withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


المبحث الأول: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة النساء من كتاب الدين المعاملة

المبحث الأول: هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرة النساء من كتاب الدين المعاملة

اسم الكتاب:
الدين المعاملة

المبحث الأول: هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرة النساء

الأسرة هي قوام المجتمع، وهي المحضن الطبيعي لتخريج جيل من الأبناء الأسوياء الذين يعمرون الأرض بطاعة الله، وهذه الأسرة قوامها الأساس الوالدان اللذان يبنيان معاً هذه المؤسسة على قاعدة متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة بينهما.

وحديثنا في هذا المقام عن زوج لا كالأزواج، عن سيد الأزواج - صلى الله عليه وسلم -، نتسور حائط بيته لنطل على بعض جوانب حياته الخاصة - صلى الله عليه وسلم -، نرنو منه تعلم أصول العشرة بين الزوجين، فحديثنا عن معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع نسائه وأهل بيته تمس إليه حاجة كل منا، وهو هدية نخص بها كل زوج لا يعرف قيمة رباط الزوجية الوثيق، فيسيء إلى شريكة حياته، فيشتمها، أو يرفع صوته عليها، أو يغاضبها؛ لأن طعامها تأخر نضجه بضع دقائق، أو لأنها خالفته الرأي في مسألة ما أو لغيره من الأسباب التافهة التي لأجلها نقيم الدنيا ولا نقعدها.

ومن أعجب ما رأينا من صور سوء المعاملة؛ ما درج عليه بعض الأزواج، فتراه مع أصحابه طلْقَ المحيا براقَ الثنايا، فإذا ما وصل إلى عتبة بيته أخفى ابتسامته وتصنع تكشيرة وعبوساً،

يدعي أنه يحفظ بهما رجولته ووقاره في بيته، وما درى المسكين أن لا علاقة بين العَبُوس والرجولة إلا في مخيلة أشباه الرجال.

مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته:

ولو تطفلنا على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاصة، وسألنا زوجه الأثيرة عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا مع نسائه؟! لسمعنا الجواب: (كان كرجلٍ منكم لنسائكم، إلا أنه كان أكرمَ الناس خُلُقاً، وأبينَ الناس، ضاحكاً بساماً - صلى الله عليه وسلم -) (1).

ولا عجب أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كذلك فهو القائل: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً»، وفي رواية: «إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» (2)، وكان يقول: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي» (3).

__________

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ح (4386)، ولكن معناه صحيح فقد شهد له وصف أم معبد له بأنه حسن الخلق بسام. انظر الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (6/ 252).

(2) أخرجه الترمذي ح (1162)، وأبو داود ح (4682)، وأحمد ح (23648).

(3) أخرجه الترمذي ح (3895)، وابن ماجه ح (1977).

وهكذا يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ميزاناً فريداً للخيرية، لا يقوم على كثرة الصيام ولا طول القيام، إنما يستمد قيَمَه من الإحسان إلى الزوجةِ خصوصاً، والأبناءِ والأهلِ عموماً.

ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته يأنف من شيء مما يأنف منه بعض الأزواج، ويرونه قادحاً بالرجولة وغير متناسب مع مَقامِها، فيتركون خدمة أنفسهم في البيت، ويأنفون من مساعدة زوجاتهم في أعباء المنزل، فلا تراه إلا صارخاً يطلب الماء تارة، والطعام تارة، وبقية حاجاته الشخصية في تارات أخرى، وكأنه يقيم في فندق من فنادق النجوم الخمسة، ومن يشاركه البيت هم خدمه الخاص، ولهؤلاء نذكر ما تقوله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصفه - صلى الله عليه وسلم -، فقد سئلت: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ فقالت: (كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمةَ أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية: (كان بشراً من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسه) (1).

__________

(1) أخرجه البخاري ح (676)، والرواية الثانية رواها الترمذي في الشمائل المحمدية ح (337).

قال المناوي: " فيه ندب خدمة الإنسان نفسَه، وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل" (1).

ويضيف ابن بطال: "من أخلاق الأنبياء التواضعُ، والبعدُ عن التنعم، وامتهانُ النفس، ليُستنَّ بهم، ولئلا يَخلُدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} (المزمل: 11) (2).

ومن عجيب ما نسمع من أخبار بعض الأزواج أنه يكثر السمر والسهر خارج البيت أو مع ضيوفه، ولا تجده كذلك مع زوجه التي لا تسمع منه إلا توجيه الأوامر: اصنعي ولا تصنعي، ولربما تكبر هذا المسكين عن الجلوس إلى زوجته ومباسطَتِها وتبادلِ الحديث معها.

ولهذا وأمثاله نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغم كثرة أعبائه ومشاغله جلس مرة يسامر زوجه عائشة، فسمع منها قصة عشر نسوة في الجاهلية، تحكي كل واحدة منهن قصتها مع زوجها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع لذلك كله بإصغاء وسرور، والحديث طويل معروف مشهور بحديث أمِ زَرْع، فلم تمنعه

__________

(1) فيض القدير (5/ 300).

(2) فتح الباري (10/ 461).

أعباء الأمة وواجبات الرسالة عن الوفاء بحق زوجه في المؤانسة والمباسطة.

قال النووي: "قال العلماء: في حديث أم زرعٍ هذا فوائد، منها استحباب حسن المعاشرة للأهل" (1).

وبعض الأزواج لربما يؤانس زوجته في الحديث في بعض الأوقات دون بعض، فهو لا يطيق كلامها إذا أتى من عمله متعباً أو كان الوقت في الليل متأخراً، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كذلك، فمؤانسته - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه ولطفُه لا يعرف وقتاً دون وقت، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي [في قيام الليل] جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوٌ من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع ثم سجد؛ يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك، فإذا قضى صلاته نظر، فإن كنت يقظى تحدث معي، وإن كنت نائمة اضطجع) (2).

ولو عرض هذا الأمر على بعض الناس، فقيل له بأن فلاناً يجالس زوجته ويسامرها في الساعات الأخيرة من الليل، لأجاب بأن هذا وقت السحر، وقت القيام والتهجد

__________

(1) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 221).

(2) أخرجه البخاري ح (1119).

والدعوات، وقوله صحيح، لكن السمر مع الزوجة هو أيضاً من عظيم العبادات وفاضِلها.

ومن ملاطفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه مسابقتُه لعائشة رضي الله عنها، تحكي أم المؤمنين أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر: فسابقتُه فسبقْتُه على رجليِّ، فلما حملت اللحم سابقتُه فسبقني. فقال: «هذه بتلك السبقة» (1).

ومن عجيب لطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صنعه مع عائشة حين جاء بعض الأحباش، ليلعبوا في المسجد بحرابهم، تقول عائشة: (فسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف)، وتعقِّب عائشة رضي الله عنها على هذا الهدي الجميل بدعوة المسلمين إلى التأسي به - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدُروا قدْر الجارية الحديثةِ السن) (2).

ولئن كان الكثير من الأزواج يأنف من استشارة أزواجهم في قراراتهم الخاصة أو المتعلقة بشؤون الأسرة، فيرى أن من حقه الانفراد بالقرار دون استشارة زوجته التي تشاركه الحياة وآلامها، وما درى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسدد بالوحي - استشار

__________

(1) أخرجه أبو داود ح (2578).

(2) أخرجه البخاري ح (5190)، ومسلم ح (892).

أزواجه في قضايا تتعلق بالأمة، لا بالأسرة فحسب، كما في استشارته لزوجه أم سلمة يوم الحديبية.

والقصة بتمامها أنه لما وقّع النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاق الحديبية كان من شروطه أن يعود النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة من غير اعتمار، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقال: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا»، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات.

فلما لم يقم منهم أحد؛ دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: (يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ وتدعو حالِقَك فيحلِقَك، فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالِقه فحلَقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتل بعضاً غماً) (1).

وينبه ابن حجر في شرحه الحديث إلى جملة من فوائده: "فيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغَ من القول المجرد .. وجوازُ مشاورة المرأة الفاضلة، وفضلُ أم سلمة ووفُورُ عقلها" (2).

__________

(1) أخرجه البخاري ح (2734).

(2) فتح الباري (5/ 347).

وهكذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير زوجه ويأخذ برأيها، ولا يأنف من ذلك، ولا يراه قدحاً في عقله أو رجولته أو رأيه.

ومازال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي مرة بعد مرة بحسن عشرة النساء وحسن التعامل معهن، ومراعاة طبيعة الاختلاف في الطبيعة بين جنس الذكورة والأنوثة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً» (1)، وضلع المرأة هو غلبة العاطفة عليها بما يوقعها في الخلاف مع الرجل الذي تغلب عليه العقلانية في التحليل والتفكير.

وفي هذا الحديث تكررت وصاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء حتى حال الإساءة، وفيه تنبيه على أمور مهمة، "في الحديث الندبُ إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها" (2).

__________

(1) أخرجه البخاري ح (3331)، ومسلم ح (1468).

(2) فتح الباري (9/ 254) وفي المطبوع: " وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن". ولعله تصحيف.

وفي حجة الوداع وأمام جموع الصحابة وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكراً بحقوق النساء على أزواجهن، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم [أي مثل الأسيرات عندكم] .. ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشَكُم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كِسوتهن وطعامهن» (1).

التعامل مع المرأة الغيراء:

ولن يفوتنا هنا التنبيه على حال تضطرب فيها النساء، فيحصل منها ما قد يؤدي إلى نفرة وجفاء، وهو حال الغيرة، والغيرة صفة حميدة يتصف بها المؤمنون والمؤمنات، لكن البعض وخاصة من النساء تستبد بها الغيرة، فتخرج عن طور الاعتدال إلى الإفراط الذي يسيء إلى الحياة الزوجية ويصبغها بطابع النكد وكثرة الخصام.

وتزداد الغيرة في المرأة إذا كان لزوجها أكثر من زوجة، فتراها ترتاب بظلمه لها وتجافيه عنها بحق وبغير حق، ولعلها تتهمه بالميل إلى ضرتها بمبرر وبغير مبرر.

__________

(1) أخرجه الترمذي ح (1163)، وابن ماجه ح (1851).

ومن أراد التعرف على قدر غيرة النساء على أزواجهن؛ فليصغ إلى قصة ترويها عائشة رضي الله عنها تصف غيرتها وغيرة النساء بني جنسها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة مرة لعائشة وحفصة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء الليل سار مع عائشة يتحدث.

فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين وأنظر؟ [أي تجرب كل منا جمل الأخرى وترى كيف هو] فقالت عائشة: بلى. فركبتُ.

فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فغارت، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: (يا رب سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له [أي للرسول] شيئاً) (1)، وهذا الذي فعلته وقالته رضي الله عنها "حملها عليه فرْطُ الغَيرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه" (2) لغلبته على المرأة.

__________

(1) أخرجه البخاري ح (5211)، ومسلم ح (2445)، واللفظ له.

(2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 210).

فكيف لنا أن نتعامل مع غيرة زوجاتنا، وكيف نتصرف تجاه ما يصدر منهن من حب صادق دفعهن لتصرف خاطئ معنا، فالحب ينتج غيرة، والغيرة تحتاج إلى رفق وروية، كما تحتاج إلى عدل وإنصاف.

إن التأمل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيفية تعامله مع مثل هذه المواقف يكشف عن تقديره - صلى الله عليه وسلم - لما يستتر خلف الغيرة من حب كامن له في قلب زوجه ورغبتها أن تكون الأثيرة عنده - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا يقرأ الزوج الوفي المحب الموقف السلبي بعين مفعمة بالحب والرضا.

وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس عند بعض نسائه، فترسل إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام إلى رسول الله، وهو في بيت ضرتها، فتغار الزوجة صاحبة البيت، فتضرب يد الخادم، فتسقط الصحفة من يده وتنفلق ويتناثر ما فيها من الطعام.

وقبل أن نسترسل في معرفة ردة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه هذه الإساءة من زوجه التي غارت من أختها، أود أن أسأل قارئي الكريم عما سيفعله لو حصل هذا الفعل من زوجته.

وقبل أن يجيبني بما أعرف من المعهود في أخلاقنا وتصرفاتنا أنقل ما صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد جمع فِلَق الصحفة، ثم

جمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، وهو يقول: «غارت أمكم»، لينتهي الموقف بيسر ولطف.

لكن غيرة الزوجة صاحبة البيت لا تبرر الظلم الذي لحق بالثانية، لذا سارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رد الحق لصاحبته، فحبس النبي - صلى الله عليه وسلم - الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسرت (1)، وفي رواية أنه قال: «طعام بطعام، وإناء بإناء» (2)، فتغاير النساء لن يمنع العدل بينهن.

ويستخرج ابن حجر من هذه الحادثة جملة من الفوائد، ويهمنا هنا أن "فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها، لأنها في تلك الحالة يكون عقلُها محجوباً بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة، وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعاً: «أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه» (3).

وهو - صلى الله عليه وسلم - لن يغتفر إساءة الواحدة منهن إلى الأخرى بسبب غيرتها، لما فيه من ظلم للأخرى وهتك لحرمتها، لذا لما

__________

(1) أخرجه البخاري ح (5225).

(2) أخرجه الترمذي ح (1359).

(3) فتح الباري (9/ 325)، والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده ح (4670).

تحدثت عائشة بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفية فقالت: يا رسول الله، إن صفية امرأة. وأشارت بيدها هكذا، كأنها تعني قصيرة.

فلم يغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها قولها، بل قال ناصحاً ومؤدباً ورافضاً الاستماع للغيبة: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتْه» (1)، وهذا الحديث "من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ" (2).

وبينما هو - صلى الله عليه وسلم - جالس بين أزواجه أتته عائشة بخزيرة [وهو لحم ينثر عليه الدقيق]، تقول عائشة: فقلتُ لسودة - والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها-: كلي، فأبتْ، فقلتُ: لتأكلِن أو لألطخن وجهكِ، فأبتْ، فوضعتُ يدي في الخزيرة، فطليتُ وجهها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضع بيده لها [أي لسودة]، وقال لها: «الطخي وجهها»، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، فحول النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكمته تغاير أزواجه إلى موقف باسم عمّق من خلاله قيم الحب والعدل والوئام.

__________

(1) أخرجه الترمذي ح (2502)، وأبو داود ح (4875)، واللفظ له.

(2) نقله عنه المناوي في فيض القدير (5/ 525).

(3) أخرجه أبو يعلى ح (4476).

وهكذا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتمل غيرة زوجاته، ويرشِّد هذه الغيرة فلا يسمح لواحدة منهن أن تظلم أختها، وهو من جهته - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم العدل بينهن ويكرمهن جميعاً، كيف لا وهو القائل: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (1).

ولنصغ إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تحدث عن موقف غريب لها في غيرتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: لما كانت ليلتي التي هو عندي؛ انقلب فوضع نعليه عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، ثم انتعل رويداً، وأخذ رداءه رويداً، ثم فتح الباب رويداً، وخرج رويداً.

ولم تطق عائشة خروجه في ليلتها، وغارت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وظنت أنه يذهب في ليلتها إلى بعض أزواجه، وكيف لا تغار على حبيبها - صلى الله عليه وسلم -، ومثله يُغار عليه، تقول: جعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري، وانطلقت في إثره، حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات، فأطال.

__________

(1) أخرجه مسلم ح (1827).

ثم تحكي عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى بيته، فأسرعت، ودخلت البيت قبله، وتصنعت النوم، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - معاتباً: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله .. فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، ولم يدخل عليَّ وقد وضعتِ ثيابَكِ، فناداني فأخفى منكِ، فأجبتُه؛ فأخفيته منكِ، فظننتُ أن قد رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي، فأمرني أن آتي البقيع، فأستغفر لهم» (1).

وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - سألها: «أغرتِ يا عائشة»؟ فقالت: ومالي ألا يغار مثلي على مثلِك؟ (2).

وهكذا نرى في معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه وأهل بيته ما يصلح الكثير من الأوضاع الخاطئة في حياتنا الاجتماعية، ويحاصر التصرفات المشينة التي يصنعها البعض مع أزواجه، وينقلنا للحديث عن مثال أسمى يقدم سيد الأزواج محمد - صلى الله عليه وسلم -.

__________

(1) أخرجه النسائي ح (2037)، وأحمد ح (25327).

(2) أخرجه مسلم ح (2425).



كلمات دليلية: