صحيح: أخرجه الترمذى (906) فى الحج، باب: ما جاء فى إشعار البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

سلت الدم بيده «1» ، وفى أخرى بأصبعه «2» . وعند النسائى: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين «3» . وفى أخرى: أمر ببدنة فأشعر فى سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين «4» .

وكان حجه- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث يساوى أربعة دراهم «5» . رواه الترمذى فى الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عباس.

وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجلست إلى جنب أبى بكر، وكانت زمالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبى بكر واحدة، مع غلام لأبى بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع» ، وما يزيد على ذلك ويبتسم «6» . رواه أبو داود.

وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج- كما قالت عائشة- فبين لهم- صلى الله عليه وسلم- وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار فى أشهر الحج فقال:

__________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1752) فى المناسك، باب: فى الإشعار. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2) قاله أبو داود عقب الحديث السابق، حيث قال: رواه همام فذكره.

(3) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 170) فى مناسك الحج، باب: سلت الدم عن البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(4) تقدم فى الذى قبله.

(5) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2890) فى المناسك، باب: الحج على الرحل. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

(6) حسن: أخرجه أبو داود (1818) فى المناسك، باب: المحرم يؤدب غلامه. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

«من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل» «1» . رواه البخارى. ولأحمد: «من شاء فليهل بعمرة» .

ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا فرده عليه، فلما رأى ما فى وجهه قال: «7 نا لم نرده عليك إلا أنا حرم» «2» . رواه البخارى ومسلم. وله فى رواية: حمار وحش «3» . وفى أخرى: من لحم حمار وحش «4» ، وفى رواية: عجز حمار وحش يقطر دما «5» ، وفى رواية: شق حمار وحش «6» ، وفى رواية عضو من لحم صيد «7» .

ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. فذكره. واتفقت الروايات كلها عن أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقى من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقى: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحى وقبل اللحم.

قال فى فتح البارى: وفى هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق محفوظة فلعله رد حيّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعى فى «الأم» : إن كان الصعب

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. من حديث الصعب ابن جثامة الليثى- رضى الله عنه-.

(3) تقدم فى الذى قبله.

(4) تقدم فى الذى قبله.

(5) مسلم (1194) وتقدم فى الذى قبله.

(6) تقدم فى الذى قبله.

(7) أخرجه مسلم (1195) وتقدم فى الذى قبله.

أهدى حمارا حيّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حى، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذى عن الشافعى: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور فى حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه- صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جازم فيه بوقوع ذلك فى الجحفة، وفى غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرته- صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أهداه له حيّا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.

قال النووى: قال الشافعى وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوها، وفى ملكه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده، أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضى عياض عن على وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً «1» ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- رد وعلل رده بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.

واحتج الشافعى وموافقوه: بحديث أبى قتادة المذكور فى صحيح

__________

(1) سورة المائدة: 96.

مسلم، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى الصيد الذى صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: «هو حلال فكلوه» «1» . وفى الرواية الآخرى قال: «فهل معكم منه شئ؟» قالوا: معنا رجله فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلها «2» .

ولما مرّ- صلى الله عليه وسلم- بوادى عسفان قال: «يا أبا بكر، أى واد هذا؟» قال:

وادى عسفان قال: «لقد مرّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف، وأرزهما العباء وأرديتهما النمار يلبون بالحج يحجون البيت العتيق» «3» . رواه أحمد. وفى رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادى الأزرق قال: «كأنى أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه فى أذنيه مارا بهذا الوادى، وله جؤار إلى الله بالتلبية» «4» .

ووادى الأزرق خلف أمج- بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى، ولفظه: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر من الوادى يلبى. قال المهلب:

هذا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوى، ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر: «ليهلن ابن مريم بفج الروحاء» «5» انتهى.

وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاده؟

وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاد يونس؟

__________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1196) وتقدم فى الذى قبله.

(2) تقدم فى الذى قبله.

(3) أخرجه أحمد (1/ 232) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (166) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1252) فى الحج، باب: إهلال النبى وهديه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وتعقب أيضا: بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه، وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل. وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: «كأنى أنظر إليه» ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه «ليهلن ابن مريم بالحج» .

وقد اختلف فى معنى قوله: «كأنى أنظر إليه» . فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحى.

وقيل: هو على الحقيقة، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة، كما فى صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى- عليه السّلام- قائما فى قبره يصلى.

قال القرطبى: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ «1» الآية لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: المنظور إليه هى أرواحهم، فلعلها مثلت له- صلى الله عليه وسلم- فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهى فى القبور.

قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى فى اليقظة كما يرى فى النوم. وقيل: كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا، كيف تعبدوا، وكيف حجوا، وكيف لبوا، ولهذا قال: «كأنى» ... وقيل: كأنه أخبر بالوحى عن ذلك، فلشدة قطعه به قال: «كأنى أنظر إليه» . انتهى. وقد ذكرت فى مقصد الإسراء من ذلك ما يكفى والله الموفق.

ولما نزل- صلى الله عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدى فلا. وحاضت عائشة فدخل عليها- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه» ، قالت:

سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» قالت: لا

__________

(1) سورة يونس: 10.

أصلى، قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكونى فى حجك، فعسى الله أن يرزقكها» «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.

وفى رواية قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علىّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكى، فقال: «ما يبكيك» فقلت: والله لوددت أنى لم أكن خرجت العام، فقال: «ما لك، لعلك نفست؟» قلت: نعم، قال: «هذا شئ كتبه الله على بنات آدم، افعلى ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى» «2» . الحديث.

وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل إنها كانت أولا أحرمت بالحج وهو ظاهر هذا الحديث.

وفى حجة الوداع من المغازى عند البخارى، من طريق هشام بن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهرى: ولم أسق هديا، وفى رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نلبى لا نذكر حجّا ول




كلمات دليلية: