withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص من كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص من كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

اسم الكتاب:
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص

اعلم- وصلنى الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوى الإيمان. واعلم أنه لما كان الموت مكروها بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبى من الأنبياء حتى يخير.

وأول ما أعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» ، فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس فى دينك الذى دعوتهم إليه أفواجا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعد للنقلة إلينا.

وقد قيل إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو- صلى الله عليه وسلم- بمنى فى حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.

ولأبى يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة فى أوسط أيام التشريق فى حجة الوداع، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.

__________

(1) سورة النصر: 1.

وفى حديث ابن عباس، عند الدارمى: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: «نعيت إلى نفسى» فبكت قال: «لا تبكى، فإنك أول أهلى لحوقا بى» ، فضحكت «2» . الحديث.

وروى الطبرانى من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» نعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا فى أمر الآخرة. وللطبرانى أيضا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة قال النبى- صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «نعيت إلى نفسى» . فقال له جبريل:

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «4» . وروى فى حديث ذكره ابن رجب فى «اللطائف» : أنه تعبد حتى صار كالشن البالى.

وكان- صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان- صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فى ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.

وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم- فى آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» ، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، فقال: «إن ربى أخبرنى أنى سأرى علما فى أمتى، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره» ، ثم تلا هذه السورة «5» . رواه ابن جرير وابن خزيمة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.

وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات، ثم طلع

__________

(1) سورة النصر: 1.

(2) أخرجه الدارمى (79) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(3) سورة النصر: 1.

(4) سورة الضحى: 4.

(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 184) .

المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى، ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها» . وزاد بعضهم: «فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1» .

وعن أبى سعيد الخدرى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال:

«إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر- رضى الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بابائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر- رضى الله عنه-» «2» . رواه البخارى ومسلم.

ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال «إنى أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل» «3» . وكأن أبا بكر- رضى الله عنه- فهم الرمز الذى أشار به النبى- صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك فى مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا وصفاته، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (496) فى الصلاة، باب: الخوخة والممر فى المسجد، ومسلم (2382) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

(3) تقدم فى الذى قبله.

وما زال- صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس: «خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع «1» .

فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى «خما» فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: «أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب» ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته «2» .

قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى الله عليه وسلم- فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: «والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا» .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة.

فلما عرّض- صلى الله عليه وسلم- على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «3» ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته فقال:

«إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى الله عنه-» ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة

__________

(1) تقدم.

(2) تقدم.

(3) سورة التوبة: 40.

الإسلام» «1» ، لما كان- صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإن الخليل من جرت صحبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:

قد تخللت مسلك الروح منى ... وبذا سمى الخليل خليلا

أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر» «2» ، إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكن المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلى بالناس أبو بكر- رضى الله عنه-، فروجع فى ذلك وهو يقول: «مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» ، فولاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبى بكر- رضى الله عنه-:

رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.

وكان ابتداء مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت ميمونة، كما ثبت فى رواية معمر عن الزهرى، وفى سيرة أبى معشر: كان فى بيت زينب بنت جحش، وفى سيرة سليمان التيمى كان فى بيت ريحانة، والأول هو المعتمد.

وذكر الخطابى، أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف فى مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما فى الروضة، وصدر بالثانى، وقيل عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمى فى مغازيه، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح.

وفى البخارى: قالت عائشة: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى فأذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه فى الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذى قالت عائشة فقال لى عبد الله بن عباس: هل تدرى

__________

(1) تقدم.

(2) تقدم.

من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو على بن أبى طالب «1» . الحديث.

وفى رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر «2» . وفى أخرى لغير مسلم: رجلين أحدهما أسامة. وعند الدار قطنى:

أسامة والفضل، وعند ابن حبان فى أخرى: بريرة ونوبة- بضم النون وسكون الواو ثم موحدة- قيل وهو اسم أمه، وقيل: عبد. وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان. وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فتعدد من اتكأ عليه.

وعن عائشة- رضى الله عنها- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: «إنى لا أستطيع أن أدور فى بيوتكن، فإن شئتن أذنتن لى» . رواه أحمد. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «أين أنا غدا، أين أنا غدا؟» «3» يريد يوم عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهرى: أن فاطمة هى التى خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. وفى رواية ابن أبى مليكة عن عائشة أن دخوله- صلى الله عليه وسلم- بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذى يليه.

وفى مرسل أبى جعفر عند ابن أبى شيبة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أين أكون أنا غدا» ، كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة «4» . وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام ... وتقدم فى الذى قبله.

(3) صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر، ومسلم (1443) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4) أصله فى البخارى وقد تقدم.

- عند الإسماعيلى- كان يقول: «أين أنا غدا» حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومى أذن له نساؤه أن يمرض فى بيتى «1» .

وعن عائشة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا وارأساه» ، ثم قال: «ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» ، فقالت: لكأنى بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم- صلى الله عليه وسلم-، ثم بدأ فى وجعه الذى مات فيه «2» . رواه أحمد والنسائى.

وفى البخارى، قالت عائشة: وارأساه فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك» ، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنى لأظنك تحب موتى، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «بل أنا وارأساه» ، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون «3» .

وقوله: «بل أنا وارأساه» إضراب، يعنى: دعى ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلى بى. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد فى الزهد عن طاووس أنه قال: «أنين المريض شكوى» ، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوه المريض مكروه.

قلت: تعقبه النووى فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مخصوص، وهو لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا،

__________

(1) تقدم.

(2) أخرجه الدارمى (80) فى المقدمة، باب: وفاة النبى، وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3) صحيح: أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض إنى وجع أو وارأساه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.

قال فى فتح البارى: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعوّل فى ذلك على عمل القلب اتفاقا لا على نطق اللسان.

وقد تبين- كما نبه عليه فى «اللطائف» - أن أول مرضه- صلى الله عليه وسلم- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به فى مرضه، فكان يجلس فى مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرد بذلك.

وفى البخارى قالت عائشة: لما دخل بيتى واشتد وجعه قال: «أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس» ، فأجلسناه فى مخضب لحفصة- زوج النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن «1» . الحديث.

وقد قيل فى الحكمة فى هذا العدد: أن له خاصية فى دفع ضرر السم والسحر، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا أوان انقطاع أبهرى» «2» ، أى من ذلك السم. وتمسك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع السمية التى فى ريقه.

وكانت عليه- صلى الله عليه وسلم- قطيفة، فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (تعليقا) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة، وأبو داود (4512) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيضا منه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

من فوقها فقيل له فى ذلك فقال: «إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر» «1» ، رواه ابن ماجه وابن أبى الدنيا، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبى سعيد الخدرى. وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» .

وعن عبد الله قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا، قال: «أجل، أنى أوعك كما يوعك رجلان منكم» ، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: «أجل، ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» «3» . رواه البخارى.

والوعك- بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح-: الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعى:

الوعك: الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيا بنى أحب إلىّ من الحمى، إنها تدخل فى كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطى كل مفصل قسطا من الأجر.

وأخرج النسائى، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان- أخت حذيفة- قالت: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: «إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم» «4» .

وفى حديث عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء،

__________

(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4024) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

(2) صحيح: أخرجه البخارى (5646) فى المرضى، باب: شدة المرض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3) صحيح: أخرجه البخارى (5640) فى المرضى، باب: ما جاء فى كفارة المرض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7482 و 7496 و 7613) .

فجعل يدخل يديه فى الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» «1» الحديث رواه الشيخان. وروى أيضا عن عروة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «2» .

وفى رواية: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى» «3» .

والأكلة: بالضم، اللقمة التى أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: أنه نقض عليه سم الشاة التى أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه- صلى الله عليه وسلم- مات شهيدا من السم.

وعند البخارى أيضا قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبى- صلى الله عليه وسلم- عنه «4» . وفى رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها «5» . ولمسلم فلما مرض مرضه الذى مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدى. وأطلقت على السور الثلاث: المعوذات، تغليبا.

وفى البخارى عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدرى، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به،

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (4449) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) تقدم.

(3) تقدم.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(5) أخرجه مالك (1755) فى الجامع، باب: التعوذ والرقية من المرض.

فأبده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فاستن به، فما رأيته استن استنانا قط أحسن منه «1» .

الحديث.

قولها: «فأبده» بتشديد الدال المهملة أى: مد نظره إليه. وقولها:

«فقضمته» - بكسر الضاد المعجمة- أى: لطوله ولإزالة المكان الذى تسوك به عبد الرحمن. «ثم طيبته» : أى لينته بالماء. وفى رواية له أيضا: قالت: إن من نعم الله تعالى علىّ أن جمع الله بين ريقى وريقه عند موته، دخل علىّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم «2» .

وفى رواية: مر عبد الرحمن وفى يده جريدة رطبة، فنظر إليه- صلى الله عليه وسلم- فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقى وريقه فى آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة «3» .

وفى حديث خرجه العقيلى، أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لها فى مرضه: «ائتينى بسواك رطب فامضغيه ثم ائتينى به أمضغه لكى يختلط ريقى بريقك لكى يهون على عند الموت» .

قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكلما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له.

وفى المسند عن عائشة أيضا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه ليهون على

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (2449) وتقدم قريبا.

(3) صحيح: أخرجه البخارى (4451) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الموت لأنى رأيت بياض كف عائشة فى الجنة» . وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لقد رأيتها فى الجنة، حتى ليهون علىّ بذلك موتى، كأنى أرى كفيها» ، يعنى عائشة.

فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة حبّا شديدا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه فى الجنة ليهون عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة، وقد سأله- صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: «أى الناس أحب إليك؟» فقال:

«عائشة» فقال: من الرجال: قال: «أبوها» «1» ، ولهذا قال لها فى ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: «وددت أن ذلك كان وأنا حى فأصلى عليك وأدفنك» «2» فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما- صلى الله عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.

ويروى أنه كان عنده- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها فى كفه فقال: «ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه؟» ثم تصدق بها كلها. رواه البيهقى.

انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى.

وفى البخارى من طريق عروة عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- فاطمة فى شكواه الذى قبض فيه، فسارّها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارّنى النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه فبكيت، ثم سارّنى فأخبرنى أنى أول أهله يتبعه فضحكت «3» .

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (3662) فى المناقب، باب: قول النبى لو كنت متخذا خليلا. من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-.

(2) تقدم.

(3) صحيح: أخرجه البخارى (2626) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. من حديث عروة عن عائشة- رضى الله عنها-.

وفى رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحبا بابنتى» ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها «1» .

ولأبى داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته «2» .

واتفقت الروايتان: على أن الذى سارّها به أولا فبكت، هو إعلامه إياها أنه ميت فى مرضه ذلك، واختلفتا فيما سارّها به فضحكت، ففى رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به «3» ، وفى رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة «4» . وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست فى حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين.

فمما زاده مسروق: قول عائشة فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى توفى النبى- صلى الله عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إلىّ أن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وأنك أول أهل بيتى لحاقا بى «5» .

__________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث مسروق عن عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (5217) فى الأدب، باب: ما جاء فى القيام، والترمذى (3872) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى صحيح البخارى بنحوه، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.

(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3781) فى المناقب، باب: من مناقب الحسن والحسين، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(4) تقدم.

(5) تقدم.

وفى رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هى من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفى رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن.

وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائى من طريق أبى سلمة عن عائشة فى سبب البكاء أنه ميت، وفى سبب الضحك الأمرين الآخرين.

ولابن سعد من رواية أبى سلمة عنها: أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبرانى- من وجه آخر- عن عائشة أنه قال لفاطمة: «إن جبريل أخبرنى أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكونى أدنى امرأة منهن صبرا» . وفى الحديث: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة- رضى الله عنها- كانت أول من مات من أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه- عليه الصلاة والسلام-.

وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه فى مرضه ثم يفيق، وأغمى عليه مرة فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا: كراهية للدواء، فلما أفاق قال: «ألم أنهكم أن تلدونى؟» فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال: «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم» «1» . رواه البخارى. واللدود، هو ما يجعل فى جانب الفم من الدواء، فأما ما يصب فى الحلق فيقال له: الوجور.

وفى الطبرانى من حديث العباس: أنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (4458) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وفى قوله «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ، إلخ» مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر: لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه. قال ابن العربى: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا فى خطيئة عظيمة. وتعقب: بأنه كان يمكن أن يقع العفو، ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذى يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا اقتصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى، لأنه تحقق أنه يموت فى مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوى.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذى يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر فى سياق الخبر.

وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت فأغمى عليه، فلدوه، فلما أفاق قال: «كنتم ترون أن الله يسلط علىّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها على سلطانا، والله لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ» ، فما بقى أحد فى البيت إلا لدّ، ولددنا ميمونة وهى صائمة.

وروى أبو يعلى- بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما: ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن، والآخر:

ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفى هنا. وقد وقع فى رواية الحاكم فى المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثانى هو الذى أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول.

وفى حديث ابن عباس عند البخارى: لما حضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفى البيت رجال، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» ، فقال بعضهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا

كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قوموا» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم «1» .

قال المازرى: إنما جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب: مع صريح أمره لهم بذلك. لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم.

وقال النووى: اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» «2» من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشى أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفى تركه- صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه، وأشار بقوله: «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3» ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: «إن الرزية إلخ» لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسفا على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، والله أعلم.

ولما اشتد به- صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (114) فى العلم، باب: كتابة العلم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(2) صحيح: أخرجه البخارى (4432) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما.

(3) سورة الأنعام: 38.

له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فعادوته بمثل مقالتها، فقال: «إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «1» . رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفى رواية: إن أبا بكر رجل أسيف «2» .

وفى حديث عروة عن عائشة عند البخارى: فمر عمر فليصل بالناس، قالت: قلت لحفصة قولى له إن أبا بكر إذا قام فى مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:

«مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا «3» .

والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا، رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة فى هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحب يوسف فى إظهار ما فى الباطن. ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهى عائشة- رضى الله عنها-. ووجه المشابهة بينهما فى ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها فى محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هى بذلك، كما عند البخارى فى باب وفاته- صلى الله عليه وسلم- فقالت: لقد راجعته وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع فى قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به.

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (664) فى الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) تقدم فى الذى قبله.

(3) تقدم.

وقد نقل الدمياطى: أن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهى فى «الفجر المنير» مما عزاه لسيف الدين بن عمر فى كتاب «الفتوح» أن الأنصار لما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه- صلى الله عليه وسلم- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه على بن أبى طالب كذلك. فخر- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبى- صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنى لاحق بربى، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» إلى آخرها، وإن الأمور تجرى بإذن الله تعالى، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «2» ، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، إلا وإنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، إلا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علىّ غدا فليكفف يده ولسانه، إلا فيما ينبغى، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا برّ الناس، برّهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم.

وفى حديث أنس عند البخارى: قال: مرّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبى

__________

(1) سورة العصر: 1، 2.

(2) سورة محمد: 22.

- صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» .

وقوله «كرشى وعيبتى» أى موضع سرى أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم فى أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك. لأن المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يجمع ثيابه فى عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى يقال: عليه كرش من الناس، أى جماعة، قاله فى النهاية.

وذكر الواحدى بسند وصله بعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت عائشة فقال:

«حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إنى لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله فى بلاده وعباده، فإنه قال لى ولكم:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3» » ، قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى جنة المأوى» ، قلنا: يا رسول الله، من يغسلك؟ قال: «رجال من أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال: «فى ثيابى هذه وإن شئتم فى بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية» ، قلنا: يا رسول الله، من يصلى عليك؟

قال: «إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفير

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى المناقب، باب: قول النبى اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئاتهم. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(2) سورة القصص: 83.

(3) سورة الزمر: 60.

قبرى، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا علىّ وسلموا تسليما، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال أهل بيتى، ثم نساؤهم، ثم أنتم، واقرؤا السلام على من غاب من أصحابى ومن تبعنى على دينى، من يومى هذا إلى يوم القيامة» ، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟

قال: «أهلى مع ملائكة ربى» . وكذا رواه الطبرانى فى «الدعاء» وهو واه جدّا.

وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذى غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم فى الرفيق الأعلى» ، فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذى كان يحدثنا وهو صحيح «1» . وفى رواية: أنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلىّ ظهره يقول: «اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى» «2» . رواه البخارى من طريق الزهرى عن عروة.

وما فهمته عائشة من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم فى الرفيق الأعلى» أنه خير، نظير فهم أبيها- رضى الله عنه- من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن عبدا خيره الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» أن العبد المراد هو النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى بكى كما قدمته. ذكره الحافظ ابن حجر.

وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة:

أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «ما من نبى يقبض إلا يرى الثواب ثم

__________

(1) صحيح: أخرجه البخارى (4437) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3496) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

يخير» «1» . ولأحمد أيضا، من حديث أبى مويهة قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربى فاخترت لقاء ربى والجنة» «2» . وعند عبد الرزاق من مرسل طاووس، رفعه: «خيرات بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى، وبين التعجيل فاخترت التعجيل» ، وفى رواية أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عند النسائى، وصححه ابن حبان: فقال اسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره: أن الرفيق الأعلى، المكان الذى تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وقال ابن الأثير فى «النهاية» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد حظيرة القدس.

وفى كتاب «روضة التعريف بالحب الشريف» : لما تجلى له الحق ضعفت العلائق بينه وبين المحسوسات والحظوظ الضرورية من أوانى معانى الترقيات البشرية، فكانت أحواله فى زيادة الترقى، ولذلك روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل يوم لا أزداد فيه قربا من الله فلا بورك لى فى طلوع شمسه» . وكلما فارق مقاما واتصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص، وسار على ظهر المحبة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذى الجلال، والاتصال بالمحبوب الذى كل شئ هالك إلا وجهه.

وقال السهيلى: الحكمة فى اختتام كلامه- صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا.

قال الحافظ ابن رج




كلمات دليلية: