في هذا المقطع من سيرته عليه الصلاة والسلام دلالات ثلاث نجملها فيما يلي:
أولا- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حينما صدع بالدعوة إلى الإسلام في قريش وعامة العرب، فاجأهم بما لم يكونوا يتوقعونه أو يألفونه. تجد ذلك واضحا في ردّ أبي لهب عليه، ثم في اتفاق معظم المشركين من زعماء قريش على معاداته ومقاومته.
وفي ذلك الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا الدين بشرعته وأحكامه، ثمرة من ثمار القومية ويدعون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها، آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين.
وليس الباحث بحاجة إلى أن يتعب نفسه بأي ردّ أو مناقشة لهذه الدعوى المضحكة عندما يطلع على سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم. فالذين يروجون لها بين الناس هم أول من يعلم سخفها وبطلانها.
ولكنها على كل حال دعوى لابد منها في نظرهم من أجل إزاحة الدين وسلطانه عن سبيل المبادئ والأفكار الأخرى. فليس المهم أن تكون الدعوى صحيحة حتى يمكن الترويج لها، ولكن المهم أن تكون مصلحتهم وأغراضهم تتطلب ترويج ذلك وادعاءه، ولعلك لم تنس ما ذكرناه مفصلا فى المقدمة الخامسة بصدد هذا الموضوع.
ثانيا- كان من الممكن أن لا يأمر الله رسوله بإنذار عشيرته وذوي قرباه خاصة، اكتفاء بعموم أمره الآخر وهو قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ إذ يدخل أفراد عشيرته وذوو قرباه في عموم الذين سيصدع أمامهم بالدعوة والإنذار، فما الحكمة من خصوصية الأمر بإنذار العشيرة؟
والجواب: أن في هذا إلماحا إلى درجات المسؤولية التي تتعلق بكل مسلم عموما وأصحاب الدعوة خصوصا.
فأدنى درجة في المسؤولية هي مسؤولية الشخص عن نفسه. ومن أجل إعطاء هذه الدرجة حقها استمرت فترة ابتداء الوحي تلك المدة الطويلة التي رأيناها، أي ريثما يطمئن محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه إنما هو وحي من الله عز وجل فيؤمن هو بنفسه أولا ويوطن ذاته لقبول كل ما سيتلقاه من مبادئ ونظم وأحكام.
أما الدرجة التي تليها، فهي مسؤولية المسلم عن أهله ومن يلوذون به من ذوي قرباه.
وتوجيها إلى القيام بحق هذه المسؤولية خصص الله الأهل والأقارب بضرورة الإنذار والتبليغ بعد أن أمر بعموم التبليغ والجهر به. وهذه الدرجة من المسؤولية يشترك في ضرورة تحمل أعبائها كل مسلم صاحب أسرة أو قربى. وليس من اختلاف بين دعوة الرسول في قومه ودعوة المسلم في أسرته بين أقاربه، إلا أن الأول يدعو إلى شرع جديد منزل عليه من الله تعالى، وهذا يدعو بدعوة الرسول الذي بعث إليه، فهو يبلغ عنه وينطق بلسانه. وكما لا يجوز للنبي أو الرسول في قومه أن يقعد عن تبليغهم ما أوحي إليه، فكذلك لا يجوز لرب الأسرة أن يقعد عن تبليغ أهله وأسرته ذلك، بل يجب أن يحملهم على اتباع ذلك حملا ويلزمهم به إلزاما.
أما الدرجة الثالثة: فهي مسؤولية العالم عن حيه أو بلدته، ومسؤولية الحاكم عن دولته وقومه، وكل منهما ينوبان في ذلك مناب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ هما الوارثان الشرعيان له، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العلماء ورثة الأنبياء» . ولتسمية الإمام والحاكم خليفة، أي خليفة لرسول الله.
على أن العلم والدراية من لوازم الإمام والحاكم في المجتمع الإسلامي، فليس من خلاف بين طبيعة المسؤولية المنوطة برسول الله صلّى الله عليه وسلم والمنوطة بالعلماء والحكام في الاتساع والشمول. إلا أن الرسول يبلغ- كما قلنا- شرعا جديدا يوحى إليه من الله عز وجل، أما هؤلاء فيمشون على قدمه ويهتدون بهديه ويلتزمون سنته وسيرته فيما يفعلون ويبلغون.
وإذن فقد كان صلّى الله عليه وسلم يتحمل المسؤولية تجاه نفسه، بوصف كونه مكلفا. وكان يتحمل المسؤولية تجاه أسرته وأهله، بوصف كونه رب أسرة وذا آصرة قربى، ثم كان يتحمل المسؤولية تجاه الناس كلهم، بوصف كونه نبيا ورسولا مرسلا من الله عز وجل.
ويشترك مع النبي صلّى الله عليه وسلم في الأولى، كل مكلف، وفي الثانية كل صاحب أسرة، وفي الثالثة العلماء والحكام.
ثالثا- عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه أن يأسروا أنفسهم للتقاليد الموروثة عن أبائهم
وأجدادهم دون تفكر منهم في مدى صلاحها أو فسادها، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من أسر الاتباع الأعمى وعصبية التقاليد التي لا تقوم على شيء من أساس الفكر والمنطق.
وفي هذا دليل على أن مبنى هذا الدين- بما فيه من عقائد وأحكام- إنما هو على العقل والمنطق، وأن المتوخى في التمسك به إنما هو مصلحة العباد العاجلة والآجلة- ولذلك كان من أهم شروط صحة الإيمان بالله وما يتبعه من أمور اعتقادية أخرى- أن يقوم على أساس من اليقين والفكر الحر، دون أدنى تأثر بأي عرف أو تقليد، حتى قال صاحب جوهرة التوحيد في أرجوزته المعروفة:
فكل من قلد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد
ومن هنا تعلم أن الدين جاء حربا على التقاليد، والدخول في أسرها. إذ هو قائم في كل مبادئه وأحكامه على أساس العقل والمنطق السليمين، على حين أن التقاليد قائمة على مجرد باعث الاقتداء والاتباع، أي دون أن يكون فيه لعنصر البحث والتفكير الحر أي تأثير. إذ أن كلمة (التقاليد) إنما تعني، في وضع اللغة العربية وما تواضع عليه عرف علماء الاجتماع: «مجموع العادات التي يرثها الآباء عن الأجداد، أو التي تسري، بمجرد عامل الاحتكاك في بيئة من البيئات أو بلدة من البلدان بشرط أن يكون عامل التقليد المجرد هو العصب الرئيسي الذي يمتدّ في تلك العادات من أجل الحياة والبقاء» .
فجميع ما اعتاده الناس من أنماط الحياة في مجتمعاتهم، ومن مظاهر اللهو في أفراحهم، ومن أشكال الحداد في مآسيهم وأحزانهم، مما حاكته عوامل التوارث القديم أو الاقتباس التلقائي عن طريق التأثر والاحتكاك جميع ذلك يسمى في اصطلاح اللغة وعلم الاجتماع (تقاليد) .
إذا علمت هذا، أدركت أن الإسلام لا يمكن أن ينطوي على شيء مما يسمى بالتقاليد، سواء ما كان منه متعلقا بالعقيدة أو مختلف النظم والأحكام. إذ العقيدة قائمة على أساس العقل والمنطق.
والأحكام قائمة على أساس المصالح الدنيوية والأخروية، وهي مصالح تدرك بالتفكير والتدبّر الذاتي وإن قصر عن إدراكها فهم بعض العقول لبعض العوارض والأسباب.
وإذا تبين لك هذا، أدركت مدى خطورة الخطيئة التي يقع فيها من يطلقون كلمة (التقاليد الإسلامية) على مختلف ما يتضمنه الإسلام من العبادات والأحكام التشريعية والأخلاقية.
إذ من شأن هذه التسمية الظالمة وترويجها، أن توحي إلى الأذهان أن قيمة السلوك والخلق الإسلامي ليست بسبب كونهما مبدأ إلهيا يكمن فيه سر سعادة البشر- كما هو الحق- وإنما بسبب أن كلّا من النظام والخلق الإسلامي إنما هو عادات قديمة موروثة من الآباء والأجداد. ولا ريب أن
النتيجة القطعية لهذا الإيحاء أن يضيق أكثر الناس ذرعا بهذا الميراث القديم الذي يراد فرضه على المجتمع في عصر كل ما فيه متطور ومتقدم وجديد.
والواقع أن إطلاق هذا الشعار على الأحكام الإسلامية، ليس في مصدره خطيئة عفوية، وإنما هو حلقة في سلسلة حرب الإسلام بالشعارات الباطلة والمدسوسة.
فالغرض الأول من ترويج كلمة (التقاليد الإسلامية) ، هو أن يؤتى بمعظم نظم الإسلام وأحكامه، ويسدل فوقها شعار (التقاليد) حتى إذا مرّ على ذلك زمن، وارتبط معنى التقاليد بنظم الإسلام وأحكامه في أذهان الناس، ونسوا أن هذه النظم إنما هي في حقيقتها مبادئ قائمة على أساس ما يقتضيه العقل والبحث السليم، أصبح من السهل على أعداء الإسلام أن يحاربوه من النقطة التي تنفذ إليها حرابهم وسهامهم.
إن جميع ما أتى به الإسلام من نظم وتشريعات، إنما هو مبادئ والمبدأ هو ما يقوم على أساس من التفكير والعقل، ويستهدف الوصول إلى مقصد معين. وإذا كانت المبادئ البشرية قد تخطئ الصواب أحيانا لشذوذ في أفكار أصحابها، فإن مبادئ الإسلام لا تخطئ الصواب أبدا لأن الذي شرعها هو خالق العقول والأفكار. وفي هذا وحده دليل عقلي كاف للاقتناع بهذه المبادئ واليقين بوجاهتها وصوابها.
إذ لا ريب أن المسلمين إذا استفاقوا ليجدوا معظم مبادئ الإسلام وأحكامه، كشؤون الزواج والطلاق، وحجاب المرأة وصيانتها، وعامة قضايا السلوك والأخلاق، قد أسبل من فوقه رداء (التقاليد) ، فإن من الطبيعي أن يجدوا بعد ذلك من يدعو إلى نبذ التقاليد والخروج عن أسرها وكسر قيودها، خصوصا في هذا العصر الذي أصبحت السيادة فيه لحرية الرأي والتفكير.
ولكن الحقيقة أن الإسلام لا تقاليد فيه.
إنه الدين الذي جاء لتخليص العقل من براثن التقاليد، كما رأينا في أولى خطوات الدعوة التي قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
أما التقاليد، فإنما هي تلك التيارات السلوكية التي ينجرف فيها الناس تلقائيا بمجرد باعث المحاكاة والتقليد لدى الإنسان.
المبادئ، هي الخط الذي يجب أن ينضبط به تطور الزمن، لا العكس.
والتقاليد، هي مجموعة الطفيليات التي تنبت تلقائيا وسط الحقول الفكرية للمجتمع. فهي الحشائش الضارة التي لا بد من اجتثاثها وتنقية سبيل التفكير السليم عنها.
,
أتذكر خبر أولئك الذين استقبلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى الطائف، شرّ استقبال، وأخرجوه من ديارهم شرّ إخراج، وألحقوا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه ويؤذونه ويسخرون منه؟ .. تلك هي ثقيف التي سعت اليوم إليه ودخلت في دين الله تعالى صادقة طائعة.
وهل تذكر إذ قال زيد بن حارثة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد عاد أدراجه من الطائف إلى مكة: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام:
يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» !.
إن ما حدث اليوم هو مصداق ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد، فتلك هي الطائف، وهذه مكة وشتى قبائل وبطون العرب قد سعت جمعيها تدخل في دين الله أفواجا.
ثم تعال فتأمل! .. تأمل في كل ذلك الإيذاء الذي رآه من ثقيف والخيبة التي فوجئ بها بعد أن هاجر ساعيا على قدميه يعبر إليهم جبالا وأودية قاصية مؤملا عندهم استقبالا كريما أو استجابة حسنة. إن أدنى ما يترك ذلك في نفس الإنسان- أيّا كان- من الناس من الأثر، أن يفكر في الانتقام أو أن يقابل إساءة بمثلها.
ولكن أين تجد هذا- أو حتى شيئا من هذا- في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم تجاه ثقيف، لقد حاصر الطائف أياما ثم أمر أصحابه بالرجوع، فقيل له: ادع على ثقيف، فأبى ذلك ورفع يديه يقول: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم مؤمنين» ! ..
ولما استجاب الله دعاء رسوله فجاء وفد ثقيف إلى المدينة، تسابق أبو بكر الصديق والمغيرة بن شعبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبشّرانه بذلك، لما يعلم كل منهما من شدة سرور النّبي صلّى الله عليه وسلم بنبأ إسلام ثقيف وهدايتهم، فخرج يستقبلهم في بشر وإكرام، وراح يحبس عليهم وقته كله يعلّمهم ويرشدهم وينصح لهم.
طالما أرادوا به الكيد وشفوا بإيذائه غليل أحقادهم عليه، وهو لا يريد بهم إلّا الخير والسعادة والرشد في الدنيا والآخرة، طالما فرحوا بمنظر النكبة والضّر يرى متلبسا بهما، ولكنه لم يفرح لهم إلا بنعمة الخير والإسلام إذ أكرمهم بهما الله! ..
ترى، أهذا كله طبيعة بشرية في إنسان، يدعو إلى مبدأ يراه أو عقيدة قد تخيّرها؟!
أما إنها ليست إلا طبيعة النبوّة.. وليست إلا من أثر تطلّعه عليه الصلاة والسلام إلى هدف واحد فقط، هو أن تؤتي هذه الدعوة ثمارها فيلقى ربه وهو عنه راض. وما أهون الآلام والنكبات كلها في هذا السبيل، وما أعظم الفرحة إذ يجتاز العبد تلك المفاوز كلها ويستقر عند هذا الهدف الجليل! ..
وذلك هو الإسلام: لا يعرف حقدا ولا ضغينة ولا يريد شرا بإنسان.
يأمر بالجهاد، ولكن في غير ضغينة وحقد. يعلّم القوة، ولكن في غير أنانية وكبر. يدعو إلى الرحمة، ولكن في غير مهانة أو ضعف. ويعلّم الحب، ولكن في سبيل الله وحده.
إذن، لقد كان وفد ثقيف، والوفود الأخرى التي تلاحقت متجهة إلى المدينة داخلة في الإسلام، كان كل ذلك وفاء بوعد (النصر العزيز) الذي وعد الله به رسوله.
*** تلك هي العبرة التي ينبغي أخذها من قصة هذه الوفود. أما الدروس والأحكام فإليك منها ما يلي:
أولا- جواز إنزال المشرك في المسجد إذا كان يرجى إسلامه وهدايته: فقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستقبل وفد ثقيف في مسجده لمحادثتهم وتعليمهم، وإذا كان هذا جائزا للمشرك، فجوازه للكتابيّ أولى. وقد استقبل النبي صلّى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، حينما جاؤوه لسماع الحق ومعرفة الإسلام.
قال الزركشي: واعلم أن الرافعي والنووي رحمهما الله أطلقا أنه يجوز للكافر أن يدخل المساجد غير الحرم بإذن المسلم، بقيود:
أولها: أن لا يكون قد شرط عليه في عقد الذمة عدم الدخول، فإن كان قد شرط عليه ذلك، لم يؤذن له.
ثانيها: أن يكون المسلم الذي أذن له مكلفا، كامل الأهلية.
ثالثها: أن يكون دخوله لسماع قرآن أو علم ورجي إسلامه، أو دخل لإصلاح بنيان ونحوه، وقضية كلام القاضي أبي علي الفارقي أنه لو دخل لسماع القرآن أو العلم وهو ممن لا يرجى
إسلامه أنه يمنع وليس لنا أن نأذن له في الدخول، أي كما إذا كانت الحالة تشعر بالاستهزاء أو بالمجاملة السياسية ابتغاء غرض معين كما هو شأن كثير من الأجانب اليوم.
فأما إذا استأذن لنوم أو أكل ونحوه، قال في الروضة: ينبغي أن لا يؤذن له في دخوله لذلك، وظاهره الجواز: وقال غيره- أي غير النووي- لا يجوز لنا أن نأذن له في ذلك. قال الفارقي: «وفي معنى ذلك، الدخول لتعلم الحساب واللغة وما كان في معناه. ولا خفاء أن موضع التجويز إذا لم يخش على المسجد ضرر ولا تنجيس ولا تشويش على المصلين» «124» .
قلت: وأهم من ضرر التشويش ضرر الفتنة التي قد يتعرض لها المصلون بدخول نساء كافرات وهن بأزيائهن الفاضحة. ومثل الدخول للنوم والأكل في المنع، الدخول للنظر في معالم البناء ونقوشه.
ثانيا- حسن معاملة الوفود والمستأمنين: والفرق بين الوفد والمستأمن، أن الأول قادم رسولا عن قومه وهو يكون دائما مكونا من عدة أفراد، أما الثاني فقادم لنفسه يطلب الأمان في بلاد المسلمين ريثما يأخذ علما عنهم وعن الإسلام.
فأما المستأمن فقد أمر الله بحسن استقباله والمحافظة عليه ثم إبلاغه مأمنه عندما يريد ذلك، وذلك بصريح قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.. [التوبة 9/ 6] .
وأما الوفود، فقد دلّ على هذا الحكم أيضا في حقهم، القياس على المستأمن، وعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حسن سياسته ومعاملته معهم، فقد رأيت كيف أكرم الرسول صلّى الله عليه وسلم وفد ثقيف في القدوم والإقامة.
ثالثا- أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمهم بكتاب الله تعالى: ولذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على ثقيف، فقد أعجبه ما رأى فيه من الحرص على فهم كتاب الله تعالى ولقد أصبح خلال الفترة التي أقامها في المدينة مع أصحابه، أعلمهم بكتاب الله وأفقههم في الإسلام. والإمارة والولاية ليس كل منهما إلا مسؤولية دينية يراد منها إقامة الحكم والمجتمع الإسلامي فلا بدّ من توفر هذا الشرط فيهما.
رابعا- وجوب هدم الأوثان والتماثيل: وليس من شرط وجوب ذلك أن يكون هناك من يعبدها أو يقدسها، بل الحكم في ذلك عام وشامل لكل حالة، لعموم الدليل هنا، ولدليل أمره صلّى الله عليه وسلم بتحطيم تلك التماثيل التي استخرجت من جوف الكعبة، مع أنها لم تكن تعبد كتلك
__________
(124) إعلام الساجد للزركشي: 319- 321 باختصار.
الأصنام الأخرى، وهذا يدل على ما كنا قد ذكرناه من حرمة صنع التماثيل على اختلاف أنواعها وأشكالها، وعلى حرمة اقتنائها مهما كانت أسباب ذلك «125» .
*** هذا ولنكتف بهذا الذي ذكرناه من خبر وفد ثقيف، عن تفصيل ذكر أخبار الوفود الكثيرة الأخرى، التي قدمت خلال هذا العام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لعدم تعلق غرض كبير في هذا المقام بذلك.
غير أن مما ينبغي أن تعلمه، أن هذه الوفود كانت في مجموعها تمثل فئتين: إحداهما فئة المشركين، والثانية فئة أهل الكتاب.
فأما المشركون، فقد دخل عامتهم في الإسلام، وما رجعت وفودهم إلا وهي تحمل مشعل الإيمان والتوحيد إلى قومها. وأما أهل الكتاب فقد بقي أكثرهم على ما هم عليه، من اليهودية أو النصرانية.
ولقد كان الوفد الذي جاء يمثل نصارى نجران مؤلفا من ستين رجلا، ولقد لبثوا عنده صلّى الله عليه وسلم أياما يجادلهم ويجادلونه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ووحدانية الله تعالى.
وكان آخر ما عنده صلّى الله عليه وسلم لهم أن تلا عليهم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 3/ 59، 60، 61] .
فلما أبوا أن يقروا، دعاهم إلى المباهلة «126» كما أمره الله بذلك، وذهب عليه الصلاة والسلام فأقبل مشتملا على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له، وفاطمة رضي الله عنها تمشي خلفه، للمباهلة.
فأبى رئيس وفدهم، وهو شرحبيل بن وداعة، المباهلة أيضا وحذر أصحابه من عاقبة ذلك عليهم. فأقبلوا إليه صلّى الله عليه وسلم يحكّمونه فيما دون كلّ من الإسلام والمباهلة، وينزلون عند حكمه في ذلك. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجزية وكتب لهم بذلك كتابا، والتزم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم- إن دفعوا الجزية المتفق عليها- أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا- أي غدرا أو خيانة- أو يأكلوا الربا «127»
***
__________
(125) انظر ص 279 فما بعد من هذا الكتاب.
(126) المباهلة: أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب.
(127) رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة بتفصيل مطول، وروى خبر المصالحة على الجزية، أبو داود أيضا في كتاب الخراج، باب أخذ الجزية، وانظر قصة وفد نصارى نجران في تفسير ابن كثير: 1/ 368، 369
,
كان قدوم عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخبر إسلامه، في الفترة التي قدم عليه فيها الوفود من كل جهة وصوب ونستطيع أن نعده في مجيئه هذا واحدا من تلك الوفود الكثيرة التي سعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعلن إسلامها.
غير أنّا آثرنا إفراد خبر عديّ بالتفصيل والتأمل، لما فيه من العبر الهامة المتعلقة بأسس العقيدة الإسلامية، ولما فيه من تحليل دقيق، بل وتجسيد واضح لشخصية سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تلك الشخصية التي ظهرت جلية واضحة لعديّ بن حاتم، مصفّاة عن شوائب الزعامة والملك وحب الإمارة أو الكبرياء والجاه، لا يتراءى فيها سوى الإعلام بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين، فكانت أساس إيمانه وسرّ هدايته.
فلنتأمل فيما تأمل فيه عدي.. ولنعتبر بما اعتبر به عديّ، لنزداد إيمانا ويقينا بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولنزداد يقينا بمعنى المكيدة التي تكمن خلف دراسات محترفي الغزو الفكري في العالم الإسلامي.. ولنقف قليلا أمام السمة التي صوّر بها عديّ شخصية النبي عليه الصلاة والسلام كما رآها فتأثر بها، فكانت سرّ إيمانه.
يقول عديّ: «فو الله إنه لعامد بي إلى داره، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك» .
أجل فما أبعد الطامع بالملك أو المؤمل في الزعامة والمجد الدنيوي، عن الصبر على مثل هذه الوقفة. ولئن صابر نفسه فتصنع لذلك وقسرها على ما تكره، فما أسرع ما تظهر دلائل المصانعة من ضجر وتأفف. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد كانت هذه سجيته وطبيعته، في كل حال. فما كان يتميز على أصحابه في مجلس، وما كان يعلو في معيشته وحياته من مستوى الفقراء والمساكين، وما أثر أنه صلّى الله عليه وسلم أكل على خوان قط، وما رؤي أصحابه صلّى الله عليه وسلم يكدّون في عمل شاق إلا كان النبي صلّى الله عليه وسلم منهمكا فيه معهم. كانت هذه صفته صلّى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى، فأي سرّ يمسكه على هذه الحال (مع ما فيه من الخصال التي لو أحب أن يتعلق بها لرفعته إلى مكانة عالية لا ينتهي إليها أحد غيره) غير سرّ النبوة التي أكرمه الله بها؟!
ويقول عديّ: «فلما دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا. فقذفها إليّ فقال:
__________
(128) رواه ابن إسحاق، والإمام أحمد، والبغوي في معجمه بألفاظ متقاربة، وانظر الإصابة للحافظ ابن حجر: 2/ 461، وترتيب مسند الإمام أحمد: 21/ 108
اجلس على هذه ... فجلست عليها، وجلس هو على الأرض! .. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك» .
ولعل عديا- وهو الذي كان ذا مكانة مرموقة في قومه- كان يحسب أن يجد بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ينطق بشيء من المعنى الذي كان هو يتمتع به، ولكنه فوجئ بعكس ذلك، وفوجئ برسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربع جالسا أمامه على أرض يابسة! .. ونظر، فإذا بالدار تنطق بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس من تلك المظاهر التي كان يتوقع رؤيتها، في شيء! .. أفيكون مع ذلك ينشد من وراء دعوته هذه ملكا ويسعى وراء ثروة أو مجد؟! ..
ويصف عدي رضي الله عنه بعد ذلك، حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكيف استشف فيه الغيب المتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين.
قال له: «ليوشكن المال أن يفيض في المسلمين حتى لا يوجد من يأخذه» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد بعث عمر بن عبد العزيز عامله بأموال الزكاة لتوزيعها على المستحقين في جهات من إفريقية ولكنه عاد بها ثانية لأنه لم يجد من يأخذها، فاشترى بها أرقاء وأعتقهم.
وقال له: «ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد امتد فوق هذه الرقعة أمن الإسلام وسلامه، فما من عابر سبيل فيها يخاف شيئا غير الله عز وجل والذئب على غنمه، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر.
وقال له: «وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت على المسلمين» ، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد سمعنا بذلك ورأينا، والحمد لله الذي أنجز ما وعد به رسوله عليه الصلاة والسلام.
لقد وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سبب إسلامه، وانخلاعه عن مظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه.
وإذا توفر عقل مفكر، وتوفرت معه حرية في التأمل، فلا مفر إذن من قبول الحق والإيمان به مهما شقّ السبيل إلى ذلك. أما إذا فقدت حريّة الفكر وضاعت قدسية العقل، ونبتت في مكانها قدسية الحقد الهوي، فلا مناص من العكوف على الباطل، ولا مفر من معانقة الجهل أو التجاهل، ولا نعمة تفوق نعمة العمى أو التعامي.
وصدق رب العالمين إذ يبين لنا صفات هؤلاء: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت 41/ 5] .
بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام
وكما أقبلت الوفود تسعى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإعلان إسلامها: فقد أخذ هو أيضا يبعث رسله يتفرقون في شتى الجهات، وخاصة في جنوب الجزيرة، لتعليم الناس مبادئ الإسلام وأحكامه.
فقد انتشر أمر الإسلام في الجزيرة ومختلف أطرافها، وأصبحت الحاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام حتى يستقر في قلوبهم بعد أن انتشر في ربوعهم.
فأرسل صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نجران ليدعو من هناك إلى الإسلام ويعلمهم مبادئه وأحكامه، كما أرسل عليا رضي الله عنه إلى اليمن «129» .
وأرسل صلّى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن أيضا بثّ كلّا منهما إلى طرف من أطرافها، ووصّاهما قائلا: «يسرا ولا تعسّرا، وبشرا ولا تنفّرا، وتطاوعا» «130»
وقال لمعاذ:
«إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «131» .
وفي مسند الإمام أحمد أنه صلّى الله عليه وسلم خرج مع معاذ إلى ظاهر المدينة يوصيه ومعاذ راكب، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته. ثم قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا! ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» فبكى معاذ لفراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «132» .
ولبث معاذ في اليمن إلى ما بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان الأمر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
,
أهم ما ينبغي على المسلم أن يفهمه من أمر هؤلاء الرسل وأمثالهم الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(129) طبقات ابن سعد، وسيرة ابن هشام، وفي البخاري: أرسل خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب إلى اليمن، وانظر صحيح البخاري: 5/ 110
(130) متفق عليه.
(131) متفق عليه.
(132) مسند الإمام أحمد: 21/ 214
لأمر الدعوة إلى الإسلام وتعليم مبادئه وأحكامه أن مسؤولية الإسلام في أعناق المسلمين في كل عصر وزمن ليست من السهولة واليسر كما يتصور معظمهم اليوم.
فلا يكفي أن ندّعي الإسلام بألسنتنا المجردة، كما لا يكفي أن يكون نصيبه من حياتنا بعض أعمال يسيرة، كانت في أصلها جليلة، ثم تحولت في حياتنا إلى عادات وتقاليد، بل ولا يكفي أن يتمسك الواحد منا بالإسلام لنفسه فقط، ثم يغلق بابه دونه لا يسأل عن شيء.
لا ترتفع مسؤولية الإسلام عن أعناق المسلمين حتى يضيفوا إلى هذا، القيام بواجب الدعوة إليه والتبشير به، والسفر في سبيل ذلك إلى شتى الجهات والقرى والبلدان.
تلك هي الأمانة التي ألقاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أعناقنا، وذلك هو الواجب الذي لا محيص عنه في كل عصر ومكان. وقد أجمع العلماء والأئمة الأربعة أن القيام بحق هذه الدعوة في داخل البلدة التي يقيم بها المسلمون وخارجها، فرض كفاية على كل المسلمين، ولا يتحللون من مسؤوليته وجريرة التقصير فيه إلا بقيام جمهرة منهم تنتشر فيما تستطيع أن تنتشر فيه من الجهات والبلدان داعية إلى الله تعرض حجج الإيمان وبراهين الإسلام وتزيل ما قد يعترض أذهان الناس إلى ذلك من الشبه والوساوس المختلفة، بحيث تقع أعمال هذه الجمهرة موقعا من الكفاية في القيام بهذا الواجب. وما لم تتوفر هذه الفئة في كل بلدة من بلاد الإسلام فجميع أهل تلك البلدان آثمون.
والصحيح الذي ذهب إليه جمهور الأئمة والفقهاء، أن هذا الواجب الخطير لا يتعلق بأعناق الذكور من المسلمين فقط، بل هو عام يشمل الرجال والنساء والأحرار والعبيد، ما داموا داخلين في ربقة التكليف قادرين على القيام بأعباء الدعوة والتوجيه، كل حسب حدود إمكاناته ووسائل استطاعته 13» .
*** ثم إن التوصية التي زود بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى الأشعري، تدل على بعض الآداب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله تعالى أثناء ما يقوم به من توجيه وتعليم.
فمن ذلك أن يغلّب جانب التيسير على التشديد والتضييق، وأن يعتمد على التبشير أكثر من الإنذار أو التهديد، وهو ما سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتنفير.
وقد أوضح ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثال تطبيقي، فأمر معاذا أن يدعو الناس أولا إلى الإقرار بالشهادتين، فإن هم استجابوا لذلك، فليدعهم إلى إقام الصلاة، فإن هم استجابوا لذلك، فليدعهم إلى دفع الزكاة.. وهكذا.
__________
(133) انظر مغني المحتاج: 4/ 211، والأحكام السلطانية للماوردي.
غير أن مظاهر التيسير والتبشير، ينبغي أن لا تتجاوز حدود المشروع والمباح، فليس من التيسير المطلوب أو المشروع تبديل بعض الأحكام أو التلاعب بمفاهيم الإسلام بغية التيسير على الناس، وليس منه الإقرار على المعصية مهما كان شأنها، وإن كان للتيسير المشروع دخل في اختيار الوسيلة التي ينبغي أن تستعمل لإنكارها.
ومن آداب الدعوة إلى الله، (وهي من آداب الإمارة والولاية أيضا) الاحتراز عن التلبس بظلم أي إنسان، وخاصة ما يكون منه بأخذ شيء من أموال الناس بغير حق، وهو نوع خطير من الظلم قد يتعرض له الدعاة إلى الله تعالى إذا ما غفلوا عن حقيقة مسؤولياتهم ومراقبة الله عز وجل لهم، كما يتعرض له أرباب الولاية والسلطان.
ولما كان معاذ رضي الله عنه متسما بكلا الصفتين لدى إرسال الرسول صلّى الله عليه وسلم له إلى اليمن: أي صفة الدعوة، وصفة الإمارة والولاية، فقد شدّد النبي عليه في التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الظلم، قائلا:
«واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .
,
في أحداث هذا القسم الأخير من سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، تلوح قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود!. الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين، وطغيان البغاة والمتألهين. إنها الحقيقة التي تمدّ صفحة هذا الوجود المائج كله، بغاشية الانتهاء والفناء. وتصبغ الحياة البشرية بصبغة العبودية والذل لقهار السموات والأرض. حقيقة تسربل بها (طوعا أو كرها) العصاة والطائعون، والرؤساء والمتألهون، والرسل والأنبياء، والمقربون والأصفياء، والأغنياء والفقراء، ودعاة العلم والاختراع!.
إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان، وفي أذن كل سامع وعقل كل مفكر: «أن لا ألوهية إلا لله وحده، وأن لا حاكمية إلا لذاك الذي تفرد بالبقاء، فهو الذي لا مردّ لقضائه، ولا حدود لسلطانه، ولا مخرج عن حكمه، ولا غالب على أمره» .
أيّ حقيقة تنطق بهذه الدلالة نطقا لا لبس فيه ولا غموض أعظم من حقيقة الموت وسكرة الموت إذ قهر الله بهما سكان الدنيا كلها منذ فجر الوجود إلى أن تغيب شمسه؟! ..
لقد مرّ في معبر هذه الدنيا كثير من أولئك المفتريّن الذين غرقوا في شبر من القوة التي أوتوها، أو العلوم التي فهموها، أو المخترعات التي اكتشفوها، ولكن هذه الحقيقة الكبرى سرعان ما انتشلتهم وألقت بهم في بيداء العبودية وأيقظتهم إلى صحو التذلل لقيوم السماوات والأرض مالك الملك كله، فقدموا إلى الله عبيدا أذلاء خاضعين.
كل نفس ذائقة الموت! ..
إطلاق لا قيد فيه، وعموم لا مخصص له، وشمول ليس للدنيا كلها أن تجعل له حدّا. فليأت دعاة العلم الجديد، والرقي الحديث، ومتوثبو الغزو الفضائي فليجمعوا أمرهم وليضفروا جميع إمكاناتهم المختلفة وليحشدوا كل أقمارهم المصنوعة ومراكبهم المشروعة، فليستعينوا بذلك كله على أن يزيحوا عن أنفسهم شيئا من سلطان هذا الموت الذي قهرهم واستذلهم، وليبطلوا بذلك ولو جزءا من هذا التحدي الإلهي: كل نفس ذائقة الموت. فإن فعلوا ذلك فإن لهم حينئذ أن يشيدوا لأنفسهم صروحا عالية من الجبروت والطغيان والتأله والكفران، وإلا فأحرى بهم أن يتفرغوا
للتأمل في تلك القبور التي سيغيبون في أحشائها والتربة التي سيمتدون من تحتها، وفي القبضة التي سوف لن ينجوا من حكمها.
ولقد كان من اليسير على الله عز وجل أن يجعل مرتبة رسوله صلّى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلامه، ولكن الحكمة الإلهية شاءت أن يكون قضاء الله تعالى في تجرع هذا الكأس بشدتها وآلامها عاما لكل أحد مهما كانت درجة قربه من الله جلّ جلاله، حتى يعيش الناس في معنى التوحيد وحقيقته، وحتى يدركوا جيدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، فليس لأحد أن يتمطى ليعلو بنفسه عن مستوى العبودية بعد أن عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاضعا لحكمها ونزل به قضاؤها. وليس لأحد أن لا يكثر من ذكر الموت وسكرته، بعد أن عانى حبيب الله تعالى من برحائها وغشيته آلامها.
وهذا المعنى هو ما أوضحه كلام الله جلّ جلاله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر 39/ 30] .
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء 21/ 134، 135] .
وإذن فنحن في هذا القسم الأخير من سيرته عليه الصلاة والسلام أمام مشهد لحقيقتين هما دعامتا الإيمان بالله عز وجل، بل هما دعامتا الحقيقة الكونية كلها:
حقيقة توحيد الله عز وجل، وحقيقة العبودية الشاملة التي فطر الله الناس كلهم عليها، ولا تبديل لحكم الله وأمره.
*** والآن.. فلنستعرض ما يوجد في ثنايا هذا البحث من الدروس الأحكام.
أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:
فقد كان زيد بن حارثة رقيقا وهو والد أسامة هذا، وهو في أصله مولى، وكان أسامة كما قلنا فتى صغيرا بين الثامنة عشر والعشرين من العمر. ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرا على عامة الصحابة في غزوة مهمة كبرى! .. ولئن وجد المنافقون في هذا مثارا للتعجب أو الاستنكار، فإن شريعة الإسلام لا تستغرب ذلك ولا تستنكره، فما جاء الإسلام إلا ليحطم مقاييس الجاهلية التي كانوا بها يتفاضلون ويتفاوتون. ولعلّ النبي صلّى الله عليه وسلم وجد في أسامة ميزة جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش في هذه الغزوة. وليس على المسلمين في هذا الحال إلا السمع والطاعة وإن أمّر عليهم عبد حبشي، ولذلك كان أول عمل قام به أبو بكر رضي الله عنه في خلافته هو إنفاذ جيش أسامة. وخرج رضي الله عنه فشيّع جيشه بنفسه ماشيا وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن. فقال أبو بكر: والله
لا نزلت ولا ركبت، وما عليّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟ ولقد رجع أسامة رضي الله عنه من هذه الغزوة منصورا ظافرا وكان في تسيير ذلك الجيش نفع عظيم للمسلمين «20» .
ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:
وهي التعويذة. ودليل ذلك ما رويناه من حديث البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوّذات ومسح عنه بيده.. إلخ.
وقد كان صلّى الله عليه وسلم يرقي أصحابه بالقرآن آنا، وبالأذكار والأدعية أخرى. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس ربّ الناس، واشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها. ومن أوضح الأدلة على مشروعية الرقية بالقرآن الكريم قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] .
والفرق بين الدعاء والرقية أن الرقية تزيد عليه المسح باليد والنفث بالفم، وهو النفخ بدون ريق، في الأصح
ثم إنه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى جواز أخذ الأجر على الرقية، وفصّل أبو حنيفة فمنعها على تعليم القرآن وأجازها على الرقية «21» ، ودليل ذلك حديث البخاري ومسلم أن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: «هل فيكم راق، فإن سيّد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فشفي الرجل، فأعطي قطيعا من غنم فأبى أن يقبلها، وقال:
حتى أذكر ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلم، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسّم وقال: وما أدراك أنها رقية؟ ثم قال: خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم» .
وقد نقل النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما الإجماع على مشروعية الرّقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وأن يكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثّر بذاتها، بل بذات الله تعالى «22» .
__________
(20) تاريخ الطبري: 3/ 22
(21) انظر شرح النووي على مسلم: 14/ 118
(22) راجع النووي على مسلم: 14/ 169، وفتح الباري لابن حجر: 10/ 152
وقد دلّت على هذه الشروط أحاديث صحيحة مثل ما رواه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا نرقي في الجاهلية، فقلنا: «يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك» .
السحر والرّقية منه:
ولقد كان من أهم ما رقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفسه بالمعوّذات منه، السحر الذي سحره به لبيد بن الأعصم في الحديث الذي رواه الشيخان.
ولقد ذكر العلماء أن جمهور المسلمين على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، ودليله هذا الحديث، وذكر الله تعالى له في كتابه، وأنه مما يتعلم، وذلك لا يكون إلا فيما له حقيقة ما. وقوله سبحانه وتعالى عنه فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة 2/ 102] ، والتفريق بين المرء وزوجه شيء حقيقي كما هو معروف.
وقد يستشكل بعضهم هذا الذي نقول لسببين:
الأول: كون السحر بحد ذاته حقيقة ثابتة، إذ هو فيما يتوهمه البعض أمر مناف لقضية التوحيد وانحصار التأثير لله وحده.
الثاني: أن يقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سحر، فذلك مما يحط (في وهمهم) من منصب النّبوة ويشكّك الناس فيها.
والحقيقة أنه لا إشكال في الأمر ألبتة. أما الجواب عن الوهم الأول، فهو أن اعتبار السحر حقيقة ثابتة لا يعني كونه مؤثرا بذاته بل هو كقولنا السّمّ له مفعول حقيقي ثابت، والدواء له مفعول حقيقي ثابت، فهذا كلام صحيح لا ينكر. غير أن التأثير في هذه الأمور الثابتة إنما هو لله تعالى. وقد قال الله تعالى عن السحر وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، فقد نفى الله عزّ وجلّ عن السحر التأثير الذاتي، ولكنه أثبت له في الوقت نفسه مفعولا ونتيجة منوطة بإذن الله تعالى.
وأما الجواب عن الوهم الثاني، فهو أن السحر الذي أصيب به صلّى الله عليه وسلم إنما كان متسلطا على جسده وظواهر جوارحه كما هو معروف. لا على عقله وقلبه واعتقاده. فمعاناته من آثاره كمعاناته من آثار أي مرض من الأمراض التي يتعرض لها الجسم البشري لأي كان، ومعلوم أن عصمة الرسول صلّى الله عليه وسلم لا تستلزم سلامته من الأمراض والأعراض البشرية المختلفة.
قال القاضي عياض: «وأما ما جاء في الحديث من أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه صلّى الله عليه وسلم داخلة نقص أو عيب في شيء من تبليغه أو شريعته، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا (أي مما يدخل أي داخلة نقص في تبليغ الشريعة) ، وإنما هذا فيما يجوز طروّه من أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا فضّل من أجلها،
وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما حصل» «23» .
قلت: وهو كما يحصل للمريض عند شدّة الحّمى، فمن الأعراض الطبيعية لذلك أن تطوف بالذهن أخيلة وأوهام غير حقيقية لشدة وطأة الحرارة، والأمر في ذلك وأشباهه من الأعراض البشرية التي يستوي فيها الأنبياء والرسل مع غيرهم من الناس.
على أن خبر سحره صلّى الله عليه وسلم، إنما يدخل في جملة الخوارق التي أكرم الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم، فهو ليس مثار نقيصة له، وإنما هو دليل جديد من أدلة إكرام الله له، وحفظه إياه. فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وظل يكثر من الدعاء حين شعر بهذه الأعراض في جسمه إلى أن أطلعه الله على المكيدة التي صنعها له لبيد بن الأعصم في السّر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه وأسباب سحره فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ذلك وإليك نص الحديث:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا. ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب (أي مسحور) ، قال: من طبّبه؟
قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة «24» وجف طلع نخل ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها النّبي صلّى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه.. فجاء فقال:
يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين! .. قلت يا رسول الله:
أفلا استخرجته، قال: لقد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرّا، فأمر بها (أي البئر) فدفنت» .
فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله لرسوله أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه في جسمه أو أي جانب يتعلق ببشنريته.
بقي أن أحدا قد يستشكل قائلا: فكيف تتميز المعجزة الإلهية إذن عن السحر ومظاهره مادام أن له حقيقة؟
والجواب، أن المعجزة التي تحصل على يد النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما تكون مقترنة بدعوى النّبوة والتحدي بها كدليل على صدق دعواه. وليس السحر كذلك فلا يمكن أن يتم على يد الساحر مع
__________
(23) شرح الشفاء للقاضي عياض: 4/ 278، 279، وانظر أيضا شرح النووي على مسلم: 14/ 174
(24) المشط معروف، والمشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، وجف الطلع: هو الغشاء الذي يكون على الطلع.
دعوى أنه نبي «25» . هذا إلى أن سلطان السحر محدود، فهو وإن كان له حقيقة كما قلنا، غير أن حقيقته لا تتجاوز حدودا معينة، ولا يمكن أن يتوصل به إلى قلب الحقائق وتبديل جواهر الأشياء، ولذلك عبر الله سبحانه وتعالى عن السحر الذي صنعه سحرة فرعون بقوله: قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] ، فعبر عما رآه موسى، من صنيعهم بالخيال، أي فالحبال لم تنقلب في الحقيقة إلى ثعابين بسحرهم الذي فعلوه، وإنما الذي اتجه إليه سحرهم هو أبصار المشاهدين فقط فهي التي سحرت لا الحبال والعصيّ. وهذا ما أوضحته الآية الأخرى وهي قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 66] . وإذا تأملت في هذا الذي نقول، علمت أنه لا تنافي بين ما ذكرناه من أن السحر حقيقة ثابتة، وقوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] ، إذ إن انقلاب 8 الحبال ثعابين تسعى، خيال. أما تأثّر العين بهذا الخيال وضعفها عن رؤية الحقيقة فذلك هو مفعول السحر وحقيقته لما أصاب العين هذا الذي أصابها، وهذا التحقيق يؤكد لك أيضا أن مناط السحر دائما هو جسم الإنسان أو حواسه وجوارحه، تظهر بسببه بعض المرئيات أو المحسوسات على غير حقيقتها.
ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:
وفيما أسلفنا من قصة مرضه صلّى الله عليه وسلم أربع دلائل على ما لأبي بكر رضي الله عنه من المزية والفضل عند رسول الله.
الأولى: حينما بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطابه بقوله: «عبد خيّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» . فقد أدرك أبو بكر ما يعنيه عليه الصلاة والسلام ولذلك أخذه البكاء وصرخ قائلا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ولم ينتبه أحد غيره إلى هذا الذي استشعره رضي الله عنه من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فقد جاء في بعض طرق هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه لما بكى أبو بكر لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قلت في نفسي: «ما يبكي هذا الشيخ أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبرنا عن عبد خيّر فاختار؟ قال: فكان رسول الله هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به» .
الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر.. الحديث، وإنها لكلمات خوالد ما سجّل مثلها لغير أبي بكر رضي الله عنه.
الثالثة: ما ذكرناه من رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه صلّى الله عليه وسلم قال لها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» . وإن هذا الحديث ليعدّ بمثابة النص على استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلم له من
__________
(25) راجع النووي على صحيح مسلم: 14/ 175
بعده، ولئن كانت الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه عهدا بذلك وأن لا يسجل لهم كتابا به، فكل ذلك كي لا يصبح توارث الحكم والخلافة سنّة متبعة من بعده، وفي ذلك من مفسدة القضاء على اتباع شروط الصلاح في الحاكم ما هو غير خاف على أحد.
الرابعة: استخلافه رضي الله عنه للصلاة بالناس في مكانه، ولقد رأيت مدى شدته في تعيين أبي بكر لذلك وردّه الشديد على عائشة رضي الله عنها فيما راجعته به.
ولئن كنا نقول إن هذه المزايا الثابتة في صحاح الأحاديث لأبي بكر رضي الله عنه، هي التي رجحت مبايعة المسلمين له بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهذا لا يغض من خصائص وميز الصحابة والخلفاء الآخرين خصوصا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد رأيت أنه صلّى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: «لأعطينّ هذه الراية غدا لرجل يحبه الله ورسوله» ، فذهب الناس يتساءلون في تلك الليلة من سيكون صاحب الراية. فكان صاحبها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولقد انتهى أمر الخلافة وأبرم المسلمون الحكم فيها عقب وفاته صلّى الله عليه وسلم، دون أن يستلزم ذلك أي تفرق أو شقاق بينهم من وراء حدود المذاكرة والمناقشة التي لا بدّ منها. وظل كل من أبي بكر وعلى رضي الله عنهما مظهرا ولسانا ناطقا بفضل الآخر. ولا ريب أن من تافه القول والعمل أن نعمد بعد مرور ما يقارب أربعة عشر قرنا على ذلك التاريخ فنضيع الوقت ونستثير الشحناء والبغضاء، في سبيل القول بأن هذا كان أولى بالخلافة أم ذاك، مع أن أصحاب العلاقة أنفسهم لم يقم بينهم أي شقاق من هذا القبيل، وما مضوا للقاء ربّهم إلا وهم ينبضون بقلب واحد حبّا وتضامنا.
رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:
ولقد رأيت من صيغة الحديث الدّال على ذلك شدة النهي والمبالغة في التحذير من الإقدام على هذا العمل. قال العلماء: «وإنما نهى النّبي صلّى الله عليه وسلم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية» .
وتتحقق صورة النهي عنه بأن يشاد فوق القبر مسجد فيصبح ما حول القبر مصلى بذلك للناس، أو بأن يصلّى عند القبر وأن يتخذ مسجدا. والعلماء في حكمهم على الصلاة عند القبور، بين محرم ومكره، والذين قالوا بالكراهة شددوا بها عندما تكون الصلاة إلى القبر، أي بأن يكون القبر بين المصلي والقبلة، ولكنها صحيحة على كلّ، لأن الحرمة لا تستلزم البطلان. فيكون حكمها كحكم الصلاة في الأرض المغصوبة.
قال الإمام النووي: «ولما احتاج الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيها،
ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين على ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر» «26» .
خامسا- شعوره صلّى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:
وإنا لنستطيع أن ندرك شعوره وما كان قد انصرف إليه تفكيره وهمّه في تلك الساعة مما ذكرنا. فقد رأينا أنه بينما كان الناس مصطفين لصلاة فجر يوم الإثنين إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة رضي الله عنها قد كشف، وبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسّم يضحك، حتى نكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف وكاد الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحا به صلّى الله عليه وسلم، ولكنه أشار إليهم بيده أن أتّموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
لقد كان تفكيره إذن منصرفا تلك الساعة إلى أمته، وإلى ما سيكون عليه حالهم من بعده..
وإنك لتشعر من نظرته الباسمة إلى أصحابه وهم يقفون خاشعين بين يدي الله تعالى، بمعنى الحب العظيم يفيض به فؤاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم، بل وإنك لتجد في ابتسامته مظهرا لما كان يخفق به قلبه من حبّهم والدعاء لهم والتوجه إليهم.
لقد أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) وهو يمرّ بآخر دقائق عمره أن يتزود من أصحابه رضوان الله عليهم بآخر نظره، وأن يطمئن إلى الحق الذي تركهم عليه والهداية التي أرشدهم إليها.. فأراه الله منهم ما طابت به نفسه وقرّت له عينه، حتى غلب ذلك المشهد آلام الموت السارية في جسده فغلبها، وإذا بالبشر والسرور والرضا يطفح كل ذلك على وجهه، حتى خيّل للصحابة أنه صلّى الله عليه وسلم قد نشط من أوجاعه، وعوفي من آلامه.
ولكنهم ما عرفوا إلا أخيرا أنه إنما وقف ينظر إليهم تلك النظرة لينقلب بها إلى سكرة الموت، وهي آخر لوحة تسجل في ذهنه لمشهد أصحابه، بل وأمته كلها، كي تكون هي العهد الباقي بينهم وبين الله عزّ وجلّ، ولتكون هي الهمزة الواصلة بين لحظة الوداع لأمته في الدنيا ولحظة الاستقبال لها في الآخرة على حوضه الموعود.
ولقد شاءت حكمة الله أن يكون هذا المشهد هو الصلاة! ..
وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون هي العهد الأخير..
فيا أخي المسلم: العهد العهد الذي فارقت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو راض يتبسّم.
__________
(26) النووي على مسلم: 5/ 13، 14
خاتمة في بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره
كفّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، ولما أدرج في أكفانه، وضع على سريره على شفير القبر ثم دخل الناس أرسالا يصلون عليه فوجا فوجا لا يؤمهم أحد، فأولهم صلاة عليه العباس ثم بنو هاشم ثم المهاجرون ثم الأنصار، ثم سائر الناس. ودفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مكانه الذي توفي فيه في حجرة عائشة.
توفي عليه الصلاة والسلام عن تسع من النساء هن: سودة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وصفية، وميمونة، ولم يتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكرا غير عائشة رضي الله عنها.
له صلّى الله عليه وسلم ثلاثة بنين: القاسم (وبه يكنى) ولد قبل النبوة وتوفي وهو ابن سنتين، وعبد الله وسمي الطيب والطاهر، ولد بعد النبوة، وإبراهيم ولد بالمدينة سنة ثمان ومات بها سنة عشر.
وكان له أربع بنات: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. وكان وفاة رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة وكلتاهما كانتا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان صلّى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أحسنهم خلقا وخلقا، وألينهم كفا وأطيبهم ريحا، وأحسنهم عشرة، وأشدهم لله خشية. لا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. وكان خلقه القرآن، وكان أكثر الناس تواضعا يقضي حاجة أهله ويخفض جناحه للضعفة، وكان من أشد الناس حياء، وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يأكل متكئا ولا على خوان، وكان يحب الحلواء والعسل ويعجبه الدبّاء (اليقطين) . وكان يأتي الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار. وكان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويعود المريض ويجيب من دعاه من غني وفقير. كان فراشه من أدم حشوه ليف، وكان متقللا من أمتعة الدنيا كلها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها. وكان كثير الذكر دائم الفكر، جلّ ضحكه التبسم، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا.
وكان يتألف أصحابه ويكرم كريم كل قوم ويولّيه أمرهم. ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحته، ولقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط أفّ.
ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟» .
واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلّى الله عليه وسلم، من أعظم القربات إلى الله عز وجل، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا. لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له، فقد ذهب إلى أنّ زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم غير مشروعة. ودليل ما أجمع عليه المسلمين من دونه عدة وجوه:
الوجه الأول: مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، وقد ذكرنا فيما سبق أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يذهب كل ليلة إلى البقيع يسلّم على أهله ويدعو ويستغفر لهم، ثبت ذلك في الصحيح. والأحاديث الثابتة في تفصيل ذلك كثيرة. ومعلوم أن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها.
الوجه الثاني: ما ثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم والسلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة، روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بمن فيهم ابن تيمية رحمه الله.
الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلّى الله عليه وسلم، منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد، وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد، دون أن يؤثر عنهم أو عن أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك.
الوجه الرابع: ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما خرج يودع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» ، فكلمة (لعل) تأتي في أعمّ الأحوال للرجاء، وإذا دخلت (أن) على خبرها تمخضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلّى الله عليه وسلم وقبره ليسلم عليه «1» .
إذا تبين هذا، فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها في غير ما دافع والقول بأن زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم عمل غير مشروع! ..
__________
(1) هنالك أيضا طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلم في فضل زيارة قبره، لا يخلو معظمها من ضعف أو لين. وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذا للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ.
وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك، قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» ، وقوله: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وقوله: «لا تجعلوا قبري عيدا» .
وليس في شيء من هذه الأحاديث الثلاثة ما يصلح أن يكون مستندا لما انفرد به.
1- فقوله عليه الصلاة والسلام: لا تشد الرحال.. إلخ استثناء مفرغ كما هو معلوم والمستثنى منه محذوف، وإنما يقدر المستثنى من جنس المستثنى منه، وإلا كان استثناء منقطعا، وهو استثناء مجازي، ولا يجوز إضمار المجاز إلّا عند الضرورة التي لا تصلح معها الحقيقة.
فتقدير الحديث: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة منها.. إلخ فالمستثنى منه هو المساجد، والمعنى أن جميع المساجد في الفضل سواء، إلا هذه المساجد الثلاثة، فلا وجه لتفضيل بعضها على البعض في زيارة أو اعتكاف أو نحو ذلك. وعملا بهذا الحديث قال الفقهاء: إنه لو نذر الاعتكاف وسمى مسجدا معينا غير هذه المساجد الثلاثة، لم يجب عليه قصد ذلك المسجد بخصوصه ولم يسنّ، بل يغنيه أن يعتكف في أي مسجد من مساجد الدنيا.
أما حديثنا فهو عن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو ليس داخلا لا في المستثنى ولا في المستثنى منه، فالحديث بمعزل عن أي إشارة إليه، وهو كما لو قلت: لا يجوز أن تشد الرحال إلى زيارة الأرحام أو إلى العلماء لنتعلم منهم، لحديث لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد..
إلخ!! ..
ثم إننا نسأل بعد هذا: أفيفهم ابن تيمية من كلمة (شدّ الرحال) معناها الحقيقي، أم المعنى المجازي الذي هو القصد والعزم على الشيء؟
فإن كان يفهم منها المعنى الحقيقي، فينبغي ألا تحرم زيارة غير هذه المساجد الثلاثة من المساجد الأخرى إلّا إذا شدّ لذلك رحلا ثم مضى إليه بواسطة الرحل، قربت المسافة أو بعدت، فإن سعى إليه بوسيلة أخرى غير شدّ الرحال لم يعد ذلك حراما، وهل يقول عاقل بذلك؟
وإن كان يفهم من الكلمة معناها المجازي- وإنما المعنى المجازي لها هو الاتجاه إلى الشيء لا يقصد غيره- فإن عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعارضه ويرده. فقد كان صلوات الله عليه يزور مسجد قباء في كل أسبوع، وفي رواية كل يوم سبت، وقد كان مسجد قباء خارج المدينة.
والخلاصة، أن المستثنى منه في الحديث هو المساجد، وزيارة الأرحام والقبور والأشخاص والمعالم غير داخلة في المستثنى منه، فلا شأن للحديث بها. ومعنى الحديث: إن أولى المساجد بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة هذه المساجد الثلاثة.
2- وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لا شأن له بموضوع الزيارة
إطلاقا. إذ هو نهي عن اتخاذ قبور الأنبياء وما حولها مصلى على نحو ما مرّ بيانه قريبا، تعلم هذا من قوله (مساجد) إذ المساجد أماكن الصلاة. ولو استقام أن يكون مجرد زيارة القبر اتخاذا له مسجدا، لكان من مقتضى ذلك أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم قد جعل من البقيع كله مسجدا له، إذ كان يزوره دائما.
3- أما قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا» ، فإنما معناه لا تتخذوا لزيارة قبري وقتا معينا لا يزار إلا فيه كما هو شأن العيد، كما فسره بذلك الحافظ المنذري وغيره من علماء الحديث، ولا مانع أن يضاف إليه أيضا النهي عن إظهار الصخب واللهو ومظاهر الزينة عنده على نحو ما يكون في الأعياد. أما أن تدل الكلمة على النهي عن زيارة قبره، فإنها عن ذلك بمعزل وما كان النبي صلّى الله عليه وسلم لينهى الناس عن اتخاذ قبره عيدا بهذا المعنى المزعوم ثم يعمد هو فيتخذ من البقيع في كل يوم عيدا! ..
ثم اعلم أن لزيارة قبره آدابا لابدّ من اتباعها، فإذا أكرمك الله تعالى بالتوجه إلى زيارته، فاعقد العزم أولا على زيارة مسجده ثم انو مع ذلك زيارة قبره الشريف. ثم اغتسل قبيل دخولك المدينة، والبس أنظف ثيابك، واستحضر في قلبك شرف المدينة وأنك في البقعة التي شرّفها الله بخير الخلائق. فإذا دخلت المسجد فاقصد الروضة الكريمة، وصلّ ركعتي تحية المسجد ما بين القبر والمنبر. فإذا دنوت إلى القبر الشريف بعد ذلك، فإياك أن تهجم عليه أو تلتصق بالشبابيك أو تتمسح بها كما يفعل كثير من الجهال، فتلك بدعة توشك أن تكون محرمة. بل قف بعيدا عن القبر نحو أربعة أذرع ناظرا إلى أسفل ما يستقبلك من جدار القبر، وأنت غاضّ الطرف تستشعر الهيبة والإجلال، ثم سلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوت خفيض قائلا: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالة ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك كثيرا كما يحبّ ربنا ويرضى» .
ثم استقبل القبلة وانحرف إلى اليمين قليلا حتى تكون بين القبر والأسطوانة التي عند أول القبر وارفع كفيك بدعاء خاشع إلى الله جلّ جلاله، ولا تتوهم أن في هذا سوء أدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن الدعاء ينبغي أن يكون مع استقبال القبر، فإن الدعاء خطاب لله عز وجل والخطاب لله لا يجوز أن يشرك فيه غيره. وخير اتجاه إلى الله عز وجل لدعائه هو اتجاه القبلة، ولا تلتفت إلى كثرة من قد تراهم يخالفون هذا من الجهال والمبتدعين. وابدأ دعاءك قائلا: اللهم إنك قلت وقولك الحق: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء 4/ 64] ، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا برسولك إليك،
فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته. ثم أكثر من الدعاء لما تشاء من أمر دينك ودنياك ولإخوانك وعامة المسلمين.
ولا تنس يا أخي أن تخصّني أنا أيضا بشيء من دعائك، قل: «اللهم إذا جمعت الأولين والآخرين لليوم الذي لا ريب فيه فأسبل جميل سترك على عبدك المذنب محمد سعيد بن ملا رمضان وأدخله بمحض منّك وفضلك في عبادك المغفورين، وامنحه شربة هنيئة من حوض نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم يوم يقف عليه مشرق الوجه باسم المحيا يستقبل أصحابه الذين عرفهم وإخوانه الذين لم يرهم واشتاق إليهم، ولا تجعله من المطرودين أو المحرومين» .
عهد يسألك الله عنه يا أخي المسلم أيا كنت، أن تدعو لأخيك عند ختمك لهذا الكتاب. فما أحوجني إلى دعاء خالص من أخ لي في ظهر الغيب.
وأحمد الله تعالى وأشكره على توفيقه لتتميم هذا الكتاب، وأتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يرزقني حسن التمسك بسنة حبيبه المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأسأله سبحانه أن يتجاوز بالصفح عما قد أكون تلبست به في هذا الكتاب من زلات وأخطاء وأن يجعل شفيعي في ذلك سلامة القصد وبذل الجهد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
,
يدلّنا ما ذكرناه من الأحداث التي وقعت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أمور ومبادئ كثيرة نجملها فيما يلي:
أولا- إنما تّمت خلافة أبي بكر رضي الله عنه عن طريق الشورى، وقد اشترك في الأخذ بها سائر أهل الحلّ والعقد من الصحابة بمن فيهم سيّدنا علي رضي الله عنه. وقد دلّ ذلك على أن شيئا
__________
(5) انظر تاريخ الطبري: 3/ 428، وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي: 36
(6) البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 18
من النصوص في القرآن أو السّنة لم يقض بحقّ الخلافة بعد رسول الله لأحد. إذ لو كان في النصوص ما قضى بذلك، لما كان للشورى إلى ذلك من سبيل، ولما جاز للصحابة أن يتجاوزوا ما قضى به النص إلى ما اقتنعوا به واتفقوا عليه عن طريق الشورى.
ثانيا- إن الخلاف الذي دار في سقيفة بني ساعدة، بين كبار الصحابة، بصدد التشاور في اختيار خليفة لهم، أمر طبيعي يقتضيه طرح القضية على بساط البحث والمشورة. وهو دليل بيّن قاطع على حماية الشارع للآراء والاقتراحات المختلفة، من أي مصادرة أو تقييد، في كل ما لم يرد به نصّ ثابت صريح. وإنما سبيل الوصول إلى الحق في كل ما سكت الشارع عنه، هو طرح أكثر من رأي، ومناقشتها جميعا بموضوعية وحرية وصدق.
ولقد كانت المصيبة كبيرة، والمشكلة عويصة، لو أن الصحابة رضي الله عنهم، لم يجدوا أنفسهم إلا أمام خيار واحد، طرحوه للتصويت ثم انفضوا عن اتفاق عليه. إذن لكانت هذه الشورى عندئذ شورى مزيفة، ولكان الاتفاق مدفوعا إليه بجبر خارجي.
والعجب ممن ينشدون الشورى في الإسلام، ويتهمونه بالاستبداد، حتى إذا رأوا مظاهر الشورى ماثلة أمام أعينهم، سموها، جهلا منهم أو تجاهلا: صراعا وشقاقا. إذن فما هي الشورى التي في أذهانهم، وما هي صورتها، وكيف ينبغي أن تكون؟
ثالثا- نصيحة عليّ لأبي بكر، رضي الله عنهما، أن لا يتوجه بنفسه لقتال المرتدين، خوفا على المسلمين إن أصابه سوء، تدلّ دلالة واضحة على شدة محبة علي لأبي بكر، وعلى قناعته التامة بخلافته لرسول الله وجدارته بتولي أمر المسلمين، كما تدلّ على المستوى الباسق من التعاون والإخلاص الساريين فيما بينهما.
ومهما قيل عن تأخّر مبايعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما، ومهما ورد من خلاف في مدة تأخّر هذه المبايعة، فإن شيئا من ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة الثابتة ولا يعكرها.
ومن المعروف أن تأخّر مبايعة علي، إنما كانت مسايرة، أو مجاملة، لمشاعر فاطمة رضي الله عنها، التي كانت مقتنعة، من خلال اجتهادها، بأنها ترث من أبيها رسول الله، كما ترث كل أنثى من أبيها. ولم يكن هذا التأخّر بسبب حفيظة في نفس عليّ على أبي بكر. وأنى لصاحب هذه الحفيظة أن يقف هذا الموقف المليء بمعاني الغيرة والتعاون والحب؟! ..
رابعا- لا يتأمل مسلم في الموقف الذي وقفه أبو بكر، من القبائل المرتدة، والعزيمة الماضية التي تمتع بها في مقاومة هذه القبائل، والتي أبرزته في وضع متميز تقاصر عنه في بادئ الأمر جلّ الصحابة، بل جميعهم إلّا ويستيقن حكمة الله عزّ وجلّ التي وضعت الرجل المناسب في الوقت المناسب وأمام المهمة المناسبة. إن أيّا منّا لا يكاد يتصور أن في الصحابة كلهم من كان أجدر من أبي بكر بالوقوف في وجه تلك العاصفة، وردّها من حيث جاءت.
وحتى عمر الذي عرف بين الصحابة بشدته ومضاء عزمه، تقاصر عزمه وتراجعت شدته، أمام هذه العاصفة عن القوة التي تمتع بها أبو بكر. فمنذا الذي يرى هذه الحكمة الإلهية الباهرة، ثم يعتب على التاريخ وأهله، خضوعهما لسلطان هذه الحكمة الإلهية العادلة؟! ..
خامسا- قد يظن بعض الناس أن مجرد العهد والاستخلاف، يعدّ طريقة من طرق ثبوت الإمامة والحكم، مستدلّا بما عمل أبو بكر رضي الله عنه من العهد بالخلافة إلى عمر.
ولكن الأمر ليس كذلك، بل إن ثبوت الإمامة لا يتم إلا بعرض الأمر على المسلمين، ثم إعلانهم الرضا عن إمامة هذا الذي قد عهد إليه بها. فاستقرار الإمامة إنما يتم بهذا الرضا، أي فلو أن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يرض الناس به، فلا قيمة لذلك العهد.
ومن هنا نعلم، كما ذكرنا من قبل، أن خلافة عمر إنما قامت على مشورة ضمنية، اندرجت في إجماع الصحابة على الرضا عمن اختاره لهم أبو بكر.
,
أولا- علمنا أن من أول الأعمال التي قام بها عمر رضي الله عنه عزله لخالد بن الوليد. ولقد
__________
(8) ملخصا عن البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 147
لغا كثير من الكتاب المعاصرين في أمر هذا العزل، محاولين أن يجعلوا منه سبيلا للانتقاص من مكانة خالد رضي الله عنه.
غير أن تفسير هذا العزل واضح في عمل عمر نفسه، وفي كلامه الذي قاله عن خالد، وما تضمنه من الثناء عليه. فقد قال له، كما أسلفنا: والله يا خالد إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب. وكتب إلى أهل المصر يوضح سبب عزله له قائلا: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن عزلته شفقة على النفوس من سرعة هجماته وشدة صدماته «9» .
ولما أخبر عمر بمرض خالد، وكان عمر على مسيرة ثلاثة أيام من المكان الذي فيه خالد وهو المدينة، طوى هذه المسافة في ليلة واحدة. فأدركه وقد قضى نحبه، فاسترجع ورقّ عليه، وجلس عند باب داره حتى تمّ تجهيزه. ولما بكته البواكي قيل لعمر ألا تسمع؟ ألا تنهاهن؟ فقال:
وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع ولا لقلقة؟
ولما خرج عمر في جنازته رأى امرأة محرمة تبكيه فقال: من هذه؟ فقيل له: أمه. فقال:
أمّه؟ واها له، قالها ثلاثا. ثم قال: وهل قامت النساء عن مثل خالد «10» ؟
ثانيا- هذا الذي ذكرناه يقتضي أن خالدا توفي ودفن في المدينة. وإلى ذلك ذهب بعض المؤرخين. غير أن الجمهور ذهبوا إلى أن الصحيح أنه توفي ودفن في حمص، وهو ما رجّحه ابن كثير في البداية والنهاية. إذ الثابت أن خالدا اعتمر بعد أن عزله عمر ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات سنة إحدى وعشرين.
وعلى كل حال، فإن لسان عمر كان لسان ثناء على خالد، سواء في حياته وبعد مماته. روى ابن كثير عن الواقدي أن عمر رأى حجاجا قد قدموا من حمص، فقال: هل من خبر نعرفه؟
قالوا: نعم، مات خالد. فاسترجع عمر، ثم قال: كان والله سدادا لنحور العدوّ ميمون النقيبة.
غير أن ثناءه عليه لا يتعارض مع بعض المواقف الاجتهادية التي قد يختلف فيها رأي كل منهما عن الآخر، فيعمل كل منهما بالرأي الذي يراه.
وليت أن الذين ينتقصون من مكانة خالد لموقف عمر منه أو ينتقصون من مكانة عمر للموقف ذاته، يحيطون بالأمر من أطرافه، ويفرقون بين الموقف الاجتهادي المأجور عليه على كل حال، والانحراف الفكري أو السلوكي الذي يتنزه عنه أصحاب رسول الله.
ثالثا- من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر، ذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلي رضي الله عنهما، فقد كان عليّ هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات.
__________
(9) البداية والنهاية: 7/ 81
(10) المرجع ذاته.
وما اقترح عليّ على عمر رأيا إلّا واتّجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وحسبك في ذلك قوله: لولا عليّ لهلك عمر.
أمّا علي فقد كان يمحضه النصح في كل شؤونه وأحواله، وقد رأيت أن عمر استشاره في أن يذهب بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، فنصحه نصيحة المحب له الغيور عليه والضنين به، أن لا يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب وهو في مكانه. وحذّره من أنه إن ذهب، فلسوف ينشأ وراءه من الثغرات ما هو أخطر من العدو الذي سيواجهه.
أرأيت لو أن رسول الله أعلن أن الخلافة من بعده لعلي، أفكان لعلي أن يعرض عن أمر رسول الله هذا، وأن يؤيد المستلبين لحقه بل لواجبه في الخلافة، بمثل هذا التعاون المخلص البناء؟
بل أفكان للصحابة كلهم أن يضيعوا أمر رسول الله، بل أفكان من المتصور أن يجمعوا- وفي مقدمتهم عليّ رضي الله عنه- على ذلك؟
رابعا- كما أن خلافة أبي بكر جاءت في ميقاتها، الذي لم يكن يصلح له إلا أبو بكر، فكذلك خلافة عمر جاءت في ميقاتها الذي كان عمر من أصلح الناس له. لقد كان من أجلّ ما قام به أبو بكر إعادة تثبيت الإسلام بناء في الدولة ويقينا في النفوس بعد الاضطراب الذي نابه بسبب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولقد كان من أجلّ ما قام به عمر مدّ الفتوحات الإسلامية إلى أقصى بلاد الفرس والشام والمغرب، وبناء المدن وتدوين الدواوين، وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية كأقوى دولة حضارية فوق الأرض.
وهذا يدلّ على مدى حكمة الله تعالى في رعاية عباده وتحقيق أسباب الخير والسعادة لهم في حياتهم الفردية والاجتماعية.
خامسا- نقول عن الطريقة التي تمت على أساسها خلافة عثمان، ما قلناه عن ذلك بالنسبة لخلافة عمر. فقد كان العهد بها هو السبيل لخلافة كل منهما، إلا أن الفرق بينهما هو أن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر بعينه. أما عمر فقد عهد بالخلافة إلى واحد من ستة أشخاص هم أهل الشورى، وفوّض إلى المسلمين اختيار من يشاؤونه منهم.
وقد رأيت أن اختيار عثمان من بين هؤلاء الستة كان بمشورة من هؤلاء الستة أنفسهم، ثم كان بمشورة فمبايعة من عامة المسلمين أو أهل الحلّ والعقد منهم. وقد كان عليّ رضي الله عنه واحدا من هؤلاء الستة، وكان في مقدمة من بايع عثمان رضي الله عنهما.
بوسعنا أن نعلم إذن، بكل بداهة، أن المسلمين إلى هذا العهد، بل إلى نهاية عهد عليّ رضي الله عنه كانوا جماعة واحدة، ولم يكن في ذهن أي من المسلمين أي إشكال بشأن الخلافة
أو بشأن من هو أحقّ بها. اللهم إلا ما كان يقتضيه الوضع، بالبداهة، من التشاور والمراوضة في كل مناسبة لاختيار الخليفة بالطريقة الشرعية السليمة.
ومهما أصغيت السمع، فإنك لن تقف على أي جدل أو حوار، في هذه العهود كلها، حول أن القرآن أو الرسول نصّ على الخليفة بعد رسول الله أو لم ينص. ولن تقف على أي نقد أو تخطئة للطريقة التي تمّ بها نصب أي من هؤلاء الخلفاء الثلاثة.
إذن، فمتى، وبأيّ دافع حصل هذا الشدخ الذي قسم جماعة المسلمين بشأن الخلافة- بعد اتّحادها وتعاونها طوال هذه العهود الثلاثة- إلى فئتين مختلفتين؟
سنذكر ذلك، في مناسبته، عند التعليق على خلافة سيدنا علي رضي الله عنه، والأحداث التي وقعت في عهده.
,
أولا- من أهم الفضائل والمزايا التي يتسم بها عهد عثمان، كثرة الفتوحات واتساعها في هذا العهد، فقد فتحت خراسان كلها، وفتحت أفريقيا، وامتدّ الفتح إلى الأندلس. هذا إلى جانب أعمال جليلة أخرى، قام بها عثمان، كجمعه الناس على الرسم القرآني الموثق، بعد أن سرت العجمة
إلى الألسن، وخيف على القرآن من جراء ذلك. وكتوسيعه الكبير لمسجد المدينة المنورة.
وما ضرّ أن اعتمد عثمان في كثير من فتوحاته على عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأمثاله فإن الإسلام يجبّ ما قبله، ولعلّ ابن سرح، كفّر بأعماله الجليلة هذه ما كان قد بدر منه من قبل.
والمعلوم أنه قد استقام من بعد على سبيل الرشد، وكان من أفضل الناس دينا.
ثانيا- مهما توجه النقد إلى عثمان رضي الله عنه، بسبب اختياره الولاة والأعوان أو أكثرهم، من أقاربه من بني أمية، فإنّ علينا أن نعلم أن ذلك كان اجتهادا منه، وقد دافع عن رأيه في ذلك أمام كثير من الصحابة. ومهما كان موقفنا من رأيه ودفاعه عنه، فما ينبغي أن يدفعنا النقد إلى سوء أدب في التحليل أو القول، وما ينبغي أن ينسينا خطؤه في ذلك- إن اعتبرناه خطأ- مكانته الرفيعة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم له يوم تبوك: «ما ضرّ عثمان ما صنع بعد اليوم» .
وينبغي أن نعلم أن مناقشة الصحابة له واعتراضهم عليه فيما فعل من ذلك، شيء، واجترارنا اليوم للأمر ذاته، بدافع من النقد والانتقاص شيء آخر.
اعتراض الصحابة عليه، معالجة لأمر قائم يمكن تغييره وإصلاحه؛ فالبحث فيه وإن كان على أساس النقد والتخطيء، عمل إيجابي مفيد. أما حديثنا نحن اليوم، وقد طوي الأمر وأصبح حدثا من أحداث التاريخ، فإنه إنما يغدو مجرد تطاول رخيص على الصحابة الذين أثنى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحذّر من الإساءة إليهم، لا سيما الخلفاء الراشدون.
ويكفي، لمن ابتغى الأمانة العلمية في رواية الأحداث، أن يقف من بيانها والحديث عنها عند الحدود التي التزم بها الكتّاب والمؤرخون الثقات من أمثال الطبري وابن كثير وابن الأثير..
ثالثا- مع ظهور مقدمات الفتنة في أواخر عهد عثمان، يظهر اسم عبد الله بن سبأ على مسرح الأحداث، ويبرز دوره جليا في تأجيج نيران هذه الفتنة.
وعبد الله بن سبأ في أصله يهودي من اليمن. جاء إلى مصر في عهد عثمان، وأخذ يستثير الناس على عثمان ويتظاهر بحب عليّ وآل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان يقول للناس فيما يقول:
أليس محمد أفضل من عيسى عند الله عز وجل؟ .. إذن فإن محمدا أحق بالعودة إلى الناس من عيسى، وإنما يعود محمد إليهم في شخص ابن عمه عليّ الذي هو أقرب الناس إليه «3» .
وقد استطاع أن يخدع بهذا التدجيل أناسا في مصر، بعد أن ردد أقواله هذه في اليمن دون أن يؤيده فيها أحد. وهؤلاء الذين خدعوا بكلامه، هم الذين توجه بهم إلى المدينة ليثوروا على عثمان، ولكن الذي ردّهم على أعقابهم إنما هو عليّ رضي الله عنه كما قد رأيت.
__________
(3) البداية والنهاية: 7/ 167
ومن هنا تعلم أن ميلاد انشطار الأمة الإسلامية إلى شطريه: السني والشيعي، إنما بدأ في هذه الفترة، وأن ذلك إنما تمّ على يد عبد الله بن سبأ. وهذا بقطع النظر عن الأذى أو الظلم الذي حلّ بآل البيت أو بشيعتهم بعد ذلك على يد الأمويين وغيرهم. المهم أن أيا من هذين الواقعين اللذين يدخلان في ألف باء الحقائق التاريخية ما ينبغي أن ينسينا الواقع الآخر.
رابعا- مرة أخرى ينبغي أن نتبيّن حقيقة العلاقة التي كانت قائمة بين عثمان وعليّ في مدة هذه الخلافة الثالثة، وحقيقة الموقف الذي كان يقفه عليّ من عثمان رضي الله عنهما.
لقد رأيت أن عليا رضي الله عنه بادر إلى مبايعة عثمان بالخلافة، بل لقد ذهب كثير من المؤرخين، كما قال ابن كثير إلى أنه كان أول المبايعين له.. ثم رأيت كيف قال عليّ لعثمان- وقد سمع بالحشد الذي توجه به عبد الله بن سبأ إلى المدينة ليؤلب الناس عليه-: أنا أكفيك شرهم، فانطلق إليهم رضي الله عنه ووافاهم عند الجحفة، فردّهم وأنّبهم وشتمهم، فرجعوا وهم يلومون أنفسهم، وقال بعضهم: هذا الذي تحاربون الخليفة بسببه وتحتجّون به عليه؟! «4» ولقد رأيت كيف كان يمحضه النصح في شفقة بالغة وغيرة صادقة وكيف وقف إلى جانبه إلى آخر لحظة، ورأيت كيف جنّد ابنيه الحسن والحسين لحراسته من أولئك الذين أحدقوا به.
إذن، فلقد كان عليّ خير دعامة لعثمان في خلافته، وكان خير نصير له في محنته، وما قسا عليه أخيرا في النصح إلّا حبا له وغيرة عليه.
فاعلم هذا جيدا، لتعلم أن عظيما من الناس كعليّ ينبغي أن يكون إنسان عين كل مؤمن بالله ورسوله، وأن يكون مهوى فؤاد كل إنسان سويّ في إنسانيته وشعوره. وإنما دليل الحب صدق الاتباع والاستقامة على الاقتداء. وقد كانت هذه هي سيرة علي رضي الله عنه، مع من كان قبله من الخلفاء، فلتكن سيرته خير قدوة لنا، وأبلغ بيان يعبر عن صادق حبنا له.
__________
(4) البداية والنهاية: 7/ 171
خلافة عليّ رضي الله عنه
بويع لعلي رضي الله عنه بالخلافة في أواسط شهر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين، غداة مقتل عثمان رضي الله عنه كما ذكرنا.
وقد تخلف جمع من الصحابة عن مبايعته؛ منهم سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت.. وقد كانت أيام خلافته كلها سلسلة من الفتن والحروب والاضطرابات، ابتدأت بوقعة الجمل، تلتها وقعة صفين، والخصومات التي قامت بين جمهور المسلمين ومعاوية، تلتها فتنة الخوارج التي لم تنته إلّا بجريمتهم النكراء، بمقتل عليّ رضي الله عنه. ونحن نذكر ذلك كله ملخصا:
,
أولا- هل كان بين عليّ رضي الله عنه وأولئك الذين كانوا يستعجلون في طلب الثأر من قتلة عثمان، أيّ خلاف جذري في هذه المسألة؟
__________
(9) تاريخ الطبري 5/ 133 وما بعدها، والبداية والنهاية 7/ 385 وما بعدها.
لعلك علمت مما ذكرناه آنفا، أن ملاحقة قتلة عثمان بالقصاص، لم يكن محل خلاف قط، كل ما في الأمر أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم، كانوا حريصين على أن يكون تنفيذ القصاص في حق أولئك القتلة، أول الأعمال التي يفتتح بها عليّ رضي الله عنه خلافته وعهده.. أما عليّ فكان يرى ضرورة البدء بتوطيد الأمور وإعادة النظام، ثم السعي إلى اقتناص قتلة عثمان والإحاطة بهم، بطرق أكثر هدوءا ولباقة.
وهذا الذي كان يراه عليّ رضي الله عنه ويحرص عليه، هو الأساس الذي جنح إليه الطرف الآخر، وتمّ بموجبه الصلح، وقرر الجميع، بمن فيهم عائشة وطلحة والزبير- بكل ثقة وطمأنينة- وضع الأمر بين يدي علي يعالجه بما يرى من الحكمة، ما دام الكل متفقين على ضرورة ملاحقة القتلة وإنزال القصاص بهم. وعلى هذا الأساس اتفقت الأطراف على أن يتخلوا عن هذه المهمة التي حملوا أنفسهم مسؤولية إنجازها، وقرروا الرجوع، كلّ إلى داره وبلده.
ثانيا- إذن، فما الذي عاقهم عن تطبيق هذا الذي اتفقوا عليه، وصدّهم عن المضيّ فيما قرروه من وضع الأمر بين يدي عليّ والتعاون معه في كل شيء؟
لقد رأيت أن الذي عاقهم إنما هو الكيد الذي خطط له أبطال الفتنة، وفي مقدمتهم (ابن السوداء) عبد الله بن سبأ، فقد قرروا- وقد أفزعهم اتفاق المسلمين- أن يندسّوا بين الصفوف، ثم يفاجؤوا الطرفين، في غبش الظلام، بالسيوف ينهالون بها عليهم على غير هدى، لتزول الثقة وتندلع الفتنة فيما بينهما، وليحسب كل طرف أن الطرف الآخر فاجأه بالمكيدة من وراء ستار الصلح والتظاهر به.
وهذا ما قد تمّ بالضبط. ومثل هذا الكيد عمل سهل رخيص، لا يتوقف على أكثر من طبيعة لئيمة، وإنسانية ممسوخة متراجعة.
ولكن ماذا كان يمكن أن يفعل أولئك الصحابة الذين صفت نفوسهم من كل مكيدة وزغل، سوى أن يردوا عنهم تلك الهجمات المباغتة، وما الذي يمكنهم أن يفهموه من تفسيرها سوى أنها غارة مبيتة خطط لها من الطرف الآخر؟ .. ومع ذلك فقد رأيت أن الواحد منهم كان إذا تعرّف على من يواجهه، كفّ كل منهما يده عن صاحبه وقابله بالاعتذار والندم.
إذن، فإن هذه الفتنة لم تنبعث من رعونة هيمنت على نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، سواء أكانوا من هذا الطرف أو ذاك، وإنما انبعثت من دخلاء مدسوسين، كانوا يمكرون، بلؤم، بحقّ الصحابة كلهم، دون أي تفريق بين طرف وآخر.
والعجيب، بعد هذا، أنك تقرأ كثيرا مما كتب عن هذه الفتنة، فلا تجد شيئا منها ينبه إلى أصابع الفتنة هذه ويكشف عن دورها الخطير في كل هذا الذي قد حدث؛ وإنما يتحدث الكل عن
السطح الظاهري مفصولا عن جذوره وعوامله! .. يوسعون ضحايا هذه الفتنة هجوما وتجريحا ونقدا واتهاما، ولا يلتفتون بكلمة واحدة إلى صناع هذه الفتنة وحراسها والنافخين في نيرانها بدءا من التخطيط لقتل عثمان وانتهاء بقتل علي رضي الله عنه! ..
أليست الكتابة عن هذه الفتنة بهذا الأسلوب، جزءا لا يتجزأ من المكيدة ذاتها؟ ..
ثالثا- يقينا منا بإخلاص سيدنا عليّ كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر، وبأنه لا يتبع في شيء من ذلك هوى نفسه أو مصلحة شخصه، ويقينا منا بعلمه الغزير، وبأنه كان المرجع والمستشار الأول لكلّ من الخلفاء الثلاثة الذين خلوا من قبله، ونظرا إلى أنه قبل مبايعة الناس له بعد مقتل عثمان، واعتبر مخالفة معاوية له وإصراره على ذلك بغيا، وعامله بعد طول نقاش وحوار على أساس ذلك- فإننا نقرر ما قرره جمهور علماء المسلمين وأئمتهم من أن معاوية كان باغيا في خروجه على عليّ، وأن عليّا هو الخليفة الشرعي بعد عثمان.
غير أننا يجب أن لا ننسى أن الباغي مجتهد ومتأول، وإذا جاز لصاحب الاجتهاد المقابل أن يحذره ثم ينذره ثم يقاتله، فإنه لا يجوز لنا وقد انطوى العهد بما فيه أن نتخذ من انتقاص معاوية ديدنا وأن نقف منه، دون أي فائدة مرجوة، موقف الندّ من عدوه اللدود.
وحسبنا، في مجال العقيدة، أن نعلم طبقا لما تقتضيه قواعد التشريع، أن الخليفة بعد عثمان هو عليّ رضي الله عنه؛ وأن معاوية، كان يمثل في تمرده عليه طرف البغي، ثم نكل الأمر فيما وراء ذلك إلى الله عزّ وجل.
رابعا- لا يشك المتتبع لمواقف الخوارج، وانقلابهم من أقصى درجات التأييد لعليّ والدفاع عنه، إلى أقصى درجات التمرد عليه والتربص به والعدوان عليه، أنهم إنما ذهبوا ضحية التطرف.
وقد علمت أن الإسلام إنما يقوم في عقائده وسلوكه على الوسطية. وإنما تفهم حدود الوسطية فيه بضوابط العلم وموازينه. فمن استقى العلم من مصادره، واستكان إلى قواعده ومقتضياته، والتمس له الحلم والأناة، عوفي من الانجراف إلى أي من طرفي الإفراط والتفريط.
وقد كان جلّ الخوارج من أجلاف البادية وقساة الأعراب؛ فلم يكن لشيء من موازين العلم وما تستدعيه من تحلم وأناة، من سبيل إلى عقولهم أو نفوسهم. فكان لا بدّ أن يستسلموا لرعوناتهم النفسية وجلافتهم الطبيعية. وقد تجلّى ذلك في تكفيرهم عليا رضي الله عنه بسبب قبوله للتحكيم، وقد انبثق عن موقفهم هذا تكفيرهم الناس بارتكاب الكبائر، بل ذهب كثير منهم إلى التكفير بارتكاب المعصية مهما كانت.
ولا تزال آثار هذا التطرف ممتدة إلى عصرنا هذا، فهواية التكفير لأبسط الأسباب إنما تمثل عقلية التطرف هذه؛ وهي- كما قلنا- عقلية ترفض العلم وتتمرد على قواعده وضوابطه.
فهرس الموضوعات الفقهية
باب الصلاة مشروعية صلاة الخوف. (الحرب) 199
وجوب قضاء المكتوبة الفائتة 223
الصلاة داخل الكعبة وحكمها 279
سجود الشكر ودليل مشروعيته 307
الجنائز الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه 184
أحكام المساجد:
جواز نبش القبور لاتخاذ موضعها مسجدا 145
حكم تشييد المساجد ونقشها 145
جواز إنزال المشرك في المسجد رجاء إسلامه 316
النهي عن اتخاذ القبور مساجد 344
باب الحج حكم المحصر في الحج والعمرة 242
استحباب الاضطباع والهرولة في الطواف 257
عقد النكاح حال الإحرام بحج أو عمرة 258
خصائص الحرم المكي 1- حرمة القتال فيه 276
2- تحريم صيده وقطع نباته 278
3- وجوب الإحرام عند الدخول إليه 278
4- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه وتفصيل القول في ذلك 279
حجابة البيت وحكمها 281
مشروعية زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومسجده وآدابها 346
باب الربا حرمة ربا الفضل في المطعومات 248
المساقاة:
مشروعية عقد المساقاة 247
باب النكاح (العزل) وما يتبعه من مظاهر تحديد النسل 206
عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة 258
باب الجنايات مشروعية حد القذف وشروطه 212
باب الإباحة والحظر حجاب المرأة المسلمة 168
حكم القيام إكراما للقادم 227
حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد 241
مشروعية تقبيل القادم والتزامه 248
مشروعية اتخاذ الخاتم ووضعه في اليد 255
مشروعية الترجيع والترنم في تلاوة القرآن 275
حكم التصوير وموقف الإسلام مما يسمى بالفنون 279
مصافحة المرأة الأجنبية 283
هل صوت المرأة عورة 283
الرقص أثناء الذكر 302
مشروعية الهجر بسبب ديني 307
وجوب هدم الأوثان والتماثيل 317
مشروعية الرقية 340
السحر: حقيقته وتأثيره 341
باب الجهاد والصلح والمعاهدات هل يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غيرهم؟ 94
مشروعية الجهاد 126
وجوب الهجرة من دار الحرب 130
وجوب انتصار المسلمين لبعضهم مهما تباعدت الديار 131
ملكية الحربي غير محترمة 159
خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح للسياسة الشرعية 160
يجوز للإمام أن يستعين بالعيون والمراقبين 161- 290
موالاة غير المسلمين وحكمها في الإسلام 171- 272
الاستعانة بغير المسلمين في القتال 178
المرح والتبختر مكروهان إلا في حالة القتال 179
تجوز الإقامة بدار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة 188
يجوز للأسير المسلم الامتناع عن قبول الأمان ولو علم أنه يقتل 188
يجوز إتلاف شجر العدو وثماره إن رأى الإمام المصلحة في ذلك 192
حكم ما أخذ من العدو بغير قتال، وحكم الأرض المأخوذة بقتال 193
مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين 206
لا يجوز الصلح مع الكفار على دفع مال لهم 221
جواز قتال من نقض العهد وشروط ذلك 225
الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال 237- 290
مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم 241
للصلح مدة لا يجوز تجاوزها، والشروط التي يجوز اشتراطها لدى عقد الصلح والتي 242
لا يجوز اشتراطها
جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة دون إنذار 246- 270
سياسة تقسيم الغنائم، وإشراك غير المقاتلين فيها 246
كيف تقسم الغنائم اليوم 247
من أحكام الهدنة ونقضها 270
حكم خروج المرأة والقتال مع الرجال 291
تحريم قتل النساء والأجراء والعبيد 292
حكم السّلب 292
متى يمتلك الجند الغنائم؟ 293
سياسة الإسلام مع المؤلفة قلوبهم 293
الجزية وأهل الكتاب 305
حسن معاملة الوفود والمستأمنين 317
باب الإمامة الكبرى من المعنى التفسيري لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام 153- 283
الشورى مشروعيتها، شروطها وقيودها، هل هي ملزمة أم لا؟ 159- 177
221- 237
أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم 161
معاملة المنافق في الحكم الإسلامي 170- 306
312
التحكيم في أمور المسلمين 225
تولية الإمام الأمراء 261
اختيار المسلمين إماما لهم 261
بيعة النساء وأحكامها 283
أحق الناس بالولاية أعلمهم بكتاب الله عزّ وجل 317
باب القضاء هل يجوز تعذيب المتهم قبل ثبوت الاتهام عليه؟ 271
باب الحجر والأهلية حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد 144
باب النذور ذهب الحنفية إلى عدم لزوم نذر من نذر التصدق بكل ماله 308
فهرس أبحاث الكتاب
الموضوع الصفحة
مقدمة الطبعة الجديدة 7
مقدمة الطبعة الثانية 9
القسم الأول: مقدمات 15
أهمية السيرة النبوية في فهم الإسلام 15
كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم- السيرة النبوية والتاريخ 17
كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة 18
المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية 19
السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ 21
مصير هذه المدرسة اليوم 25
كيف ندرس السيرة النبوية على ضوء ما قد ذكرناه 27
سرّ اختيار الجزيرة العربية مهدا لنشأة الإسلام 30
محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة 34
الجاهلية وما كان فيها من بقايا الحنيفية 37
القسم الثاني: من الميلاد إلى البعثة 44
نسبه صلّى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته: 44
1- بيان فضل العرب وفضل قريش من أجل الإسلام وبسبب انتساب 45
الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهما
2- ليس من قبيل المصادفة أن يولد الرسول صلّى الله عليه وسلم يتيما 45
3- من مظاهر إكرام الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم إكرامه منازل حليمة السعدية التي 46
عادت ممرعة خضراء. وبيان ما في ذلك من المبادئ والأحكام
4- حادثة شق صدره من أبرز الإرهاصات النبوية وما يتعلق بذلك من أبحاث 47
رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق 48
كان لدى أهل الكتاب علم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام 49
الموضوع الصفحة
الحكمة من رعيه صلّى الله عليه وسلم للأغنام 49
المعنى البارز في عصمة الله تعالى رسوله من كل سوء في شبابه 50
تجارته بمال خديجة وزواجه منها: 52
بيان فضل خديجة رضي الله عنها في الإسلام 53
قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم منها. وكلمة عن زواجه عليه الصلاة والسلام بنسائه الأخريات 54
بعد ذلك
اشتراكه في بناء الكعبة 55
كلمة عن أهمية الكعبة وما جعل الله لها من شرف وقداسة 55
بيان ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء 56
مدى حكمة النبي صلّى الله عليه وسلم في تدبير الأمور 59
اختلاؤه في غار حراء 60
كلمة عن أهمية العزلة والاختلاء في تربية المسلم بشروط لا بدّ منها 60
بدء الوحي 62
كلمة عن ظاهرة الوحي في حياته عليه الصلاة والسلام وبيان حقيقته 63
القسم الثالث: من البعثة إلى الهجرة 68
مراحل الدعوة الإسلامية في حياة النبي عليه الصلاة والسلام 68
الدعوة سرّا 68
1- وجه السريّة في بدء الدعوة 69
2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم 70
الجهر بالدعوة: 72
أولا- حينما جهر النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعوة فاجأهم بما لم يكونوا يتوقعون واشتد عليه 73
الإيذاء منهم. وفيه الرد القاطع على من يطيب لهم أن يجعلوا الإسلام ثمرة
من ثمار الحضارة
ثانيا- ما هي الحكمة من أمر الله رسوله بأن ينذر عشيرته الأقربين وهم داخلون في 73
عموم الناس الذين أمر أن يدعوهم إلى الإسلام
ثالثا- لا تقاليد في الإسلام، وبيان مدى خطورة الكلمة الدارجة (التقاليد 74
الإسلامية) وما يكمن وراءها
الموضوع الصفحة
الإيذاء: 77
كلمة في بيان الحكمة من تحمل الرسول صلّى الله عليه وسلم لأشد أصناف الإيذاء مع أنه على الحق 77
ومع أن الله قادر على حمايته
سياسة المفاوضات وفيها الدلالات التالية: 80
الدلالة الأولى: بيان حقيقة الدعوة الإسلامية وتميزها عن كل ما يلتبس بها من 82
الأهداف والأغراض الدنيوية
الدلالة الثانية: معنى الحكمة وحدودها 84
الدلالة الثالثة: السبب في عدم استجابة الرسول صلّى الله عليه وسلم لقريش فيما طلبت من 85
الخوارق وبيان أن ذلك لا ينافي ما قد أكرمه الله به من المعجزات
الحصار الاقتصادي- القطيعة والشدة التي لقيها النبي صلّى الله عليه وسلم 86
نفي دعوى أن عصبية بني هاشم والمطلب كانت خلف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم 87
أول هجرة في الإسلام ودلالاتها: 91
الدلالة الأولى: إنما يكون الوطن والأرض سياجا لحفظ العقيدة والعكس خطأ 92
كبير
الدلالة الثانية: بيان حقيقة العلاقة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما 94
الصلاة والسلام
الدلالة الثالثة: يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غيرهم بشروط 94
أول وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيه دلالتان: 95
أولا- ما يلاقيه أرباب الدعوة الإسلامية من المصائب والآلام لا يعني الفشل 95
أو الخيبة
ثانيا- نوع الإيمان الذي آمنه أفراد هذا الوفد استمرارا لإيمانهم السابق بعيسى بن 96
مريم
عام الحزن: 97
ما الحكمة في أن يتعجل قضاء الله في استلاب كل من أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم 97
وزوجته خديجة في عام واحد مع ما كان له من أنس بهما؟
معنى كلمة (عام الحزن) التي أطلقها الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهل فيها دلالات مشروعية 99
الحداد على موت الأقارب على نحو ما يفعله الناس اليوم
الموضوع الصفحة
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف: 100
أولا- إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة من جملة 101
أعماله التبليغية
ثانيا- اللطف الإلهي فيما لقيه عليه الصلاة والسلام في هجرته إلى الطائف وما فيه 103
من رد على كيد المشركين
ثالثا- ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم مع قائد الدعوة 103
رابعا- الجن، وجودهم، تكليفهم، رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم لهم، وتحقيق ما ورد في ذلك 104
خامسا- ما هو موقع ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام في سياحته هذه نفسه 106
معجزة الإسراء والمعراج: 108
أولا- كلمة هامة عن الرسول والمعجزات 109
ثانيا- ما موقع معجزة الإسراء والمعراج من الأحداث التي مرت به عليه الصلاة 112
والسلام في حينها
ثالثا- المعنى الموجود في الإسراء به إلى بيت المقدس 113
رابعا- في اختياره عليه الصلاة والسلام اللبن على الخمر دلالة رمزية على أن الإسلام 113
دين الفطرة
خامسا- كان الإسراء والمعراج لكل من الروح والجسد معا 114
سادسا- احذر أن تركن إلى ما يسمى بمعراج ابن عباس 114
عرض الرسول صلّى الله عليه وسلم نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار: 115
بيعة العقبة الأولى: 116
كيف أينع الصبر وبدأ الجهد يثمر 117
لماذا جاءت الثمرات من خارج قريش بعيدة عن قومه الذين احتك بهم؟ 118
الممهدات التي مهد الباري جلّ جلاله بها المدينة لقبول الإسلام 119
المسؤوليات التي تحملها مسلمو المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وما في ذلك من 120
الدلالات
اشتراك المسلمين كلهم في عبء الدعوة الإسلامية 121
بيعة العقبة الثانية: 122
الفرق بين البيعتين 124
الموضوع الصفحة
كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته 126
إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة: 129
لم تكن هجرة المسلمين هربا من الدعوة بل محنة جديدة أخرى في سبيل الإسلام؟ 130
وجوب الهجرة من دار الحرب 130
وجوب انتصار المسلمين مهما تباعدت الديار 131
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة 132
قدوم قباء 135
صورة عن مقام النبي صلّى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب 135
دلائل فضل أبي بكر في استبقاء الرسول صلّى الله عليه وسلم له رفيقا في السفر 137
لماذا هاجر عمر علنا وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلم مستخفيا؟ 137
التناقض العجيب الذي كان لدى المشركين في اعتقادهم بالرسول 138
عليه الصلاة والسلام
واجب الشبان حيال الدعوة الإسلامية 139
معجزة انحباس فرس سراقة عن اللحاق به عليه الصلاة والسلام 139
معجزة نوم المشركين الذين تربصوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أغشاهم الله 139
طبيعة المحبة التي ينبغي أن تعمر قلب المسلم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم 139
التبرك والتوسل بآثار الرسول صلّى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله وحكم ذلك 140
القسم الرابع: أسس المجتمع الجديد 142
الأساس الأول: بناء المسجد 142
1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية 143
2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد 144
3- جواز نبش القبور الدارسة لاتخاذ موضعها مسجدا 145
4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها 145
الأساس الثاني: الأخوّة بين المسلمين 147
أولا- أثر التآخي في وحدة الأمة وتحقيق النظام والقانون 147
ثانيا- لا ضمانة لتطبيق العدل إلا على أساس قيام معنى الولاء والتناصر بدافع من 148
الشعور القلبي
الموضوع الصفحة
ثالثا- المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي 149
الأساس الثالث: كتابة الوثيقة 150
1- المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية 152
2- تدل هذه الوثيقة على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لليهود 153
3- دلت هذه الوثيقة على أحكام شرعية هامة: 153
أولا- الإسلام وحده هو الأساس لوحدة الأمة الإسلامية 153
ثانيا- أهمية التكافل والتضامن في المجتمع الإسلامي 153
ثالثا- المعنى التفسيري للمساواة في الإسلام 153
رابعا- ليس للمسلمين أن يحكّموا فيهم أي شرعة غير شرعة الإسلام 154
القسم الخامس: مرحلة الحرب الدفاعية 155
مقدمة: أول غزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم 155
غزوة بدر الكبرى: الدلالات: 156
1- لم يكن الدافع الأصلي لخروج المسلمين القتال وإنما كان أخذ العير وفيه دليل 159
على أمرين:
الأمر الأول: ممتلكات الحربيين أموال غير محترمة 159
الأمر الثاني: بالرغم من مشروعية القصد إلى أخذ العير فإن الله أراد لعباده قصدا 159
أرفع
2- في مشاورة الرسول أصحابه قبل القتال دلالتان: 159
الدلالة الأولى: الشورى أصل تشريعي ثابت في كل ما لا نص فيه من الكتاب 159
أو السنة
الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح لما يسمى بالسياسة 160
الشرعية
3- لماذا لم يقع جواب المهاجرين موقعا كافيا من نفس الرسول 160
عليه الصلاة والسلام، وظل متطلعا إلى رأي الأنصار؟
4- يجوز للإمام أن يستعين بالعيون والمراقبين 161
5- أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم 161
6- أهمية التضرع لله وشدة الاستغاثة به في الحرب 162
الموضوع الصفحة 7- الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 163
8- الحياة البرزخية للأموات 164
9- مفاداة الأسرى والمشورة وفيهما دلالتان على: 164
أولا- جمهور العلماء على أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجتهد 164
ثانيا- التربية الإلهية للمسلمين لدى أول تجربة لرؤية الغنائم والحصول عليها 165
بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين- الدلالات: 167
أولا- حجاب المرأة المسلمة وحدوده وحكمه 168
ثانيا- دلالة هذه الحادثة على الحقد العجيب لدى اليهود 170
ثالثا- معاملة المنافق في الإسلام 170
رابعا- موالاة غير المسلمين وحكمها في الإسلام 171
غزوة أحد- الدلالات: 173
أولا- الشورى وأهميتها وحدودها 177
ثانيا- ظهور موقف المنافقين في هذه الغزوة وسبب ذلك 177
ثالثا- حكم الاستعانة بغير المسلمين في القتال 178
رابعا- التأمل في حال سمرة بن جندب ورافع بن خديج وهما طفلان يقتحمان 178
القتال
خامسا- في تنظيم النبي عليه الصلاة والسلام لفصائل الجيش: دلالة على براعته 179
العسكرية. وكأنه ألهم ما سيقع فيه بعض أصحابه من الأخطاء
سادسا- المرح والتبختر في المشي مكروهان فيما عدا حالة القتال 179
سابعا- العبرة الكبرى وآثارها 180
ثامنا- الحكمة الإلهية في أن يشيع خبر وفاته عليه الصلاة والسلام 181
تاسعا- تأملات في وقع الموت على أصحابه عليه الصلاة والسلام وهم يحمونه 182
بأجسادهم
عاشرا- الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه 184
حادي عشر- ظهور العبرة الكبرى من غزوة أحد عند رجوع الصحابة إلى حمراء 184
الأسد وكيف انقلبت الهزيمة نصرا
يوم الرجيع وبئر معونة- الدلالات: 185
الموضوع الصفحة
أولا- المسلمون كلهم مشتركون في مسؤولية الدعوة 187
ثانيا- يجوز الإقامة بدار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية 188
ثالثا- كيف هذب الإسلام نفس العربي المسلم وظهور ذلك في موقف خبيب من 188
أعدائه
رابعا- يجوز للأسير في يد العدوان أن يمتنع عن قبول الأمان ولو علم أنه يقتل 188
بذلك
خامسا- أثر محبة النبي صلّى الله عليه وسلم في القلب وضرورة تذكيتها 189
سادسا- كل ما كان معجزة للنبي جاز أن يكون كرامة لولي 189
سابعا- قد يتساءل البعض: فما الحكمة في تمكين يد الغدر من هؤلاء الفتية المؤمنين؟ 189
والجواب عليه
إجلاء بني النضير- الدلالات: 190
أولا- واحدة من الخوارق التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام 192
ثانيا- يجوز إتلاف أشجار العدو وثماره إذا رأى الإمام المسلم المصلحة في ذلك 192
ثالثا- اتفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون بدون قتال يعود النظر فيه إلى ما يراه 193
الإمام المسلم. واختلفوا في الأرض التي يغنمونها بواسطة الحرب
غزوة ذات الرقاع 194
تحقيق في تاريخ هذه الغزوة، والدلالات: 197
أولا- سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع وما في ذلك من دلالة هامة 198
ثانيا- مشروعية صلاة الخوف وكيفيتها 199
ثالثا- تجسد معنى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ في قصة المشرك الذي أخذ سيف 200
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليقتله وهو نائم
رابعا- صورة رائعة من لطف معاملته عليه الصلاة والسلام لأصحابه في قصته مع 200
جابر
خامسا- لا بدّ أن يقف المسلم وقفة تأمل أمام مشهد ذينك الصحابيين وهما يحرسان 201
الثغر
غزوة بني المصطلق 202
خبر الإفك- الدلالات: 204
الموضوع الصفحة أولا- مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين 206
ثانيا- حكم العزل عند الجماع (أو تحديد النسل) 206
ثالثا- البراعة التي آتاها الله نبيه عليه الصلاة والسلام في سياسة الأمور وتربية 209
الناس
رابعا- قصة الإفك حلقة فريدة من سلسلة الإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام 210
الحكمة من تأخر الوحي لكشف حقيقتين هامتين 211
معنى قول عائشة: لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله 211
خامسا- مشروعية حدّ القذف وشروطه 212
غزوة الخندق (الأحزاب) - الدلالات: 213
أولا- الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين تقليد غيرهم على غير هدى، تحب 218
لهم أن يجمعوا أطراف الخير كله حيثما كان
ثانيا- المساواة في الإسلام حقيقة مجسدة وليست شعارات كاذبة 218
ثالثا- صورة رائعة يتجلى فيها مظهر النبوة في شخص الرسول عليه الصلاة 219
والسلام، ويتجلى فيها شدة حبه لأصحابه وشفقته عليهم
رابعا- معنى استشارته عليه الصلاة والسلام لأصحابه أن يعقد صلحا مع غطفان 221
والقيمة التشريعية فيها. فئة مشبوهة مجهولة في عصرنا أخذت تزعم أن على
المسلمين أن يدفعوا (الجزية) لغيرهم إذا اقتضت الحاجة
خامسا- كيف وبأي وسيلة انتصر المسلمون في هذه الغزوة 222
سادسا- وجوب قضاء المكتوبة الفائتة سواء تركت عمدا أو سهوا 223
غزوة بني قريظة- الدلالات: 224
أولا- جواز قتال من نقض العهد 225
ثانيا- جواز التحكيم في أمور المسلمين 225
ثالثا- مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها 226
رابعا- تأكد اليهود من نبوة محمد عليه الصلاة والسلام 226
خامسا- حكم القيام إكراما للقادم وما يتبعه من مظاهر التعظيم 227
سادسا- مزايا خاصة لسعد بن معاذ 228
القسم السادس- الفتح، مقدماته ونتائجه: 230
الموضوع الصفحة
صلح الحديبية 230
بيعة الرضوان 233
كلمة وجيزة في حكمة هذا الصلح- الدلالات: 233
أولا- الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال 237
ثانيا- طبيعة الشورى المشروعة في الإسلام 237
ثالثا- التوسل والتبرك بالنبي صلّى الله عليه وسلم وآثاره 237
رابعا- حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد 241
خامسا- مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم وشروط ذلك 241
سادسا- للصلح مدة معلومة لا يجوز أن يتجاوزها 242
سابعا- بيان الشروط التي يجوز اشتراطها لدى عقد الصلح والتي لا يجوز 242
اشتراطها
ثامنا- حكم المحصر في الحج والعمرة 242
غزوة خيبر 243
قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة 245
أول ما ينبغي ملاحظة اختلاف طبيعة هذه الغزوة عن الغزوات السابقة وسبب 245
ذلك- الدلالات:
أولها- جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة بدون إنذار مسبق 246
ثانيها- سياسة تقسيم الغنائم 246
ثالثها- جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر القتال 246
لعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم مع ما تطورت إليه اليوم حال الحرب والجند 247
وسياسات العطاءات؟
رابعها- مشروعية عقد المساقاة 247
خامسها- مشروعية تقبيل القادم والتزامه 248
سادسها- حرمة ربا الفضل في المطعومات، والطريقة الشرعية لتسويغ ذلك 248
لا عبرة لمخالفة ابن القيم في هذا فكلامه في ذلك متناقض تناقضا عجيبا 249
خارقتا النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة؛ أولاهما: تفل في عين علي 249
رضي الله عنه فبرأت وكانت رمداء. ثانيهما: ما أوحى الله إليه من أمر الشاة المسمومة
الموضوع الصفحة
سرايا إلى القبائل ... وكتب إلى الملوك- الدلائل: 250
معالم المرحلة الجديدة 252
حكمة مشروعية هذه المرحلة 253
أولا- الدعوة التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام هي إلى الناس كافة 254
ثانيا- موقف هرقل وقومه من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وما فيه من 255
دلائل العصبية المحضة
ثالثا- مشروعية اتخاذ الخاتم ووضعه في اليد واستحبابه عند بعضهم 255
رابعا- ضرورة تهييئ أسباب الدعوة الإسلامية، ومن ذلك تعلّم لغة الأقوام التي 255
يدعون إلى الإسلام
خامسا- إصلاح المسلمين أنفسهم من أهم دعائم الدعوة الإسلامية 255
عمرة القضاء- الدلالات: 256
هذه العمرة مصداق لما وعد الله به المسلمين من دخول مكة وطوفهم بالبيت 257
أولا- استحباب الاضطباع والهرولة في أجزاء الطواف وحكمة ذلك 257
ثانيا- جواز عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة 258
غزوة مؤتة- الدلالات: 258
أهم ما يثير الدهشة في هذه الغزوة الفرق الكبير بين عدد المسلمين والأعداء الهائلة 260
لخصومهم
أولا- يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد من الناس بشرط 261
وأن يولي عدة أمراء بالترتيب
ثانيا- مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أمير لهم 261
ثالثا- كيف زوى الله عز وجل لنبيه الأرض فروى مقتل زيد وجعفر 262
وما يتعلق بذلك
رابعا- فضل خالد بن الوليد وأهمية تسمية الرسول صلّى الله عليه وسلم له: سيف الإسلام 262
فتح مكة- الدلائل: 262
في أحداث الفتح العظيم تتجسد قيمة الدعوة الإسلامية من قبلها وتتجلى كثير من 268
الأسرار والحكم الإلهية لأحداث سابقة
أولا- أحكام تتعلق بالهدنة ونقضها 270
الموضوع الصفحة
1- إذا حارب أهل العهد والهدنة المسلمين صار جميعهم أهل حرب 270
2- يجوز للإمام أو نائبه أن يفاجئ العدو بالإغارة 270
3- مباشرة البعض لنقض العهد تعتبر مباشرة من الكل بشرط 270
ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله 270
1- مظهر جديد لنبوته عليه الصلاة والسلام فيما أوحي له به من أمر حاطب 270
الذي أقدم عليه في السر
2- هل يجوز تعذيب المتهم قبل أن تثبت عليه التهمة؟ تحقيق بيان الحكم 271
الشرعي في ذلك
3- لا يجوز للمسلمين في أي الظروف كانت أن يتخذوا من أعداء الله أولياء لهم 272
ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف الرسول صلّى الله عليه وسلم منه وطبيعة إسلامه والفرق بين الإسلام 272
والإيمان
رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة 275
1- مشروعية الترجيع والترنم في تلاوة القرآن بشروط 275
2- اندماجه صلّى الله عليه وسلم في حالة الشهود والخضوع لربّه جلّ جلاله عند دخول مكة 275
وما فيه من الدلائل
3- كان تدبيرا حكيما أمره عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالتفرق في مداخل 276
المدينة
خامسا- ما اختص به الحرم المكي من أحكام 276
1- حرمة القتال فيه، وتفصيل القول في حكم المشركين والملحدين والبغاة ومن 276
استوجبوا القصاص ممن كانوا في الحرم المكي
2- تحريم صيده 278
3- تحريم قطع شيء من نباته 278
4- وجوب دخوله محرما ويفصل القول في ذلك 278
5- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه 279
سادسا- تأملات في ما قام به صلّى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة 279
1- الصلاة داخل الكعبة وحكمها 279
2- حكم التصوير واتخاذ الصور سواء الفوتوغرافي وغيره وموقف الإسلام مما 279
تسميه الحضارة الغربية بالفن
الموضوع الصفحة
3- حجابة البيت 281
4- تكسير الأصنام 282
سابعا- تأملات في خطابه صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح 282
ثامنا- بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام 283
1- اشتراك المرأة مع الرجل في جميع المسؤوليات الإسلامية العامة 283
2- بيعة النساء بالكلام فقط، لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية إلا لضرورة وبيان 283
معنى الضرورة
3- صوت المرأة الأجنبية ليس عورة ودليل ذلك 283
تاسعا- هل فتحت مكة عنوة أم صلحا؟ 283
غزوة حنين- الدلائل: 284
أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها 287
تعتبر هذه العزوة درسا عظيما في العقيدة 289
أولا- حكم بثّ العيون بين الأعداء لمعرفة شأنهم 290
ثانيا- للإمام أن يستعير أسلحة من المشركين للجهاد 290
ثالثا- جرأته صلّى الله عليه وسلم في الحرب 290
رابعا- حكم خروج المرأة للجهاد مع الرجال 291
خامسا- تحريم قتل النساء والأطفال والأجراء والعبيد 292
سادسا- حكم السلب 292
سابعا- الجهاد لا يعني الحقد على الكافرين 293
ثامنا- متى يمتلك الجند الغنائم؟ 293
تاسعا- سياسة الإسلام نحو المؤلفة قلوبهم 293
عاشرا- فضل الأنصار ومدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لهم 294
غزوة تبوك 295
أمر المخلفين 298
أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة 300
ثانيا- العبر والأحكام 301
1- أهمية الجهاد بالمال 301
الموضوع الصفحة
2- كلمة عن حديث أبي بكر وما اختلقه البعض من زيادة فيه ليسوغوا بها 302
بدعة من أهم البدع المحرمة وهي الرقص أثناء الذكر
3- المنافقون. طبيعتهم ومدى خطورتهم على الإسلام في كل عصر 304
4- الجزية وأهل الكتاب. معناها وحكمة مشروعيتها 305
5- لا ينبغي أن يمر المسلم بديار الأمم الخالية إلا وهو متعظ معتبر 306
6- الفرق بين سياسة النبي عليه الصلاة والسلام مع المنافقين وسياسته مع 306
المؤمنين الصادقين وسبب ذلك
في حديث كعب بن مالك دلالات هامة منها:
أولا- مشروعية الهجر بسبب ديني 307
ثانيا- الابتلاء الآخر الذي امتحن الله به كعبا 307
ثالثا- سجود الشكر ودليل مشروعيته 307
رابعا- ذهب الحنفية إلى أن الرجل إذا نذر ماله كله صدقة لم يلزمه التصدق به 308
كله
حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس، سنة تسع 308
1- المشركون وتقاليدهم في الحج 309
2- انتساخ العهد بإعلان الحرابة 309
3- تأكيد آخر لحقيقة معنى الجهاد 310
مسجد الضرار 311
تعتبر قصة هذا المسجد قمة الكيد الذي وصل إليه المنافقون، وبيان حكم أماكن 312
المعاصي والفواحش
وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام: 313
تتابع الوفود ودخولها في دين الله: 314
مقارنة بين اليوم الذي هاجر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف وهذا اليوم الذي جاءت 315
فيه وفود الطائف لتسعى إلى الإسلام
أولا- جواز إنزال المشرك في المسجد إذا كان يرجى إسلامه 316
ثانيا- حسن معاملة الوفود والمستأمنين 317
ثالثا- أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمهم بكتاب الله 317
الموضوع الصفحة
رابعا- وجوب هدم الأوثان والتماثيل 317
خبر إسلام عدي بن حاتم 319
تجسد شخصية النبي عليه الصلاة والسلام (كنبي يوحى إليه) أمام عديّ 320
بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام 322
مسؤولية الدعوة الإسلامية المنوطة بأعناق المسلمين وأهميتها 323
شيء من آداب الدعوة الإسلامية 323
حجة الوداع وخطبتها 324
أولا- عدد حجات النبي عليه الصلاة والسلام وزمن مشروعية الحج 326
ثانيا- المعنى الكبير لحجة الرسول عليه الصلاة والسلام 327
ثالثا- تأملات في خطبة الوداع وتحليل بنودها 328
شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم ولحاقه بالرفيق الأعلى 333
بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء 333
شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: 333
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسكرة الموت ودلائل ذلك 336
في أحداث هذا القسم الأخير من سيرته صلّى الله عليه وسلم تلوح قصة الحقيقة الكبرى في الوجود 338
أولا- لا مفاضلة في الإسلام إلا بالعمل الصالح 339
ثانيا- مشروعية الرقية وأحكامها وشروطها 340
السحر: حقيقته، وتأثيره، وهل سحر النبي صلّى الله عليه وسلم وعلاقة ذلك بالعقيدة 341
ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 343
رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد 344
خامسا- شعوره صلّى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت 345
خاتمة في بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره، وبيان رأي ابن تيمية الذي 346
شذّ به عن الجمهور، ومناقشة فيما ذهب إليه
خلاصة عن الخلافة الراشدة 351
خلافة أبي بكر الصديق 351
أهم ما قام به في مدة خلافته: 351
أولا- تجهيزه وتسييره لجيش أسامة 351
الموضوع الصفحة
ثانيا- جهز الجيوش لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة 352
ثالثا- جهز الصديق رضي الله عنه خالدا إلى العراق 352
رابعا- حدثته نفسه بغزو بلاد الروم 352
وفاة أبي بكر رضي الله عنه 353
عهده بالخلافة إلى عمر 353
على أي أساس أصبح عمر خليفة؟ 354
كتاب العهد إلى عمر 354
الأحداث التي وقعت في خلافة أبي بكر تدل على أمور كثيرة: 354
أولا- تمت خلافة أبي بكر عن طريق الشورى 354
ثانيا- الخلاف الذي دار في سقيفة بني ساعدة 355
ثالثا- نصيحة علي لأبي بكر رضي الله عنهما 355
رابعا- لا يتأمل مسلم في الموقف الذي وقفه أبو بكر من القبائل المرتدة ... 355
خامسا- قد يظن بعض الناس أن مجرد العهد والاستخلاف يعد طريقة من 356
طرق ثبوت الإمارة والحكم
خلافة عمر بن الخطاب 357
طاعون عمواس 358
مقتل عمر رضي الله عنه 359
استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى 359
كيف تمّ اختيار عثمان- الدلائل: 360
أولا- أول عمل قام به عمر رضي الله عنه عزله لخالد بن الوليد عن الإمارة 360
ثانيا- أن خالدا توفي ودفن في المدينة 361
ثالثا- التعاون المتميز الصافي بين عمر وعلي رضي الله عنهما 361
رابعا- خلافة أبي بكر جاءت في ميقاتها 362
خامسا- الطريقة التي تمت على أساسها خلافة عثمان 362
خلافة عثمان بن عفان 364
سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ من ذلك 364
أول الفتنة، ومقتل عثمان 366
الموضوع الصفحة
مبايعة علي والبحث عن قتلة عثمان ... الدلائل: 368
أولا- من أهم الفضائل والمزايا التي يتسم بها عهد عثمان كثرة الفتوحات واتساعها في 368
هذا العهد
ثانيا- توجه النقد إلى عثمان رضي الله عنه بسبب اختياره الولاة والأعوان من 369
أقاربه
ثالثا- ظهور مقدمات الفتنة في أواخر عهد عثمان 369
رابعا- حقيقة العلاقة التي كانت قائمة بين عثمان وعلي في مدة الخلافة 370
خلافة علي رضي الله عنه 371
الثأر لعثمان ووقعة الجمل 371
أمر معاوية ووقعة صفين 373
أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه 376
أولا- هل كان بين علي رضي الله عنه، وأولئك الذين يستعجلون في طلب الثأر من 377
قتلة عثمان، أي خلاف جذري في هذه المسألة
ثانيا- ما الذي عاقهم عن تطبيق الذي اتفقوا عليه 378
ثالثا- إخلاص علي كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر 379
رابعا- انقلاب مواقف الخوارج من تأييد لعلي والدفاع عنه إلى أقصى درجات التمرد 379
عليه والتربص به
فهرس الموضوعات الفقهية 380
فهرس أبحاث الكتاب 384
,
1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:
لا ريب أن تكتّم النّبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس، على أن الله عزّ وجلّ لو أمره من أول يوم أن يصدع بالدعوة بين الناس علنا، لما توانى عن ذلك ساعة، ولو كان يتراءى له في ذلك مصرعه.
ولكن الله عزّ وجلّ ألهمه- والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه- أن يبدأ الدعوة، في فترتها الأولى، بسرّيّة وتكتّم، وأن لا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها، تعليما للدّعاة من بعده، وإرشادا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على أن لا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتّكال على الله وحده، وعلى أن لا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهبا يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوّره وتفكيره. فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.
ومن هنا تدرك، أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام، في هذه الفترة، كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماما، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيّا.
وبناء على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية، في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة- من حيث التكتّم والجهر، أو اللين والقوة- حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلّى الله عليه وسلم، ضمن الأشكال أو المراحل الأربعة التي سبق ذكرها، على أن يكون النظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية.
ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدّة بحيث يغلب الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا قتالهم، فينبغي، أن
__________
(1) راجع للتوسع في هذا البحث سيرة ابن هشام: 1/ 249- 261
تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدّين موهومة أو منفيّة الوقوع.
ويقرّر العزّ بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد قائلا:
«فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة، ليس في طيّها مصلحة» «2» .
قلت: وتقديم مصلحة النفس هنا، من حيث الظاهر فقط.
أمّا من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دين، إذ المصلحة الدّينية تقتضي- في مثل هذه الحال- أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. وإلّا فإن هلاكهم يعتبر إضرارا بالدّين نفسه وفسحا للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السّبل.
والخلاصة: أنه يجب المسالمة أو الإسرار بالدعوة إذا كان الجهر أو القتال يضرّ بها، ولا يجوز الإسرار في الدعوة إذا أمكن الجهر بها وكان ذلك مفيدا، ولا يجوز المسالمة مع الظالمين والمتربصين بها إذا توفرت أسباب القوة والدفاع عنها، ولا يجوز القعود عن جهاد الكافرين في عقر دورهم إذا ما توفرت وسائل ذلك وأسبابه.
2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:
وتحدثنا السّيرة أن الذين دخلوا في الإسلام، في هذه المرحلة، كان معظمهم خليطا من الفقراء والضعفاء والأرقاء، فما الحكمة في ذلك؟ وما السّر في أن تتأسس الدولة الإسلامية على أركان من مثل هؤلاء الناس؟
والجواب: إن هذه الظاهرة هي الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى، ألم تر إلى قوم نوح كيف كانوا يعيّرونه بأن أتباعه الذين من حوله ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم:
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ.. [هود 11/ 27] .
وإلى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى أذلاء مستضعفين، حتى قال عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون وأشياعه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] . وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحا، كيف تولى عنه الزعماء المستكبرون، وآمن به الناس المستضعفون، حتى قال الله في ذلك: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 75- 76] .
__________
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 95، وانظر ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: 261
والسّرّ في ذلك، أن حقيقة هذا الدّين الذي بعث الله به عامة أنبيائه ورسله، إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده. وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون ردّ الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام لله وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين، والإذعان والاستجابة من هؤلاء المستضعفين، وانظر، فإن هذه الحقيقة تتجلى لك بوضوح في الحديث الذي دار بين رستم قائد الجيش الفارسي في وقعة القادسية، وربعي بن عامر الجندي البسيط في جيش سعد بن أبي وقاص. فقد قال له رستم:
«ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوع بديارنا؟
فقال: جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ثم نظر إلى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله، فقال متعجبا:
لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني لا أرى قوما أسفه منكم، إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ولقد ظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض..
فالتفت الدهماء المستضعفون إلى بعضهم يتهامسون: «صدق والله العربي» .
أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، وقال بعضهم لبعض: «لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه» «3» .
ولا يعني هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا إلى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان بل عن قصد ورغبة في التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم. ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، كان قدرا مشتركا بين زعماء قريش ومستضعفيها، فما منهم أحد إلا وهو يعلم صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربّه، غير أن الزعماء والكبراء فيهم كانت تصدّهم زعامتهم عن الانقياد والاتّباع له، وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب. وأما الفقراء والمستضعفون فما كان ليصدهم عن التجاوب مع إيمانهم والانقياد له عليه الصلاة والسلام شيء. أضف إلى ذلك ما يشعر به أحدهم عند إيمانه بألوهية الله وحده من الاعتزاز به وعدم الاكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته. فهذا الشعور الذي هو ثمرة للإيمان بالله عزّ وجلّ، يزيده في الوقت ذاته قوة ويجعل صاحبه في نشوة وسعادة غامرة.
ومن هنا نعلم عظم الفرية التي يفتريها بعض محترفي الغزو الفكري في هذا العصر، حينما
__________
(3) انظر تفصيل هذه القصة في كتاب: إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، تأليف محمد الخضري: 100
يزعمون بأن الدعوة التي قام بها محمد صلّى الله عليه وسلم، إنما هي من وحي بيئته العربية نفسها، وأنها إنما كانت تمثل حركة الفكر العربي إذ ذاك.
فلو كان كذلك، لما كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها، أربعين رجلا وامرأة، معظمهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلفي الأعاجم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي.
وسوف تجد في البحوث القادمة أن بيئته العربية نفسها هي التي أرغمته على الهجرة من بلاده وأرغمت أتباعه من حوله على التفرق هنا وهناك والخروج إلى بلاد الحبشة مهاجرين، وذلك كراهية منها للدعوة التي زعموا أنه إنما كان يمثل بها نوازعها وأفكارها.
,
في هذا المشهد الذي عرضناه من سيرته صلّى الله عليه وسلم ثلاث دلالات، كل واحدة منها على جانب كبير من الأهمية.
الدلالة الأولى: وهي توضح لنا في تمحيص دقيق حقيقة الدعوة التي قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفصلها عن كل ما قد يلتبس بها من الأهداف والأغراض التي قد يضمرها في أنفسهم عادة أرباب الدعوات الجديدة والمنادون بالثورة والإصلاح.
هل النبي صلّى الله عليه وسلم يضمر من وراء دعوته الوصول إلى ملك؟ أو لعله يضمر الوصول إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى، أو لعل الأمر لا يعدو خيالات تتراءى له بسبب مرض يعانيه؟
كل هذه الاحتمالات، وسائل قد يتذرع بها محترفو الغزو الفكري وأعداء هذا الدين.. ولكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله! .. لقد ملأ الله عز وجل حياة رسوله بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال، وتقطع السبيل إلى كل وسواس، وتدع أرباب الغزو الفكري حيارى في الطريقة التي ينبغي لهم أن يسلكوها في حربهم الفكرية.
كان من جليل حكمة الله تعالى أن يقوم مشركو قريش بسلسلة من المفاوضات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد أن صوروا في أنفسهم كل هذه الاحتمالات، وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته والغاية البعيدة من رسالته وبأنه لن ينزل عند شيء من مغرياتهم. ولكن هكذا شاءت الإرادة الإلهية حتى ينطق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من محترفي التشكيك والغزو الفكري مع الزمن.
لقد فكر أمثال كريمر وفان فلوتن طويلا.. ثم لم يجدوا من سبيل لأداء مهمة التشكيك والغزو إلا أن يغمضوا أعينهم عن الحقيقة ويزعموا أن دوافع محمد عليه الصلاة والسلام في دعوته إنما كانت الرغبة في السيادة والملك، وإن صدموا رؤوسهم في هذا الزعم بصخور عاتية تقذفهم وتردهم إلى الوراء أشواطا.
لقد سخر الله من قبلهم عتبة بن ربيعة وأمثاله، لحمل هذه الدوافع والآمال ووضعها بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام لينالها قريبة سائغة وليبصر قريشا كلها وقد دانت له وألقت من يدها ما رفعته من السلاح ووسائل التعذيب في وجهه ووجه أصحابه، فلماذا لم يلن الرسول لهم، ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه مادام أنها الدافع له من وراء رسالته ودعوته؟
وهل ينصت طالب الملك والزعامة لمن سعى يعرضهما عليه، في مفاوضة طويلة وتخويف ورجاء وتهديد، ليقول لهم أخيرا: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا.. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ؟!.
ثم إن معيشته الحياتية كانت مطابقة لكلامه هذا، فهو لم يعرض عن الزعامة والملك بلسانه، ليصل إليهما خلسة بسعيه وعمله. بل كان صلّى الله عليه وسلم بسيطا في مأكله ومشربه، لا يعلو عما عليه حالة الفقراء والمساكين. قالت عائشة فيما يرويه البخاري: «لقد توفي النبي صلّى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليّ» . ويقول أنس رضي الله عنه فيما يرويه البخاري أيضا: «لم يأكل النبي صلّى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزا مرققا حتى مات» .
وكان بسيطا للغاية في ملبسه وأثاث بيته، يؤثر في جنبه الحصير وما عرف أنه نام قط على شيء وثير. حتى إن نساءه جئن إليه يوما وفيهن السيدة عائشة رضي الله عنها يشتكين إليه الفاقة ويطالبنه بمزيد من النفقة لزينتهن ولباسهن حتى لا تكون إحداهن أقل شأنا من مثيلاتها من نساء الصحابة، فأطرق مغضبا ولم يجب ثم نزل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب 33/ 28، 29] ، فتلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن هاتين الآيتين، ثم خيرهن بين قبول العيش معه على الحالة التي هو فيها، أو الإصرار على مطالبهن من النفقة وزيادة الزينة والمال وحينئذ يفارقهن ويسرحهن سراحا جميلا، فاخترن العيش معه على ما هو عليه «10» .
فكيف يشك العقل- أيّ عقل- بعد هذا كله، في صدق نبوته، وكيف يصح أن يتوهم الفكر أو الخيال بأنه قد يكون مدفوعا برغبة الزعامة أو الطمع في الغنى؟ .. فهذه هي الدلالة.
الأولى التي تؤخذ من هذا المشهد الذي ذكرناه.
__________
(10) رواه البخاري، وانظر تفسير ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين.
الدلالة الثانية: وهي تبين لنا معنى الحكمة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمسك ويتصف بها.
هل الحكمة أن تضع أنت السياسة التي تراها في سير الدعوة مهما كانت كيفيتها ومهما كان نوعها؟
وهل أعطاك الشارع صلاحية أن تسلك أي سبيل أو وسيلة تراها ما دام هدفك من وراء ذلك هو الحق؟
لا.. إن الشريعة الإسلامية تعبدتنا بالوسائل كما تعبّدتنا بالغايات. فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق المعينة التي جعلها الله وسيلة إليها. وللحكمة والسياسة الشرعية معان معتبرة، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط.
والدليل ما رويناه آنفا، فقد كان من المتصور في باب الحكمة والسياسة أن يرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم بالزعامة أو الملك على أن يجمع في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصا وإن للسلطان والملك وازعا قويا في النفوس، وحسبك أن أرباب الدعوات والمذاهب ينتهزون فرصة الاستيلاء على الحكم كي يستعينوا بسلطانه على فرض دعوتهم ومذاهبهم على الناس.
ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يرض سلوك هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها.
لو جاز أن يكون مثل هذا الأسلوب نوعا من أنواع الحكمة والسياسة الرشيدة، لا نمحى الفرق بين الصادق الصريح في صدقه والكاذب الذي يخادع في كذبه، ولتلاقى الصادقون في دعوتهم مع الدجالين والمشعوذين، على طريق واحدة عريضة اسمها: الحكمة والسياسة.
إن فلسفة هذا الدين تقوم على عماد الشرف والصدق في كل من الوسيلة والغاية. فكما أن الغاية لا يقوّمها إلا الصدق والشرف وكلمة الحق، فكذلك الوسيلة لا ينبغي أن يخطّها إلا مبدأ الصدق والشرف وكلمة الحق.
ومن هنا يحتاج أرباب الدعوة الإسلامية في معظم حالاتهم وظروفهم إلى التضحية والجهاد، لأن السبيل التي يسلكونها لا تسمح لهم بالتعرج كثيرا ذات اليمين وذات الشمال.
ومن الخطأ أن تحسب مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شرع من أجل تسهيل عمل الداعي أو من أجل تفادي المآسي والأتعاب، بل السرفي مشروعية الحكمة في الدعوة إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس وأفكارهم. ومعنى هذا أنه إذا اختلفت الأحوال وقامت عثرات الصدّ والعناد دون سبيل الدعوة، فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد والتضحية بالنفس والمال، إن الحكمة إنما هي أن تضع الشيء في مكانه.
وهذا هو الفرق بين الحكمة والمخادعة، وبين الحكمة والمسالمة.
وأنت خبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما استبشر بما رآه مرة من دلائل إقبال بعض زعماء قريش على فهم الدين، انصرف إليهم بكليته مبتهجا يكلمهم ويشرح لهم ما يستفسرون عنه من حقائق الإسلام، حتى دعاه ذلك الاستبشار والطمع في هدايتهم إلى أن يعرض عن الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم حينما مرّ بهم فوقف إلى جانبهم يستمع، وأخذ هو الآخر يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام حرصا على الفرصة أن لا تفوته وأملا في أن يجيب عبد الله بن أم مكتوم في أي وقت آخر.
فعاتبه الله على ذلك في سورة: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس 80/ 1، 2] ، وأنكر عليه اجتهاده هذا، وإن كانت غايته مشروعة ونبيلة، ذلك لأن الوسيلة قد انطوت على كسر خاطر مسلم أو ما يدل على الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه من أجل اجتذاب قلوب المشركين.
فهي ليست بمشروعة ولا مقبولة.
والخلاصة، أنه ليس لأحد من الناس أن يغير شيئا من أحكام الإسلام ومبادئه، أو يتجاوز شيئا من حدوده أو يستهين بها، باسم اتباع الحكمة في النصيحة والدعوة، لأن الحكمة لا تعتبر حكمة إلا إذا كانت مقيدة ومنضبطة ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها.
الدلالة الثالثة: ونستفيدها من موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من تلك المطالب التي طلبتها قريش منه صلّى الله عليه وسلم شرطا لاتباعها له. وهو موقف أيده الله فيه، ففيه- كما ذكر عامة المفسرين- نزل قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا
[الإسراء 17/ 90- 93] .
وليس السبب في عدم استجابة الله لهم ذلك، ما قد يظنه البعض من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم ما أوتي من المعجزات إلا معجزة القرآن، ولذلك لم تستجب لهم مطالبهم، وإنما السبب أن الله عز وجل علم أنهم إنما يطالبون بذلك كفرا وعنادا وإمعانا في الاستهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، كما هو واضح في أسلوب طلبهم ونوع المطالب التي عرضوها. ولو علم الله عز وجل فيهم صدق الطلب وحسن النية وأنهم مقبلون في ذلك على محاولة التأكد من صدق النبي عليه الصلاة والسلام، لحقق لهم ذلك. ولكن أمر قريش في ذلك مطابق لما وصفه الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14، 15] ، وإذا علمت ذلك، أدركت أنه لا تنافي بين هذا وما ثبت من إكرام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الكثيرة المختلفة مما سنفصل القول فيه قريبا إن شاء الله.
,
يجب أن يسترعي انتباهنا من خبر هذا الوفد أمران اثنان:
أولا: في قدوم هذا الوفد إلى مكة للقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتعرف على الإسلام، في غمرة ما كان المسلمون يعانونه من عذاب وإيذاء ومقاطعة وتضييق، دلالة باهرة على أن ما قد يلاقيه أرباب الدعوة الإسلامية في طريقهم من الآلام والمصائب لا يعني بحال ما الخيبة أو الإخفاق، ولا يستلزم الضعف أو التخاذل أو اليأس. بل العذاب كما قلنا طريق لابد من سلوكها للوصول إلى النجاح والنصر. لقد جاء هذا الوفد، وكانوا يزيدون على ثلاثين رجلا من النصارى، وقيل بل كانوا يزيدون على أربعين رجلا، جاؤوا يمخرون عباب البحر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليعلنوا الولاء للدعوة الجديدة، وليعلنوا بلسان الحال أن أعداء الدعوة الإسلامية لن يستطيعوا- مهما ضيقوا عليها ومهما عذبوا وآذوا أربابها ومهما قاطعوهم وائتمروا بهم- أن يمنعوها من أن تؤتي ثمارها أو أن يحبسوها عن الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها.
وكأنما قد علم أبو جهل بهذه الحقيقة فتجلت آثارها على نفسه ولسانه في الكلمات الحاقدة التي واجه بها أفراد ذاك الوفد. ولكن ما عساه يصنع؟ إن كل ما يستطيع هو وأمثاله أن يصنعوه،
__________
(14) رواه ابن إسحاق ومقاتل، والطبراني عن سعيد بن جبير. وانظر ابن كثير والقرطبي والنيسابوري عند تفسير هاتين الآيتين.
إنزال مزيد من التعذيب والإيذاء بالمسلمين. أما أن لا تبلغ الدعوة مداها وأن لا تؤتي ثمارها، فليس له إلى ذلك من سبيل.
ثانيا: ما هي نوعية الإيمان الذي آمنه أفراد هذا الوفد؟ هل هو إيمان من يخرج من ظلمات الكفر إلى النور؟
الواقع أن إيمانهم كان مجرد استمرار لإيمانهم السابق، ومجرد سلوك بمقتضى ما كانوا يتمسكون به من عقيدة ودين. فقد كانوا (على حد تعبير رواة السيرة) أهل إنجيل يؤمنون به، ويسيرون على هديه. ولما كان الإنجيل يأمر باتباع الرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه السلام ويتحدث عن صفاته ومميزاته، فقد كان من مقتضى استمرار إيمانهم، الإيمان بهذا النبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وإذن فإن إيمانهم به عليه الصلاة والسلام لم يكن عملية انتقال من دين إلى دين بسبب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما كان استمرارا لحقيقة الإيمان بعيسى عليه السلام وما أنزل إليه.
وهذا هو معنى قولهم فيما تحكيه عنهم الآية الشريفة: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص 28/ 53] أي إنا كنا مسلمين ومؤمنين بهذا الذي يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، من قبل بعثته، لأنه مما يدعو الإنجيل إلى الإيمان به.
وهذا هو شأن كل من تمسك تمسكا حقيقيا بما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام أو بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إذ الإيمان بالإنجيل والتوراة يستدعي الإيمان بالقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام. ولذلك أمر الله رسوله أن يكتفي من دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام بمجرد مطالبتهم بتطبيق ما في التوراة أو الإنجيل الذي يدّعون الإيمان به، فقال جلّ جلاله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة 5/ 68] .
وهذا يقتضي تأكيد ما بينّاه من أن الدين الحق واحد لم يتعدد، منذ خلق آدم عليه السلام إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلمة (الأديان السماوية) التي يستعملها بعض الناس، كلمة لا معنى لها.
نعم، هناك شرائع سماوية متعددة وكل شريعة سماوية ناسخة للشريعة التي قبلها. ولكن ينبغي أن لا نخلط بين (الدين) الذي يطلق أوّل ما يطلق على العقيدة و (الشريعة) التي تطلق على الأحكام السلوكية المتعلقة بالعبادات أو المعاملات.
,
يؤخذ من هذا المقطع من سيرته صلّى الله عليه وسلم مبادئ وعظات هامة نجملها فيما يلي:
1- فيما أوضحناه من نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلم، دلالة واضحة على أن الله سبحانه وتعالى ميز العرب على سائر الناس، وفضل قريشا على سائر القبائل الأخرى. تجد هذه الدلالة واضحة في الحديث الذي رويناه عن مسلم، وقد وردت بمعناه أحاديث كثيرة أخرى. فمن ذلك ما رواه الترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: «من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال:
أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» «2» .
واعلم أن مقتضى محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد والجنس بل من حيث الحقيقة المجردة. ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها- ولا ريب- بانتساب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليها.
ولا ينافي ذلك ما قد يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين، عن صراط الله عز وجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط من شأنه أن يودي بما كان من نسبة بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم ويلغيها من الاعتبار.
2- ليس من قبيل المصادفة أن يولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتيما، ثم لا يلبث أن يفقد جده أيضا، فينشأ النشأة الأولى من حياته بعيدا عن تربية الأب ورعايته محروما من عاطفة الأم وحنوها.
لقد اختار الله عز وجل لنبيه هذه النشأة لحكم باهرة، لعلّ من أهمها أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريبة في القلوب أو إيهام الناس بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم إنما رضع لبان دعوته ورسالته التي
__________
(1) راجع قصة استرضاعه في بادية بني سعد وخبر شق صدره في سيرة ابن هشام: 1/ 64 وانظر صحيح مسلم: 1/ 101 و 102
(2) الترمذي: 9/ 236 كتاب المناقب.
نادى بها منذ صباه، بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده، ولم لا؟ وإن جده عبد المطلب كان صدرا في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة والسقاية «3» .
ومن الطبيعي أن يربي الجد حفيده أو الأب ابنه على ما يحفظ لديه هذا الميراث.
لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن لا يكون للمبطلين من سبيل إلى مثل هذه الريبة، فنشّأ رسوله بعيدا عن تربية أبيه وأمه وجدّه، وحتى فترة طفولته الأولى، فقد شاء الله عز وجل أن يقضيها في بادية بني سعد بعيدا عن أسرته كلها، ولما توفي جدّه وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات، كان من تتمة هذه الدلالة أن لا يسلم عمه، حتى لا يتوهم أن لعمه مدخلا في دعوته، وأن المسألة مسألة قبيلة وأسرة وزعامة ومنصب.
وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيما، تتولاه عناية الله وحدها بعيدا عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني.
3- يدل ما اتفق عليه رواة السيرة النبوية من أن منازل حليمة السعدية عادت ممرعة مخضرّة بعد أن كانت مجدبة قاحلة، وعاد الدرّ حافلا في ضرع ناقتها الكبيرة المسنة بعد أن كان يابسا لا يتندى بقطرة لبن، يدل ذلك على علوّ شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورفعة مرتبته عند ربّه حتى عندما كان طفلا صغيرا كغيره من الأطفال. فقد كان من أبرز مظاهر إكرام الله له أن أكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه. وليس في ذلك من غرابة ولا عجب، فقد علمتنا شريعتنا الإسلامية أن نستسقي عند انحباس المطر ببركة الصالحين من الناس ومن أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم رجاء استجابة الله لدعائنا «4» ، فكيف إذا تشرف المكان برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو طفل رضيع قد استكان إلى حجر حليمة والتقم ثديها؟ إن من الجدير أن تكون سببيته لا خضرار الأرض المجدبة من حوله أبلغ من سببية قطر السماء وينابيع الأرض. وما دام الكل بيد الله وهو وحده مسبب الأسباب جميعها فأجدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكون في مقدمة أسباب البركة والإكرام الإلهي ذلك أنه رحمة الله إلى الناس بصريح تبيانه سبحانه وتعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] .
__________
(3) الرفادة شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، أي تتعاون به فيخرج كل إنسان بقدر طاقته فيجمعون مالا عظيما فيشترون به طعاما وزبيبا ونبيذا ويطعمون الناس ويسقونهم أيام موسم الحج حتى ينقضي.
(4) يستحب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة سواء في الاستسقاء وغيره: أجمع على ذلك جمهور الأئمة والفقهاء. انظر فتح الباري: 2/ 339 ونيل الأوطار: 2/ 7 وسبل السلام: 2/ 134 والمغني لابن قدامة الحنبلي: 2/ 265
4- تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل، وقد رويت هذه الحادثة بطرق صحيحة وعن كثير من الصحابة منهم أنس بن مالك فيما يرويه مسلم في صحيحه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- مرضعته- ينادون: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون» «5» .
وليست الحكمة من هذه الحادثة- والله أعلم- استئضال غدة الشر في جسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ لو كان الشر منبعه غدة في الجسم أو علقة في بعض أنحائه، لأمكن أن يصبح الشرير خيرا بعملية جراحية. ولكن يبدو أنّ الحكمة هي إعلان أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم.
وأيا كانت الحكمة، فلا ينبغي- وقد ثبت الخبر ثبوتا صحيحا- محاولة البحث عن مخارج لنخرج منها بهذا الحديث عن ظاهره وحقيقته إلى التآويل الممجوجة البعيدة المتكلفة. ولن تجد من مسوغ لمن يحاول هذا- على الرغم من ثبوت الخبر وصحته- إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل.
ينبغي أن نعلم بأن ميزان قبولنا للخبر إنما هو صدق الرواية وصحتها فإذا ثبتت الرواية ثبوتا بيّنا فلا مناص من قبوله موضوعا على الرأس، وميزاننا لفهمه حينئذ دلالات اللغة العربية وأحكامها. والأصل في الكلام الحقيقة، ولو أنه جاز لكل باحث وقارئ أن يصرف الكلام عن حقيقته إلى مختلف الدلالات المجازية ليتخير من بينها ما يروق له، لا نشلّت قيمة اللغة وفقدت دلالتها وتاه الناس في مفاهيمها.
ثم فيم البحث عن التأويل ومحاولة استنكار الحقيقة؟
أما إن ذلك لا يأتي إلا من ضعف في الإيمان بالله، ثم من ضعف في اليقين بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق رسالته، وإلا فما أسهل اليقين بكل ما صح نقله سواء عرفت الحكمة والعلة أم لم تعرف.
__________
(5) مسلم 1/ 101 و 102 وثبت في الصحيح تكرار حادثة شق صدره صلّى الله عليه وسلم أكثر من مرة.
,
كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، في مكة، فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزء والسخرية. فلما أذن لهم الرسول بالهجرة، أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم.
ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى والثانية. قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد. حتى إذا أشار لهم الرسول بالهجرة إلى المدينة، توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب، ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين.
ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال، فتركوا كل ذلك في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنه بالإخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤووهم وينصروهم.
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، لا يبالي بالوطن ولا بالمال والنشب في سبيل أن يسلم له دينه.
هذا عن أصحاب رسول الله في مكة.
أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدّموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل.
وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها، ولذلك كان الميراث في صدر الإسلام على أساس وشيجة الدين، وأخوته والهجرة في سبيله.
ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد أن تكامل الإسلام في المدينة، وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة.
يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] .
ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
1- وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. روى القرطبي عن ابن العربي: «أن هذه الهجرة كانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. والتي انقطعت بالفتح، إنما هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن بقي في دار الحرب عصى» «49» . ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
__________
(49) تفسير القرطبي: 5/ 350
ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء 4/ 97، 98] .
2- وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعضهم، مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنا.
فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين، في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باؤوا بإثم كبير.
يقول أبو بكر بن العربي: «إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك» «50» .
وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعضهم، فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم، ولا يجوز أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم. وهذا ما يصرح به كلام الله عز وجل، إذ يقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال 8/ 73] .
يقول ابن العربي: «قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم» «51» .
ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية، هو أساس نصرة المسلمين في كل عصر وزمن، كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب أعدائهم عليهم من كل جهة وصوب.
__________
(50) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 876
(51) المرجع السابق: 2/ 876
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم
جاء في صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين إلى المدينة، جاء يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الآخر في الهجرة. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: «وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟» قال: «نعم» . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر «52» .
وفي هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا له في دار الندوة (وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها) يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم أخيرا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم يعطى كل منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، كي لا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة، وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة «53» .
قالت عائشة فيما يروي البخاري: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: «هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها» .
فقال أبو بكر: «فدا له أبي وأمي. والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ، قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: «إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله» . قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» ، فقال أبو بكر: «فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بالثمن» .
قالت عائشة: فجهزناهما أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق «54» .
وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما
__________
(52) البخاري: 4/ 255
(53) سيرة ابن هشام: 1/ 155 وطبقات ابن سعد: 212
(54) في طبقات ابن سعد: أنها شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب، وشدت فم الجراب بالباقي فسميت ذات النطاقين.
يؤدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شيء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما يعلمون من صدقه وأمانته.
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما في بياض النهار، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من الأخبار. وأمر عامر بن فهيرة (مولاه) أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى، إلى الغار (غار ثور) ليطعما من ألبانها، وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما في كل مساء.
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد، كلاهما عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: «لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة. آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه» .
قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه قال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك» «55» .
ولما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم اجتمع المشركون على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربصون به ليقتلوه، ولكنه عليه الصلاة والسلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليا رضي الله عنه في مكانه نائما على فراشه، وطمأنه بأنه لن يصل إليه أي مكروه.
وانطلق رسول الله وصاحبه أبو بكر إلى غار ثورليقيما فيه، وكان ذلك على الراجح في اليوم الثاني من ربيع الأول الموافق 20 أيلول سنة (622 م) بعد أن مضى ثلاث عشرة سنة من البعثة، فدخل أبو بكر قبل الرسول صلّى الله عليه وسلم فلمس الغار، لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فأقاما فيه ثلاثة أيام، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بأخبار مكة، ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من الغنم، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كي لا يظهر لقدميه أثر.
__________
(55) سيرة ابن هشام: 1/ 488 وترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 282
أما المشركون فقد انطلقوا- بعد أن علموا بخروج النبي صلّى الله عليه وسلم- ينتشرون في طريق المدينة ويفتشون عنه في كل المظانّ، حتى وصلوا إلى غار ثور، وسمع الرسول وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا» . فأجابه عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» «56» .
فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار، ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله..
ولما انقطع الطلب عنهما خرجا، بعد أن جاءهما عبد الله بن أرقط (وهو من المشركين، كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأنّا إليه، وواعداه مع الراحلتين عند الغار) فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط.
وكان قد جعل مشركو مكة لكل من أتى برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل منهما.
وذات يوم، بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم، وبينهم سراقة بن جعشم، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراهما محمدا وأصحابه. فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراه أن يثني عزم غيره عن الطلب، فقال له: إنك قد رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالّة لهم. ثم لبث في المجلس ساعة، وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من الرسول فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان.
فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصل إليهم، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا له: لا حاجة لنا، ولكن عم عنا الخبر، فقال: كفيتم «57» .
ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول ... وهكذا انطلق إليهما في الصباح جاهدا في قتلهما، وعاد في المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما.
__________
(56) متفق عليه.
(57) متفق عليه، والتفصيل للبخاري: 4/ 225- 256
,
نأخذ من حديث هجرة المسلمين إلى الحبشة ثلاث دلالات:
الدلالة الأولى: إن الدين والاستمساك به وإقامة دعائمه، أساس ومصدر لكل قوة، وهو السياج لحفظ كل حق من مال وأرض وحرية وكرامة، ومن أجل هذا كان واجب الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله أن يجندوا كل إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه، وأن يجعلوا من الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها، وجب بذله.
ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه، لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أيضا من ورائه، أما إذا قوي شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته، فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود.. يعود أقوى من ذي قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة..
ولقد جرت سنّة الله في الكون على مرّ التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية. فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في
خلقها مضطربة في عقيدتها تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يغدو أقرب إلى الاضمحلال ومكتسباتها المادية أسرع إلى الزوال.
وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها من حيث القوة والسلطان المادي، ولكنها في الحقيقة والواقع تمر بسرعة نحو هاوية سحيقة. والسبب في أنك لا تحس بحركة هذا المرور وسرعته هو قصر عمر الإنسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب. ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهي.
وقد تصادف أن تجد أمة تعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروة ووطن ومال في سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفي سبيل بناء النظام الاجتماعي السليم، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تجد أرباب هذه العقيدة الصحيحة وما يتبعها من الخلق والنظام الاجتماعي السليمين قد استحوذوا على وطنهم المسلوب ومالهم المغصوب وعادت إليهم قوتهم مضاعفة معززة.
وأنت لن تجد الصورة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة إلا في عقيدة الإسلام الذي هو دين الله لعباده في الأرض ولن تجد من نظام اجتماعي عادل سليم إلا في نظام الإسلام وهديه. ولذا فقد كان من أسس الدعوة إلى الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيله، فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة.
ومن أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام. فأشار الرسول صلّى الله عليه وسلم على أصحابه- بعد أن نالهم من أذى المشركين ما خشي عليهم معه الفتنة في الدين- بالهجرة والخروج من الوطن.
وأنت خبير أن هذه الهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب والألم في سبيل الدين، فهي ليست في الحقيقة هربا من الأذى والراحة، بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر.
وأنت خبير أيضا أن مكة لم تكن إذ ذاك دار إسلام حتى يقال: فكيف ترك أولئك الصحابة دار الإسلام وفروا ابتغاء سلامة أرواحهم إلى بلاد كافرة؟ فمكة والحبشة وغيرهما كانت سواء إذ ذاك، وأيها كانت أعون للصحابي على ممارسة دينه والدعوة إليه، فهي أجدر بالإقامة فيها.
أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة، أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج.. وأما الجواز فيكون عندما يصيبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى. وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره «12» .
__________
(12) انظر تفسير القرطبي 5/ 35 وأحكام القرآن لابن العربي 2/ 887
الدلالة الثانية: ونأخذ منها حقيقة العلاقة القائمة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام، فقد كان النجاشي على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان مخلصا وصادقا في نصرانيته. ولقد كان من مقتضى إخلاصه هذا أن لا يتحول عنها إلى ما يخالفها وأن لا ينتصر لمن تختلف عقيدتهم عما جاء به الإنجيل وما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام.
أي فلو صحت تقولات أولئك الذين يزعمون انتماءهم إلى عيسى بن مريم وتمسكهم بالإنجيل، من أن عيسى ابن الله تعالى وأنه ثالث ثلاثة، لتمسك النجاشي- الذي كان من أخلص الناس لنصرانيته- بذلك، ولردّ على المسلمين كلامهم وانتصر لرسل قريش فيما جاؤوا من أجله.
ولكنا رأينا النجاشي يعلق على ما سمعه من القرآن وترجمته لحياة عيسى بن مريم بقوله:
«إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم ليخرج من مشكاة واحدة» . يقول ذلك على مسمع من بطارقة وعلماء الكتاب الذين من حوله.
وهذا يؤكد ما هو بديهي الثبوت من أن الأنبياء كلهم إنما جاؤوا بعقيدة واحدة لم يختلفوا حولها بعضهم عن بعضهم قيد شعرة، ويؤكد لنا أن اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا من عند أنفسهم كما قال الله تعالى.
الدلالة الثالثة: أنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء أكان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك «13» ، أم كان مشركا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة وكأبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلّى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف.
وهذا مشروط- بحكم البداهة- بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية إضرارا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرا لبعض أحكام الدين، أو سكوتا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها. ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمّله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه.
__________
(13) كان النجاشي ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما مات نعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم للصحابة ثم خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه. رواه مسلم.
أول وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وفي غمرة ما كان يلاقيه النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من العذاب والإيذاء وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول وفد من خارج مكة لفهم شيء عن الإسلام. وكانوا بضعة وثلاثين رجلا من نصارى الحبشة جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب لدى عودته إلى مكة. فلما جلسوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم واطّلعوا على صفاته وأحواله وسمعوا ما تلي عليهم من القرآن، آمنوا كلهم، فلما علم بذلك أبو جهل أقبل إليهم قائلا:
«ما رأينا ركبا أحمق منكم! .. أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا» .
فنزل في حقهم قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «14» [القصص 28/ 52- 55] .
,
أول ما قد يخطر في بال المتأمل، حينما يرى قصة ما لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين، من صنوف الإيذاء والتعذيب، هو أن يتساءل: فيم هذا العذاب الذي لقيه النبي وأصحابه وهم على الحق؟ ولماذا لم يعصمهم الله عز وجل منه وهم جنوده وفيهم رسوله يدعون إلى دينه ويجاهدون في سبيله؟
__________
(6، 7) رواه البخاري.
(8) انظر تاريخ الطبري: 2/ 344 وسيرة ابن هشام: 1/ 158
(9) انظر ما لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين في سيرة ابن هشام أو تهذيب السيرة وكتاب نور اليقين للخضري وغيرها من كتب السيرة.
والجواب: أن أول صفة للإنسان في الدنيا، أنه مكلف، أي أنه مطالب من قبل الله عز وجل بحمل ما فيه كلفة ومشقة. وأمر الدعوة إلى الإسلام والجهاد لإعلاء كلمته من أهم متعلقات التكليف، والتكليف من أهم مستلزمات العبودية لله تعالى، إذ لا معنى للعبودية لله تعالى إن لم يكن ثمة تكليف. وعبودية الإنسان لله عز وجل ضرورة من ضرورات ألوهيته سبحانه وتعالى.
فلا معنى للإيمان بها إن لم ندرك عبوديتنا له.
فقد استلزمت العبودية- إذن- التكليف، واستلزم التكليف تحمل المشاق ومجاهدة النفس والأهواء.
ومن أجل هذا كان واجب عباد الله في هذه الدنيا تحقيق أمرين اثنين:
أولهما: التمسك بالإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح.
ثانيهما: سلوك السبل الشاقة إليه واقتحام المخاطر وبذل المهج والمال من أجل تحقيق ذلك.
أي إن الله عز وجل كلفنا بالإيمان بالغاية، وكلفنا إلى جانب ذلك بسلوك الوسيلة الشاقة الطويلة إلى هذه الغاية مهما بلغت المسألة في خطورتها وصعوبتها.
ولو شاء الله لجعل السبيل إلى إقامة المجتمع الإسلامي بعد الإيمان به، سهلا معبّدا، ولكن السير في هذه السبيل لا يدل حينئذ على شيء من عبودية السالك لله عز وجل وعلى أنه قد باع حياته وماله له عز وجل يوم أن أعلن الإيمان به، وعلى أن جميع أهوائه تابعة ومنقادة لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأمكن حينئذ أن يلتقي على هذه الجادة المؤمن والمنافق والصادق والكاذب، فلا يتمحص الواحد منهم عن الآخر.
وإذن فإن ما يلاقيه الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدون في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي، سنة إلهية في الكون منذ فجر التاريخ تقتضيها حكم ثلاث:
أولا: صفة العبودية الملازمة للإنسان، لله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .
ثانيا: صفة التكليف المتفرعة عن صفة العبودية، فما من رجل أو امرأة يبلغ أحدهما، عاقلا، سن الرشد، إلا وهو مكلف من قبل الله عز وجل بتحقيق شرعة الإسلام في نفسه وتحقيق النظام الإسلامي في مجتمعه، على أن يتحمل في سبيل ذلك كثيرا من الشدة والأذى، حتى يتحقق معنى التكليف.
ثالثا: إظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين. فلو ترك الناس لدعوى الإسلام ومحبة الله تعالى على ألسنتهم فقط، لاستوى الصادق والكاذب. ولكن الفتنة والابتلاء، هما الميزان الذي يميز الصادق عن الكاذب. وصدق الله القائل في محكم كتابه:
الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1، 3] والقائل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] .
وإذا كانت هذه هي سنة الله في عباده، فلن تجد لسنة الله تبديلا حتى مع أنبيائه وأصفيائه.
من أجل ذلك أوذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأوذي من قبله جميع الأنبياء والرسل، ومن أجل ذلك أوذي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى مات منهم من مات تحت العذاب، وعمي من عمي، رغم عظيم فضلهم وجليل قدرهم عند الله عز وجل.
فإذا أدركت طبيعة العذاب الذي يلقاه المسلم في طريقه إلى إقامة المجتمع الإسلامي، علمت أنه ليس في حقيقته عقبات أو سدودا تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية، كما قد يتوهم بعض الناس. بل هو سلوك في الطريق الطبيعي الذي خطه الله تعالى بين المسلم والغاية التي أمره بالسير إليها. أي أن المسلمين يقربون من الغاية التي كلفهم الله بالوصول إليها، بمقدار ما يجدونه في طريقهم إلى ذلك من العذاب، وبمقدار ما يتساقط منهم من الشهداء.
ولذا، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يتوهم اليأس، إذا ما عانى شيئا من المشقة أو المحنة. بل العكس هو الأمر المنسجم مع طبيعة هذا الدين. أي إن على المسلمين أن يستبشروا بالنصر كلما رأوا أنهم يتحملون مزيدا من الضر والنكبات سعيا إلى تحقيق أمر ربهم عز وجل.
وتأمل فإنك ستجد برهان هذا جليا في قوله تعالى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] . فقد كان جواب أولئك الذين لم يفهموا طبيعة العمل الإسلامي، وتوهموا أن هذا الذي يرونه من الأذى والعذاب إنما هو عنوان ودليل على ابتعادهم عن النصر، كان جواب هؤلاء من الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
وتجد برهان هذا جليا فيما رويناه من قصة خباب بن الأرتّ رضي الله عنه، حينما جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد غالبه العذاب الذي اكتوى به معظم جسده، يشكو إليه صلّى الله عليه وسلم ذلك ويسأله الدعاء للمسلمين بالنصر. فقد كان جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له بهذا المعنى:
«إن كنت تتعجب من العذاب والأذى وتستغرب أن ترى ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلم أن هذا هو السبيل.. وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به: مشّط الكثير منهم في سبيل دينه بأمشاط الحديد ما بين المفرق والقدم فما صدهم ذلك عن شيء من دين الله، وإن كنت ترى في العذاب دلائل اليأس والقنوط من النصر، فأنت متوهم. بل الحق هو أن تجد في
العذاب والألم سيرا في الطريق ودنوا من النصر. وسينصرن الله هذا الدين حتى يسير الرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله» وفي رواية بزيادة: «والذئب على غنمه» .
وهذا المعنى نفسه هو السر في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بشّر أصحابه بأن الله سيفتح لهم بلاد الفرس والروم، ومع ذلك فلم تفتح عليهم هذه البلاد إلا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم بزمن غير يسير ولقد كان من مقتضى فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ربه ومدى محبة الله عز وجل له، أن تفتح كل تلك البلاد في حياته وبقيادته وتحت إشرافه، بدلا من أن يسجل التاريخ فتحها بقيادة أحد أتباعه.
لقد كان هذا قريبا من مقتضى محبة الله لرسوله، لولا أن النصر مرتبط بالقانون الذي ذكرناه.
لم يكن المسلمون في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم قد دفعوا، من أجل انتصارهم في بلاد الشام والعراق، أقساط الثمن كله. ولا بد قبل النصر من دفع كامل الثمن. لا بدّ من ذلك ولو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجودا بينهم. وليست المسألة أن ترتبط الفتوحات باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتتم بقيادته وتحت إشرافه من أجل عظيم محبة الله تعالى له. ولكن المسألة هي أن يبرهن المسلمون الذين بايعوا الله ورسوله على صدقهم في هذه المبايعة، وأن يصدقوا فيما عاهدوا الله عليه يوم أن وقعوا بالقبول والرضا تحت قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] .
,
تعتبر قصة هذا المسجد، قمة الكيد الذي وصل إليه المنافقون بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين. وليس هو هذه المرة نفاقا فحسب، بل هو مؤامرة وكيد يدبّر ضدّ المسلمين..
ولذلك، لم يكن موقف النّبي صلّى الله عليه وسلم من هذا الأمر، استمرارا لموقف التجاهل والإهمال، وإنما كان له موقف آخر، استلهمه بوحي من ربّه جلّ جلاله.
وكان هذا الموقف هو الكشف عن حقيقة المنافقين وتعرية أهدافهم عن تلك الأقنعة التي ستروها بها، ثم هدم وتحريق ذلك البناء الذي زعموه مسجدا، وهم إنما بنوه مرصدا لنفاق المنافقين وموئلا لتنظيم المكائد ضد المسلمين، وذريعة للتفريق.
وإن قصة هذا الكيد الأخير من المنافقين، مع القصص السابقة لنفاقهم وكيدهم- تعطينا صورة كاملة عن مجموع حكم الشريعة الإسلامية في حقهم.
فهم في كل ما يصدر عنه من كذب وإظهار لغير ما يظنون، يتركون لظواهرهم في الدنيا، وتوكل ضمائرهم إلى الله عزّ وجلّ وحكمه فيهم يوم القيامة. ولكنهم فيما قد يصدرون عنه من مؤامرات ومساع ضدّ المسلمين، يؤخذون من النواصي متلبسين بجريمتهم، كما ينبغي أن يدكّ ويهدم كل ما قد بنوه من مكائد ومؤامرات.
وقد دلّ على ذلك مجموع سياسته صلّى الله عليه وسلم ومعاملته مع هؤلاء المنافقين، وهو ما اتفق عليه عامة الأئمة الباحثين استنادا إلى هديه صلّى الله عليه وسلم في ذلك.
هذا وإنك إذا تأملت في خطوات هذا الكيد المتلصص من المنافقين، وكيفيته ووسائله، علمت أن طبيعة النفاق واحدة في كل عصر وزمان، وأن وسيلة المنافقين لا تتبدل ولا تختلف، وأنهم هم دائما في جبنهم الذليل وكيدهم الحقير وفي ابتعادهم عن النور وتعلقهم بالظلام.
فهم الذين دائما يسجدون بجباههم على أقدام المستعمر الأجنبي ليعينهم في وسيلة حرب ضدّ إسلام المسلمين في بلدهم، حتى إذا انفتلوا إلى بني قومهم من المسلمين المؤمنين، تظاهروا بالإسلام واصطنعوا مظهر الإعجاب به والدعوة إليه. فإذا أمكنتهم الفرصة من خنق حقيقة من حقائق هذا الدين والقضاء على بعض دعاته أعلنوا أنهم يقومون برسالة تطويره وأنهم إنما يقضون على مستغليه من أعداء الأمة!
وبعد، فقد دلّ عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا، على ضرورة تعطيل أو هدم أو تحريق أماكن المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وإن اختبأت حقيقة هذه الأماكن عن أنظار الناس وراء مظاهر الخير والبر.
وإذا كان هذا هو ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بمسجد الضرار، فما بالك بأماكن المعاصي والفواحش التي يعصى الله فيها جهارا وعلنا؟! وقد أحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرية بكاملها كان يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسمّاه فويسقا «118» ، وهذا ما لم يقع فيه أي خلاف بين علماء المسلمين.
,
وانتشر الإسلام خلال تلك السّنة في المدينة، ولما كان العام الذي يليه، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بيعة النساء (أي على نمطها في البنود التي بايع النساء عليها، أي إنه لم يبايعهم فيها على الحرب والجهاد، وكانت بيعة النساء ثاني يوم الفتح على جبل الصفا بعد ما فرغ من بيعة الرجال) وكان منهم: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبو الهيثم ابن التيهان.
وقد روى عبادة بن الصامت خبر هذه المبايعة، فقال: كنا اثني عشر رجلا، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن
__________
(32) كانوا ستة وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله.
(33) رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أشياخ من قومه، وانظر سيرة ابن هشام: 1/ 428
وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» . قال عبادة بن الصامت: «فبايعناه على ذلك» «34» .
فلما أرادوا الانصراف بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى مقرئ المدينة.
,
أرأيت كيف بدأ التحول في طبيعة ما كان يلاقيه النّبي صلّى الله عليه وسلم طوال هذه السنوات التي خلت من عمر بعثته صلّى الله عليه وسلم؟
لقد أينع الصبر، وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة وأخذ يستوي على سوقه ليعطي النتيجة والثمار.
ولكن، فلنلتفت مرة أخرى- قبل البحث عن الثمرة والبشائر- إلى طبيعة ذلك الصبر النّبوي العظيم، أمام كل تلك الشدائد المختلفة الجسام.
لقد رأينا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يقصر الدعوة على قومه من قريش الذين لم يألوا جهدا في إذاقته كل أصناف المحن والمصائب. بل كان يدخل بين القبائل الآتية من خارج مكة من شتى الجهات والأطراف بمناسبة موسم الحج، فيعرض نفسه كدلال عليهم ويدعوهم إلى بضاعة الدّين وكنز التوحيد، ويذهب ويجيء بينهم فلا يرى مجيبا له. روى أحمد وأصحاب السّنن والحاكم وصححه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربّي؟!» «35» .
إحدى عشرة سنة، والرسول صلّى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) يعاني من حياة لا راحة فيها ولا استقرار، تتربص قريش في كل دقيقة منها بقتله، وتصب عليه ألوانا من المحن والشدائد، فلا ينقص ذلك شيئا من عزيمته ولا يضعف شيئا من قوته وسعيه.
إحدى عشرة سنة، والرسول صلّى الله عليه وسلم يعاني من غربة هائلة مظلمة بين قومه وجيرانه وكافة الجماعات والقبائل المحيطة به، فلا ييأس ولا يضجر ولا يؤثر ذلك على شيء من أنسه بربّه عزّ وجلّ.
إحدى عشرة سنة من الجهاد والصبر المتواصل في سبيل الله وحده، هي الثمن والطريق إلى
__________
(34) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفود الأنصار وبيعة العقبة. ومسلم في كتاب الحدود. وفي اشتراك عبادة في هذه البيعة كلام طويل، انظر تحقيق ذلك في فتح الباري عند شرح هذا الحديث.
(35) فتح الباري: 7/ 156، وزاد المعاد: 2/ 50، وانظر الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 269
نشأة مدّ إسلامي زاخر عظيم ينتشر في مشرق العالم وغربه، تتساقط أمامه قوة الروم وتتهاوى بين يديه عظمة فارس، وتذوب من حوله قيم النظم والحضارات.
ثمن من الجهاد والصبر والتعب وخوض الشدائد، كان من السهل جدا على الله عزّ وجلّ أن يقيم دعائم المجتمع الإسلامي بدونه. ولكن تلك هي سنّة الله في عباده، أراد أن يتحقق فيهم التعبّد له اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا.
ولا يتحقق التعبّد بدون بذل الجهد، ولا يمحّص الصادق من المنافق بدون عذاب أو استشهاد، وليس من العدل أن يكسب الإنسان الغنم دون أن يبذل على ذلك شيئا من الغرم.
من أجل ذلك كلّف الله الإنسان بأمرين اثنين:
1- إقامة شرعة الإسلام ومجتمعه.
2- السير إلى ذلك في طريق شائكة مجهدة غير معبدة.
والآن فلنتأمل في هذه الثمار التي أخذت تبدو على رأس إحدى عشرة سنة من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبيعتها، وكيفية نموها:
أولا: جاءت هذه الثمار المنتظرة من خارج قريش بعيدة عن قومه عليه الصلاة والسلام على الرغم من جواره معهم واحتكاكه بهم، فلماذا؟
قلنا في أوائل هذا الكتاب: لقد اقتضت حكمة الله الباهرة أن تسير الدعوة الإسلامية في سبيل لا تدع أي شك للمتأمل في طبيعتها ومصدرها، حتى يسهل الإيمان بها، ولا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات الأخرى. من أجل ذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ومن أجل ذلك بعث في أمة من الأميين الذين لم يقتبسوا حضارة ولم يعرفوا بمدنية أو ثقافة معينة، ومن أجل ذلك جعله الله مثال الخلق الكريم والأمانة والنزاهة.
ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الله عزّ وجلّ أن يكون أنصاره الأول من غير بيئته وقومه، حتى لا يظن ظان بأن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت في حقيقتها دعوة قومية حاكتها رغبات قومه وظروف بيئته.
وهذا في الواقع من أجلّ الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يدا إلهية تحوط حياة الدعوة النبوية وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن، يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري.
وهذا ما قاله واحد من الباحثين الأجانب أنفسهم، فقد جاء في كتاب حاضر العالم الإسلامي، نقلا عن «دينه» قوله:
«إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوربي المحض،
لبثوا ثلاثة أرباع قرن، يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدّموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيّهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تسنّى لهم شيء من ذلك؟ الجواب: لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنّا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين، لا نجد إلا خلطا وخبطا، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره» «36» .
ثانيا: يتجلى لدى التأمل فيما سردناه من كيفية بدء إسلام الأنصار، أن الله عزّ وجلّ قد مهّد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الإسلامية، وأنه كان في صدور أهل المدينة تهيؤ نفسي لقبول هذا الدين، فما هي مظاهر هذا التهيؤ النفسي؟
لقد كان سكان المدينة المنورة خليطا من سكانها الأصليين وهم العرب المشركون واليهود المهاجرون إليها من أطراف الجزيرة، وكان المشركون ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين إحداهما الأوس، والثانية الخزرج.
وكان اليهود ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني النضير، وبني قنيقاع.
ولقد احتال اليهود طويلا- كعادتهم- حتى زرعوا الضغائن بين قبيلتي الأوس والخزرج، فراح العرب يأكل بعضهم بعضا في حروب طاحنة متلاحقة. ويقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم) : «أن الحرب لبثت بينهم مئة وعشرين سنة» «37» .
وفي غمار هذه الخصومة الطويلة حالف كل من الأوس والخزرج قبيلة من اليهود، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قنيقاع، وكان آخر ما بينهم من المواقع موقعة بعاث، وذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة، وكان يوما عظيما مات فيه أكثر رؤسائهم.
وفي أثناء ذلك، كان كلما وقع شيء بين العرب واليهود، هدد اليهود العرب بأنّ نبيّا قد آن أوان بعثته وأنهم سيكونون من أتباعه، ويقتلونهم معه قتل عاد وإرم.
فهذه الظروف، جعلت لدى أهل المدينة تطلّعا إلى هذا الدين، وعلقت منهم آمالا قوية به، عسى أن تتوحد بفضله صفوفهم ويعود فيلتئم شملهم وتذوب وتمحى أسباب الشقاق مما بينهم.
ولقد كان هذا مما صنعه الله لرسوله، كما يقول ابن القيم في زاد المعاد «38» : «حتى يمهد بذلك
__________
(36) حاضر العالم الإسلامي: 1/ 33
(37) مختصر سيرة الرسول: 124
(38) زاد المعاد: 2/ 50، ط الحلبي.
لهجرته إلى المدينة، حيث اقتضت حكمة الله أن تكون هي المنطلق للمدّ الإسلامي في أرجاء الأرض كلها» .
ثالثا: في بيعة العقبة الأولى، كان قد تمّ إسلام عدد من كبار أهل المدينة، كما ذكرنا.
فكيف كانت صورة إسلامهم؟ وما هي حدود مسؤولياتهم التي حمّلهم الإسلام إياها؟
لقد رأينا أن إسلامهم لم يكن مجرد نطق بالشهادتين، بل كان إسلامهم هو الجزم القلبي والنطق اللساني بهما، ثم التزاما بالبيعة التي أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم، أن ينصبغ سلوكهم بالصبغة الإسلامية عن طريق التمسك بنظمه وأخلاقه وعامة مبادئه، أخذ عليهم أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أي معروف يأمرهم به.
وهذه هي أهم معالم المجتمع الإسلامي الذي بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإنشائه. فليست مهمته أن يلقن الناس كلمة الشهادة ثم يتركهم يرددونها بأفواههم وهم عاكفون على انحرافاتهم وبغيهم ومفاسدهم. صحيح أن الإنسان يصدق عليه اسم المسلم إذا صدّق بالشهادتين وأحلّ الحلال وحرّم الحرام وصدّق بالفرائض، ولكن ذلك لأن التصديق بوحدانية الله ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو المفتاح والوسيلة لإقامة المجتمع الإنساني وتحقيق نظمه ومبادئه، وجعل الحاكمية في كل الأمور لله تعالى وحده. فحيثما وجد الإيمان بوحدانية الله تعالى ورسالة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام لا بدّ أن يتبعه الإيمان بحاكمية الله تعالى وضرورة اتّباع شريعته ودستوره.
ومن أعجب العجب، ما يعمد إليه بعض الذين تأسرهم النظم والتشريعات الوضعية، ممن لا يريدون المجاهرة بنبذ الإسلام واطّراحه، حيث يحاولون أن يسلكوا مع خالق هذا الكون ومالكه مسلكا أشبه ما يكون بمسلك الصلح والمفاوضات.
وسبيل المفاوضة عندهم، أن يقسموا مظاهر المجتمع بينهم وبين الإسلام، فللإسلام من المجتمع مساجده وسائر مظاهره العبادية، يحكم ضمن ذلك على الناس بكل ما يريد، ولهم منه نظمه وتشريعاته وأخلاقه يغيرون منها ويبدلون كما يريدون! ..
ولو أن المتألهين والبغاة الذين أرسلت إليهم الرسل فكذبوا برسالاتهم تنبهوا لهذا الحلّ الطريف إزاء دعوتهم إلى الإسلام، لما توانوا عن الدخول فيه وإظهار الطواعية له، مادام أنه لا يكلفهم التنازل عن حاكميتهم ولا ترك شيء من قوانينهم وتنظيماتهم، ولما بخلوا في مقابل ذلك بكلمة يرددونها أو طقوس يتركون السبيل إليها. ولكنهم علموا أن هذا الدين يكلفهم أول ما يكلفهم الدخول في نظام وحكم جديدين، التشريع والحكم فيه إلى الله وحده، فمن أجل ذلك شاقوا الله ورسوله وعزّ عليهم أن يعلنوا إسلامهم لدعوة الله عزّ وجلّ.
وفي بيان هذه الحقيقة والتحذير من فهم الإسلام على أنه كلمات وعبادات فقط، يقول الله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء 4/ 60] .
رابعا: ما من ريب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان هو المتكفل بعبء الدعوة إلى دين الله، إذ هو رسوله إلى الناس كافة فلا بدّ له من تبليغ دعوة ربّه.
ولكن ماذا عن أولئك الذين يدخلون في الإسلام وعن علاقتهم بعبء هذه الدعوة؟
إنك لتجد الجواب على هذا، في إرسال الرسول صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أولئك الإثني عشر إلى المدينة بدعوة أهل المدينة إلى الإسلام وتعليمهم قراءة القرآن وأحكامه وإقامة الصلاة.
ولقد انطلق مصعب بن عمير سعيدا بتلبية أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وراح يدعو أهل المدينة إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن ويبلغهم أحكام الله، ولقد كان الرجل يدخل عليه وفي يده حربة يريد أن يقتله بها، فما هو إلا أن يتلو عليه شيئا من كتاب الله ويذكر له بعض أحكام الإسلام، حتى يلقي حربته ويتخذ مجلسه مع من حوله مسلما موحدا يتعلم القرآن وأحكام الإسلام، حتى انتشر الإسلام في دور المدينة كلها ولم يكن بينهم حديث إلا عن الإسلام.
وهل تعلم من هو مصعب بن عمير هذا؟!
إنه ذاك الذي كان أنعم غلام بمكة، وأجود شبانها حلّة وبهاء. فلما دخل الإسلام، طوى كل تلك الرفاهية وذلك النعيم، وانطلق في سبيل الدعوة الإسلامية من وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجرع كل شدة ويستعذب كل عذاب حتى قضى نحبه شهيدا في غزوة أحد، وليس له مما يلبسه إلا ثوب واحد، أرادوا أن يكفنوه به، فكانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فأخبروا بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبكى للذي كان فيه من النعمة في صدر حياته، ثم قال:
«ضعوه مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر» «39» .
فليست مهمة الدعوة الإسلامية وقفا على الرسل والأنبياء وحدهم، ولا خلفائهم وورثتهم العلماء الذين يأتون من بعدهم، وإنما الدعوة الإسلامية جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، فلا مناص ولا مفر لكل مسلم من القيام بعبئها مهما كان شأنه أو عمله واختصاصه، إذ حقيقة الدعوة إنما هي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو جماع معنى الجهاد كله في الإسلام، وأنت خبير أن الجهاد فرض من فروض الإسلام تستقر تبعته على كل مسلم.
__________
(39) مسلم: 3/ 48، وانظر الإصابة لابن حجر: 3/ 403
ومن هنا تعلم أنه لا معنى ولا مكان لكلمة رجال الدين، في المجتمع الإسلامي، حينما تطلق على فئة معينة من المسلمين. ذلك أن كل من دخل الإسلام فقد بايع الله ورسوله على الجهاد من أجل هذا الدين، ذكرا كان أم أنثى عالما أو جاهلا، ومهما كان شأنه أو اختصاصه، فالمسلمون كلهم رجال لهذا الدين، اشترى منهم الله أرواحهم وأموالهم بأن لهم الجنة يسخرونها في سبيل إقامة دينه ونصر شريعته.
ومن المعلوم أن هذا كله لا علاقة له بما للعلماء من اختصاص البحث والاجتهاد وتبصير المسلمين بأحكام دينهم، وحلّ ما قد يجدّ من المشكلات في حياتهم، على ضوء نصوص الشريعة الثابتة مع الزمن.
,
هذه البيعة الثانية تتفق في جوهرها مع بيعة العقبة الأولى. فكل منهما إعلان عن الدخول في الإسلام أمام رسول الله، وأخذ للمواثيق والعهود على السمع والطاعة والإخلاص لدين الله، والانصياع لأوامر رسوله.
إلا أننا نلحظ فارقين مهمين جديرين بالملاحظة والدرس، بين كل من بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية.
الفارق الأول: أن عدد المبايعين من أهل المدينة في المرة الأولى كان اثنى عشر أما عددهم في البيعة الثانية فقد كان بضعة وسبعين بينهم امرأتان.
فقد عاد أولئك الاثنا عشر في السنة الأولى- ومعهم مصعب بن عمير- لا لينطوي كل على نفسه وينعزل في بيته، بلى ليبشر بالإسلام كل من كان حوله من رجال ونساء، يتلو عليهم قرآنه ويبين لهم أحكامه ونظامه. فمن أجل ذلك انتشر الإسلام تلك السنة في المدينة انتشارا عظيما حتى لم يبق دار إلا دخلها الإسلام، وأصبح حديث أهلها في عامة الأوقات عن الإسلام وخصائصه وأحكامه.
وتلك هي وظيفة المسلم في كل عهد وفي كل مكان.
الفارق الثاني: أن البنود المنصوص عليها في البيعة الأولى، خالية عن الإشارة إلى الجهاد بالقوة، ولكنها في البيعة الثانية تضمنت الإشارة بل التصريح بضرورة الجهاد والدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والدعوة إلى دينه بكل وسيلة.
وسبب هذا الفارق أن أرباب البيعة الأولى انصرفوا وهم على موعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المكان ذاته في الموسم التالي، ليعودوا إليه بعدد أوفر من المسلمين ويجددوا العهد والمبايعة، فلم يكن
__________
(41) سيرة ابن هشام، ومسند الإمام أحمد، والطبري، والعمدة في كل ذلك على ابن إسحاق عن معبد بن كعب بن مالك.
ثمة ما يستوجب مبايعته على القتال، مادام أن الإذن به لم يأت بعد، وما دام أن هؤلاء المبايعين سيلتقون بعد عام مرة أخرى برسول الله.
لقد كانت البيعة الأولى إذن بيعة مؤقتة، بالنسبة لاقتصارها على تلك البنود فقط، وهي البنود التي بايع عليها النساء فيما بعد.
أما البيعة الثانية، فقد كانت الأساس الذي هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة بناء عليه، ولذا فقد كانت شاملة للمبادئ التي ستتم مشروعيتها بعد الهجرة إلى المدينة، وفي مقدمتها الجهاد والدفاع عن الدعوة بالقوة، وهو حكم وإن لم يكن قد أذن الله بشرعيته في مكة ولكن الله عز وجل قد ألهم رسوله صلّى الله عليه وسلم أن ذلك سيشرع في المستقبل القريب.
ومن هنا تعلم أن مشروعية القتال في الإسلام لم تكن إلا بعد هجرته صلّى الله عليه وسلم على الصحيح، وليس كما قد يفهم من كلام ابن هشام في سيرته أنه إنما شرع قبل الهجرة عند بيعة العقبة الثانية.
وليس في بنود تلك البيعة ما قد يدل على مشروعية القتال حينئذ، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما أخذ على أهل المدينة عهد الجهاد نظرا للمستقبل، عندما سيهاجر إليهم ويقيم بينهم في المدينة. والدليل على هذا ما سبق ذكره أن العباس بن عبادة قال بعد البيعة: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم» .
ومن المتفق عليه أن أول آية نزلت في الجهاد ومشروعيته هي قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وقد روى الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: «لما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنّ. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أن سيكون قتال» «42» .
أما لماذا تأخرت مشروعية الجهاد بالقوة إلى هذه الفترة فللحكم التالية:
1- من المناسب أن يسبق القتال تعريف بالإسلام، ودعوة إليه وإقامة لحججه، وحل للمشكلات التي قد تقف في سبيل فهمه. ولا ريب أن هذه هي المراحل الأولى في الجهاد. ولذا كان القيام بتحقيقها فرض كفاية يشترك المسلمون في المسؤولية عنها.
2- اقتضت رحمة الله بعباده أن لا يحمّلهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به. ولقد كانت المدينة المنورة أول دار في الإسلام.
__________
(42) النسائي: 2/ 52 وتفسير ابن كثير: 3/ 224
,
أما عمله صلّى الله عليه وسلم في مال خديجة، فهو استمرار لحياة الكدح التي بدأها برعي الأغنام، ولقد شرحنا طرفا مما يتعلق بذلك من الحكمة والعبرة.
وأما فضلها ومنزلتها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم فلقد ظلت لخديجة مكانة سامية عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوال حياته، وقد ثبت في الصحيحين أنها خير نساء زمانها على الإطلاق.
روى البخاري ومسلم أن عليا رضي الله عنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» «10» .
__________
(9) رواه ابن سيد الناس في (عيون الأثر) وابن حجر في الإصابة، وغيرهما. وقد جرى خلاف في الأول منهما. والذي رجحه ابن سيد الناس ورواه قتادة وابن إسحاق أن الأول منهما هو عتيق بن عائذ والثاني هند بن زرارة.
(10) الضمير في نسائها عائد- كما تدل رواية مسلم- إلى السماء بالنسبة لمريم وإلى الأرض بالنسبة لخديجة. وقال الطيبي: الضمير الأول راجع إلى الأمة التي كانت فيها مريم، والثاني إلى هذه الأمة. وانظر فتح الباري: 7/ 91
وروى البخاري ومسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول:
أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبّها» «11» .
وروى أحمد والطبراني من طريق مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» .
وأما قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم منها، فإن أول ما يدركه الإنسان من هذا الزواج هو عدم اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية أقرانه من الشبان لطمع بمن هي أقل منه سنا أو بمن ليست أكبر منه على أقل تقدير. ويتجلى لنا أنه صلّى الله عليه وسلم إنما رغب فيها لشرفها ونبلها بين جماعتها وقومها حتى إنها كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
ولقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر، دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم تجاوز هذه الفترة من العمر دون أن يفكر كما قلنا بأن يضم إلى خديجة مثلها من الإناث: زوجة أو أمة، ولو شاء لوجد الزوجة والكثير من الإماء، دون أن يخرق بذلك عرفا أو يخرج على مألوف أو عرف بين الناس، هذا على الرغم من أنه تزوج خديجة وهي أيم، وكانت تكبره بما يقارب مثل عمره.
وفي هذا ما يلجم أفواه أولئك الذين يأكل الحقد أفئدتهم على الإسلام وقوة سلطانه، من المبشرين والمستشرقين وعبيدهم الذين يسيرون من ورائهم، ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء، كما قال الله عز وجل.
فقد ظنوا أنهم واجدون في موضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام ويمكن أن يشوّه من سمعة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتخيلوا أن بمقدورهم أن يجعلوه عند الناس في صورة الرجل الشهوان الغارق في لذة الجسد العازف في معيشته المنزلية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح.
__________
(11) متفق عليه واللفظ لمسلم.
ومعلوم أن المبشرين ومعظم المستشرقين، هم الخصوم المحترفون للإسلام، يتخذون القدح في هذا الدين صناعة يتفرغون لها ويتكسبون منها كما هو معلوم. أما الأغرار الذين يسيرون من ورائهم، فأكثرهم يخاصمون الإسلام على السماع والتقليد، ولا يعنيهم أن يفتحوا أذهانهم لبحث ولا فهم، إنما هو هواية التقليد والاتباع، فخصامهم للإسلام ليس إلا من نوع الشارة التي قد يعلقها الرجل على صدره لمجرد أن يعرف بها بين الناس انتماؤه لجهة معينة، ومعلوم أن الشارة ليست أكثر من رمز، فخصومة هؤلاء للإسلام ليست سوى الرمز الذي يعلنون به عن هويتهم بين الناس: أنهم ليسوا من هذا التاريخ الإسلامي في شيء، وأن ولاءهم إنما هو لهذا الفكر الاستعماري الذي يتمثل فيما يدعو إليه دعاة الاستعمار الفكري من مبشرين ومستشرقين. فهذا هو اختيارهم، من قبل أي بحث ودون محاولة أي فهم! .. أجل، فإن مخاصمتهم للإسلام ليست إلا مجرد شارة يسمون بها أنفسهم بين قومهم وبني جلدتهم، وليس عملا فكريا لقصد البحث أو الحجاج.
وإلّا، فموضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من أهون ما يمكن أن يستدل منه المسلم المتبصر، العارف بدينه والمطلع على سيرة نبيه، على عكس ما يروجه خصوم هذا الدين تماما.
يريدون أن يلصقوا به صلّى الله عليه وسلم صورة الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد! .. وموضوع زواجه عليه الصلاة والسلام هو وحده الدليل الكافي على عكس ذلك تماما. فالرجل الشهوان، لا يعيش إلى الخامسة والعشرين من العمر في بيئة مثل بيئة العرب في جاهليتها، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج من حوله. والرجل الشهوان، لا يقبل بعد ذلك أن يتزوج من أيم لها ما يقارب ضعف عمره، ثم يعيش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في مدارج الشيخوخة.
أما زواجه بعد ذلك من عائشة ثم من غيرها، فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب يزيدان من إيمان المسلم بعظمة محمد صلّى الله عليه وسلم ورفعة شأنه وكمال أخلاقه. وأيا كانت الحكمة والسبب فإنه لا يمكن أن يكون مجرد قضاء الوطر واستجابة للرغبة الجنسية، إذ لو كان كذلك لكان أحرى به أن يستجيب للوطر والرغبة النفسية في الوقت الطبيعي لهذه الرغبة وندائها.. خصوصا وقد كان إذ ذاك خالي الفكر ليس له من هموم الدعوة ومشاغلها ما يصرفه عن حاجاته الفطرية والطبيعية.
ولسنا نرى الإطناب في الدفاع عن زواجه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما يفعل كثير من الباحثين، إذ لا نعتقد أن ثمة مشكلة تحتاج إلى النظر أو البحث، وإن أوهم خصوم الإسلام ذلك.
ورب حق من حقائق الإسلام، لا يطمع خصومه لإبطاله، بأكثر من استجرار المسلمين إلى مناقشة دفاعية في شأنه.
اشتراكه صلّى الله عليه وسلم في بناء الكعبة
الكعبة أول بيت بني على اسم الله ولعبادة الله وتوحيده فيه، بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن عانى من حرب الأصنام وهدم المعابد التي نصبت فيها.. بناها بوحي من الله تعالى وأمر له بذلك وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة 2/ 127] .
وقد تعرضت الكعبة بعد ذلك للعوادي التي أوهت بنيانها وصدعت جدرانها، وكان من بين هذه العوادي سيل عرم جرف مكة قبل البعثة بسنوات قليلة، حيث زاد ذلك من تصدع جدرانها وضعف بنيانها، فلم تجد قريش بدا من إعادة تشييد الكعبة حرصا على ما لهذا البناء من حرمة وقداسة خالدة. ولقد كان احترام الكعبة وتعظيمها بقية مما ظل محفوظا من شرعة إبراهيم عليه السلام بين العرب.
ولقد شارك الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة في بناء الكعبة وإعادة تشييدها مشاركة فعالة، فلقد كان ينقل الحجارة على كتفه، ما بينها وبينه إلا إزاره، وكان له من العمر إذ ذاك خمس وثلاثون سنة في الأصح.
وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «لما بنيت الكعبة، ذهب النّبي صلّى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنّبي صلّى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال: أرني إزاري فشدّه عليه» .
ولقد كان له صلّى الله عليه وسلم أثر كبير في حلّ المشكلة التي تسببت عن اختلاف القبائل حول من يستحق أن ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، فقد خضع جميعهم لاقتراحه الذي أبداه حلّا للمشكلة، علما منهم بأنه الأمين والمحبوب من الجميع.
,
يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو حديث رواه عامة علماء السيرة ورواتها وأخرجه الترمذي مطوّلا من حديث أبي موسى الأشعري- على أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، كان عندهم علم ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفة بعلاماته، وذلك بواسطة ما جاء في التوراة والإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله وأوصافه. والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة.
فمنها ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما نكثوا عهدهم أنزل الله في ذلك قوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 89] .
وروى القرطبي وغيره أنه لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام وقد كان كتابيا فأسلم: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، أما ابني فلا أدري ما الذي قد كان من أمّه. ولقد كان سبب إسلام سلمان الفارسي تتبع خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصفاته من الإنجيل والرهبان وعلماء الكتاب.
ولا ينافي هذا أن كثيرا من أهل الكتاب ينكرون هذا العلم، وأنّ الأناجيل المتداولة خالية عن الإشارة إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم. فمن المعلوم بالبداهة ما تقلّب على هذه الكتب من أيدي التبديل والتغيير المتلاحقة. وصدق الله إذ يقول في محكم تبيانه:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة 2/ 78، 79] .
أما إقباله على رعي الأغنام لقصد اكتساب القوت والرزق ففيه ثلاث دلالات هامة:
__________
(8) رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال عنه: صحيح على شرط مسلم. ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر.
الأولى: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم. لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنوّ والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلّى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه. وربما كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله الذي اختاره الله له، فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب، ولكنه على كلّ تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر، وبذل للوسع، وشهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة.
الثانية: وتتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا.
لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهيئ للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيا وراء القوت.
ولكن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله.
الثالثة: إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته أي قيمة في الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم. ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل في دنياه فيعوقه ذلك عن أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبال بالموقع الذي قد تقع من نفسه.
وهذا المعنى وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذه الفترة، إذ إنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة.
وفيما قصه النبي صلّى الله عليه وسلم عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
الثانية: أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق
مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحي أو الشريعة التي تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصما آخر خفيا يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق وإرساء شريعة الإسلام.
وفي اجتماع هاتين الحقيقتين لديه صلّى الله عليه وسلم دليل واضح على أن ثمة عناية إلهية خاصة تسيّره وتأخذ بيده بدون وساطة الأسباب المعروفة كوسائل التربية والتوجيه، ومن ذا الذي يوجهه في طريق هذه العصمة وكل الذين حوله من أهله وبني قومه وجيرانه، غرباء عن هذا الطريق، ضالون عن هذه الوجهة؟
لا جرم إذن أن هذه العناية الإلهية الخاصة التي جعلت لشباب النبي صلّى الله عليه وسلم طريقا دقيقا من النور يمخر عباب ظلام الجاهلية، من أعظم الآيات الدالة على معنى النبوة التي خلقه الله لها وهيأه لحمل أعبائها، وعلى أن معنى النبوة هو الأساس في تكوين شخصيته واتجاهاته النفسية والفكرية والسلوكية في الحياة.
وكان من اليسير أن يولد الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلم، وقد انتزعت من نفسه كل هذه الدوافع الغريزية إلى التمتع بالشهوات والأهواء، فلا يجد في نفسه ما يدفعه أصلا إلى ترك أغنامه أمانة عند زميله ليهبط إلى بيوت مكة فيبحث بينها عن قوم يسمرون أو يلهون ويمرحون. غير أن ذلك لا يدل حينذاك على أكثر من شذوذ في تركيبه النفساني، وهي ظاهرة يوجد لها نماذج في كل قوم وعصر، وإذن فليس ثمة ما يدل على العناية الخفية التي تصرفه عما لا يليق رغم وجود الدوافع الغريزية نحوه. وإنما اقتضت حكمة الله عز وجل أن يتبدى للناس من هذه العناية الإلهية بالرسول الكريم ما يسهل عليهم أسباب الإيمان برسالته ويبعد عن أفكارهم عوامل الريب في صدقه.
,
1- المشركون وتقاليدهم في الحج: لقد عرفت فيما مضى أن الحج إلى بيت الله الحرام كان مما ورثه العرب عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان من بقايا الحنيفية التي ما زالوا محافظين عليها. إلا أن كثيرا من أدران الجاهلية وأباطيل الشرك قد تسلل إليه، حتى غدا مظهرا من مظاهر الشرك أكثر من أن يكون عبادة قائمة على عقيدة التوحيد.
ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين، ويعارضهم المشركون بإعلاء أصواتهم ليغلطوهم بذلك، فيقولون: «لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» . وكان رجال منهم يطوفون عراة ليس على رجل منهم ثوب، يرون ذلك تعظيما للبيت! .. وكان يقول أحدهم:
«أطوف بالبيت كما ولدتني أمي، ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم» «116» .
وظلت هذه الأرجاس إلى نهاية العام التاسع من الهجرة، حيث كان حج أبي بكر رضي الله عنه والإنذار الذي أبلغه كل من أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لسائر المشركين، إيذانا بطهارة المسجد الحرام عن تلك الأرجاس، وزوالها إلى غير رجعة.
2- انتساخ العهد بإعلان الحرابة: ثم اعلم أن المشركين كانوا إذ ذاك صنفين، كما قال محمد بن إسحاق وغيره: أحدهما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد إلى ما دون أربعة أشهر من الزمن، فأمهل هذا الصنف إلى تمام المدة، وثانيهما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد مفتوح، أي بغير أجل، فاقتصر به القرآن في سورة براءة على أربعة أشهر، ثم هو بعد ذلك الحرب بينهم وبين المسلمين، يقتل أحدهم حيث أدرك، إلا أن يسلم ويتوب، وابتداء هذا الأجل من يوم عرفة من العام التاسع، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر.
وقيل- وهو رأي الكلبي-: إنما كانت الأشهر الأربعة مدة لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر. فأما من كان عهده أكثر من ذلك، فقد أمر الله أن يتم عهده إلى مدته، فذلك هو معنى قوله عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة 9/ 4] .
__________
(116) انظر عيون الأثر لابن سيّد الناس: 2/ 231
والقول الأول أصح وأوجه، إذ ليس في سورة براءة شيء جديد على رأي الكلبي، وإنما هي تأكيد للعهود القائمة بين الرسول صلّى الله عليه وسلم والمشركين، لم تغير منها شيئا ولم تأت بجديد، فأي معنى عندئذ في قراءة عليّ رضي الله عنه للسورة على مسامع المشركين ينذرهم بها، وأي جديد في أن يبعث النّبي صلّى الله عليه وسلم عليّا بذلك؟
3- تأكيد آخر لحقيقة معنى الجهاد: وإنك لتلحظ في هذا تأكيدا جديدا على أن الجهاد في الشريعة الإسلامية ليس حربا دفاعية كما يصوّر المستشرقون! ..
تأمل في قوله عزّ وجلّ وهو ينذر فلول المشركين وبقاياهم حول مكة، من أهل نجد وغيره.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ، وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 1- 5] .
إن هذه الآيات الواضحة القاطعة، لم تبق في الذهن أي مجال لتصور ما يسمى بالحرب الدفاعية، أساسا لمعنى الجهاد في الإسلام.
وأنت تعلم أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن، فأحكامها- وأكثر أحكامها تتعلق بالجهاد- مستقرة باقية.
ولست أرى ما يدعو إلى القول بأن هذه الآيات نسخت ما قبلها من الآيات التي تقرر الجهاد الدفاعي، كقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج 22/ 39] .
ذلك لأن الجهاد في أصل مشروعيته غير ناظر إلى هجوم ولا إلى دفاع، إنما هو يهدف إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإشادة صرح المجتمع الإسلامي السليم وإقامة دولة الله في الأرض، فأيّا كانت الوسيلة المتعينة إلى ذلك وجب اتباعها.
قد تكون الوسيلة، لظرف ما، المسالمة وبثّ النصيحة والتعليم والإرشاد، وعندئذ لا يفسر الجهاد إلا بذلك.
وقد تكون الوسيلة، لظرف آخر، الحرب الدفاعية مع النصح والإرشاد والتوجيه، فهذا هو الجهاد المشروع حينئذ.
وقد تكون الوسيلة المتعينة، لظروف أخرى، الحرب الهجومية، فهي عندئذ ذروة الجهاد وأشرفه.
وإنما يقدر الظرف ويعين الوسيلة ويحددها، الحاكم المسلم المتبصر الواعي المخلص لله ولرسوله ولعامة المسلمين.
وهذا يعني أن جميع هذه الوسائل الثلاث مشروعة في تحقيق الجهاد، على أن لا يطبق منها إلا ما تقتضيه المصلحة الآنية التي يقدرها الحاكم المخلص، وتبادل التطبيق ليس من النسخ في شيء.
ثم إن حج أبي بكر هذا كان تعليما للمسلمين أصول المناسك وكيفية أدائها، ثم كان تمهيدا لحجة الإسلام وحجة الوداع التي كان قائدها محمدا عليه الصّلاة والسلام.
,
أولا- عدد حجات الرسول صلّى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:
اختلف العلماء: هل حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير هذه الحجة في الإسلام؟
فقد روى الترمذي وابن ماجه أنه صلّى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج قبل هجرته إلى المدينة. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو مبنيّ على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج.
فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم قدموا ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم قدموا ثالثا فبايعوا البيعة الثانية «141» . ومنهم من روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وأيّا ما كان
__________
(138) هاتان الفقرتان جاءتا في رواية ابن سعد في الطبقات.
(139) نقلنا نص هذه الخطبة من صحيح مسلم، وأضفنا إليها زيادة جاءت في البخاري هي: «وستلقون ربكم..» إلى «من سمعه» كما أضفنا إليها زيادات بسيطة أخرى وردت في ابن إسحاق وطبقات ابن سعد وغيرهما.
(140) من حديث جابر في صفة حجته صلّى الله عليه وسلم، رواه مسلم وغيره.
(141) انظر فتح الباري: 8/ 74
الأمر، فإن مما لا شك فيه أن وجوب الحج إنما شرع في العام العاشر من الهجرة، فلم يكن واجبا قبل ذلك ولم يحج النبي صلّى الله عليه وسلم بعدها غير هذه الحجة. ولذلك كان يطلق كثير من الصحابة على حجة الوداع هذه اسم حجة الإسلام، أو حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبها عنون الإمام مسلم حديث هذه الحجة.
ومن الأدلة على ذلك، ما رواه الشيخان من خبر وفد عبد القيس الذين قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد جاء فيه أنهم قالوا له صلّى الله عليه وسلم: سرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع» ، وعدّد لهم الأوامر الأربعة فقال:
«آمركم بالإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من الغنم» . ويبدو أنه إنما ذكر الأمر بالإيمان زيادة على الأربعة، إذ هو معروف لهم، غير أنه أعاد الأمر به للتأكيد ولبيان أنه أساس الأوامر الأربعة التي ذكرها بعد. وقد كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة للهجرة.
فلو كان الحج مفروضا إذ ذاك، لعدّه في جملة الأوامر التي وجهها إليهم.
ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
إن لحجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه معنى جليلا يتعلق بالدعوة الإسلامية ويتعلق بحياته صلّى الله عليه وسلم ويتعلق بالمنهج العام للنظام الإسلامي.
لقد تعلم المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاتهم وصيامهم وأمر زكاتهم وعامة ما يتعلق بهم من عبادات وواجبات، وبقي أن يعلمهم مناسكهم وكيفية أدائهم شعائر الحج بعد أن طويت تلك التقاليد الجاهلية المتوارثة أيام موسم الحج من تصدية وصفير وعري أثناء الطواف، وقضي عليها مع القضاء على الأوثان وتطهير بيت الله الحرام منها.
وإن الدعوة إلى الحج لبيت الله الحرام ستظل قائمة إلى يوم القيامة، فهي دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر من ربه سبحانه وتعالى. ولكنّ انحرافات الجاهلية وضلالات الوثنية قد زادت فيه تقاليد باطلة وصبغته بكثير من مظاهر الكفر والشرك، وقد جاء الإسلام ليغسل هذه الشعيرة مما قد علق بها من أدران، ويعيدها نقية صافية تشع بنور التوحيد وتقوم على أساس العبودية المطلقة لله تعالى.
من أجل ذلك أذّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الناس أنه حاجّ إلى بيت الله الحرام، ومن أجل ذلك أقبل الناس من كل حدب وصوب يريدون أن يأتموا به ليتعلموا الأعمال الصحيحة للحج فلا يقعوا في رواسب التقاليد الجاهلية البائدة.
ويبدو أنه قد ألقي في روعه صلّى الله عليه وسلم، أن مهمته في الأرض توشك ان تنتهي، فقد أدى
الأمانة، وأينعت أرض الجزيرة بغرس التوحيد وانتشر الإسلام يغزو الأفئدة والقلوب في كل مكان.
وإن بالناس- وهم اليوم كثرة متفرقون- لشوقا إلى مزيد من اللقاء مع رسولهم والاستفادة من هديه ونصائحه، وبه هو أيضا صلّى الله عليه وسلم شوقا إلى مزيد من اللقاء معهم، لا سيما تلك الحشود التي دخلت في الإسلام حديثا من مختلف جهات الجزيرة العربية، ممن لم تتح لهم فرص اللقاء الكافي معه صلّى الله عليه وسلم. وإن أكبر وأجمل فرصة لذلك إنما هي فرصة اللقاء في الحج إلى بيت الله الحرام، وفي سفوح عرفات، لقاء بين أمة ورسولها في ظل شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، لقاء اتضح أنه كان في علم الله تعالى وإلهام رسوله، لقاء توصية ووداع.
ويريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا أن يلتقي بهؤلاء الحشود المسلمة، الذين جاؤوا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاما، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمّنها كوامن وجدانه ونبرات محبته لأمته، وليستطلع من وجوههم صورة نسلهم وأعقابهم الذين سيأتون من بعد فينهي إليهم نصائحه وتوصياته من خلف حواجز الزمن ووراء أسوار القرون.
تلك هي بعض معاني حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حجة الوداع، وإنك لتراها متجسدة في خطبته التي ألقاها في وادي عرنة في يوم عرفة.
ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:
ولله ما أروعها من كلمات، تلك التي ألقاها في سفوح عرفات، وراح يخاطب فيها الأجيال والتاريخ بعد أن أدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الدعوة إلى ربه ثلاثة وعشرين عاما لا يكلّ ولا يملّ.. ولله ما أروعها من ساعة، تلك التي اجتمع حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله خاشعين متضرعين، وطالما تربّصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين. آلاف مؤلفة يملؤون ما يمتد به النظر من كل الجهات، تردد بلسان حالها قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] .
وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر من خلال وجوههم إلى الأجيال المقبلة، إلى العالم الإسلامي الكبير الذي سيملأ شرق الأرض وغربها. وراح يلقي على مسامع هذا العالم خطابه المودع:
«أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ... » .
وأنصتت الدنيا لتسمع قوله، وأنصت الحجر والقفر والمدر إلى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستين عاما، ها هو اليوم يلمّح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان. وها هو الآن يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في كلمات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع العالم.
فماذا كان أول بند منها؟
يا سبحان الله ما أجلّ وأروع!. لكأنه صلّى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته تلك من واقع المنزلقات التي سيتنكب فيها أقوام من أمته خلال الزمن تائهين وراء غيرهم ضائعين عن القبس الذي سيتركه بين أيديهم فلقد كان أول بند منها هو قوله: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا» .
ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى في خاتمة خطابه، وأكد ضرورة الاهتمام بها وذلك عندما قال: «تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لا مرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم. ألا هل بلغت؟» .
ونحن نقول:
أجل والله، لقد بلغت يا سيدي.. ولعلنا اليوم أولى من ينبغي أن يجيبك: اللهم لقد بلّغت! .. وإن كنا في ذلك إنما نسجل مسؤولية على أعناقنا قصرنا كل التقصير في القيام بحقها.
أما البند الثاني: فلم يكن مجرد توصية، ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله..
لأولئك الذين كانوا من حوله، والأمم التي ستأتي من بعده.
وهذه هي صيغة القرار:
«ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع! .. دماء الجاهلية موضوعة..
وربا الجاهلية موضوع..» .
فما المعنى الذي تتضمنه صيغة هذا القرار؟ .. إنه يقول: إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسّك به من تقاليد العصبية والقبلية، وفوارق اللغة والأنساب والعرق، واستعباد الإنسان أخاه بأغلال الظلم والمراباة، قد بطل أمره ومات اعتباره، فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله في باطن الأرض، وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطئ الأقدام. إنه رجس ولّى، وعماهة أدبرت، وغاشية بادت.
فمنذا الذي يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها؟ .. وأي عاقل يتقمم الأدران التي تخلص منها ليتمسح ثانية بها؟ .. وأيّ أبيّ يعمد إلى القيد الذي كسره البارحة وألقاه، ليصلحه ويعود فيتقيّد به اليوم؟! ..
أرجاس من تقاليد الجاهلية، أبعدها الرسول صلّى الله عليه وسلم عن منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه، كي يثبت للدنيا كلها ويسجل على مسمع القرون والأجيال، أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكري إذ يعمد فينبش شيئا من هذا الدفين
القديم، إلّا وهو يرجع القهقرى يسبح فى أغوار قصية من التاريخ المظلم القديم، وإن خيّل إليه وهمه أنه إنما يتقدم صعدا ويخطو مترقيا.
وأما البند الثالث: فقد أعلن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسّم عليها، وذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. فقد كانوا- كما قال مجاهد وغيره- يجعلون حجهم كل عامين في شهر معين من السنة، فيحجون في ذي الحجة عامين، ثم يحجون في المحرم عامين وهكذا. فلما حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا العام، وافق حجه شهر ذي الحجة وأعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك أن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. أي فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديما وتأخيرا، ولا حجّ بعد اليوم إلا في هذا الزمن الذي استقر اسمه: ذو الحجة.
وذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثنى عشر شهرا وخمسة عشر يوما. فكان الحج في رمضان وفي شوال وذي القعدة.. وفي كل شهر من السنة، وذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوما. ولقد كان حجّ أبي بكر في السنة التاسعة من الهجرة واقعا في شهر ذي القعدة بسبب ذلك، فلما كان العام المقبل، (وفيه قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحج الوداع) وافق حجّه ذا الحجة في العشر منه وطابق الأهلة. وأعلن حينئذ عليه الصلاة والسلام نسخ الحساب القديم للزمن وأن السنة إنما تعتبر بعد اليوم اثنى عشر شهرا فقط، فلا تداخل بعد اليوم. قال القرطبي: وهذا القول أشبه بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الزمان استدار..» أي إن زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض، بأصل المشروعية التي سبق بها علمه «142»
وفي البند الرابع: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية.
ولقد كانت هذه الحقيقة جديرة بتأكيد التوصية بها، بسبب أولئك المسلمين الذين كانوا قريبي عهد بتقاليدهم الجاهلية التي تقضي بإهمال شأن المرأة وعدم الاعتراف بأي حق لها، ولعل هنالك حكمة أخرى لهذه التوصية والاهتمام بها. وهي أن يكون المسلمون في كل عهد وطور من الزمن، على بيّنة من الفرق الكبير بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي ضمنتها شرعة الإسلام، وما يهدف إليه بعضهم من استباحة الوسائل المختلفة إلى التمتع والتلهي بها، وهو ما حاربه الإسلام.
وفي البند الخامس: وضع النبي صلّى الله عليه وسلم الناس من جميع المشكلات التي قد تعترض حياتهم،
__________
(142) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 137 و 138
أمام مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما، الأمان من كل شقاء وضلال، هما:
كتاب الله وسنة رسوله.
وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبيّن للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس وقفا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأيّ تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما.
وأما البند السادس: فقد أوضح فيه صلّى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه علاقة الحاكم أو الخليفة أو الرئيس مع الرعية أو الشعب. إنها علاقة السمع والطاعة من الشعب للحاكم مهما كان نسبه وشأنه ومظهره ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا حاد عنهما فلا سمع ولا طاعة، فلا مناط لولاء الحاكم وضرورة اتباعه إلا سيره على نهج الكتاب والسنة، وليكن بعد ذلك إن شاء عبدا حبشيا مجدّعا، فلا يخفضه ذلك قيد شعرة عن غيره عند الله تعالى.
ولقد أوضح لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا، أنه لا امتياز للحاكم من وراء حدود كتاب الله تعالى وسنة نبيه، ولا يمكن لحاكميته أن ترفعه قيد شعرة فوق مستوى المنهج والحكم الإسلامي، إذ هو في الحقيقة ليس بحاكم ولا يتمتع بأي حاكمية حقيقية، ولكنه أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى. ومن هنا لم تتعرف الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالحصانة أو الامتيازات لطبقة ما بين المسلمين في شؤون الحكم أو القانون والقضاء.
وفي الختام ... يشعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه أخرج مسؤولية الدعوة وتبليغها من عنقه، فها هو الإسلام قد انتشر، وها هي ضلالات الجاهلية والشرك قد تبدّدت، وها هي أحكام الشريعة الإلهية قد بلّغت، وها هو الوحي ينزل عليه صلّى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى مخاطبا البشر كلهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة 5/ 3] .
ولكنه صلّى الله عليه وسلم يريد أن يطمئن إلى شهادة أمته بذلك أمام الله تعالى يوم القيامة عندما يسألون.. فأعقب توصياته هذه لهم بأن نادى فيهم قائلا: إنكم ستسألون عني، فما أنتم قائلون؟
وارتفعت الأصوات من حوله تصرخ: نشهد أنك قد بلّغت، وأديت، ونصحت. وحينئد اطمأن الرسول العظيم صلّى الله عليه وسلم! ...
لقد كان يريد أن يستوثق من هذه الشهادة التي سيلقى بها وجه ربه عز وجل.. ولقد اطمأن الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك، وشعشع الرضى في عينيه، ونظر بهما إلى الأعلى مشيرا بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس يقول:
«اللهم اشهد ... اللهم اشهد ... اللهم اشهد» .
ويا ما أعظمها من سعادة!؟ .. سعادة رسول الله عليه الصلاة والسلام بشبابه الذي أبلاه
وعمره الذي أمضاه في سبيل نشر شريعة ربه جلّ جلاله، وذلك حينما ينظر فيرى حصيلة الجهد الذي قدّم والعمر الذي بذل، أصواتا ترتفع وتعج بتوحيد الله، وجباها تعنو ساجدة لدين الله وقلوبا خفاقة تجيش بحب الله. ألا ما أسعد حبيب الله إذ ذاك بذكرى ما لقيه من ظمأ الهواجر، وشتات السفر في القفار، وعذاب السخرية والإيذاء، في سبيل هذا الإيمان الذي شاده فوق أرض الله! .. فلتكتحل به عيناك يا سيدي سعادة وسرورا، وليبارك لك ربك في وجيب قلبك اليوم حمدا ونشوة وحبورا.
ولا والله، ما كان ذلك شهادة تلك الآلاف المحتشدة من حولك فحسب، يا سيدي رسول الله. ولكنها شهادة المسلمين في كل جيل وعصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تعلن بلسان حالها ومقالها: نشهد يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجزاك الله عنا خير ما جوزي نبي عن أمته.
ولكن مسؤولية الدعوة قد انتقلت من بعدك إلى أعناقنا، وما أبعدنا اليوم عن القيام بحقها، وما أشد خيبتنا بلقائك يا سيدي غدا، وإن علينا أوزارا من التقاعس والتكاسل والركون إلى زهرة الحياة الدنيا، بينما يلتفّ من حولك أصحابك البررة الكرام وإن في أيديهم وعلى أبدانهم شهادة الدم الذي سفكوه والجهد الذي بذلوه والدنيا التي حطموها تحت أقدامهم نصرة لشريعتك ودفاعا عن دعوتك وتأسيا بجهادك.
أصلح الله حالنا وحال المسلمين جميعا، وأيقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وتغمدنا بلطفه وكرمه وجوده.
وأتم صلّى الله عليه وسلم حجه، وتضلع من شرب ماء زمزم، وعلّم الناس مناسكهم، ثم عاد أدراجه إلى المدينة، ليواصل السعي والجهاد في سبيل دين الله عز وجل.
شكوى الرّسول صلّى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى
,
إن لهذه الخلوة التي حببت إلى قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبيل البعثة، دلالة عظيمة جدا، لها أهمية كبرى في حياة المسلمين عامة والداعين إلى الله بصورة خاصة.
فهي توضح أن المسلم لا يكمل إسلامه مهما كان متحليا بالفضائل قائما بألوان العبادات، حتى يجمع إلى ذلك ساعات من العزلة والخلوة يحاسب فيها النفس، ويراقب الله تعالى، ويفكر في مظاهر الكون، ودلائل ذلك على عظمة الله.
هذا في حق أي مسلم يريد لنفسه الإسلام الصحيح، فكيف بمن يريد أن يضع نفسه موضع الداعي إلى الله والمرشد إلى الطريق الحق.
وحكمة ذلك أن للنفس آفات لا يقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس، ومحاسبتها في نجوة من ضجيج الدنيا ومظاهرها. فالكبر، والعجب والحسد، والرياء، وحبّ الدنيا، كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم في النفس وتتغلغل إلى أعماق القلب، وتعمل عملها التهديمي في باطن الإنسان على الرغم مما قد يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة والعبادات المبرورة، ورغم ما قد ينشغل به، من القيام بشؤون الدعوة والإرشاد وموعظة الناس. وليس لهذه الآفات من دواء إلا أن يختلي صاحبها بين كل فترة وأخرى مع نفسه ليتأمل في حقيقتها ومنشئها ومدى حاجتها إلى عناية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة من لحظات الحياة، ثم ليتأمل في الناس ومدى ضعفهم أمام الخالق عزّ وجلّ وفي عدم أي فائدة لمدحهم أو قدحهم، ثم ليتفكر في مظاهر عظمة الله وفي اليوم الآخر وفي الحساب وطوله، وفي عظيم رحمة الله وعظيم عقابه. فعند التفكير الطويل المتكرر في هذه الأمور تتساقط تلك الآفات اللاحقة بالنفس ويحيا القلب بنور العرفان والصفاء، فلا يبقى لعكر الدنيا من سبيل إلى تكدير مرآته.
وشيء آخر له بالغ الأهمية في حياة المسلمين عامة وأرباب الدعوة خاصة: هو تربية محبة الله عزّ وجلّ في القلب. فهو منبع التضحية والجهاد وأساس كل دعوة متأججة صحيحة، ومحبة الله تعالى لا تأتي من مجرد الإيمان العقلي به، فالأمور العقلانية وحدها ما كانت يوما ما لتؤثر في العواطف والقلوب. ولو كان كذلك، لكان المستشرقون في مقدمة المؤمنين بالله ورسوله، ولكانت أفئدتهم من أشد الأفئدة حبّا لله ورسوله. أو سمعت بأحد من العلماء ضحى بروحه إيمانا منه بقاعدة رياضية أو مسألة من مسائل الجبر؟!.
وإنما الوسيلة إلى محبة الله تعالى- بعد الإيمان به- كثرة التفكير في آلائه ونعمه والتأمل في مدى جلاله وعظمته، ثم الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى بالقلب واللسان. وإنما يتم كل ذلك بالعزلة والخلوة والابتعاد عن شواغل الدنيا وضوضائها في فترات متقطعة متكررة من الزمن.
فإذا قام المسلم بذلك وتهيأ له أداء هذه الوظيفة، نبتت له من ذلك في قلبه محبة إلهية عارمة، تجعله يستصغر كل عظيم، ويحتقر كل مغرية من المغريات، ويستهين بكل إيذاء وعذاب، ويستعلي فوق كل إذلال أو استهزاء. فتلك هي العدة الكبرى التي ينبغي أن يتسلح بها الدعاة إلى الله، وتلك هي العدة التي جهز الله بها حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم ليقوم بأعباء الدعوة الإسلامية.
ذلك لأن الدوافع الوجدانية في القلب من خوف ومحبة ورجاء تفعل ما لا يفعله الفهم العقلي المجرد. ولقد أجاد الشاطبي رحمه الله حينما فرق في هذه الدوافع بين عامة المسلمين الذين دخلوا في ربقة التكاليف بدافع من عموم إسلامهم، وخواصهم الذين دخلوا في ربقة هذه التكاليف يسوقهم ما هو أشد من مجرد التعقل والفهم. يقول:
«فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف والرجاء أو المحبة، فالخوف سوط سائق، والرجاء حاد قائد، والمحبة تيار حامل، فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا. والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب. والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد، وتفنى القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة» «20» .
واتّخاذ الوسائل المختلفة لتحقيق هذه الدوافع الوجدانية في القلب مما أجمع المسلمون على
__________
(20) الموافقات للشاطبي: 2/ 141، وراجع كتاب (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) لمؤلف هذا الكتاب: ص 111- 112
ضرورته، وهو ما يسمى بالتصوف عند جمهور العلماء والباحثين، أو بالإحسان عند بعضهم، أو بعلم السلوك عند بعض آخر كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى «21» .
والاختلاء الذي كان يمارسه صلّى الله عليه وسلم قبيل بعثته كان واحدة من هذه الوسائل لتحقيق هذه الدوافع نفسها.
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم معنى الخلوة كما شذّ البعض ففهموها حسب شذوذهم، وهو الانصراف الكلي عن الناس واتّخاذ الكهوف والجبال موطنا واعتبار ذلك فضيلة بحدّ ذاتها.
فذلك مخالف لهديه صلّى الله عليه وسلم ولما كان عليه عامة أصحابه. إنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال كما ذكرنا، والدواء لا ينبغي أن يؤخذ إلا بقدر، وعند اللزوم، وإلّا انقلب إلى داء ينبغي التوقي منه. وإذا رأيت في تراجم الصالحين من استمر على الخلوة والابتعاد عن الناس، فمردّ ذلك إلى حالة خاصة به، وليس عمله حجة على الناس.
,
إذا تأملنا، في هذه الهجرة التي قام بها النبي صلّى الله عليه وسلم، وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي رآه عليه الصلاة والسلام، ثم في شكل عودته إلى مكة، نستخلص الأمور التالية:
أولا: إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة، لا سيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس..
فكما أنه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر والمصابرة اللذين أمر بهما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران 3/ 200] .
ولقد علمنا النبي صلّى الله عليه وسلم القيام بالعبادات بالوسيلة التطبيقية، فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقال: «خذوا عني مناسككم» . وبناء على هذا المبدأ نفسه قاسى أمرّ أنواع المحن في سبيل الدعوة ليقول بلسان حاله لجميع الدعاة من بعده: «اصبروا كما رأيتموني أصبر» . وليبين أن الصبر ومصارعة الشدائد من أهم مبادئ الإسلام التي بعث بها إلى الناس كافة.
وربما يتوهم من اطلع على ظاهر سيرة هجرته عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، أنه صلّى الله عليه وسلم قد غلب على أمره هناك، وأن الضجر قد نال منه، وأنه ربما استعظم كل تلك المحن والمشاق التي أصابته، ولذلك توجه إلى الله بذلك الدعاء بعد أن اطمأن في بستان ابني ربيعة.
__________
(18) طبقات ابن سعد: 1/ 196 وسيرة ابن هشام: 1/ 381
ولكن الحقيقة أنه عليه السلام قد استقبل تلك المحن راضيا، وتجرع تلك الشدائد صابرا محتسبا، وإلا فقد كان بوسعه- لو شاء- أن ينتقم من السفهاء الذين آذوه ومن الزعماء الذين أغروا به أولئك السفهاء وردوه ذلك الرد المنكر، ولكنه عليه السلام لم يشأ ذلك.
ودليل ذلك، ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال:
إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» .
إذن فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه وأمته من بعده بما كان يلاقيه، الصبر، بل وفن الصبر أيضا على جميع الشدائد والمكاره في سبيل الله عز وجل.
ربما يقول قائل: فما معنى ارتفاع صوته بالشكوى إذن، وما معنى دعائه الذي تدل ألفاظه وصيغته على الضجر والملل من طول المحاولة التي لم تأت بنتيجة إلا الأذى والعذاب؟
والجواب، أن الشكوى إلى الله تعبد، والضراعة له والتذلل على بابه تقرب وطاعة. وللمحن والمصائب حكم، من أهمها أنها تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى وتلبسه جلباب العبودية له، فليس إذن بين الصبر على المكاره والشكوى إلى الله تعالى أي تعارض، بل الواقع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعلمنا في حياته كلا الأمرين، فكان بصبره الشديد على المحن يعلمنا أن هذه هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة إلى الله خاصة، وكان بطول ضراعته والتجائه إلى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية ومقتضياتها.
على أن النفس البشرية مهما تسامت فهي لا تتجاوز دائرة بشريتها على كل حال، والإنسان مجبول في أصل فطرته على الإحساس والشعور.. الشعور بلذة النعيم والشعور بألم العذاب، وهو مجبول على الركون إلى الأول والفزع من الثاني.
وهذا يعني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى وهو يوطّن نفسه لتلقي كل أنواع الضر والعذاب في سبيل ربه فهو مع ذلك بشر، يتألم للضر ويستريح للنعيم.
ولكنه مع هذا يفضل الضر مهما كانت آلامه، على النعيم مهما كانت لذائذه، إرضاء لوجه ربه وأداء لحق العبودية عليه. ولا ريب أن هذا هو مناط استحصال الثواب وظهور معنى التكليف للإنسان.
ثانيا: إذا تأملت في مشاهد سيرته صلّى الله عليه وسلم مع قومه، وجدت أن ما كان يجده صلّى الله عليه وسلم من الأذى في هذه المشاهد قد يكون قاسيا شديدا، بيد أنك واجد في كل مشهد منها ما يعتبر ردا إلهيا على ذلك الإيذاء وما يهدف إليه أربابه. كي يكون في ذلك مواساة للرسول عليه الصلاة والسلام، وكي لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس.
ففي مشهد هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، وما قد اكتنفها من العذاب المضني: عذاب الإيذاء وعذاب الخيبة- مما قد مرّ ذكره- تجد ردا إلهيا واضحا على سفاهة أولئك الذين آذوه ولحقوا به واعتذارا له عن سفاهتهم وغلظتهم، تجد ذلك في مظهر الرجل النصراني (عداس) حينما جاء يسعى إليه وفي يده طبق فيه عنب، ثم انكب فجعل يقبل رأسه ويديه ورجليه وذلك عندما أخبره عليه الصلاة والسلام أنه نبي.
وحسبنا لتصوير مشهد هذا الاعتذار من إيذاء أولئك السفهاء، أن ننقل لك كلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في ذلك، بعد أن ذكر القصة:
«يا عجبا لرموز القدر في القصة! ..
لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال، فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة.
وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه، أن يكفه عنهم أو يخلي بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به هذا الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة.
وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه. إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الأخوة الدم، ونسب الدين العقل.
ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقطف العنب سائغا عذبا مملوءا حلاوة. فباسم الله كان قطف العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حبّا، كل حبة فيه مملكة» «19» .
ثالثا: وفيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي الله عنه، من وقاية للرسول صلّى الله عليه وسلم بنفسه، من حجارة السفهاء، حتى إنه شج في رأسه عدة شجاج، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم
__________
(19) وحي القلم: 2/ 30
بالنسبة لقائد الدعوة، من حمايته له بنفسه ودفاعه عنه وإن اقتضى ذلك التضحية بحياته.
هكذا كانت حال الصحابة رضي الله عنهم بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولئن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير موجود اليوم بيننا، فلا يتصور الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله أصحابه رضي الله عنهم، فإن ذلك يتحقق على نحو آخر؛ هو أن لا نضن على أنفسنا بالمحن والعذاب في سبيل الدعوة الإسلامية وأن نسهم بشيء من تحمل الجهد والمشاق التي تحملها النبي عليه الصلاة والسلام.
على أنه ينبغي أن يكون هنالك قادة للدعوة الإسلامية في كل عصر وزمن، يخلفون قيادة النبي صلّى الله عليه وسلم في الدعوة. فعلى المسلمين كلهم أن يكونوا من حولهم جنودا مخلصين لهم، يفدونهم بالمهج والأموال، كما كان شأن المسلمين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
رابعا: فيما قصه علينا ابن إسحاق من استماع النفر من الجن إليه، وهو يصلي من جوف الليل بنخلة، دليل على وجود الجن وأنهم مكلفون، وأن منهم من آمن بالله ورسوله ومنهم من كفر ولم يؤمن. وقد ارتفعت هذه الدلالة إلى درجة القطع، بحديث القرآن عنهم في نصوص قاطعة صريحة، كالآيات التي في صدر سورة الجن، وكقوله تعالى في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله تعالى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 46/ 29- 31] .
واعلم أن هذه القصة التي ساقها ابن إسحاق ورواها ابن هشام في سيرته، قد ذكرها البخاري ومسلم والترمذي على نحو قريب وبتفصيل آخر.
واللفظ الذي رواه البخاري بسنده عن ابن عباس «أنه صلّى الله عليه وسلم انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قال:
ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلّى الله عليه وسلم: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن، وإنما أوحي إليه قول الجن» «20» .
__________
(20) البخاري: 6/ 73
واللفظ الذي رواه مسلم والترمذي، متفق مع هذا، ولكنهما زادا عليه في صدر الحديث:
«ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق في طائفة..» الحديث.
قال في الفتح: «فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا، لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدّما على نفي ابن عباس، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن، ويمكن الجمع بالتعدد» «21» أي يمكن الجمع بين الروايتين بتعدد الحادثة.
ثم إن هذا الذي رواه مسلم والبخاري والترمذي يختلف عما رواه ابن إسحاق من ناحيتين:
الأولى: أن رواية ابن إسحاق خالية عن الإشارة إلى أنه كان يصلي بأصحابه، بل هي تفيد أنه كان يصلي منفردا، في حين أن الروايات الأخرى ذكرت أنه كان يصلي بأصحابه.
الثانية: أن رواية ابن إسحاق ليس فيها تقييد الصلاة بالفجر، والروايات الأخرى تنص على أنه كان يصلي الفجر.
فأما رواية ابن إسحاق فلا إشكال فيها. غير أن الرواية الأخرى تشكل من ناحيتين:
الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن معه في ذهابه إلى الطائف ورجوعه منها إلا زيد بن حارثة، كما قد علمت، فكيف يستقيم أنه كان يصلي بطائفة من أصحابه؟
الثانية: أن الصلوات الخمس لم تشرع إلا ليلة الإسراء والمعراج، وإنما كان المعراج بعد ذهاب الرسول إلى الطائف، على ما ذهب إليه كثير من المحققين، فكيف يستقيم أنه كان يصلي الفجر؟
والجواب عن الإشكال الأول، أنه يحتمل أن يكون قد التقى ببعض من أصحابه عندما وصل إلى نخلة (وهو مكان قريب من مكة) فصلى بهم الفجر هناك.
أما الإشكال الثاني، فجوابه، أن يقال بأن حادثة الجن واستماعهم للقرآن منه صلّى الله عليه وسلم تكرر أكثر من مرة، فقد رويت مرة عن ابن عباس ورويت بصورة أخرى عن ابن مسعود، وكل منهما صحيح، وهذا ما ذهب إليه جمهور المحققين «22» هذا على القول بأن حادثة الإسراء والمعراج كانت بعد الهجرة إلى الطائف أما على القول بأنها كانت قبل ذلك فلا إشكال ألبته.
والذي يهمنا أن نعلمه بعد هذا كله، هو أن على المسلم أن يؤمن بوجود الجن، وبأنهم كائنات حية كلفها الله عز وجل بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم، فذلك
__________
(21) فتح الباري: 8/ 473
(22) انظر عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 118 وفتح الباري: 8/ 473
لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة.
ولما كان وجود هذه الخليقة مسندا إلى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنة، وكان أمرها معلوما من الدين بالضرورة أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في وجودهم يستلزم الردة والخروج عن الإسلام. إذ أن إنكارهم إنكار لشيء علم أنه من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر الوارد إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله.
ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع (العلم) ، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحسّ بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها. والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود؛ أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود.
خامسا: ما موقع كل ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في سياحته هذه في الطائف وما أثر كل هذا الذي عاناه، في نفسه؟
يتضح الجواب على هذا فيما قاله النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن حارثة، حينما سأله زيد متعجبا: «كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك» ؟ فقد أجابه في ثقة واطمئنان قائلا:
«يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» .
وإذن فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى أو على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه.
ولا والله، ليست هذه عزيمة بشر أوتي طبعه مزيدا من التحمل أو قوة الإرادة.
ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه صلّى الله عليه وسلم فهو يعلم أنه إنما ينفذ أمر ربه ويسير في الطريق التي أمره الله أن يسير فيها، ومما لا ريب فيه أن الله بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قدرا.
والفائدة التعليمية لنا في هذا الأمر، هي أن لا تصدنا المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة الإسلامية عن السير، وأن لا تبثّ فينا روح الدعة والكسل، ما دمنا نسير على هدى من
الإيمان بالله وتوفيقه فمن استمد القوة من الله جدير به أن لا يعرف لليأس والكسل معنى، إذ مادام هو الآمر، فلا شك أنه هو الناصر أيضا.
وإنما يأتي التخاذل والكسل واليأس بسبب العقبات والمحن التي تعترض السبل والمبادئ الأخرى التي لم يأمر بها الله عز وجل، إذ في مثل هذه الحال يركن العاملون إلى قوتهم الخاصة بهم وجهودهم التي يستقلون بها. ومعلوم أن كل ذلك محدود بنطاق بشري معين، فمن الطبيعي أن ينقلب كل من القوة والتصميم بسبب طول المعاناة والآلام والمحن، إلى يأس وتخاذل نظرا لمقياس القوة البشرية المحدودة.
,
نورد في تعليقنا على هذا المقطع من سيرته صلّى الله عليه وسلم أربعة أمور:
أولها: أهمية الكعبة، وما جعل الله لها من شرف وقداسة في الأرض، وحسبك من الأدلة على ذلك أن الذي باشر تأسيسها وبناءها هو إبراهيم خليل الله، بأمر من الله تعالى لتكون أول بيت لعبادة الله وحده ومثابة للناس وأمنا.
غير أن هذا لا يعني أو يستلزم أن يكون للكعبة تأثير على الطائفين حولها أو العاكفين
فيها، فهي- على مالها من قداسة ووجاهة عظيمة عند الله- حجارة لا تضر ولا تنفع. ولكن الله عزّ وجلّ لما بعث إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتكسير الأصنام والطواغيت وهدم بيوتها والقضاء على معالمها ونسخ عبادتها، اقتضت حكمته جلّ جلاله أن يشيّد فوق الأرض بناء يكون شعارا لتوحيد الله وعبادته وحده، ويظل- مع الدهر- تعبيرا للعالم عن المعنى الصحيح للدين والعبادة وعن بطلان كل من الشرك وعبادة الأصنام. لقد قضت البشرية ردحا من الزمن، تدين بالعبادة للحجارة والأصنام والطواغيت وتنشئ لها المعابد، ولقد آن لها أن تدرك بطلان كل ذلك وزيفه، وآن لها أن تستعيض عن تلك المعابد هذا الرمز الجديد.. هذا المعبد الذي أقيم لعبادة الله وحده، يدخله الإنسان ليقف عزيزا لا يخضع ولا يذل إلا لخالق الكون كله، وإذا كان لا بدّ للمؤمنين بوحدانية الله والداخلين في دينه من رابطة يتعارفون بها، ومثابة يؤوبون إليها، مهما تفرقت بلدانهم وتباعدت ديارهم واختلفت أجناسهم ولغاتهم، إذا كان لا بدّ من ذلك فليس أجدر من هذا البيت الذي أقيم رمزا لتوحيد الله، وردّا على باطل الشرك والأصنام، أن يكون هو الرابطة وهو المثابة لهم جميعا، يتعارفون في حماه، ويلتقون على الحق الذي شيّد ليكون تعبيرا عنه. فهو الشعار الذي يجسد وحدة المسلمين في أقطار الأرض، ويعبر عن توحيد الله والعبادة له وحده مهما أقيم من آلهة زائفة وانتصب من متألهين باطلين على مرّ الأزمنة والعصور.
وهذا معنى قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] ، وهذا هو المعنى الذي يلحظه الطائف بالبيت الحرام، بعد أن يملأ قلبه من معنى العبودية لله تعالى والقصد إلى تحقيق أوامره من حيث إنها أوامر ومن حيث إنه عبد مكلّف بتلبية الأمر وتحقيق المأمور به. ومن هنا جاءت قداسة البيت وعظم مكانته عند الله تعالى وكانت ضرورة الحج إليه والطواف من حوله.
ثانيها: بيان أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء.
بنيت الكعبة خلال الدهر كله، أربع مرات بيقين، ووقع الخلاف والشك فيما قبل هذه المرات الأربع وبعدها.
فأما المرة الأولى منها: فهي التي قام بأمر البناء فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعينه ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وذلك استجابة منه لأمر ربّه جلّ جلاله، ثبت ذلك بصريح الكتاب والسّنة الصحيحة. أما الكتاب فقوله:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة 2/ 127] .
وأما السّنة: فأحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس، وجاء فيه:
«.. ثم قال- أي إبراهيم- يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك ربك، قال وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني..» «12» .
ونقل الزركشي عن تاريخ مكة للأزرقي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعل طول بناء الكعبة في السماء سبعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعا وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعا وكانت بغير سقف «13» ، وحكى السهيلي أن طولها في السماء كان تسعة أذرع «14» . أقول ولعل هذه أقرب من رواية الأزرقي.
وأما المرة الثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل الإسلام، واشترك في بنائها النّبي صلّى الله عليه وسلم كما ذكرنا. فجعلوا طولها في السماء ثمانية عشر ذراعا، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وجزءا من الذراع تركوها في الحجر «15» .
وفي ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما روته عائشة: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدّم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم» «16» .
وأما المرة الثالثة: فقد كانت عندما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزتها جيوشه من أهل الشام، وخلاصة ذلك أنهم حاصروا عبد الله بن الزبير بمكة بقيادة الحصين بن نمير السكوني في آخر سنة ست وثلاثين هجرية، بأمر من يزيد، ورموا البيت بالمنجنيق، فتهدم واحترق، فانتظر ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، فاستشارهم قائلا: أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها، فقال له ابن عباس: أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه فكيف بيت ربّكم؟! إني مستخير ربّي ثلاثا ثم عازم على أمري. ثم باشر نقضه بعد ثلاثة أيام حتى بلغوا به الأرض فأقام ابن الزبير أعمدة من حوله وأرخى عليها الستور ثم باشروا في رفع بنائه وزاد فيه الأذرع الستة التي قد أخرجت منه، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع،
__________
(12) صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.
(13) انظر إعلام الساجد للزركشي: 46
(14) عيون الأثر: 1/ 52
(15) روى ذلك البخاري في كتاب الحج باب فضل مكة وانظر إعلام الساجد للزركشي: 46
(16) متفق عليه واللفظ للبخاري.
وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه. وإنما جرّأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة السابق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «17» .
وأما المرة الرابعة: فقد كانت بعد مقتل ابن الزبير. روى الإمام مسلم بسنده عن عطاء أنه لما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسّ نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أمّا ما زاد في طوله فأقرّه، وأمّا ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه «18» .
قالوا: وقد عزم الرشيد بعد ذلك على أن ينقضها ويعيدها كما بناها ابن الزبير، فقال له مالك بن أنس رحمه الله: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيّره إلا غيّره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه» «19» .
فهذه هي المرات الأربع التي بنيت فيها الكعبة بيقين.
أما الخامسة: التي وقع فيها الشك والخلاف: فهي تتعلق بما قبل بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هل كانت الكعبة مبنية قبل ذلك أم لا؟
جاء في بعض الآثار والروايات أن أول من بناها إنما هو آدم عليه الصلاة والسلام، ومن أبرز ما ورد في ذلك ما رواه البيهقي في دلائل النّبوة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث الله عزّ وجلّ جبريل صلّى الله عليه وسلم إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخطّ لهما جبريل عليه الصلاة والسلام، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أصابه الماء فنودي من تحته حسبك يا آدم فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح صلّى الله عليه وسلم. ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه» .
ثم قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا، ومعلوم أن ابن لهيعة ضعيف لا يحتج به.
__________
(17) انظر عيون الأثر لابن سيّد الناس: 1/ 53، وإعلام الساجد للزركشي: 46. والحديث رواه مسلم 2: 69، باب نقض الكعبة وبنائها، وفي رواية للطبري وغيره أنها إنما احترقت بشرارة انطلقت إليها من نار كانت توقد حولها وانظر تاريخ الطبري: 5/ 498
(18) مسلم: 4/ 99
(19) هذا وفي شرح النووي على مسلم والفتح على البخاري، أن الذي همّ بنقض الكعبة هو الرشيد، وذكر في عيون الأثر وإعلام الساجد أنه أبو جعفر المنصور، ومعلوم أن مالكا رحمه الله عاصر كلّا من المنصور وهارون الرشيد، فالاحتمال قائم.
وهنالك روايات وآثار أخرى قريبة في المعنى من هذا الذي رواه البيهقي إلا أن جميعها لا يخلو من ضعف أو نكارة. وقيل أيضا أن أول من بناه شيث عليه الصلاة والسلام.
فتكون الكعبة- إذا اعتمدنا هذه الآثار والروايات الضعيفة- قد بنيت خمس مرات خلال الدهر كله.
غير أن الأولى هو اعتماد ما ثبت يقينا من ذلك، وهو أنها بنيت أربع مرات كما أوضحنا، وأما ما وراء ذلك وما بين هذه المرات فنكل علمه إلى الله عزّ وجلّ، عدا عما لحقها من ترميمات وإصلاحات بعد ذلك.
ثالثها: مدى حكمة النّبي صلّى الله عليه وسلم في تدبير الأمور، وسياسة القضايا، وقطع دابر الخصومات، وبين من؟ بين أقوام قلما قامت بينهم خصومة ثم نامت قبل أن تراق فيما بينهم بسببها الدماء. وقد وصل بهم الخلاف كما تعلم إلى درجة كاد أن ينشب فيما بينهم القتال، فقد قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، دون أن يردها إلى الوفاق أي رأي أو تدبير، حتى كان خمود نار الفتنة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ونحن ينبغي أن نحيل هذه المزية فيه عليه الصلاة والسلام، إلى ما اختاره الله له من القيام بعبء الرسالة والنّبوة، قبل أن نحيلها إلى العبقرية التي جبل عليها والذكاء الذي فطر عليه.
فالأساس الأول في تكوينه عليه الصلاة والسلام، أنه رسول ونبي. ثم تأتي المزايا الأخرى كلها من عبقرية ودهاء وذكاء مبنية على هذا الأساس ولا حقة به.
رابعها: مدى سمو منزلته بين رجال قريش على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، فقد كان ملقبا عندهم بالأمين، وكان محبوبا منهم كلهم، وكانوا لا يرتابون في صدقه إذا حدث، وفي كريم أخلاقه إذا عومل، وفي عظيم إخلاصه إذا ما استعين به واعتمد عليه.
وهذه ظاهرة تكشف لك عن مدى الحقد والعناد اللذين امتلأت بهما أفئدة هؤلاء أنفسهم، بعد أن جاءته الرسالة من عند الله، وأخذ يبلغها إلى هؤلاء الأقوام الذين قابلوه بالتكذيب والعناد والإيذاء.
,
,
هذه العمرة تعتبر تصديقا إلهيا لما وعد به عليه الصلاة والسلام أصحابه من دخولهم مكة وطوافهم بالبيت. وقد رأيت كيف سأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أثناء صلح الحديبية: «أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ فأجابه: بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال:
لا. قال: فإنك آتيه ومطوّف به» .
فهذا هو مصداق وعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد نبه الله عز وجل عباده إلى هذا التصديق في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 27] .
ثم إن هذه العمرة انطوت على معنى تمهيدي للفتح الكبير الذي جاء من بعده. فقد كان لمرأى ذلك العدد الوفير من الأنصار والمهاجرين وهم محدقون برسول الله صلّى الله عليه وسلم في طوافهم وسعيهم وسائر مناسكهم، في حماس ونشاط غير مأمولين منهم فيما كان يتصوره المشركون، كان لذلك أثر بعيد في نفوسهم، فقد داخلتها الرهبة منهم إذ فوجئوا بعكس ما كانوا يتصورون فيهم من الضعف والخمول بسبب ما قد يحتمل أن يكونوا قد أصيبوا به من حّمى يثرب وسوء مناخها. روى الإمام مسلم عن ابن عباس أن المشركين لما رأوا رمل المسلمين حول الكعبة وفي المسعى قالوا بعضهم لبعضهم:
«هؤلاء الذين زعمتم أن الحّمى قد وهنتهم؟! .. هؤلاء أجلد من كذا وكذا» «35» .
لا جرم أن كان لهذه العمرة إذن- بالشكل الذي تمت به- أثر بالغ في نفوس المشركين مهّد لفتح مكة فتحا سلميا كما سترى فيما بعد.
ثم إننا نأخذ من عمرة القضاء ما يلي:
أولا: استحباب الاضطباع والهرولة في طواف الأشواط الثلاثة الأولى، اتباعا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك. وإنما يستحب ذلك في طواف يعقبه سعي لأن الطواف الذي رمل فيه النبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك. والاضطباع هو جعل الرجل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر. ويسن أن يفعل ذلك أيضا بين الميلين عند السعي بين الصفا والمروة للاتباع.
غير أن شيئا من ذلك لا يستحب للمرأة.
__________
(35) مسلم: 5/ 65
ثانيا: ذهب بعض الفقهاء إلى جواز عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة، اعتمادا على الرواية التي نقلت أنه صلّى الله عليه وسلم، عقد على ميمونة أثناء إحرامه.
والذي عليه جماهير الفقهاء أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحا لا لنفسه ولا وكالة عن غيره مطلقا «36» . وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحرم للمحرم أن يتولى عقد النكاح مطلقا ذلك لأنهم يفسرون (النكاح) في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المحرم لا ينكح ولا ينكح» «37» بالجماع.
هذا وقد اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع عمرات وحجّ حجة واحدة روى مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة في حجته «38» .
,
تنطوي غزوة أحد على دروس بالغة الأهمية للمسلمين في كل عصر، ولكأن الحكمة من وقوعها على الشكل الذي بيّناه، أن يتكون منها درس تطبيقي عملي، يعلّم المسلمين كيفية البلوغ إلى النصر في معاركهم مع العدو، وكيفية التحرز من مزالق الفشل والهزيمة، فلنقف على هذه الدروس العظيمة ولنتأمل فيها، الواحدة إثر الأخرى:
أولا: يتجلى هنا أيضا المبدأ الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ به نفسه، وهو التزام التشاور مع أصحابه في كل أمر يحتمل المشاورة والبحث. ولكنا نقف هنا على فارق واحد لم نجده في المشاورة التي تمّت قبيل غزوة بدر. فقد لاحظنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يعود عن موافقته لأصحابه الذين اقترحوا الخروج للقاء العدو خارج المدينة، بعد أن لبس درعه وأخذ أهبته للقتال، على الرغم من أنهم ندموا وعادوا عن رأيهم ورجوه البقاء إذا كان يرى ذلك. وربما كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يميل- أو يظهر الميل- عند التشاور إلى البقاء في المدينة.
ولعل الحكمة الجلية في هذا، أن البحث في الأمر بعد أخذ العدة للقتال، وبعد ظهور النّبي صلّى الله عليه وسلم في قومه وأصحابه لابسا دروعه آخذا سلاحه، شيء خارج عن حدود ما يقتضيه مبدأ التشاور خصوصا في القضايا الحربية التي تحتاج- مع المشورة- إلى قدر كبير من الحزم والعزم. ثم إن المعنى الذي قد يتولد عن تقاعسه صلّى الله عليه وسلم عن الخروج بعد أن طلع عليهم مستعدا لذلك، إنما هو الضعف والاضطراب في الإرادة وهو كثيرا ما يكون نابعا من الخوف والحذر اللذين لا معنى لهما.
ولذلك أجابهم النّبي صلّى الله عليه وسلم عن كلامهم بعبارة فيها كل الحزم والعزم، دون أن يلتفت إلى لغط القوم وتعاتبهم فيما بينهم، قال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .
ثانيا: للمنافقين في هذه الغزوة مشهد بارز.. ولم لا يكون مشهدهم بارزا فيها، وهي إنما انطوت على حكم ومقاصد، من أهمها تمحيص المؤمنين عن أخلاطهم من المنافقين؟ وإن من وراء ذلك لفوائد كبيرة للمسلمين كانت ذخرا لهم فيما بعد.
لقد رأينا كيف انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاث مئة من أتباعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، بعد خروجهم من المدينة، وسبب ذلك في ظاهر ما تذرع به: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما أخذ برأي الشبان الأغرار، ولم يأخذ برأي أمثاله من الشيوخ أرباب الحجى والأحلام. غير أن سبب ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، هو أنه لا يريد قتالا. لأنه لا يريد أن يعرّض نفسه لمخاوفه
__________
(28) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
ومغباته.. وتلك هي أبرز سمات المنافقين: يريدون أن يأخذوا ما في الإسلام من مغانم، ويبتعدوا عما فيه من مغارم وأتعاب! .. وإنما الذي يمسكهم على الإسلام أحد شيئين: غنيمة يتوقعونها، أو مصائب ومحن يتوقونها.
ثالثا: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يشأ أن يستعين بغير المسلمين في هذه الغزوة، على الرغم من قلة عدد المسلمين، وقال فيما روى ابن سعد في طبقاته: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» «29» .
وقد روى مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل تبعه في يوم بدر ليقاتل معه: «أتؤمن بالله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك» .
وقد ذهب جمهور كبير من العلماء، بناء على هذا، إلى أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في القتال، وفصّل الإمام الشافعي في ذلك، فقال: «إن رأى الإمام أن الكافر حسن الرأي والأمانة في المسلمين وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز، وإلا فلا» «30» .
ولعل هذا هو المتفق مع القواعد ومجموع الأدلة، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، والمسألة على ذلك داخلة في إطار ما يسمى بالسياسة الشرعية.
وسنذكر الفرق بين ما فعله الرسول في حنين وما فعله في كل من بدر وأحد، في مناسبته إن شاء الله.
رابعا: ومما يجدر التأمل فيه، حال سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما طفلان لا يزيد عمر كل منهما على خمس عشرة سنة، وكيف جاءا يناشدان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يسمح لهما بالاشتراك في القتال، وأي قتال؟!. قتال قائم على التأهب للموت، لا تجد فيه أي معنى من التعادل بين الفريقين: المسلمون وعددهم لا يزيد على سبع مئة، والمشركون وهم يتجاوزون ثلاثة آلاف مقاتل.
والعجيب حقا أن يقف بعض محترفي الغزو الفكري على مثل هذه الظاهرة، فيذهبوا في تحليلها إلى أن العرب كانوا أمة تعيش في ظل الحروب والغزوات الدائمة، فكانوا ينشؤون في أجوائها وظروفها، ولذلك كانوا ينظرون إليها (شيبا وشبانا وأطفالا) نظرة طبيعية لا تسبب لهم قدرا بالغا من المخاوف.
لا ريب أن أرباب هذا التحليل، يغمضون أعينهم في إصرار عجيب، أثناء هذا الكلام عن
__________
(29) قد يقال: إن هؤلاء الذين عرضوا مشاركتهم مع المسلمين في القتال يهود من أهل الكتاب، فكيف سماهم الرسول أهل الشرك. والجواب: أن إطلاق الشرك عليهم بمعنى غير المعنى الاصطلاحي الذي يطلق على الوثنيين من العرب وللشرك معنى عام يعتبر قدرا مشتركا يصدق على جميع الكافرين.
(30) انظر مغني المحتاج: 4/ 221
تخاذل أمثال عبد الله بن أبي بن سلول مع ثلاث مئة من أصحابه، تحت وطأة الخوف من عواقب القتال، والرغبة في الجنوح إلى السلامة والأمن. وعن تخاذل أولئك الآخرين الذين استعذبوا ظل المدينة وثمارها ومياهها وسط حرارة الصيف، وأعرضوا عن نداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج والقتال، قائلين: «لا تنفروا في الحر» . بل وعن هزيمة المشركين في غزوة بدر، على الرغم من ضخامة عددهم وقلة المسلمين، ووقوع الرعب في أفئدتهم، وهم هم العرب الذين نشؤوا في ظلال الحروب ورضعوا ألبانها واستهانوا بصعابها.
من الصعوبة البالغة للمنصف أن يتهرب عما تحكم به البداهة الواضحة، من أن سرّ هذا الإقدام على الموت من مثل هؤلاء الأطفال، إنما هو الإيمان العظيم الذي استحوذ على القلب، والذي ترتبت عليه محبّة عارمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فحيثما وجد الإيمان ووجدت هذه المحبة، ظهر هذا الإقدام والاستبسال، وحيثما ضعف الإيمان، وضعفت المحبة في القلب انقلب الإقدام إحجاما والاستبسال كسلا وتقاعسا.
خامسا: إذا تأملت حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو ينظم صفوف أصحابه ويرتب أجنحتهم، ويضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ويأمر الرماة أن لا يغادروا أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين حتى يتلقوا الأوامر منه صلّى الله عليه وسلم، نقول: إذا تأملت ذلك اتضحت حقيقة بارزة، ولاحت لك من ورائها ظاهرة هامة أخرى.
أما الحقيقة البارزة، فهي البراعة العسكرية التي كانت تتصف بها قيادته صلّى الله عليه وسلم في الحروب، فقد كان في مقدمة المخططين لفنون القتال وطرائقه، ولا ريب أن الله تعالى قد جهزه بعبقرية نادرة في هذا المجال. ولكننا نقول: إن هذه العبقرية والبراعة إنما يأتي كل منهما من وراء نبوته ورسالته السماوية، فمركز النبوة والرسالة هو الذي اقتضاه صلّى الله عليه وسلم أن يكون عبقريا بارعا في فنون الحرب وغيرها، كما اقتضاه أن يكون معصوما بعيدا عن كل انحراف وزلل. وقد شرحنا هذا في القسم الأول من هذا الكتاب فلا حاجة إلى تكراره.
وأما الظاهرة التي تلوح للمتأمل من خلال توصياته الدقيقة هذه لأصحابه عامة، وللرماة خاصة فهي ظاهرة ذات علاقة وثيقة بما قد تم بعد ذلك من خروج بعض أولئك الرماة على أوامره صلّى الله عليه وسلم. فكأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد استشف بفراسة النبوة أو بوحي من الله تعالى هذا الذي قد حدث فيما بعد، فراح يؤكد التوصيات والأوامر، وكأنه في ذلك يجري مع أصحابه مناورة حية مع عدوّ لهم هو النفس وأهواؤها وما تنطوي عليه من طمع في المال والغنائم، والمناورة مهما كانت نتيجتها، تفيد فائدة عظيمة.. وربما كانت النتيجة السلبية أدعى للاستفادة من النتيجة الإيجابية.
سادسا: أبو دجانة، الذي تناول السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحقه، أخذه وراح يتبختر
بين الصفوف، فما أنكر عليه رسول الله، وإنما قال: «إن هذه مشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع!» . وهذا يدل على أن كل مظاهر الكبر المحرمة في الأحوال العامة، تزول حرمتها في حالات الحرب. فمن مظاهر الكبر المحرمة أن يسير المسلم في الأرض مرحا متبخترا، ولكن ذلك في ميدان القتال أمر حسن وليس بمكروه. ومن مظاهر الكبر المحرمة تزيين البيوت أو الأواني والأقداح بالذهب أو الفضة. غير أن تزيين آلات الحرب وأسلحتها بالفضة غير ممنوع. فمظهر الكبر هنا إنما هو في حقيقته افتخار بعزة الإسلام على أعدائه. ثم هو معنى من معاني الحرب النفسية التي ينبغي أن لا تفوت المسلمين أهميتها.
سابعا: إذا تأملنا مدة الحرب التي استمرت بين المسلمين وأعدائهم في هذه الغزوة وجدناها تنقسم إلى شطرين:
الشطر الأول: وفيه التزم المسلمون أماكنهم وأوامرهم التي كانوا قد تلقوها من قائدهم عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان من ثمرة ذلك؟ لقد سارع النصر إلى المسلمين، وسارعت الهزيمة إلى صفوف المشركين، وما هو إلا أن اكتسح الرعب أفئدة الآلاف الثلاثة فانحسروا عن أماكنهم وأخذوا يولون الأدبار، وهذا الشطر هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران 3/ 152] .
الشطر الثاني: وفيه أخذ المسلمون ينطلقون خلف المشركين ليجهزوا على من يدركونه منهم، وليأخذوا الغنائم والأسلاب، وحينئذ نظر الرماة من فوق الجبل الذي كانوا يتمركزون فيه، إلى إخوانهم وهم يضعون السيوف في أعدائهم اللائذين بالفرار ويعودون بالأموال والغنائم، فرغب بعضهم أن يشتركوا معهم في الغنيمة، وخيلت إليهم هذه الرغبة أنّ الفترة الزمنية للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انتهت، فهم في حلّ منها وهم في غنى عن انتظار إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم بمغادرة أماكنهم وهو اجتهاد خالفهم فيه بعض زملائهم وفي مقدمتهم أميرهم عبد الله بن جبير، ولكنّ أصحاب هذا الاجتهاد نزلوا وانطلقوا يشاركون في أخذ الغنائم. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لقد كان أن انقلب الرعب الذي داهم أفئدة المشركين إلى استبسال جديد! .. وكان أن تفتحت أسباب الحيلة والمكر لدى خالد بن الوليد الذي كان يولي هاربا، فنظر حوله متأملا، فوجد الجبل المحصّن قد خلا من حماته وحراسه، فلمعت الفكرة العسكرية في رأسه، وما هو إلا أن استدار إلى الجبل مع من معه من المشركين، فقتلوا من بقي ممن لم ينزل وأوجعوا المسلمين رميا بالسهام من خلفهم.. وجاء الرعب هذه المرة ليغزو أفئدة المسلمين كما رأينا. وهذا الشطر من المعركة هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ،
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران 3/ 152] .
وانظر! .. كم كان وبال هذه الخطيئة جسيما، وكم كانت نتيجتها عامة! ..
لقد عادت خطيئة أفراد قليلين في جيش المسلمين، بالوبال عليهم جميعا، بحيث لم ينج حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من نتائجها، وتلك هي سنة الله في الكون، لم يمنعها من الاستمرار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجود في ذلك الجيش، وأنه أحب الخلق إلى ربه جلّ جلاله.
فتأمل أنت في نسبة خطيئة أولئك الأفراد، إلى أخطاء المسلمين المتنوعة اليوم، والمتعلقة بشتى نواحي حياتنا العامة والخاصة. تأمل هذا لتتصور مدى لطف الله بالمسلمين إذ لا يهلكهم بما تكسب أيديهم، وبتقاعسهم حتى عن أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتماع في كلمة واحدة على ذلك.
وإذا تأملت في هذا، علمت الجواب عن سؤال بعضهم اليوم، عن الحكمة من أن الشعوب الإسلامية تظل مغلوبة على أمرها، أمام الدول الباغية الأخرى، على الرغم من أن هؤلاء كفرة وأولئك مسلمون.
ثامنا: لقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أوذي كثيرا في هذه الفترة، فوقع لشقه، وشجّ رأسه، وكسرت رباعيته، وساح الدم غزيرا في وجهه، وكل ذلك جزء من نتائج تلك الخطيئة.. خطيئة أولئك المسلمين في الخروج على أوامر القائد. ولكن ما الحكمة في أن يشيع خبر مقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفوف المسلمين؟! ..
والجواب: أن ارتباط المسلمين برسول الله صلّى الله عليه وسلم ووجوده فيما بينهم كان له من القوة بحيث لم يكونوا يتصورون فراقه ولم يكونوا يتخيلون قدرة لهم على التماسك من بعده، فكان أمر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا لا يخطر لهم في بال، وكأنهم كانوا يسقطون حساب ذلك من أذهانهم، ولا ريب أنهم لو استيقظوا من غفلتهم هذه على خبر وفاته الحقيقية، لصدّع الخبر أفئدتهم، ولزعزع كيانهم الإيماني بل لقوّضه في نفوس كثير منهم.
فكان من الحكمة الباهرة أن تشيع هذه الشائعة، تجربة درسيّة بين تلك الدروس العسكرية العظيمة، كي يستفيق المسلمون من ورائها إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم لها منذ الساعة، وأن لا يرتدوا على أعقابهم إذا وجدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختفى مما بينهم.
ومن أجل بيان هذا الدرس الجليل نزلت الآية تعليقا على ما أصاب كثيرا من المسلمين من ضعف وتراجع لدى سماعهم نبأ مقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك إذ يقول الله تعالى:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 3/ 144] .
ولقد اتضح الأثر الإيجابي لهذا الدرس، يوم أن لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعلا بالرفيق الأعلى، فقد كانت شائعة أحد هذه، مع ما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم إلى الحقيقة، فودعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها بين أيديهم، أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، فنهضوا بها أقوياء بإيمانهم أشداء في عقيدتهم وتوكلهم على الله تعالى.
تاسعا: ولنتأمل في وقع الموت على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم من حوله يحمونه بأجسادهم من نبال المشركين وضرباتهم، يتساقطون الواحد منهم إثر الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة وحرص حريص على حفظ حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا يبالون بغير ذلك! .. فما هو مصدر هذه التضحية العجيبة؟.
إنه الإيمان بالله ورسوله أولا، ثم محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثانيا، فهما معا سبب هذه التضحية الرائعة العجيبة. والمسلم يحتاج إليهما معا، لا يكفيه أن يدّعي الإيمان بما ينبغي الإيمان به من أمور العقيدة، حتى يمتلئ قلبه بمحبة الله ورسوله أيضا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «31» .
وبيان ذلك أن الله عز وجل قد غرس في الإنسان عقلا وقلبا. أما الأول فلكي يفكر به فيؤمن بما يجب الإيمان به. وأما الثاني فلكي يستعمله في محبة من أمر الله بمحبته وبغض من أمر ببغضه. وإذا لم يشغل القلب بمحبة الله ورسوله والصالحين من عباده، فسيمتلئ ولا بد بمحبة الشهوات والأهواء والمحرمات. وإذا فاض القلب بمحبة الشهوات والأهواء فهيهات أن يصبح الاعتقاد وحده حاملا لصاحبه على أي عمل من أعمال التضحية أو الفداء.
وهذه الحقيقة من الأوليّات التي أقرها علماء التربية، والأخلاق، ودلت عليها التجارب البدهية، واسمع ما يقوله في ذلك جان جاك روسو في كتابه (اميل) :
«كم قيل وأعيد القول عن الرغبة في إقامة الفضيلة على العقل وحده، ويا له من أساس متين! .. أي أساس هذا؟! .. إن الفضيلة كما يقولون هي النظام، ولكن هل يستطيع الإيمان بالنظام أن يتغلب على مسرتي الخاصة؟ .. إن هذا المبدأ المزعوم ليس إلا لعبا بالألفاظ فالرذيلة هي حب النظام بشكل مختلف» «32» .
__________
(31) متفق عليه.
(32) راجع التوسع في هذا البحث كتابنا: تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث.
من أجل هذه الحقيقة لم تستطع الحكومة الأمريكية أن تلتزم بما آمنت به واعتقدت بفائدته يوم أقدمت على تحريم الخمر ومنع مداولتها في المجتمعات والنوادي، وذلك عام 1933 م، إذ لم تمض سوى فترة وجيزة حتى نكص المقننون على أعقابهم، وارتدّوا مترنحين من ألم الحرمان فألغوا القانون الذي التزموه وراحوا يعبّون أقداحهم من جديد..
هذا على حين أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهم من هم من الثقافة والمدنية ومعرفة الأضرار والفوائد بالنسبة للأمريكيين اليوم- عمدوا بمجرد أن سمعوا أمر الله عز وجل لهم باجتناب الخمر، إلى دنان الخمر فأراقوها وإلى الأقداح فكسروها، وارتفعت أصواتهم تقول: «انتهينا يا رب انتهينا!» ...
والفرق بين الصورتين والواقعتين، أن ههنا شيئا قد وقر في القلب فكان هواه تبعا لأمر الله وأحكامه.
هذه المحبة، بل هذا الهوى المستحوذ على قلوب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي جعلهم يمدون نحورهم دون نحر رسول الله ويعانقون الموت في سبيل حفظ حياته عليه الصلاة والسلام.
وكم في غزوة أحد من المشاهد الرائعة التي تكشف عن أثر هذه المحبة إذ تغمر قلب صاحبها.
روى ابن هشام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد.
فنظر، فإذا هو جريح في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات! .. قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له:
إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلّى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. قال الأنصاري: فلم أبرح حتى مات» .
ويوم تمتلئ أفئدة المسلمين في عصرنا هذا بنحو من هذه المحبة، بحيث تبعدهم قليلا عن شهواتهم وأنانيتهم، وتتغلب عليها، أقول: يوم يحدث هذا في أفئدة المسلمين فإنهم يصبحون خلقا آخر جديدا، وسينتزعون انتصارهم من بين شدقي الموت وسيتغلبون على أعدائهم، مهما كانت العقبات والسدود.
وإذا سألت عن السبيل إلى مثل هذه المحبة، فاعلم أنها في كثرة الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كثرة التأمل والتفكر في آلاء الله ونعمه عليك، وفي سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وهذا كله بعد الاستقامة على العبادات في خشية وحضور، والتبتل إلى الله عز وجل بين الحين والآخر.
عاشرا: وقد رأينا فيما يرويه البخاري رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى المسلمين بدمائهم ولم يصلّ عليهم، وجمع بين الرجلين في قبر واحد، وقد استدل من ذلك العلماء على أن الشهيد في معركة الجهاد لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن بدمائه. قال الشافعي رضي الله عنه:
جاءت الأحاديث من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم، وأما ما روي أنه صلّى الله عليه وسلم، صلى عليهم عشرة عشرة، وفي كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين مرة فضعيف وخطأ «33» . كما استدلوا بذلك أيضا على أنه يجوز عند الضرورة الجمع بين أكثر من واحد في القبر، أما بدون ضرورة فلا يجوز.
حادي عشر: وإذا تأملنا فيما أقدم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه فور عودتهم إلى المدينة من الخروج ثانية للحاق بالمشركين، اتضح لنا درس معركة أحد اتضاحا كاملا، وتبين لنا كل من نتيجتيها: السلبية والإيجابية، وظهر لنا بما لا يدع مجالا للتوهم أن النصر إنما يكون مع الصبر وإطاعة أوامر القائد الصالح واستهداف القصد الديني المجرد.
فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكد يؤذّن في الناس للخروج مرة أخرى لطلب العدوّ، حتى تجمع أولئك الذين كانوا معه بالأمس، من بعد ما أصابهم القرح وأنهكتهم الجروح والآلام، ولم يسترح أحد منهم بعد في بيته أو يفرغ للنظر في حاله وجسمه، وانطلقوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبتغون المشركين الذين لم تخمد بعد في رؤوسهم جذوة النشوة بالنصر. ولم يكن فيهم هذه المرة من يطمع في غنيمة أو غرض دنيوي، وإنما هو التطلع إلى النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم يسوقون بين يدي ذلك جراحاتهم الدامية، وقروحهم المؤلمة.
فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لا نشوة الظفر أو لذة الانتصار ربطت على قلوب المشركين ليتمموا نصرهم والتغلب على خصومهم، ولا وقع الهزيمة وآلام الجروح الكثيفة في المسلمين حال شيء من ذلك دون إقدامهم وانتصارهم.
وكيف كان السبيل؟ .. لقد كان السبيل إلى ذلك آية إلهية خارقة لتتمم الدرس والموعظة للمسلمين، وقع الرعب فجأة في قلوب المشركين وتصوروا كما أخبرهم صاحبهم الذي كان قد لمح المسلمين عن بعد، أن محمدا صلّى الله عليه وسلم وصحبه قد جاؤوا هذه المرة ومعهم الموت المؤكد لينثروه فيما بينهم، فارتدوا على أعقابهم بعد أن كانوا متجهين صوب المدينة، وانطلقوا سراعا إلى مكة لا يلوون على شيء! ..
أما كيف داخلهم هذا الرعب الغريب من المسلمين، وهم الذين كسروا شوكتهم ووضعوا
__________
(33) راجع مغني المحتاج: 1/ 349
السيف فيهم قبل ساعات فقط من الزمن، فمردّ ذلك إلى الإرادة الإلهية التي جعلت من هذه الموقعة كلها درسا بليغا للمسلمين، جمع بين كلا مظهريه الإيجابي والسلبي في آن واحد.
وفي هذا الختام الأخير المتمم لموعظة أحد نزل قوله تعالى:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
[آل عمران 3/ 172- 174] .
,
وهذه الغزوة أيضا- كما ترى- قامت على أساس من غدر اليهود وكيدهم، فهم الذين أثاروا، وألّبوا، وجمعوا الجموع والأحزاب، ولم يتوقف ذلك على بني النضير الذين كانوا قد أخرجوا من
__________
(78) رواه مسلم: 5/ 177. ورواية البخاري توهم أن الذي خرج إنما هو الزبير، غير أن ذلك يتعلق بحادثة أخرى، فقد أرسله النبي صلّى الله عليه وسلم ليعلم له علما عن بني قريظة. أما الذي خرج إلى الأحزاب فهو حذيفة كما نص على ذلك عامة علماء السيرة، وانظر عيون الأثر لابن سيد الناس وفتح الباري لابن حجر.
(79) سيرة ابن هشام: 2/ 231
(80) رواه البخاري.
(81) متفق عليه واللفظ للبخاري.
المدينة، بل اشترك معهم بنو قريظة الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بعهود ومواثيق مع المسلمين، دون أن يجدوا منهم أي مكروه من شأنه أن يدعوهم إلى نقض تلك العهود والمواثيق! ..
ولم نعد بحاجة إلى أن نعلّق على هذا ونحوه، ونستنبط منه العظات أو الدروس، فهو من جليات الأمور التي أصبحت من المقولات التاريخية المعروفة في كل زمان ومكان.
ولنعد الآن إلى هذا الذي استعرضناه من وقائع هذه الغزوة ومشاهدها لنقف على ما تنطوي عليه من دروس وعظات وأحكام، وسنلخصها في الأمور التالية:
أولا: لقد كان من جملة الوسائل الحربية التي استعملها المسلمون في هذه الغزوة حفر الخندق، ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة في التاريخ العربي والإسلامي يحفر فيها الخنادق، إذ هو مما كان متعارفا بين الأعاجم فقط، وقد رأيت أن الذي اقترح ذلك في غزوة الأحزاب إنما هو سلمان الفارسي، وقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان مادعا أصحابه إلى القيام بتحقيقها.
وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الحكمة هي ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها بل هو أولى بها من غيره، وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد. فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد، هي أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماما يسلّم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضا لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلّم به العقل النيّر والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه.
وهذا السلوك الذي شرعه الله للمسلم، إنما ينبع من أصل أساسي هو الكرامة التي فطر الله الإنسان عليها إذ قضت مشيئته أن يكون هو سيد المخلوقات. وما ممارسة العبودية لله تعالى والتزام أحكام شريعته إلا ضمان لحفظ هذه الكرامة والسيادة.
ثانيا: وفيما استعرضناه من مشهد عمل الصحابة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حفر الخندق، عبرة بالغة كبرى، توضح لك حقيقة المساواة التي يرسيها المجتمع الإسلامي بين جميع أفراده المسلمين، وتكشف لك أن العدالة والمساواة، ليستا في الاعتبار الإسلامي مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه في إطار لامع براق، وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه القيم والمبادئ الإسلامية عامة ظاهرا وباطنا.
فأنت تجد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يندب المسلمين إلى حفر الخندق، ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحا هادئا، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنان ليمسك معول أحدهم بأطراف أصابعه، فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذانا ببدء العمل وتخييلا لهم أنه قد شاركهم في ذلك، ثم يلقي المعول ويدير إليهم ظهره، ينفض عن حلته ما قد علق بها من ذرات غبار..
ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انخرط في العمل كأي واحد من أصحابه، حتى لبس ثوبا من الأتربة والغبار على جسمه فما تفرقه عن أي عامل آخر من صحبه وإخوانه، يرتجزون لينشط بعضهم بعضا، فيرتجز معهم، ويتعبون ويجوعون فيكون أولهم تعبا وجوعا. وتلك هي حقيقة ما أقامته الشريعة الإسلامية من مساواة بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والصعلوك والأمير، وأنت لا تجد فرعا من فروع الشريعة وأحكامها إلا قائما على هذا الأساس ضامنا لهذا الحق.
وأعيذك أن تخطئ، فتسمي هذا ديموقراطية في السلوك أو الحكم، فشتان ما بينهما من الفرق.
مصدر هذه العدالة والمساواة في الدين الإسلامي، هو العبودية لله تعالى. وهي صفة عامة شاملة للناس كلهم، تضعهم في صف واحد من المكانة والاعتبار. ومصدر ما يسمونه بالديموقراطية، تحكيم رأي الأكثرية أي تأليه رأي الأكثرية على الآخرين، مهما كانت طبيعة ذلك الرأي ومرماه.
من أجل هذا، لا تعوج الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالامتيازات لأي طبقة أو فئة من الناس، ولا تخص جماعة منهم بحصانة ما مهما كانت الدوافع والأسباب، لأن صفة العبودية من شأنها أن تذيب كل ذلك وتلغيه من الاعتبار.
ثالثا: وفي هذا المشهد نفسه أيضا عظة وعبرة أخرى تكشف لك عن مظهر النبوة في شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وتضعك أمام مدى ما كانت تمتلئ به نفسه من محبة أصحابه والشفقة عليهم وتعطيك مثالا آخر للخوارق والمعجزات التي أكرم الله بها نبيه صلّى الله عليه وسلم.
فأما ما يتجلى من شخصيته النبوية في هذا المشهد، فذلك يبدو في مكابدته صلّى الله عليه وسلم للجوع الشديد أثناء عمله مع أصحابه، حتى إنه ليشد الحجر على بطنه، يتقي بذلك ما يجده الجائع من ألم الفراغ في معدته، ترى ما الذي يمكن أن يحمله على معاناة مثل هذه المشقة والجهد؟ أهو التطلع إلى الزعامة! .. أم هي الرغبة في المال والملك! .. أم هو الطموح إلى أن يجد من حوله شيعة وأتباعا! .. كل هذه المطامع، تناقض مناقضة صارخة هذا الذي يكابده ويعانيه، وما أبعد الرجل الذي يطمع في جاه أو ملك أو سلطان عن الصبر على تحمل مثل هذه الآلام.
إن الذي يحمله على تحمل كل ذلك إنما هو مسؤولية الرسالة والأمانة التي كلف بتبليغها
والسير بها إلى الناس في طريق هذه طبيعتها. فهذه الشخصية النبوية التي تتجلى في عمله مع أصحابه في حفر الخندق.
وأما ما يبدو خلال ذلك من محبته الشديدة لأصحابه والشفقة عليهم، فإنك لتجده واضحا في موقفه صلّى الله عليه وسلم من دعوة جابر له إلى طعامه القليل، ذاك الذي صنعه له.
لقد كان الذي دفع جابرا إلى دعوته صلّى الله عليه وسلم، ما اكتشفه من شدة جوعه عليه الصلاة والسلام حينما رأى الحجر المربوط على بطنه الشريف، ولم يكن في بيته من الطعام إلّا ما يكفي لبضعة أشخاص، فاضطر إلى أن يجعل الدعوة على قدر ما عنده من الطعام.
ولكن كيف يتصور أن يترك النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في غمرة العمل وهم يتضورون مثله جوعا، لينفرد عنهم مع ثلاثة أو أربعة من أصحابه يستريحون ويأكلون، وإنه لأشفق على أصحابه من شفقة الأم على أولادها؟!
أما جابر فقد كان مضطرا إلى ما فعل، وكان ذلك منه طبيعيا، إذ إنه- كأي مفكر من الناس- لم يكن يملك إلا أن يتصرف حسب ما لديه من الأسباب المادية، والطعام الذي لديه، لا يكفي فيما يجمع عليه عرف البشر إلا لهذا العدد اليسير، فليختصّ به إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يشاء من بعض أصحابه في حدود ضيقة.
ولكنه عليه الصلاة والسلام، لم يكن من شأنه أن يتأثر بنظرة جابر هذه، فهو أولا لا يمكن أن يتميّز عن أصحابه بشيء من النعمة أو الراحة. وهو ثانيا لا يمكن أن يأسر نفسه تحت سلطان الأسباب المادية وحدودها التي ألفها البشر، فالله وحده مسبب الأسباب وخالقها، ومن اليسير عليه سبحانه أن يجعل من الطعام اليسير كثيرا، وأن يبارك في القليل منه حتى يكفي القوم كلهم.
ومهما يكن، فقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلم أنه وأصحابه متضامنون متكافلون يتقاسمون النعمة بينهم مهما قلت كما يتقاسمون بينهم المحنة مهما عظمت وكثرت! .. فمن أجل ذلك أرسل جابرا إلى داره ليهيئ لهم الطعام، وانفتل هو إلى عامة القوم يناديهم أن يقبلوا جميعا إلى صنيعة كبرى لهم في دار جابر.
وأما المعجزة الخارقة في هذه القصة، فهي ما رأيت من انقلاب شاة جابر الصغيرة إلى طعام وفير كثير، شبع منه مئات الصحابة وبقيت منه بقية كثيرة تركوها بعد أن اقترح النبي صلّى الله عليه وسلم على أهل البيت أن يتصدقوا بها! .. لقد كانت هذه الخارقة العجيبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم تقديرا إلهيا لمدى محبته صلّى الله عليه وسلم لأصحابه وإعراضه عن الأسباب المادية وشأنها في جنب قدرة الله وسلطانه.
والذي أريده من القارئ، أن ينتبه بفكره إلى مثل هذه المؤيدات الإلهية التي كان يؤيّد بها النبي صلّى الله عليه وسلم من وراء قيمة الأسباب المادية وسلطانها، فهي من أهم ما يبرز معالم شخصيته النبوية
للدارس المتأمل. أريد من القارئ أن ينتبه بفكره إلى هذه الحقيقة، بمقدار ما يمعن بعضهم في الإعراض عنها، وإن قابلتهم وجها لوجه أثناء البحث، بأدلة ثابتة لا تقبل الشك.
رابعا: ما هي الحكمة، ترى، في استشارته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه، في أن يعرض صلحا على غطفان، قوامه إعطاؤهم ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا عن تأييد قريش ومن معهم، ويرجعوا عن حرب المسلمين، وما هي الدلالة التشريعية التي تؤخذ من تفكيره هذا؟ ..
أما الحكمة، فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون، من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من هذا الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب ما طلعت به بنو قريظة في الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق. وقد كان من عادته صلّى الله عليه وسلم- كما قد رأيت- أنه لم يكن يحب أن يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في أنفسهم شجاعة كافية لخوضها، أو لا يؤمنون بجدواها، وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلّى الله عليه وسلم لأصحابه. فمن أجل ذلك، عرض على أصحابه هذا الرأي، وأنبأهم أنه ليس تبليغا من الله تعالى، وإنما هو شيء يبديه لهم كي يكسر عنهم شوكة المشركين، إذا كانوا لا يجدون في أنفسهم طاقة على مقابلتهم.
وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه. وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم. إذ مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته صلّى الله عليه وسلم إنما هو أقواله، وأفعاله التي قام بها، ثم لم يرد اعتراض عليها من كتاب الله تعالى، فأما ما كان من ذلك في حدود الاستشارة والرأي المجردين فلا يعتبر دليلا بحال. إذ الاستشارة أولا: يمكن أن يكون المقصود منها مجرد استطلاع لما في النفوس كما ذكرنا، أي فهي ممارسة لعمل تربوي بحت، وهي ثانيا: حتى ولو انتهت بعمل تنفيذي، يمكن أن يرد عقبه اعتراض من كتاب الله تعالى، فلا تبقى فيه أي دلالة تشريعية.
على أن علماء السيرة نصّوا، كما قد رأيت، على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبرم صلحا مع غطفان ولم تقع شهادة ولا عزيمة على الصلح وإنما كان الأمر مراوضة لم يتجاوزها.
نقول هذا، لأن فئة مجهولة في عصرنا هذا، أخذت تزعم زعما شنيعا في منتهى الغرابة، وهو: أنه يجب على المسلمين أن يدفعوا (الجزية) ! إلى غير المسلمين إذا اقتضت الحاجة، مستدلة على ذلك بأنه صلّى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه في غزوة الأحزاب أن يفعل ذلك! ..
وبقطع النظر عن هذا الذي أوضحناه من أن مضمون الرأي المعروض على بساط الاستشارة
لا يعتبر دليلا تشريعيا، فلسنا ندري ما الصلة بين (الجزية) وما يمكن أن يتصالح عليه فريقان متحاربان؟!.
فإن قلت: فهب أن المسلمين اضطروا- بسبب من أسباب الضعف- إلى الخروج عن بعض أموالهم، حفظا على حياتهم وحذرا من أن تستأصل شأفة المسلمين، أفليس لهم أن يفعلوا ذلك؟
فالجواب أن هنالك حالات كثيرة تستلب فيها أموال المسلمين وتصبح غنائم لأعدائهم، ويستعدي فيها الكافرون على بلاد الإسلام وخيراتهم فيتمكنون فيها ويسيطرون عليها. ومعلوم- بالبداهة- أن المسلمين لا يخضعون لشيء من ذلك عن طريق الاختيار واتباع الفتوى، وإنما يلجؤون إلى ذلك إلجاء ويحملون عليه كرها، وهم مع ذلك يتربصون بأعدائهم الفرص السانحة.
وأنت خبير أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما يخاطب بها من لم يكن مكرها ولا ملجأ ولا صبيا أو مجنونا.
وإذن فمن العبث انتزاع هذه الحالة التي هي من وراء حدود التكليف كيما يقرّر على أساسها حكم تكليفيّ يختار على أساس الرأي والمصلحة والمراوضة.
خامسا: كيف وبأي وسيلة انتصر المسلمون وانهزم المشركون في هذه الغزوة؟
لقد رأينا أن الوسيلة التي التجأ إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر، هي نفسها التي التجأ إليها في الخندق.. إنها وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، بل لقد كان هو العمل المتكرر الدائم الذي ظل يفزع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلما لقي عدوا أو سار إلى جهاد، وهي الوسيلة التي تعلو في تأثيرها على كل الأسباب والوسائل المادية الأخرى، وهي الوسيلة التي لا تصلح حال المسلمين إلا إذا قامت على أساسها بعناية كاملة.
أما كيف انهزم المشركون على كثرتهم، بعد ثبات المؤمنين وصبرهم وصدق التجائهم إلى الله تعالى، فقد وصف الله الكيفية في كتابه المبين إذ قال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا إلى قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب 33/ 9- 25] .
إن هذا المعنى الذي يتكرر في غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلم، ليس يعني إغراء المسلمين بالمغامرة والجهاد دون استعداد ولا تأهب، وإنما هو لإيضاح أن على المسلم أن يعلم أن في مقدمة أسباب النصر المختلفة، صدق الالتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له، فلن تجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوفر هذه الوسيلة بعينها. وإذا تحققت في أعمال المسلمين هذه الوسيلة فحدّث عن معجزات النصر ولا حرج.
وإلا فمن أين جاءت هذه الريح العاصفة تعصف بمعسكر المشركين وحدهم، دون أن يشعر بها المسلمون إلى جانبهم؟! .. هي هناك تقلب قدورهم وتطير خيامهم وتقلع أوتادها، وتزلزل أفئدتهم بالرعب، وهي هنا ريح باردة رخاء، تنعش ولا تؤذي أحدا! ..
سادسا: لقد فاتت النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة العصر كما قد رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلّاها قضاء بعدما غربت الشمس. وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته، أكثر من صلاة واحدة، صلّاها تباعا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها.
وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة. ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالا وركبانا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ- على فرض صحته- ليس واردا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال. أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضا، بل هي مسكوت عنها، فتبقى على مشروعيتها السابقة. على أن الذي يقتضيه الدليل القطعي، هو أن صلاة الخوف شرعت قبل هذه الغزوة كما مرّ تحقيق ذلك عند الحديث عن غزوة ذات الرقاع «82» .
ومن أدلة هذه المشروعية أيضا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال بعد منصرفه إلى المدينة من غزوة الأحزاب، لا يصلين أحد العصر (أو الظهر) إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم وقت الصلاة في الطريق فقال البعض: «لا نصلي حتى نأتيها» ، وقال بعضهم: «بل نصلي، لم يرد منا ذلك» . فصلاها الفريق الأول بعد وصولهم إلى بني قريظة قضاء.
وإذا ثبت وجوب قضاء المكتوبة بعد فواتها، فسيان أن يكون سبب الفوات نوما أو إهمالا أو تركا متعمدا، إذ لم يرد- بعد ثبوت الدليل العام على وجوب قضاء الفائتة عموما- أي دليل يخصص مشروعية القضاء ببعض أسباب التفويت دون بعضها الآخر، والذين تركوها في طريقهم إلى بني قريظة، لم يكونوا نائمين ولا ناسين. فمن الخطأ إذن أن تخصص مشروعية قضاء الفائتة المكتوبة- مع ذلك- بما عدا التفويت المتعمد، وهو أشبه ما يكون بمن يخصصها ببعض المكتوبات دون بعض بدون أي مخصص شرعي.
وربما توهم بعضهم أنه قد ثبت دليل يخصص عموم أدلة مشروعية القضاء، وهو المفهوم المخالف لحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها» ، ولكن هذا وهم لا ينبغي أن يدخل على طالب علم متبصّر. فالمقصود بالحديث ليس هو أمر الناسي والنائم بقضاء الصلاة، دون غيرهما، ولكن المقصود التركيز على القيد، وهو «إذا ذكرها» وذلك للتنبيه إلى أنه لا يشترط لمن
__________
(82) انظر ص 195 من هذا الكتاب.
فاتته صلاة وأراد تداركها أن ينتظر حلول وقتها من اليوم الثاني ثم يؤديها إذ ذاك. بل عليه أن يبادر إلى قضائها بمجرد التذكر، في أي وقت كان. فإذا عرفت أن هذا هو مقصود رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك صيغة الحديث نفسها وكما ذكر ذلك علماء الحديث وشراحه «83» عرفت أنه لا دلالة تشريعية تتعلق بالمفهوم المخالف للنوم أو النسيان في الحديث.
,
تنطوي غزوة بدر الكبرى على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله ونصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم.
__________
(3) ابن هشام: 1/ 205، وزاد المعاد: 2/ 87، وحديث استغاثة الرسول بربّه في غزوة بدر متفق عليه.
(4) حديث تأييد للمؤمنين بالملائكة في بدر متفق عليه.
(5) البخاري: 5/ 8، وروى مسلم نحوه في 8/ 163
(6) صحيح مسلم: 5/ 157- 158
ونحن نجمل هذه الدلائل والدروس فيما يلي:
1- يدلنا السبب الأول لغزوة بدر أن الدافع الأصلي لخروج المسلمين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع قصد الاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام تحت إشراف أبي سفيان، غير أن الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم، وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يقصدها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه، وفي هذا دليل على أمرين:
الأمر الأول: أن عامة ممتلكات الحربيين تعدّ بالنسبة للمسلمين أموالا غير محترمة، فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منها، وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتبر ملكا لهم.
وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء، على أن للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم في مكة عذرا آخر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض- أو شيء من التعويض- عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم.
الأمر الثاني: أنه على الرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصدا أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هنا كان النصر العظيم حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته، بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليف قريش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين. وإن هذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين لتتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال 8/ 7] .
2- وعندما نتأمل كيف يجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليشاورهم في الأمر الذي فوجئوا به بعد أن أفلت منهم العير وطلع عليهم النفير العظيم المدجج بالسلاح الكامل، نقف على دلالتين شرعيتين لكل منهما أهمية بالغة:
الدلالة الأولى: التزامه صلّى الله عليه وسلم بمبدأ التشاور مع أصحابه، وإذا استعرضنا حياته صلّى الله عليه وسلم، وجدنا أنه كان يلتزم هذا المبدأ في كل أمر لا نص فيه من كلام الله تعالى، مما له علاقة بالتدبير والسياسة الشرعية، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أن الشورى في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنّة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. أما ما ثبت فيه نص من الكتاب أو حديث من السّنة أبرم به الرسول صلّى الله عليه وسلم حكمه، فلا شأن للشورى فيه ولا ينبغي أن يقضى عليه بأيّ سلطان.
الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح بين المسلمين وغيرهم لما يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم ب (حكم الإمامة) . وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية. غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان المحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة.
فإذا رأى الحاكم أنّ من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبّت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصّا من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد. وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب.
وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلّت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلّى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعمّ الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط الحاجة وتوفر مقومات التكليف.
ثم إن الصحيح الذي اتفق عليه عامة الفقهاء أن هذه الشورى مشروعة ولكنها ليست بملزمة، أي إن على الحاكم المسلم أن يستنير بها في بحثه ورأيه، ولكن ليس عليه أن يأخذ بآراء الأكثرية مثلا لو خالفوه في رأيه.. ويقول القرطبي في هذا:
«المستشير ينظر في اختلاف الآراء، وينظر أقربها إلى الكتاب والسّنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منها عزم عليه، وأنفذه متوكلا عليه» «7» .
3- ولا شك أن الباحث ليتساءل: لماذا لم يقع جواب أبي بكر وعمر والمقداد موقعا كافيا من نفس الرسول صلّى الله عليه وسلم، وظل ينظر في وجوه القوم، حتى إذا تكلم سعد بن معاذ، اطمأن وطابت نفسه عند ذاك؟
والجواب، أن النّبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يريد أن يعرف رأي الأنصار أنفسهم في ذلك الأمر: ترى هل سيصدرون في آرائهم وأحكامهم عن المعاهدة التي تمت بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حيث إنها معاهدة خاصة تستوجب الالتزام بها، وإذن فليس من حقه أن يجبرهم على القتال معه والدفاع عنه إلا في داخل المدينة كما تنص على ذلك المعاهدة. أم سيصدرون
__________
(7) الجامع لأحكام القرآن: 4/ 252
عن مشاعرهم الإسلامية ومعاهدتهم الكبرى مع الله تعالى؟ إذن فمن حق النّبي صلّى الله عليه وسلم أن يكون الأمين فيهم على هذه المعاهدة ومن واجبهم أن يبذلوا حقوق هذه المعاهدة ويقوموا بمسؤولياتها كاملة.
ولدى التأمل فيما أجاب به سعد بن معاذ، نعلم أن المبايعة التي ارتبط بها الأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، لم تكن إلا مبايعة مع الله تعالى، ولم يكونوا يتصورون وهم يلتزمون الدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما يهاجر إليهم إلا دفاعا عن دين الله تعالى وشريعته.
فليست القضية مسألة نصوص معينة اتفقوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها فهم لا يريدون أن يلتزموا بما وراءها، وإنما المسألة أنهم إنما وقّعوا بذلك تحت صك عظيم تضمن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ..
[التوبة 9/ 111] .
ولذلك كان جواب سعد رضي الله عنه: «لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. فامض لما أردت فنحن معك» . أي فنحن نسير معك وفق معاهدة أعظم من تلك التي اتفقنا عليها معا، في بيعة العقبة.
4- يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، يبثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم وليتبيّنوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد. ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، بشرط أن لا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من مصلحة الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتما أو نوعا من المخادعة أو التحايل. وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه واسطة لا بد منها لمصلحة المسلمين وحفظهم.
وقد جاء في كتب السيرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لما نزل قريبا من بدر، ركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله النّبي صلّى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم.
فقال الشيخ: «لا أخبر كما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أخبرتنا أخبرناك، فقال: أذاك بذاك؟ قال: نعم. فأخبره الشيخ بما يعلم من أمر المشركين، وبما قد سمعه من أمر النّبي وأصحابه، حتى إذا فرغ من كلامه قال: فممن أنتما؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. فأخذ الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟» .
5- (أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم) : ويدلنا الحديث الذي جرى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحباب بن المنذر في شأن المكان الذي نزل فيه (وهو حديث صحيح الإسناد كما رأيت) أن تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم ليست كلها من نوع التشريع، بل هو في كثير من الأحيان يتصرف من حيث إنه بشر من الناس يفكر ويدبر كما يفكر غيره، ولا ريب أننا لسنا ملزمين باتباعه في مثل هذه
التصرفات، فمن ذلك نزوله عليه الصلاة والسلام في المكان الذي اختاره في هذه الغزوة. فقد وجدنا كيف أن الحباب أشار بالتحول عنه إلى غيره ووافقه عليه الصلاة والسلام في ذلك، وذلك بعد أن استوثق الحباب رضي الله عنه أن اختيار النّبي صلّى الله عليه وسلم لذلك المكان ليس بوحي من عند الله.
ومن ذلك كثير من تصرفاته التي تدخل تحت السياسة الشرعية والتي يتصرف فيها النّبي صلّى الله عليه وسلم من حيث إنه إمام ورئيس دولة لا من حيث إنه رسول يبلغ عن الله تعالى، مثل كثير من عطاءاته وتدابيره العسكرية. وللفقهاء تفصيل واسع في هذا البحث، لا مجال لعرضه في هذا المقام.
6- (أهمية التضرع لله وشدة الاستعانة به) : لقد رأينا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، حتى إنه كان يشير إلى أماكن متفرقة في الأرض ويقول: «هذا مصرع فلان» ، ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فما تزحزح أحد في مقتله عن موضع يده كما ورد في الحديث الصحيح.
ومع ذلك فقد رأيناه يقف طوال ليلة الجمعة في العريش الذي أقيم له، يجأر إلى الله تعالى داعيا ومتضرعا، باسطا كفيه إلى السماء يناشد الله عزّ وجلّ أن يؤتيه نصره الذي وعد حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر، والتزمه قائلا: «كفى يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد» . فلماذا كل هذه الضراعة ما دام أنه مطمئن إلى درجة أنه قال: «لكأني أنظر إلى مصارع القوم» ، وأنه حدّد مصارع بعضهم على الأرض؟
والجواب؛ أن اطمئنان النّبي صلّى الله عليه وسلم وإيمانه بالنصر، إنما كان تصديقا منه للوعد الذي وعد الله به رسوله، ولا شك أن الله لا يخلف الميعاد، وربما أوحي إليه بخبر النصر في تلك الموقعة.
أما الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء، فتلك هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وذلك هو ثمن النصر في كل حال.
فما النصر- مهما توفرت الوسائل والأسباب- إلا من عند الله وبتوفيقه، والله عزّ وجلّ لا يريد منّا إلا أن نكون عبيدا له بالطبع والاختيار، وما تقرّب متقرّب إلى الله بصفة أعظم من صفة العبودية، وما استأهل إنسان بواسطة من الوسائط استجابة دعاء من الله تعالى، كما استأهل ذلك بواسطة ذلّ العبودية يتزيّى ويتبرقع به بين يدي الله تعالى.
وما أنواع المصائب والمحن المختلفة التي تهدد الإنسان في هذه الحياة أو تنزل به، إلا أسباب وعوامل تنبهه لعبوديته، وتصرف آماله وفكره إلى عظمة الله سبحانه وتعالى وباهر قدرته، كي يفرّ إليه سبحانه وتعالى ويبسط أمامه ضعفه وعبوديته، ويستجير به من كل فتنة وبلاء، وإذا استيقظ الإنسان في حياته لهذه الحقيقة وانصبغ سلوكه بها، فقد وصل إلى الحدّ الذي أمر الله عباده جميعا أن يقفوا عنده وينتهوا إليه.
فهذه العبودية التي اتخذت مظهرها الرائع في طول دعاء النّبي صلّى الله عليه وسلم وشدة ضراعته ومناشدته لربّه أن يؤتيه النصر، هي الثمن الذي استحق به ذلك التأييد الإلهي العظيم في تلك المعركة. وقد نصّت على ذلك الآية الكريمة إذ تقول:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . ويقينا منه صلّى الله عليه وسلم بهذه العبودية لله عزّ وجلّ، كان واثقا بالنصر مطمئنا إلى أن العاقبة للمسلمين. ثم قارن مظهر العبودية التي تجلت في موقفه صلّى الله عليه وسلم ونتائج ذلك، مع مظهر ذلك الطغيان والتّجبر الذي تجلى في موقف أبي جهل حينما قال: «لن نرجع عن بدر أبدا حتى ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا» ، وتأمل في نتائج ذلك التجبر والجبروت! ..
لقد كانت نتيجة العبودية والخضوع لله تعالى، عزة قعساء ومجدا شامخا خضع لهما جبين الدنيا بأسرها، ولقد كانت نتيجة الطغيان والجبروت الزائفين قبرا من الضيعة والهوان أقيم لأربابهما حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر وتعزف عليهم القيان. وتلك هي سنة الله في الكون كلما تلاقت عبودية لله خالصة مع جبروت وطغيان زائفين.
7- (الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) : انطوت بدر على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين الصادقين. فقد أمدّ الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم. وهذه حقيقة ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب والسّنة الصحيحة. روى ابن هشام أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على النقع» ورواه البخاري أيضا بلفظ قريب منه «8» .
ومن أوضح الأدلة القاطعة على أن التعبير بالملائكة في بيان الله عزّ وجلّ ليس المقصود به ما يتوهمه بعضهم من المدد الروحي أو القوة المعنوية أو نحو ذلك- أقول من أوضح الأدلة القاطعة على بطلان هذا الوهم- ضبط البيان الإلهي الملائكة بعدد محدود وهو الألف، في قوله عزّ وجلّ:
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . إذ العدد من مستلزمات الكم المنفصل في الأشياء، ولا يكون ذلك إلّا في الأشياء المادية المحسوسة.
ومن هنا نعلم أن تقييد البيان الإلهي الملائكة بعدد معين ينطوي على حكم باهرة من أجلّها قطع السبيل على من يريد أن يتناول الآية، ويفسر الملائكة بالمعنى الذي يروق له وهو مجرد الدعم المعنوي.
__________
(8) ولفظه في البخاري، أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل آخذ بزمام فرسه عليه أداة حرب. راجع صحيح البخاري: 5/ 14
ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين- إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم، واستجابة حسية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يقفون مع أول تجربة قتال في سبيل الله، لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد. وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك. ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معلّلا نزول الملائكة: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 8/ 10] .
8- (الحياة البرزخية للأموات) : في وقوف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فم القليب ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعدما ماتوا، وفيما قاله لعمر رضي الله عنه إذ ذاك، دليل واضح على أن للميت حياة روحية خاصة به، لا ندري حقيقتها وكيفيتها، وأن أرواح الموتى تظل حائمة حول أجسادهم، ومن هنا يتصور معنى عذاب القبر ونعيمه، غير أن ذلك كله إنما يخضع لموازين لا تنضبط بعقولنا وإدراكاتنا الدنيوية هذه، إذ هو مما يسمى بعالم الملكوت البعيد عن مشاهداتنا وتجاربنا العقلية والمادية. فطريق الإيمان بها إنما هو التسليم لها بعد أن تصلنا بطريق ثابت صحيح.
9- ثم إن مسألة الأسرى، بما تضمنته من مشاورة الرسول صلّى الله عليه وسلم في شأنهم، وما أعقبها من حكم افتدائهم بالمال ثم نزول آيات تعتب على النّبي صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه اتخاذ ذلك الحكم، نقول إن لهذه المسألة دلالات هامة:
أولا: (الأسرى واجتهاد الرسول صلّى الله عليه وسلم) : دلّتنا هذه الواقعة على أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد، والذين ذهبوا إلى هذا- وهم جمهور علماء الأصول- استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر.
وإذا صحّ أن يجتهد، صحّ منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر، بل لا بدّ أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على أن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم قد وقع على ما هو الحق في علم الله تعالى.
قال شارح اللمع: «وقد كان الخطأ عليه جائزا، إلا أنه لا يقرّ عليه، بل ينبّه عليه سريعا» ، وقال أبو إسحاق الشيرازي: «ومن أصحابنا من قال: ما كان يجوز عليه الخطأ، وهذا خطأ، لقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيدل على أنه أخطأ» «9» ، [التوبة 9/ 43] .
وقال الأسنوي في شرحه على المنهاج: «واختار الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقرّ عليه. ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث» «10» .
وقال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
__________
(9) انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي: 824
(10) الأسنوي على المنهاج: 4/ 537
[الأنفال 8/ 67] الآية.. «والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرّون عليه» .
وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم أو الانحراف أو نحو ذلك مما يتنافى مع العصمة الثابتة للأنبياء. غير أن المقصود بالخطأ هنا عدم مطابقة اجتهاده صلّى الله عليه وسلم لما هو الكمال الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وهو لا يتنافى مع عصمته صلّى الله عليه وسلم، بل هو مثاب من الله تعالى عليه. والناس مكلفون باتباعه في ذلك ما لم تتنزل عليه آية تصرفه إلى حكم آخر شأنه شأن الحاكم إذا اجتهد. وهكذا فإن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه وحي يتعلق به، له طرف ناظر إلى الناس، وطرف آخر يتعلق بعلم الله تعالى. فأما اجتهاده بالنسبة للطرف الأول، فلا يوصف بالخطأ البتة، لأن الناس مكلفون باتباعه على كل حال كاتباعهم لسائر المجتهدين من بعده، إذ لا سبيل لهم للاطلاع على الخفي الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وأما اجتهاده بالنسبة للطرف الثاني أي المتعلق بعلم الله عزّ وجلّ، فخاضع لوصفي الصحة والخطأ، إذ هو قابل لموافقة ما هو الكمال الثابت في علمه عزّ وجلّ، ولعدم موافقته له. والكمال المطلق إنما هو لله عزّ وجلّ. ولقد كان عليه الصلاة والسلام يرقى في الكمالات متجاوزا المراحل التي كانت تبدو له نقصا وتقصيرا بالنسبة لما ارتقى إليه من بعد، وكان يستغفر الله من تلبسه بها كاستغفارنا من الذنوب، ويقول: «إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» .
ثانيا: كما أن غزوة بدر هي أول تجربة للمسلمين في التضحية والقتال في سبيل الله تعالى وهم على ما كانوا عليه من الضعف والقلة، فكذلك هي أول تجربة لهم في رؤية الغنائم والأموال أمامهم في أعقاب المعركة، وهم على ما كانوا عليه من الفقر والحاجة. وقد عالجت الحكمة الإلهية تجربة القتال مع الضعف بأن ثبّت الله قلوبهم وطمأن نفوسهم- كما ذكرنا- بالخوارق الدالة على النصر.
ثم عالجت الحكمة الإلهية تجربة رؤية الغنائم والأموال مع الحاجة والفقر، بوسائل تربوية دقيقة، جاءت في وقتها المناسب، وقد تجلى أثر هذه التجربة في مشهدين، على أعقاب هذه الغزوة. أما المشهد الأول فحينما انهزم المشركون وتركوا وراءهم أموالهم المختلفة، فقد تسابق بعض المسلمين إليها واختلفوا بعضهم مع بعض في كيفية استحقاقهم لها وكادوا يشتجرون على ذلك، ولم يكن قد نزل بعد حكم توزيع الغنائم بين المقاتلين فراحوا يسألون النّبي عليه الصلاة والسلام وينهون إليه خصومتهم في الأمر. وعندئذ نزل قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 1- 2] .
فأنت تدري أن الآيتين لا تنطويان على جواب سؤالهم، بل فيهما صرف لهم عن الموضوع كله، إذ هي تقول: إن الأنفال ليست لأحد منهم، بل هي لله ورسوله، أما هم فعليهم إصلاح هذا الشقاق الذي وقع فيما بينهم وإطاعة الله في أوامره، واجتناب نواهيبه، فتلك هي وظيفتهم، أما المال والدنيا، فليعتمدوا فيهما على الله تعالى. فلما ثاب هؤلاء المسلمون إلى هدي هاتين الآيتين وصرفوا النظر عما اشتجروا من أجله نزلت آيات أخرى تقرر كيفية تقسيم الغنائم بين المقاتلين على اختلافهم. وهذه من أبرع الوسائل التربوية الدقيقة كما ترى.
وأما المشهد الثاني، فهو عندما تشاور النّبي صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه في شأن الأسرى، فقد سكنت نفوسهم إلى افتدائهم بالمال. وقد كانت الملاحظة في ذلك هي الجمع بين الرحمة والرفق بالأسرى، عسى أن يرعووا ويؤمنوا بالله، والتعويض عما فات المهاجرين من أموالهم التي تركوها في مكة عسى أن يقع موقعا لديهم ويساعدهم على إصلاح شؤون دنياهم. وهذا الرأي الذي سكنت إليه نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدل على مدى شفقته على أصحابه. وهذه الشفقة هي التي جعلت يده صلّى الله عليه وسلم ترتفع بالدعاء للمهاجرين لما رآهم لدى خروجهم إلى بدر، وإن علائم الحاجة والفقر بادية عليهم قائلا:
«اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، وإنهم جياع فأشبعهم» «11» .
ولكن الحكمة الإلهية لم ترد للمسلمين أن يجعلوا من النظرة إلى المال ميزانا أو جزء ميزان للحكم في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها مهما كانت الحال والظروف، إذ يوشك، لو تركوا لهذه النظرة وهم أمام أول تجربة من هذا النوع، أن يجري ذلك مجرى القاعدة المطردة فتستولي النظرة المادية على مثل هذه الأحكام التي ينبغي أن تظل متسامية في علياء لا يطولها شيء من أغراض الدنيا على اختلافها، ومن الصعب لمن سار وراء الدنيا أشواطا واستطاب مذاقها أن يرتد عنها ويفطم نفسه عن مذاقها.
روى مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن قضى بافتداء الأسرى فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. فقلت يا رسول الله: «أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» ، (شجرة قريبة من النّبي صلّى الله عليه وسلم) ، وأنزل الله عزّ وجلّ: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «12» [الأنفال 8/ 67- 69] .
__________
(11) أبو داود. عن جمع الفوائد: 2/ 90
(12) مسلم: 5/ 158
,
وهذه صورة ثانية من طبيعة الغدر والخيانة المتأصلة في نفوس اليهود، وقد رأينا من قبلها صورة أخرى من خيانتهم فيما أقدم عليه يهود بني قينقاع. وتلك حقيقة تاريخية صدقتها الوقائع التي لا تحصى، وذلك هو سر اللعنة الإلهية التي حاقت بهم وسجلها بيان الله تعالى في قوله: لُعِنَ
__________
(42) متفق عليه.
(43) انظر طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتفسير ابن كثير عند تفسير سورة الحشر.
(44) عيون الأثر: 2/ 51
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة 5/ 78] .
ثم إن في هذه الواقعة لدروسا بليغة، ودلالات هامة تتعلق بكثير من أحكام الشريعة الإسلامية، نذكر منها ما يلي:
أولا: الخبر الذي جاء من الله تعالى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكشف ما بيّته اليهود من الغدر به، يعدّ واحدة من الخوارق الكثيرة التي أكرم الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم قبل بعثته وأثناءها، وهي مما ينبغي أن يسترعي انتباهنا ليحملنا على مزيد من الإيمان بنبوته ورسالته، والاقتناع بأن شخصيته النبوية تعتبر الأساس الأول لوجوده وصفاته الشخصية الأخرى.
وقد عبر بعض الكاتبين في السيرة وفقهها عن هذا الخبر الإلهي الذي نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم بفضح نوايا اليهود- عبر عن ذلك بأنه ألهم ما يبيته اليهود له-! وكلمة الإلهام تدل على معنى مشترك بين الناس كلهم فحاسّة الإلهام- عن طريق الإشارات والقرائن- حاسة طبيعية لا تختص بها فئة من الناس دون غيرهم. وكلمة (الخبر الإلهي) كما يستعملها علماء السيرة رحمهم الله تعالى، إنما تدل على معنى هو من سمات النبوة وخصوصياتها، ونحن نعلم أن هذا المعنى دون غيره هو الذي جعل النبي صلّى الله عليه وسلم يحس بالمكر، فهو الوفاء من الله تعالى بوعده القاطع لرسوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] .
وإذا كان الأمر كذلك، ففيم التمويه في التعبير؟ .. أما إن هذا ليس إلا مظهرا من مظاهر إنكار معجزاته صلّى الله عليه وسلم. وقد علمت فيما مضى أن مصدر إنكار معجزاته عليه الصلاة والسلام- بعد ثبوتها بالقطع المتواتر- ليس إلا مظهر ضعف في الإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام.
ثانيا: قطع نخيل بني النضير وإحراقها، ثبت بالاتفاق. والذي أتلفه الرسول صلّى الله عليه وسلم من ذلك إنما هو البعض ثم ترك الباقي. وقد نزل القرآن تصويبا لما أقدم عليه النبي صلّى الله عليه وسلم من ذلك:
قطعا وإبقاء، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ ... [الحشر 59/ 5] .
وقد استدل عامة العلماء بذلك، على أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإتلافها منوط بما يراه الإمام أو القائد من مصلحة النكاية بأعدائهم، فالمسألة إذن من قبيل ما يدخل تحت اسم السياسة الشرعية. قال العلماء: وإنما كان قصد الرسول صلّى الله عليه وسلم بتصرفه هذا في النخيل- قطعا أو كفا- تحقيق المصلحة وتلمس السبيل إليها، إرشادا وتعليما للأئمة من بعده.
وبهذا أيضا علل الشافعي رحمه الله، أمر أبي بكر رضي الله عنه بالإحراق والقطع، حينما أرسل خالدا إلى طليحة وبني تميم، مع أنه نهى هو نفسه عن ذلك في حروب الشام. ويقول رحمه الله في هذا: «ولعل أمر أبي بكر بأن يكفوا عن أن يقطعوا شجرا مثمرا، إنما هو لأنه سمع
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام تفتح على المسلمين، فلما كان مباحا له أن يقطع ويترك، اختار الترك نظرا للمسلمين» «45» .
وهذا الذي قلناه من إباحة قطع شجر الكفار وإحراقه إذا اقتضت المصلحة هو مذهب نافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء.
وروي عن الليث بن سعد وأبي ثور والأوزاعي القول بعدم جوازه «46» .
ثالثا: اتّفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قتال (وهو الفيء) يعود النظر والتصرف فيه إلى ما يراه الإمام من المصلحة، وأنه لا يجب عليه تقسيمه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غنموها بعد قتال وحرب، مستدلين على ذلك بسياسته صلّى الله عليه وسلم في تقسيم فيء بني النضير، فقد خص به- كما رأيت- المهاجرين وحدهم، وقد نزل القرآن تصويبا لذلك، في الآيتين اللتين ذكرناهما.
ثم اختلفوا في الأراضي التي غنمها المسلمون بواسطة الحرب: فذهب مالك إلى أن الأرض لا تقسم مطلقا، وإنما يكون خراجها وقفا لمصالح المسلمين إلا أن يرى الإمام أن المصلحة تقضي القسمة فإن له ذلك، ويذهب الحنفية قريبا من هذا المذهب.
أما الشافعي فذهب إلى أن الأرض المأخوذة عنوة تجب قسمتها كما تجب قسمة غيرها من الغنائم، وهو الظاهر من مذهب الإمام أحمد أيضا.
ودليل ما ذهب إليه الشافعي، أن تصرف النبي صلّى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، على خلاف ما تقتضيه القسمة بين الغانمين في الحرب، إنما كان بسبب عدم وجود أي قتال تسبّب عنه الحصول على تلك الغنائم. وقد نصت الآية على ذلك في معرض تعليل حكمه صلّى الله عليه وسلم، في فيء بني النضير، وهي قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ [الحشر 59/ 6] وإذا كان هذا هو مناط جواز عدم القسمة لأراضي الفيء فمن الواضح أنه إذا ارتفع مناط الحكم، ارتفع الحكم معه، وعاد الحكم المنصوص عليه في حق الغنائم، سواء في ذلك الأراضي وغيرها.
ودليل ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة أمور كثيرة، من أهمها عمل عمر رضي الله عنه حينما امتنع عن تقسيم سواد العراق، وجعلها وقفا يجري خراجها ريعا للمسلمين وليس المجال هنا متسعا لأكثر من هذا العرض المجمل في الموضوع.
إنما الذي ينبغي أن ننتبه إليه من هذا البحث هنا، هو التعليل الذي ذكره الله تعالى في
__________
(45) الأم: 7/ 324 وانظر في هذا الموضوع: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية- للمؤلف 170- 171
(46) انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 12/ 50
الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسا دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي لا يكون تداول المال محصورا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط.
والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وإن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائها إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبّقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعا مكتفون، ليس فيهم كلّ على آخر وإن كانوا جميعا يتعاونون.
والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل حكمة شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسبابا معينة ألزمنا باتّباعها وعدم الخروج عليها. أي، إن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معا، فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية، فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجا على كل من الغاية والوسيلة معا، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلا إلى تلك الغاية، والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد.
هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود والمنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك ... فهذه السورة من أهم ما يمكّنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها.
,
استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة هذه أحكاما هامة نجملها فيما يلي:
أولا: (جواز قتال من نقض العهد) ، وقد جعل الإمام مسلم رحمه الله هذا الحكم عنوانا لغزوة بني قريظة، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين، ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان. وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك.
ثانيا: (جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم) ، قال النووي رحمه الله: فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامّهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح للحكم،
__________
(87) ليس المراد به مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة، بل مكان اختطه صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة للصلاة فكان مسجدا، كما قال شراح الحديث.
(88) متفق عليه.
(89) متفق عليه واللفظ للبخاري.
وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على عليّ التحكيم، وأقام الحجة عليهم.
وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم «90» .
ثالثا: (مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها) ، وفي اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة» على النحو الذي روينا، مع عدم تعنيف النبي صلّى الله عليه وسلم أحدا منهم أو معاتبته، دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورا ومثابا، سواء قلنا أن المصيب واحد أو متعدد كما أن فيه تقريرا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية. وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية، أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم، فالله سبحانه وتعالى تعبّد عباده بنوعين من التكاليف:
أولهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك.
ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، فليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أن يبذل كل ما لديه من وسع لمعرفة جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهة ما، استقبلها فصلّى إليها.
ثم إن هنا لك حكما باهرة لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية ظنية الدلالة غير قطعية. من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألة ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعا، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيّها شاؤوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصر وزمن.
وإذا تأملت هذا، علمت أن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل. إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما مادام دليلها ظنيا محتملا؟ .. لو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟!.
رابعا: (تأكد اليهود من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم) ، لقد رأيت من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود، أنهم كانوا على يقين من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى اطلاع تام على ما أثبتته التوراة من
__________
(90) النووي على مسلم 12/ 92
الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيدا لعصبيتهم وتكبرهم. وذلك هو سبب الكفر عند كثير ممن يتظاهر بعدم الإيمان والفهم، وذلك هو الدليل البين على أن الإسلام في عقيدته وعامة أحكامه إنما هو دين الفطرة البشرية الصافية، ينسجم في عقيدته مع العقل وينسجم في تشريعاته وأحكامه مع حاجات الإنسان ومصالحه، فلن تجد من عاقل سمع باسم الإسلام وألّم بحقيقته وجوهره ثم كفر به كفرا عقليا صادقا. إنما هو أحد شيئين: إما أنه لم يسمع بالإسلام على حقيقته وإنما قيل له عنه كلام زائف باطل، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره، فهو يأباه إباء نفسيا لحقد على المسلمين أو غرض أو هوى يخشى فواته.
خامسا: (حكم القيام إكراما للقادم) ، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبا دابته أن يقوموا إليه تكريما له، ودلّ على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وقد استدل عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم في المناسبات الداعية إلى ذلك عرفا.
يقول الإمام النووي في تعليق على هذا الحديث: «فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا. هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام. قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه. قلت:
القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح» «91» .
ومن الأحاديث الثابتة الدالة أيضا على ذلك، ما جاء في حديث كعب بن مالك المتفق عليه، وهو يقص خبر تخلفه عن غزوة تبوك، قال: «فانطلقت أتأمم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره- فكان كعب لا ينساها لطلحة» .
ومن ذلك أيضا ما رواه الترمذي وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحدا من الناس كان أشبه بالنبي صلّى الله عليه وسلم كلاما ولا حديثا ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رآها أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلّى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه فقبلته» «92» .
واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ أن يتمثل له
__________
(91) النووي على مسلم: 12/ 93
(92) هذا اللفظ للبخاري والروايات الأخرى لا تختلف عن هذه إلا بألفاظ أو زيادات بسيطة.
الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . لأن مشروعية إكرام الفضلاء وتوقيرهم لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته، بل إن من أبرز صفات الصالحين والفضلاء أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهّادا في طلب هذا الشيء. أرأيت إلى الفقير المحتاج؟ إن الأدب الإسلامي يوصيه ويعلمه الترفع عن المسألة وإظهار الفاقة والحاجة للناس، ولكن هذا الأدب الإسلامي نفسه يوصي الأغنياء بالبحث عن هؤلاء الفقراء المتعففين ويأمرهم بإكرامهم وإعطائهم من فضول أموالهم.
فلكل أدب ووظيفة، ولا ينبغي أن نخلط بينهما، أو ننسخ الواحد بالآخر فإن ذلك من أسوأ مظاهر التسرع والجهل.
غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدودا إذا تجاوزها، انقلب الأمر محرما واشترك في الإثم كل من مقترفه والساكت عليه.
فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل مطرقا لا يطرف إلى أن يأذن له بالجلوس، ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه. أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس. ولا يخدعنك ما قد يقال في تسويغ ذلك من أنه أسلوب من التربية للمريد! ..
فالإسلام قد شرع مناهج وأساليب للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقرّ أو يعاج عليه.
سادسا: (مزايا خاصة لسعد بن معاذ) ، وإنك لتقف خلال اطلاعك على هذه الغزوة، على مزية كبرى لسيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنك لتجد ذلك أولا، في إعطاء النبي صلّى الله عليه وسلم له صلاحية الحكم بما يشاء على بني قريظة، وجعل موقفه منه- وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم- موقف الموافق والمؤيد لكل ما سيحكم به. ونجد ذلك ثانيا في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم للأنصار بالقيام إليه حينما أقبل إليهم، وتلك مزية كبرى لسعد حينما يكون هذا الأمر صادرا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ثم تجد ذلك في قصة الجرح الذي كان قد أصابه في كاحله في غزوة الخندق. لقد رفع يديه يدعو الله تعالى يوم أن أصابه هذا الجرح قائلا: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلّى الله عليه وسلم، وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك» وقد استجيب دعاء سعد فتحجر جرحه وتماثل للشفاء، حتى كانت غزوة بني قريظة، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليه، وكفى الله المؤمنين شرّ اليهود وتطهرت المدينة من أرجاسهم، رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: «اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشا والمشركين) فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها» ، وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله تعالى.
قال ابن حجر في الفتح: «والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا وأن دعاءه في هذه القصة كان مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين، فإنه صلّى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح 48/ 24] . ثم وقعت الهدنة، واعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا، ففتحت مكة» «93» .
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في منصرفه عن غزوة الأحزاب، فيما رواه البخاري: «الآن نغزوهم هم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» ، وأخرج البزار بإسناد حسن من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: «لا يغزونكم بعد هذا أبدا ولكن أنتم تغزونهم» .
وأخيرا، فإن قصة سعد هذه، بملابساتها التي ذكرناها، تذكرك بما كنا قررناه سابقا من أن الحرب الدفاعية في الإسلام ما كانت إلا مرحلة من مراحل الدعوة التي سار فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جاءت من بعدها مرحلة دعوة الناس كلهم إلى الإسلام بحيث لا يقبل من الملاحدة والمشركين إلا الإسلام، ولا يقبل من أهل الكتاب إلا الدخول فيه أو الخضوع تحت حكمه العام، مع قتال كل من وقف دون هذه السبيل، ما دام ذلك ممكنا، وبعد استنفاد وسائل الدعوة السلمية المعروفة.
وليس بعد تكامل الحكم الإسلامي فيما يتعلق بالجهاد والدعوة، أي معنى لما يسمى بالحرب الدفاعية التي شاعت أخيرا على ألسنة بعض الباحثين وإلا فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام:
«ولكن أنتم تغزونهم؟» .
__________
(93) فتح الباري: 7/ 292
القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة
,
هذه الواقعة تدل في جملتها، على مدى ما ركب في اليهود من طبيعة الغدر والخيانة، فلا تروق لهم الحياة مع من يجاورونهم أو يخالطونهم إلا بأن يبيتوا لهم شرّا أو يحيكوا لهم غدرا، وهم على أتمّ الاستعداد لأن يخلقوا جميع الوسائل والأسباب لذلك. ولدى دراستنا التفصيلية لهذه الحادثة نخرج بدروس ومبادئ نجملها فيما يلي:
أولا: (حجاب المرأة المسلمة) ، لقد رأينا أن مصدر الحادثة هو إرادة اليهود المرأة العربية المسلمة على كشف وجهها، وذلك حينما دخلت في سوقهم لأمر يخصها.. ولا تنافي بين هذا السبب الذي رواه ابن هشام والسبب الآخر الذي رواه بقية رواة السيرة، من حقدهم على المسلمين عقب انتصارهم في غزوة بدر وقولهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنّا نحن الناس» ، فالأغلب أن السببين واقعان معا وكل منهما يتمم الآخر، إذ من البعيد أن ينبذ إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهدهم لمجرد ظهور بوادر الضغينة على وجوههم وفي كلماتهم، بل لابد أنهم قد تصرفوا مع ذلك تصرفا أساؤوا فيه إلى المسلمين على نحو ما رواه ابن هشام.
وهو يدل على أن الحجاب الذي شرعه الإسلام للمرأة سابغ للوجه أيضا، وإلا لم يكن هنالك أي حاجة إلى أن تسير هذه المرأة في الطريق ساترة وجهها، ولو لم يكن سترها لوجهها تحقيقا لحكم ديني يأمرها بذلك، لما وجد اليهود ما يدفعهم إلى ما صنعوا، لأنهم إنما أرادوا من ذلك مغايظة شعورها الديني الذي كان يبدو جليا في مظهرها.
وقد يقال: إن في هذه القصة التي تفرد بروايتها ابن هشام بعض اللين، فلا تقوى على الدلالة على مثل هذا الحكم، إلا أنه يشهد لها أحاديث كثيرة أخرى ثابتة لا مجال للطعن فيها.
فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، في باب ما يلبس المحرم من الثياب.
قالت: «لا تلثّم- أي المرأة- ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران» . ومثله ما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس
القفازين» «16» . فما معنى نهي المرأة عن أن تتبرقع أو تنتقب أثناء الإحرام بالحج، ولماذا كان هذا النهي خاصا بالمرأة دون الرجل؟ لا شك أن النهي فرع عما كانت تفعله المرأة المسلمة إذ ذاك من الانتقاب وإسدال البرقع على وجهها، فاقتضى الحكم استثناء ذلك في الحج.
ومنه ما رواه مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها، فبت طلاقها، أمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم أرسل إليها أن بيت أم شريك يغشاه أصحابي (أي أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، فاعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر وإنك إذا وضعت خمارك لم يرك.
هذا من حيث ما ورد من الأدلة على وجوب ستر المرأة وجهها وبقية جسمها عن الرجال الأجانب.
أما من حيث الدليل على حرمة نظر الرجل إلى ذلك منها، فقد وردت بذلك أحاديث كثيرة أيضا.
فمن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بريرة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي:
«يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس أن النّبي صلّى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الخثعمية الوضيئة- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحوّل وجهه عن النظر إليها.
فأنت ترى أنه قد اجتمع في هذه الأحاديث نهيان: نهي المرأة عن كشف وجهها أو شيء مما سواه أمام الأجانب، ونهي الرجل عن النظر إلى ذلك منها. وفي ذلك دلالة وافية متكاملة على أن وجه المرأة عورة في حق الأجانب عنها إلا في حالات خاصة مستثناة كضرورة التطبب والتعلم والشهادة ونحو ذلك.
على أن من أئمة المذاهب من ذهب إلى أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، فلا يجب سترهما وحملوا ما سبق من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك على الندب دون الوجوب، غير أن الجميع اتفقوا على أنه لا يجوز النظر إلى شيء من جسم المرأة بشهوة، وعلى أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها إذا عمّ الفسق وأصبح أكثر الذين ينظرون إليها فسّاقا يتأملونها بنظرات محرمة.
وإذا تأملت في حال المسلمين اليوم وما عمّ فيه من الفسق والفجور وسوء التربية والأخلاق، علمت أنه لا مجال للقول بجواز كشف المرأة وجهها والحالة هذه. إن هذا المنحدر الخطير الذي يسير فيه المجتمع الإسلامي اليوم يقتضي- لضمان السلامة والحفظ- مزيدا من الحذر في السير ومزيدا من
__________
(16) البخاري: 3/ 146، والموطأ: 1/ 328
التشدد في أسباب الحيطة ريثما يتجاوز المسلمون مرحلة الخطر ويصبحون قادرين على امتلاك أمرهم وضبط أزمتهم بأيديهم.
وبعبارة موجزة نقول: إن من شأن اتباع الرخص والتسهيلات الدينية، أن تصبح منزلقا، تحت أقدام أصحابها، إلى التحلل العام عن أصل الواجبات، ما لم يوجد تيار اجتماعي ديني سليم يضبط تلك الرخص ضمن منهج إسلامي عام ويحفظها عن أن تشتط وتتجاوز الحدود المشروعة.
ومن عجيب أمر بعض الناس أنهم، يتعلقون بهذا الذي يسمونه: تبدل الأحكام بتبدل الأزمان في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم لا يتذكرون هذه القاعدة إطلاقا عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك، وأنا فلست أجد مثالا تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها نظرا لمقتضيات الزمن الذي نحن فيه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدا من الحذر في السير وتبصر مواقع الأقدام ريثما يهيئ الله للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود.
ثانيا: هذه الحادثة التي صدرت من يهود قينقاع، تدل على حقد دفين في صدورهم على المسلمين. ولكن لماذا تأخرت دلائل هذا الحقد في الظهور والانكشاف خلال ثلاث سنين من الزمن استطاع اليهود خلالها أن يكظموا حقدهم ويبطنوا كيدهم؟
والجواب: أن الذي ألهب مشاعرهم وأثار الحقد الدفين في نفوسهم إنما هو ما وجدوه من انتصار المسلمين في بدر، وهو أمر لم يكونوا يتوقعونه بحال، فضاقت صدورهم بما احتوته من الغيظ والأحقاد ولم يجدوا إلا أن ينفسوا عنها بمثل هذا الذي أقدموا عليه، بل إن حقدهم على المسلمين تجلّى صراحة فيما رويناه من كلامهم وتعليقاتهم على انتصار المسلمين في غزوة بدر:
روى ابن جرير أن مالك بن الصيف- أحد يهود المدينة- قال لبعض المسلمين عند رجوعهم من بدر:
«أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال؟ أما لو أسررنا نحن العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يد على قتالنا» ...
ولو أن اليهود احترموا ما بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، لما وجدوا من المسلمين من يسيء إليهم بكلمة أو يزعجهم في مسكن أو مقام، ولكنهم أبوا إلا شرّا، فكان مردّ الشرّ على نفوسهم.
ثالثا- (معاملة المنافق في الإسلام) : - هذه الحادثة وما أعقبها من دفاع عبد الله بن أبي عن اليهود بالشكل الذي رأيناه، لا تكاد تخفي من أمر نفاق هذا الرجل شيئا. فقد اتضح من موقفه ذاك أنه كان يصطنع الإسلام نفاقا، وأنه في أعماق قلبه إنما يضمر شرّا بالإسلام وأهله.
غير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عامله مع ذلك كله على أنه مسلم، فلم يخفر ذمته، ولم يعامله معاملة المشرك أو المرتد أو الكاذب في إسلامه، وأجابه إلى ما أصرّ وألحّ في طلبه.
وذلك يدل- كما أجمع العلماء- على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم، يعامل كذلك، وإن كان نفاقه مقطوعا به. وسبب ذلك أن الأحكام الإسلامية في مجموعها تتكون من جانبين: جانب يطبق في الدنيا ويكلف المسلمون بتطبيقه على مجتمعاتهم وفيما بينهم، ويشرف على ذلك الخليفة أو رئيس الدولة، وجانب آخر يطبق في الآخرة ويكون أمره عائدا إلى الله تعالى.
فأما الجانب الأول، فيقوم أمره على الأدلة القضائية المادية والمحسوسة بحيث لا يترتب شيء من نتائج الأحكام إلا بموجبها، فليس للأدلة الوجدانية والقرائن الاستنتاجية أي أثر في هذا الجانب.
وأما الجانب الثاني، فيقوم على ما استقرّ في القلوب واستكنّ في الصدور ومردّ القضاء في ذلك إلى الله تعالى. ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه: «إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم» . ويقول فيما رواه الشيخان: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما هو قطعة من النار» .
والحكمة من مشروعية هذه القاعدة، أن تظلّ العدالة بين الناس في مأمن من التلاعب بها والنيل منها إذ ربما اتّخذ بعض الحكام من حجية الأدلة الوجدانية والاستنتاجية وحدها ذريعة إلى الإضرار ببعض الناس بدون حق.
وتطبيقا لهذه القاعدة الشرعية، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الرغم من اطّلاعه على كثير من أحوال المنافقين وما تسرّه أفئدتهم، بوحي من الله تعالى، يعاملهم معاملة المسلمين دون أي تفريق في الأحكام الشرعية العامة.
وهذا لا ينافي أن يكون المسلمون في حذر دائم من المنافقين، وأن يكونوا في يقظة تامة أمام تصرفاتهم، فذلك من الواجبات البدهية على المسلمين في كل ظرف ووقت.
رابعا: (ولاية غير المسلمين) : وإذا تأملنا في النتيجة التشريعية لهذه الحادثة، وهي الآيات القرآنية التي نزلت تعليقا عليها، علمنا أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتخذ من غير المسلم وليّا له، أي صاحبا تشيع بينهما مسؤولية الولاية والتعاون.
وهذا من الأحكام الإسلامية التي لم يقع الخلاف فيها بين المسلمين: إذ الآيات القرآنية الصريحة في هذا متكررة وكثيرة، والأحاديث النبوية في تأكيد ذلك تبلغ مبلغ التواتر المعنوي.
ولا مجال هنا لسرد هذه الأدلة فهي معروفة غير خفية على الباحث.
ولا يستثنى من هذا الحكم إلا حالة واحدة، هي ما إذا ألجئ المسلمون إلى هذه الموالاة بسبب شدة الضعف التي قد تحملهم كرها على ذلك. فقد رخّص الله في ذلك إذ قال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران 3/ 28] .
وينبغي أن نعلم أن النهي عن موالاة غير المسلمين لا يعني الأمر بالحقد عليهم، فالمسلم منهي عن أن يحقد على أحد من الناس. وينبغي أن تعلم أن هنالك فرقا كبيرا بين أن يغضب الإنسان على أحد لله تعالى، وأن يحقد عليه، أما الأول فمصدره منكر لا يرضى عنه الله تعالى يستوجب من المسلم أن يغضب على فاعله بسببه، وأما الثاني فمصدره ذات الشخص نفسه، بقطع النظر عن تصرفاته وأعماله، وهو ما ينهى عنه الإسلام.
والغضب لله، ليس في حقيقته إلا نتيجة شفقة على العاصي أو الكافر المستحق لذلك. إذ، إن المؤمن من شأنه أن يحب لجميع الناس ما يحب لنفسه، وليس شيء أحب إلى نفس المؤمن من أن يخلصها من عذاب يوم القيامة ويضمن لها السعادة الأبدية. فهو إذ يغضب على العصاة والكافرين إنما يحمله على ذلك الغيرة عليهم، والتأثر لما عرضوا أنفسهم له من الشقاء الأبدي وعقاب الله تعالى في الآخرة. وأنت خبير أن هذا ليس من الحقد في شيء، إلا إذا صحّ أن يكون غضب الأب على ابنه، أو الأخ على أخيه من أجل مصلحته وسعادته حقدا!
ولا ينافي هذا مشروعية القسوة في معاملة الكافرين في كثير من الأحيان فكثيرا ما تكون القسوة هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح وهي النتيجة التي لا بدّ منها للشفقة والرحمة، كما قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك راحما ... فليقس أحيانا على من يرحم
كذلك ينبغي أن تعلم أن النهي عن موالاة الكافرين لا يستدعي جواز التساهل في تحقيق مبدأ العدالة معهم واحترام المعاهدات التي قد تكون قائمة بين المسلمين وبينهم. فالعدالة ينبغي لها أن تكون مطبقة دائما، وليس للكراهية والغضب في الله تعالى أن يقفا حاجزا دون تحقيق مبادئ العدالة يوما ما. وفي ذلك يقول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] .
إنما المقصود أن تعلم أن المسلمين دون غيرهم أمة واحدة، كما نصّت على ذلك الوثيقة التي شرحناها فيما مضى. وإذا كان كذلك، فإن ولاءهم وتآخيهم ينبغي أن يكونا محصورين فيما بينهم. أما معاملتهم فينبغي أن تكون قائمة مع الناس كلهم على أساس دقيق من العدل ورغبة الخير للجميع والدعاء للناس جميعا بالصلاح والرشد.
,
أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:
لقد أخذ الإسلام يستقر في الجزيرة العربية، واستولى سلطانه على الأفئدة والنفوس وهذا ما كانت نصارى الروم تراقبه من بعيد في خوف وقلق.
فالرومان، لم يعانقوا النصرانية إيمانا منهم بها، وإنما كانوا قد اتخذوها ذريعة إلى استعمار شعوب تلك المنطقة، ولأجل ذلك تلاعبوا بها كما أرادوا، وغيروا منها وبدلوا، فخلطوا هديها بوثنيتهم وأضافوا إلى ما فيها من الحق الكثير من باطلهم.
والإسلام- وهو الدين الذي تكررت الدعوة إليه على لسان جميع الرسل والأنبياء- إنما جاء ليخرج به الناس عن كل سلطان غير سلطان الله تعالى، فلا يكون لأحد عليهم من سيادة ولا سلطان ولا حكم إلا سلطان الله وحكمه.
وهم- وقد علموا من النصرانية كل حقائقها- أدرى الناس بخطورة هذه الرسالة الأخيرة وما تحمل في طيها من تهديد لحكم الطغاة وسلطان المتسلطين وبغي الباغين.
فلا غرو أن يكون هذا الدين- وقد استقر أمره في الجزيرة العربية- مصدر قلق وتخوف لدى طغاة الروم وأتباعهم الذين ما دخلوا النصرانية إلا ظاهرا، وما أرادوا من ذلك إلا ضمان بسط سلطانهم على المستضعفين.
فمن أجل ذلك تلقوا خبر فتح مكة ونبأ انتصار الإسلام في الجزيرة العربية بالذعر، ثم أخذوا يجمعون جموعهم بين الشام والحجاز، علّهم يقفون في وجه هذا الدين الذي سيكون في انتشاره القضاء عليهم وعلى سلطانهم.
__________
(108) البخاري ومسلم، باختصار.
ولقد كان من مقتضى هذا الاهتمام لدى الروم، أن يكون الاشتباك بينهم وبين المسلمين عظيما وخطيرا. ولكن حكمة الله عز وجل تشاء أن يكتفى من جهاد المسلمين في هذه الغزوة بالجهد العظيم الذي بذلوه والمشقات الجسيمة التي تحملوها، إذ قطعوا تلك المسافات المضنية بين المدينة وتبوك ذهابا وإيابا، ولقد كانت- كما رأيت- رحلة عجيبة في عذابها وأتعابها ومشاهد العسر التي فيها.. وما الجهاد الذي أمر الله به؟ هل هو إلا بذل النفس والجهد في سبيل شرعة الله ودينه؟ .. إن هذا هو كل ما يريد الله من عباده، ومعاذ الله أن يكون بحاجة من وراء ذلك إلى معونتهم لردّ كيد الكافرين أو إدخال معنى الهداية والإيمان في قلوب الجاحدين.
وقد بذل (جيش العسرة) في هذه الغزوة العسيرة المضنية، المال والجهد وضحّوا بالراحة في أجمل فرصها، واستبدلوا به العذاب في أقسى صوره وأشكاله. ولقد برهنوا بذلك على صدق إيمانهم بالله ومحبتهم له، فحقّ لهم النصر والتأييد، وأن يكفيهم الله القتال، برعب من لدنه يقذفه في قلوب أعدائهم، فيتفرقون عنهم ويخضعون لحكم الله فيهم.
وهكذا فقد كان يسر خضوع الروم لحكم الجزية وقيودها، في مقابل العسر الذي تحمله المسلمون مع رسولهم صلّى الله عليه وسلم في مرضاة ربهم جلّ جلاله.
ثانيا- العبر والأحكام:
وإنك لتجد في هذه الغزوة دروسا وأحكاما كثيرة، نجمل منها ما يلي:
1- (أهمية الجهاد بالمال) ، فالجهاد ضد أعداء الإسلام ليس محصورا بالخروج للغزو، بل ولا يكفي منه ذلك وحده. فحيثما توقف أمر الجهاد بالقتال والسلاح على نفقات ومال، وجب على المسلمين كلهم أن يقدموا من ذلك ما يقع موقعا من الكفاية، بشرط أن يكون ذلك بنسبة ما يتفاوتون به من كفاية وغنى.
ولقد قرر الفقهاء أن الدولة إذا ما اضطرت إلى النفقات للجهاد، كان لها أن تفرض على الناس حاجتها من ذلك بالشكل الذي ذكرناه، غير أنهم اتفقوا على أن ذلك مشروط بأن لا يكون في أموال الدولة ما يوضع في نفقات كمالية أو غير مشروعة. إذ أن أموال الناس ليست أولى من أموال الدولة بأن تصرف إلى حاجات الجند والقتال.
هذا، ولقد رأيت كيف أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة بعير بكل ما تحتاجه من الأقتاب والأجلاس وبمئتي أوقية من الفضة حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» . وفي هذا بيان لفضل عثمان رضي الله عنه. بل وإن في هذه الكلمة التي قالها عنه عليه الصلاة والسلام: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» زجرا وتأديبا لكل من أراد أن يطيل لسانه على عثمان من أمثال أولئك الذين يتشدقون بالنقد على
سياسته أيام خلافته، يكتبون الصفحات الطوال عما يسمونه بمظهر الضعف أو التحيز في سياسته، مقتفين في ذلك ما يطيب للمستشرقين القيام به من إمطار التاريخ الإسلامي بوابل النقد والكذب والتضليل تحقيقا لغاية مرسومة معروفة يتطلعون إليها ويغذون السير للوصول إليها.
إن هؤلاء الذين يضعون أنفسهم في أبراج عالية من النزاهة النادرة، لينطقوا من هناك بأحكامهم على عثمان وسياسته، هم أحوج ما يكونون إلى أن يتحسسوا أمراضهم المختلفة ثم يداووها بدراسة شيء من مناقب هذا الخليفة العظيم والاهتداء بسيرته وسلوكه.
ومهما يكن من شأن عثمان في خلافته، فأي بقية من الأدب توجد عند من يسمع كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» ، ثم يمضي بعد ذلك منتشيا بنقده وتسفيه سياسته؟!.
2- (كلمة عن حديث أبي بكر وما اختلقه البعض من زيادة فيه، ليسوغوا بها بدعة من أهم البدع المحرمة) .
ذكرنا الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود، عن تقديم أبي بكر ماله كله للرسول صلّى الله عليه وسلم، وأنه أجابه عليه الصلاة والسلام حينما سأله، ما أبقيت لأهلك: «أبقيت لهم الله ورسوله» .
وقد اختلق بعضهم زيادة على الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «يا أبا بكر إن الله راض عنك فهل أنت راض عنه؟. فاستفزّه السرور والوجد، وقام يرقص أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: كيف لا أرضى عن الله؟!» .. ثم ذهبوا يجعلون من هذه الزيادة المختلقة دليلا على مشروعية الرقص والدوران في حلق الذكر على نحو ما يفعل (المولوية) وطوائف أخرى من المتصوفة.
فأما الدليل الذي يستندون إليه، فهو دليل مختلق كما ذكرت، ولم يثبت في حديث صحيح ولا ضعيف أن أبا بكر قام بفعل ذلك بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كل ما ورد في الأمر هو ما ذكرته من نص حديث الترمذي والحاكم وأبي داود، على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها في تخريج الحديث.
وأما المدلول، فلا نقول: إنه لم يثبت دليل عليه، بل الحق الذي ينبغي أن يقال: إن الدليل قد ثبت على حرمته. وإليك بيان ذلك.
ذهب الجمهور إلى أن الرقص محرم، إن كان مع التثني، واتفقوا على أنه مكروه إن كان بدون ذلك، فإدخال الرقص- مهما كانت كيفيته- في ذكر الله تعالى، إقحام لما هو مكروه أو محرم في عبادة مشروعة، وتحويل له بذلك إلى عبادة يتقرب بها إلى الله دون دليل عليها، أو على أنها قد خرجت عن الكراهة أو التحريم.
أضف إلى ذلك ما يتلبس به حال هؤلاء (الذاكرين) من التفوه بأصوات ليست من ألفاظ الذكر في شيء، وإنما هي حمحمات وهمهمات تصّاعد من حلوقهم، ليتكون منها دويّ متناسق معين ينسجم مع تواقيع المنشدين والمطربين، فتحدث بذلك مزيدا من النشوة والطرب في النفوس.
فكيف يكون هذا ذكرا لله تعالى كالذي أمر الله به والذي كان يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه؟! .. وكيف يكون هذا العمل عبادة، والعبادة- كما تعلم- هي ما شرعه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لا يزاد عليها ولا ينقص منها؟! ..
واعلم أن هذا الذي نقوله، هو ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية في مختلف العصور، لم يشذّ عنه إلا قلة مبتدعة شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله فكم من محرمات استحلوها ومن موبقات ارتكبوها، باسم الوجد أو التواجد آنا، وباسم الانعتاق من ربقة التكاليف آنا آخر.
وإليك ما يقوله في هذا إمام من أجل أئمة المسلمين دينا وعلما وورعا وتصوفا وهو العز بن عبد السلام:
(وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقتدون بهم يفعل شيئا من ذلك) «109» .
ويقول مثل هذا الكلام ابن حجر أيضا في كتابه: كف الرعاع، وابن عابدين في حاشيته المشهورة المعتمدة عند السادة الأحناف، مفرقا بين الوجد القاهر والتواجد المصطنع.
أما الإمام القرطبي فيتوسع في التحذير من هذه البدعة وبيان حرمتها توسعا كبيرا. وإذا أردت أن تقف على كلامه في ذلك فارجع إلى تفسيره، عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] .
ولولا الإطالة فيما ينبغي الاختصار فيه لسردت لك نصوص كثير من الأئمة في هذا الشأن، لتعلم أن هذا هو الحق الذي اتفق عليه عامة الأئمة من سلف وخلف لا خلاف فيه ولا نزاع «110» .
__________
(109) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 186
(110) قد يعجب البعض من أني أنكر على الوهابية الكثير من آرائهم، مع ما أفعله هنا من الانحياز إليهم، لاستنكار ما يراه الآخرون. ولا ريب أن هذا العجب إنما هو نتيجة تصور خاطئ لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم. فليس من الإسلام في شيء أن يتحول لدينا البحث العلمي في العقل إلى عصبية مستحكمة في النفس. وهيهات أن يكون من الإسلام في شيء ما يفعله بعضهم من الانتصار لما عرف به من مذهب ورأي، مصطنعا بذلك الانتصار للإسلام، وهو يعلم في قرارة
ومن الواضح أنه يستثنى من عموم ما ذكرناه، ما إذا خرج الذاكر عن طوره بأن سيطرت عليه حال لم يملك معها شعوره وزمام نفسه، إذ لا يتعلق به حكم تكليفي في ذلك الطور، وعليه يحمل ما قد قيل من أن العز بن عبد السلام نفسه قد هاج مرة فقام يقفز، إذ كيف يفعل ذلك باختيار وقصد وهو صاحب النص الذي نقلناه عن كتابه؟ «111» .
3- (المنافقون: طبيعتهم ومدى خطورتهم على الإسلام) ، نال أمر هذه الغزوة من حديث كتاب الله عنها وتعليقه عليها ما لم تنله أي غزوة أخرى، وإنك لتقرأ عنها في سورة التوبة آيات بل صفحات كثيرة. وتركز معظم هذه الآيات على بيان أهمية الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وأنه الدليل الوحيد على صدق إسلام المسلم، وأنه أهم فارق بين المؤمنين والمنافقين، وأن على المسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يركنوا إلى الدعة والراحة وأن يستهينوا بما قد يتعرضون له من عذاب وشدة في سبيل الله تعالى. كما أطالت في الحديث عن المنافقين وفضح نواياهم والخفيّ من مقاصدهم.
والدرس الذي في ذلك هو بيان خطورة أمر النفاق والمنافقين على المسلمين في كل عصر، وإيضاح أن الإسلام دعوى لابدّ أن يصدقها الجهاد والتعرض للمحن، حتى يتميز الصادق عن الكاذب، ويمحّص إيمان المؤمنين عن دجل المنافقين. ولقد كانت تبوك أعظم مادة لهذا الدرس
__________
نفسه أنه إنما ينتصر للرأي الذي أصبح جزءا من شخصيته وكيانه بين الناس. لا ينبغي للمسلم (لدى البحث العلمي) ، أن يضع أي شيء نصب عينيه إلا كتاب الله وسنة رسوله، ولا يجوز له أن يدع أي سلطان من دون سلطانهما يتسلل بالتأثير على نفسه وفكره. ولا ينبغي، إذا التزم هذا المسلم الحق، أن يضيق أحد من المسلمين بكلامه، أو أن يغضب لأحكامه. وإذا كنت قد بحثت في هذا الكتاب مسائل انتهيت فيها إلى مخالفة بعض الناس، فليس ذلك- يشهد الله- حبا بمخالفتهم ولكن حبا بالتزام كتاب الله وسنة رسوله، وربما أخطئ في الحكم والاستنتاج ولكن هذا هو الدافع. وإذا كنت أبحث الآن في مسألة انتهيت فيها إلى موافقة أولئك البعض ومخالفة كثير من عوام المسلمين أو المتصوفة فيهم، فليس ذلك أيضا حبا بمخالفتهم أو شهوة لنقدهم، ولكن رغبة خالصة في أن لا أحيد عن كتاب الله وسنة رسوله، مع تقديري لكثير من هؤلاء السادة، ويقيني بصلاحهم وصفاء نياتهم. وعذري أن هذا التقدير لا يسوغ تجاوز النصوص أو القواعد أو التأويل لها. ولو بحث المسلمون عن الحق الذي يجب اتباعه، عن طريق هذا الميزان، لما قامت فئات تتخاصم وتتجافى عن بعضها رغم ما قد يقع بينها من خلاف في الرأي والاجتهاد، ولكن العصبية والغلو هما اللذان أوديا بالمسلمين إلى هذا الذي نراه. يحاسب المتصوفة خصومهم على ما يرونه عندهم من تطرف وغلو، ولا يحاسبون أنفسهم على ما يتلبسون به هم من الغلو والبدع التي لا وجه في الإسلام يسوغها!. أفهذا هو الحق الذي ينبغي أن يكون؟ .. إن الغلو في الأمر لا يأتي إلا من غلو آخر يقابله فمن أراد الانتصار لدين الله وهدي رسوله فليقطع دابر كل غلو واختراع وبدعة، فإن ذلك خير علاج لما قد يوجد من غلو معاكس لدى الآخرين.
(111) انظر كتاب كف الرعاع: 48 على هامش الزواجر لابن حجر.
القرآني، إذ كان اختبار المسلمين بها أعظم اختبار إلهي كشف اللثام عن النفاق في المدينة وميّز المنافقين عن المسلمين الصادقين أعظم تمييز، ثم نزلت الآيات المتوالية في كتاب الله تعالى تضبطهم بجرائمهم وتعلن للمسلمين سرائرهم وتحذرهم منهم في كل زمان ومكان.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التوبة 9/ 81- 83] .
وأنت إذا رجعت إلى ما قبل هذه الآيات وما بعدها، رأيت فيها اهتماما غريبا بشأن المنافقين والحديث عنهم والتحذير منهم. وما ذلك إلا أن المسلمين لا يؤتون، في معظم ما يصيبهم من نكبات، إلا من قبل المنافقين، فلا يتسنى لعدوهم أن يتسلل إليهم إلا من خلال ثغرات النفاق والمنافقين، ولا ينخدع المسلمون بعدوّ لهم كما ينخدعون للمنافقين منهم، ولا يصابون بعدوى الضعف والخبال والتفرق كما يصابون به من قبل المنافقين، وصدق الله تعالى إذ يقول:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة 9/ 47] .
ومكمن الخطورة فيهم، أنهم إنما يحاربون الإسلام باسمه، ويكيدون له بسلاحه، يتلاعبون بما فيه من أحكام باسم الإصلاح والمرونة والتمسك بروح التشريع ويستخرجون منه الفتاوى الملفقة المصطنعة تحقيقا لأمانيهم أو تقربا إلى سادتهم وأولياء نعمتهم.
والعظة التي ينبغي أن يأخذها المسلمون من هذا الدرس، هو أن يحذروا عدوّهم الخارجي مرة على أن يحذروا المنافقين فيهم ألف مرة، وأن يحاربوا أول ما يحاربون.. ما قد يشيع بينهم من النفاق.
4- (الجزية وأهل الكتاب) ، في هذه الغزوة دليل على مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب، وأنهم يحرزون بذلك دماءهم وأموالهم، فقد رأيت أن الروم اختفوا وتفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما وصل إلى تبوك، وجاءه متنصرة العرب فصالحوه صلّى الله عليه وسلم على الجزية، وكتب لهم عليه الصلاة والسلام بذلك كتابا.
والجزية ضريبة مالية تقوم بالنسبة لأهل الكتاب مقام الزكاة بالنسبة للمسلمين والفرق الذي بينها وبين الزكاة أن الجزية تقوم على أساس قضائي مجرد على حين تقوم مشروعية الزكاة على أساس من الديانة والقضاء معا.
ويعتبر الخاضعون لحكم الجزية داخلين في حكم الإسلام القضائي في المجتمع الإسلامي وإن لم يدينوا به عقيدة في نفوسهم. ولذلك فإن عليهم أن لا يجاهروا في مخالفة شيء من قوانينه وأحكامه العامة إلا ما يتدينون من ذلك بخلافه في زعمهم كشرب الخمر ونحوه.
هذا، والفرق بين الكتابيين وغيرهم من الملاحدة والوثنيين، في أمر الجزية، هو أن الكتابيين يمكنهم أن ينسجموا مع المجتمع الإسلامي ونظامه العام مع احتفاظهم بما يدينون. أما الملاحدة والوثنيون وأشباههم فلن تجد بينهم وبين المجتمع الإسلامي قدرا مشتركا يضمن الانسجام، إذ لا يمكن لفكرة الإلحاد والوثنية أن تلتقي مع الحكم والنظام الإسلامي في أي فرع من الفروع، لقيام التناكر والتخالف بينهم في أعمق الأسس والجذور.
5- يدلنا ما ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندما مرّ بمنازل ثمود أنه يكره للمسلم أن يدخل ديار الأمم الخالية ممن أهلكهم الله بكفرهم أو أن يمر على شيء من آثارهم، إلا وهو معتبر بحالهم يتأمل في مآلهم يسأل الله تعالى العافية والرحمة له وللمسلمين. إذ هي منازل شهدت مظهرا من غضب الله تعالى، وسجّلت على أطلالها آثار من ذلك الغضب، فهي باقية عليها مع الدهر، ولا ريب أن الله عز وجل إنما ترك هذه الآثار في الأرض لتكون عبرة لأولي البصيرة والألباب، كما أوضح ذلك في كثير من آياته. فمن الخطأ الكبير أن يمرّ الإنسان عليها ساهيا لاهيا، لا يعبأ منها بغير مظهر الشكل أو البناء والنقوش.
وكم في الأرض من عبر وعظات من هذا القبيل، تظل تدوي بلسان حالها على أسماع الناس أن اعتبروا يا أولي الأبصار، ولكن الناس لا يستمعون منها إلا إلى ما يوسوس إليهم شياطينهم على ألسنتها، ولا يقبلون منها إلا على مظاهر الفن والقيمة الأثرية والتاريخية! ..
6- وعلينا الآن أن نتأمل في الفرق بين سياسته صلّى الله عليه وسلم مع المنافقين وسياسته مع أصحابه المؤمنين الصادقين.
لقد تخلف- كما رأيت- كثير من المنافقين عن هذه الغزوة، وجاؤوا يعتذرون له صلّى الله عليه وسلم بشتى الأعذار المختلفة، ومع ذلك فقد صفح عنهم وقبل علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
وتخلف عدد يسير من المؤمنين من غير ريبة ولا نفاق، ثم جاؤوا إليه صلّى الله عليه وسلم لا يصطنعون عذرا ولا كذبا يسألونه العفو والصفح، ومع ذلك فقد عاقبهم ولم يصفح عنهم. وقد رأيت مدى قسوة العقوبة التي أنزلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم! ..
فلماذا؟! .. لماذا اختار مع المنافقين اللين والصفح، واختار للمسلمين الصادقين الشدة والعقوبة؟! ..
والجواب: أن الشدة والقسوة في هذا المقام مظهر للإكرام والتشريف، وهو مالا يستأهله
المنافقون، وكيف يستأهل المنافقون أن تنزل آيات في توبتهم وعفو الله عنهم؟!.
ثم إن المنافقين محكوم عليهم- على أي حال- أنهم كفرة، ولن ينشلهم شيء مما يتظاهرون به في الدنيا، من الدرك الأسفل في النار يوم القيامة، وقد أمر الشارع جلّ جلاله أن ندعهم لما تظاهروا به ونجري الأحكام الدنيوية حسب ظواهرهم، ففيم التحقيق عن بواطن أعذارهم وحقيقة أقوالهم، وفيم معاقبتهم في الدنيا على ما قد يصدر عنهم من كذب ونحن إنما نعطيهم الظاهر فقط من المعاملة والأحكام، كما يبدون لنا هم أيضا، الظاهر فقط من أحوالهم، وعقائدهم.
قال ابن القيم: «وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات حرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده، بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظا حذرا. وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة» «112» .
واعلم أن في حديث كعب الطويل الذي ذكرناه عبرا ودلالات هامة نذكر منها ما يلي:
أولا: مشروعية الهجر لسبب ديني، فقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن مكالمة كعب وصاحبيه طوال تلك المدة، قال ابن القيم: «وفيه دليل أيضا على أن ردّ السلام على من يستحق الهجر ليس بواجب» «113» ، إذ كان مما قاله كعب: «فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين.. وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟» فلو كان ردّ السلام عليه واجبا لكان لابدّ من إسماعه.
ثانيا: وابتلاء آخر امتحن الله به كعبا رضي الله عنه، ومن الجدير التأمل فيه لتعلم كيف ينبغي أن يكون إيمان المسلم بربه جلّ جلاله. فقد رأيت أن ملك غسان أرسل إليه معظما ومبجلا يدعوه إلى ترك هؤلاء الذين آذوه وأعرضوا عنه، واللحاق ببلاده، ليجد عنده الإكرام والسعادة، وكان قد بلغ الكرب إذ ذاك بكعب أشده، ولكن هذا الابتلاء لم يكشف إلا عن المزيد من إيمانه بربه وشدة إخلاصه ومحبته له.
وكم من أقدام زلت، وتزل اليوم، في هذا المنزلق الذي وضع أمام كعب رضي الله عنه لابتلائه به واختباره، فمرّ من فوقه عزيزا قويا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه.
ثالثا: سجود الشكر لله تعالى عبادة مشروعة، دلّ عليها سجود كعب رضي الله عنه حينما سمع صوت المبشر بتوبة الله عليه. قال ابن القيم: «وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد عليّ بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا» «114» .
__________
(112) زاد المعاد: 3/ 20
(113) المرجع السابق: 3/ 20
(114) المرجع السابق: 3/ 22
رابعا: ذهب الحنفية، ما عدا زفر، إلى أن الرجل إذا نذر ماله كله صدقة على المساكين، لم يلزمه التصدق إلا بالأموال الزكوية فقط، ولهم أدلة على ذلك، لعلّ من جملتها ما أجاب به رسول الله صلّى الله عليه وسلم كعبا حينما قال له: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله، فقد قال له: أمسك عليك بعض مالك» .
والذين ذهبوا إلى أن كلّ ماله يصبح صدقة إذا نذره كله، قالوا: إن قول كعب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس في حقيقته إنشاء لصيغة نذر، ولكنه استشارة له عليه الصلاة والسلام، فأخبره صلّى الله عليه وسلم أن بعض ذلك يجزيه «115» . ولعل هذا هو الأقرب في فهم سياق كلام كعب رضي الله عنه وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلم له.
,
تعتبر غزوة حنين هذه درسا في العقيدة الإسلامية وقانون الأسباب والمسببات من نوح ذلك الدرس الذي أوحت به غزوة بدر، بل متمما له.
فإذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا في جنب كثرة أعدائهم، إذا كانوا صابرين ومتقين، فإن غزوة حنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضا لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين. وكما نزلت آيات من كتاب الله تعالى في تقرير عبرة (بدر) ، فقد نزلت آيات منه أيضا في تقرير العبرة التي ينبغي أن تؤخذ من (حنين) .
كان المسلمون في بدر أقل عددا منهم في أي موقعة أخرى ومع ذلك فلم تضرهم القلة شيئا بسبب صدق إسلامهم ونضج إيمانهم وشدة ولائهم لله ولرسوله.
وكان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي موقعة أخرى خاضوها من قبل. ومع ذلك فلم تنفعهم الكثرة شيئا، بسبب تلك الجماهير التي لم يتمكن الإيمان بعد في نفوسها، ولم يتغلغل معنى الإسلام بعد في أعماق أفئدتها.
لقد انضمت تلك الجماهير إلى الجيش بجسومهم وأشكالهم، بينما لا تزال الدنيا وأهواؤها تتخطف أفئدتهم ومستولي على نفوسهم. وهيهات أن يكون لتعداد الجسوم والأشكال أي أثر في النصر والتوفيق.
فمن أجل ذلك أدبرت هذه الجماهير وارتدت على أعقابها متفرقة في متاهات وادي حنين، حينما فوجئوا بكمائن العدو تخرج في وجوههم، وربما امتدت ظلال هذا الهلع إلى أفئدة كثيرة من المؤمنين الصادقين أيضا بادئ الأمر.
ولكن ما هو إلا أن سمع الأنصار والمهاجرون صيحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونداءه لهم حتى كرّوا عائدين، يلتفون حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويخوضون معه معركة حامية الوطيس، ولم يكن هؤلاء يزيدون على المئتين! ..
ولكن بهؤلاء المئتين عاد النصر إلى المسلمين، ونزلت السكينة على قلوبهم، وهزم الله عدوهم شرّ هزيمة، بعد أن كانوا اثني عشر ألفا فيهم كثير من الأمشاج الذين لم يغنوا عن أنفسهم شيئا! ..
وأنزل الله تعالى هذه العظة البليغة في كتابه الكريم:
... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 25- 27] .
وإليك الآن ما يؤخذ من هذه الغزوة من العظات والأحكام.
أولا- بثّ العيون بين الأعداء لمعرفة شأنهم وأخبارهم:
سبق أن ذكرنا أن هذا عمل جائز، بل هو واجب إن دعت إليه الحاجة، وهذا ما قام به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، فقد بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليتحسس أخبار العدو ويأتي المسلمين بالخبر عن عددهم وعدّتهم، وهو ما لم يقع فيه خلاف بين الأئمة.
ثانيا- للإمام أن يستعير أسلحة من المشركين لقتال أعداء المسلمين:
ومثل الأسلحة في ذلك ما يحتاجه الجيش من عدّة الحرب والقتال، ومثل الاستعارة تملكها منهم مجانا أو بثمن، وهذا ما فعله رسول الله في هذه الغزوة، حينما استعار أسلحة من صفوان بن أمية وكان لا يزال مشركا إذ ذاك.
وهذا داخل في عموم حكم الاستعانة بالكفار عند الحرب، وكنا قد ذكرنا هذه المسألة عند تعليقنا على غزوة أحد. ويتبين لك الآن أن الاستعانة بالكفار تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الاستعانة بأشخاص منهم للقتال مع المسلمين، وهذا ما مضى الحديث عنه في غزوة أحد، وقد قلنا إذ ذاك إنه جائز إذا دعت الحاجة إليه، واطمأن المسلمون إلى صدق وأمانة أولئك الذين سيقاتلون معهم.
النوع الثاني: الاستعانة ببعض ممتلكاتهم كالسلاح وأنواع العدّة، ولا خلاف في أن ذلك جائز بشرط أن لا يكون فيه خدش لكرامة المسلمين، وأن لا يتسبب عن ذلك دخول المسلمين تحت سلطان غيرهم أو تركهم لبعض واجباتهم وفروضهم الدينية. وأنت تجد أن صفوان بن أمية حينما أعار الأسلحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في وضع المغلوب الضعيف وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المركز الأقوى «89» .
ثالثا- جرأته صلّى الله عليه وسلم في الحرب:
وإنك لتبصر صورة نادرة حقا لهذه الجرأة، عندما تفرقت جموع المسلمين في الوادي وقد ولوا الأدبار، ولم يبق إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسط حومة الوغى حيث تحف به كمائن العدو التي فوجئوا بها. فثبت ثباتا عجيبا امتد أثره إلى نفوس أولئك الفارّين من أصحابه، فعادت إليهم من ذلك المشهد رباطة الجأش وقوة العزيمة.
روى ابن كثير في تفسيره خبر غزوة حنين ثم قال:
«قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة. إنه في مثل هذا اليوم، في حومة الوغى، وقد انكشف عن جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري ولا تصلح لفرّ
__________
(89) انظر زاد المعاد: 2/ 190، ومغني المحتاج: 4/ 221
ولا لكرّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما بأنه سينصره ويتمّ ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان» «90» .
رابعا- خروج المرأة للجهاد مع الرجال:
فأما خروجها لمداواة الجرحى وسقي العطاش، فقد ثبت ذلك في الصحيح، في عدة غزوات: وأما خروجها للقتال، فلم يثبت في السّنة وإن كان الإمام البخاري قد ذكر في كتاب الجهاد بابا جعل عنوانه: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال. إذ إن الأحاديث التي ساقها في هذا الباب ليس فيها ما يدل على اشتراك النساء مع الرجال في القتال، قال ابن حجر: «ولم أر في شيء من ذلك (أي الأحاديث الواردة في هذا الموضوع) التصريح بأنهن قاتلن» «91» .
أما ما ذكره الفقهاء في حكم خروج المرأة للقتال، فهو أن العدو إن داهم بلدة من بلاد المسلمين وجب على جميع أهلها الخروج لقتاله بما فيهم النساء، إن تأملنا منهن دفاعا وبلاء، وإلا فلا يشرع ذلك «92» ، أما الخنجر الذي كان مع أم سليم فقد كان لمجرد الدفاع عن نفسها كما قالت.
وعلى هذا ينزّل ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: «جهادكن الحج» ، فالمقصود الذي استأذنت به عائشة رضي الله عنها، إنما هو المشاركة في القتال لا الحضور للمداواة والخدمة وما أشبه ذلك، فهو مشروع، إذا توفرت شروطه، باتفاق.
وعلى كل فإن خروج المرأة مع الرجال إلى الجهاد مشروط بأن تكون في حالة تامة من الستر والصيانة، وأن يكون خروجها لحاجة حقيقية إلى ذلك، فأما إذا لم تكن ثم حاجة حقيقية أو كان ذلك يعرضها للوقوع في المحرمات فخروجها محرم لا يجوز إقراره.
والمهم أن تعلم أن الأحكام الإسلامية منوطة بعضها ببعض، فلا ينبغي تخيّر ما توحي به الأهواء منها لأسباب معينة مع الإعراض عما يتعلق به من الأحكام والواجبات الأخرى. إن مثل هذا يعتبر بلا ريب مصداقا واضحا لقول الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 85] .
ومن المكر القبيح لدين الله تعالى ما يعمد إليه بعض الناس لأغراض دنيوية حقيرة، من
__________
(90) تفسير ابن كثير: 2/ 45
(91) راجع فتح الباري: 6/ 51
(92) راجع مغني المحتاج: 4/ 219
التقاط ما قد يطلب منهم من الفتاوى الشرعية بعد أن يشذبوا منها كل القيود والشروط ويقطعوا عنها ما قد يتعلق بها من التتمات، حتى تخرج موافقة للمطلوب خاضعة لأهواء السادة الموحهين.
ثم يقدمون هذه الفتاوى إليهم على طبق من المداهنة والنفاق! ..
خامسا- تحريم قتل النساء والأطفال والأجراء والعبيد في الجهاد:
فقد دلّ على ذلك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى المرأة التي قتلها خالد بن الوليد، وقد اتفق العلماء والأئمة كلهم على ذلك.
ويستثنى منه ما إذا اشتركوا في القتال وباشروا في مقاتلة المسلمين، فإنهم يقتلون مقبلين، ويجب الإعراض عنهم مدبرين.
كما أنه يستثنى ما إذا تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، ولم يمكن ردّ غائلتهم إلا بقتلهم، فإن ذلك جائز، وعلى الإمام أن يتبع ما تقتضيه المصلحة «93» .
سادسا- حكم سلب القتيل:
قلنا إن النبي صلّى الله عليه وسلم أعلن في هذه الغزوة أن من قتل قتيلا فله سلبه، قال ابن سيد الناس:
«فصار ذلك حكما مستمرا» .
قلت: وهذا متفق عليه، ولكن وقع الخلاف بين الأئمة في نوع هذا الحكم الثابت المستمر، أهو من أحكام الإمامة أم الفتوى؟
أي هل أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مبلغا عن الله عز وجل حكما لا خيرة له ولا لأحد فيه كتبليغه أحكام الصلاة والصيام أم أعلنه حكما مصلحيا قضى به بوصف كونه إمام المسلمين يقضي فيهم بما يرى أنه الخير والمصلحة لهم؟
فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه حكم قائم على أساس التبليغ والفتوى وعليه فإن المجاهد له في كل عصر أن يأخذ سلب من قتل على يده من أهل الحرب ولا حاجة في ذلك إلى إذن الإمام أو القائد.
وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أنه حكم قضائي قائم على أساس الإمامة فقط، فيتوقف جواز أخذ السلب في كل عصر على إذن إمامه. فإن لم يأذن، أضيفت الأسلاب إلى الغنائم وسرى عليها حكمها «94» .
__________
(93) الأحكام السلطانية: 4، مغني المحتاج: 4/ 223
(94) انظر الأحكام السلطانية: 139 والأحكام للقرافي: 38
سابعا- الجهاد لا يعني الحقد على الكافرين:
وقد دلّ على ذلك ما ذكرناه من أن بعض الصحابة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عند منصرفهم من حصار الطائف: «ادع الله على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» . وهذا يعني أن الجهاد ليس إلا ممارسة لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي مسؤولية الناس كلهم بعضهم تجاه بعض، لمحاولة إعتاق أنفسهم من العذاب الأبدي يوم القيامة.
ومن ثم فإن الدعاء من المسلمين لا ينبغي أن يتجه إلى غيرهم إلا بالهداية والإصلاح، لأن هذه الغاية هي الحكمة من مشروعية الجهاد.
ثامنا- متى يتملك الجند الغنائم؟
ذكرنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لوفد هوزان حينما جاؤوه مسلمين: لقد استأنيت بكم، أي أخرت قسم الغنائم آملا في إسلامكم.
وهذا يدلّ على أن الجند إنما يملكون الغنائم بعد تقسيم الحاكم أو الإمام لها، فمهما دامت قبل القسمة فهي لا تعتبر ملكا للمقاتلين. وتلك هي فائدة تأخير النبي صلّى الله عليه وسلم لتقسيمها بين المسلمين.
كما أن هذا يدل أيضا على أن للإمام أن يعيد الغنائم إلى أصحابها إذا جاؤوه مسلمين إذا لم يكن قد قسمها بين الجند، وقد كان هذا ما يفضله رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ويدل موقفه صلّى الله عليه وسلم من وفد هوازن وأموالهم التي غنمها المسلمون، على أن ما قسم من هذه الأموال بينهم، لا يجوز للإمام أن يسترد شيئا منه إلا بطيب نفس من صاحبه دون أن يتأثر بأي جبر أو إكراه.
وتأمل في مدى دقته صلّى الله عليه وسلم في أمر هذا الاستئذان من أصحاب الأموال فإنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يكتفي بصيحاتهم الجماعية المرتفعة: قد طيبنا ذلك يا رسول الله (أي طابت بإرجاعه نفوسنا) ؛ بل أصرّ على أن يعلم أمر هذا الرضى ويستوثق منه بواسطة السماع من كل شخص على حدة أو السماع من وكلائهم وعرفائهم.
وهذا يعني أنه ليس للحاكم أن يستعمل شيئا من صلاحياته وسلطانه في حمل الناس على أن يتنازلوا عن شيء من حقوقهم وممتلكاتهم المشروعة، بل إن الشارع لم يعطه شيئا من هذه الصلاحيات والامتيازات، حتى ولو كان رسولا.
وتلك هي العدالة والمساواة الحقيقية الرائعة! .. فلتدفن نفسها في الرغام كل دعوى باطلة تريد أن تخب- بالألفاظ والشعارات- وراء هذه المثل والقيم الإلهية العظيمة.
تاسعا- سياسة الإسلام نحو المؤلفة قلوبهم:
لقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم اختص أهل مكة الذين أسلموا عام الفتح بمزيد من الغنائم عن
غيرهم، ولم يراع في تلك القسمة قاعدة المساواة الأصلية بين المقاتلين. وهذا العمل منه صلّى الله عليه وسلم من أهم الأدلة التي استدل بها عامة الأئمة والفقهاء على أنه يجوز للإمام أن يزيد في عطاء من يتألف قلوبهم على الإسلام بالقدر الذي تدعو إليه مصلحة تألف قلوبهم، بل يجب عليه ذلك عندما تدعو إليه المصلحة، ولا مانع من أن يكون هذا العطاء من أصل الغنائم.
ومن هنا كان لهؤلاء الناس سهم خاص باسمهم في الزكاة، يجتمع تحت يد الحاكم ليعطي منه (كلما دعت الحاجة) لمن يرى أن المصلحة الإسلامية تدعو إلى تألف قلوبهم.
عاشرا- فضل الأنصار ومدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لهم:
صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قال: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» ، فقد أراد الشيطان أن يبث في نفوس جماعة من الأنصار معنى النقد على السياسة التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في توزيع الغنائم، وربما أراد لهم الشيطان أن يتصوروا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أدركته محبة قومه وبني وطنه فنسي في جنبهم الأنصار! ..
فماذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبر بذلك؟
إن الخطاب الذي ألقاه عليهم جوابا على هذه الوساوس، ليفيض بمعاني الرقة والذوق الرفيع، ومشاعر المحبة الشديدة للأنصار، وهو يفيض في الوقت ذاته بدلائل التألم من أن يتهم من قبل أحب الناس إليه بنسيانهم والإعراض عنهم.
عد إلى خطابه هذا فتأمله.. فسترى أنه قد ضمنه أدق خفقات قلبه وألطف إحساساته!.
ولقد لا مست هذه الرقة والخفقات مشاعر الأنصار فهزتها هزا، ونفضت منها ما كان قد علق بها من الوساوس والهواجس، فارتفعت أصواتهم بالبكاء فرحا بنبيهم وابتهاجا بقسمتهم ونصيبهم.
فما المال وما الشياه والغنائم، في جنب حبيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ يعودون به ويعود بهم إلى ديارهم ليكون المحيا والممات فيما بينهم؟ وأي برهان منه عليه الصلاة والسلام ينطق بالوفاء وخالص المحبة والود أكثر من هذا.. أي أكثر من أن يدع وطنه ومسقط رأسه ليقضي بقية أيامه فيما بينهم؟!
ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلّى الله عليه وسلم دليلا على التقدير والحب؟!
إنه أعطى قريشا كثيرا من الأموال والغنائم.. فهل خصّ نفسه بشيء من ذلك أم جعل نصيبه منه كنصيب الأنصار؟ لقد عمد إلى (الخمس) الذي جعله الله خاصا برسوله يضعه حيث شاء، فوزعه بين أولئك الأعراب الذين كانوا من حوله.
وتأمل فيما قاله لهم، وهم يحدقون به ويستزيدون في العطاء: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» .
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى أصحابك البررة من الأنصار والمهاجرين. وجمعنا تحت لوائك المحمود، وجعلنا مع أولئك الذي سيلقونك على الحوض يوم القيامة.
,
أول ما ينبغي أن يسترعي انتباهنا من أمر هذه الغزوة، ملاحظة الفرق بين طبيعتها، وطبيعة الغزوات السابقة التي تحدثنا عنها.
لقد كانت الغزوات السابقة كلها قائمة على أسباب دفاعية، اقتضت المسلمين أن يدافعوا بها عن وجودهم وأن يردوا بها هجمات أعدائهم، كما قد رأيت، لدى بيان سبب كل غزوة منها.
أما هذه الغزوة، وهي أول غزوة تأتي بعد وقعة بني قريظة وصلح الحديبية، فإن لها وضعا آخر، وإنها لتختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي كانت من قبلها، وهي تدل بذلك على أن الدعوة الإسلامية قد دخلت في مرحلة جديدة من بعد صلح الحديبية.
__________
(19) متفق عليه.
(20) خبر قدوم جعفر بن أبي طالب واشتراكه في الغنائم من رواية البخاري وغيره، وليس في البخاري تفصيل كيفية استقباله صلّى الله عليه وسلم له.
(21) التمر الجنيب هو التمر الجيد.
(22) رواه البخاري وانظر فتح الباري: 7/ 347 والجنيب الجيد من التمر.
فغزوة خيبر أول غزوة بدأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأغار بها فجأة على اليهود الذين استوطنوا بقاع خيبر، دون أن يبدأوا المسلمين بأي محاربة أو قتال.
لقد كان السبب الوحيد لها هو دعوة اليهود إلى الإسلام، ومحاربتهم على كفرهم وعنادهم عن قبول الحق وأحقادهم المعتلجة في صدورهم على الرغم من الدعوة السلمية التي قامت مدة طويلة على الأدلة والبراهين. ولذلك بات رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة الأولى من وصوله إلى خيبر دون أن يشعر أحدا بوجوده أو أن يقاتل أحدا، وانتظر حتى إذا أصبح ولم يسمع أذانا إلى الصلاة- وهي الشعيرة الإسلامية الكبرى- أغار عليهم وقاتلهم على ذلك. وقد قلنا إنه كان إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار.
ويزداد هذا السبب وضوحا إذا تأملت في سؤال علي رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه اللواء: «أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ وفي جوابه صلّى الله عليه وسلم إذ قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه» .
ولقد استنبط العلماء من غزوة خيبر هذه الدلالات وأحكاما كثيرة مختلفة، نذكر فيما يلي جملة منها:
أولها: (جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية وحقيقتها، بدون إنذار سابق أو دعوة مجددة) ، وهو مذهب الشافعية وجمهور الفقهاء، فذلك ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إغارته على خيبر. وأما بلوغ الدعوة وتفهّم الإسلام فهما صحيحا على وجهه فهو شرط بالاتفاق.
ثانيهما: (تقسيم الغنائم على الأساس الذي ورد ذكره) ، وهو تقسيم أربعة أخماسها بين الغانمين يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له واثنان لفرسه «23» . والخمس الباقي يوزع أخماسا على من نصت عليهم الآية القرآنية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال 8/ 41] ، وسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذا الخمس يوزع من بعده على مصالح المسلمين كما ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية، وقيل يختص به الخليفة فيصرفه فيما يراه، والقولان متقاربان.
ثالثها: (جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر مكان القتال) ، وذلك بعد استئذان أصحاب الحق فيها. فقد أشرك النبي صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ومن معه في الغنائم، بإذن من الصحابة، حينما عادوا من الحبشة واليمن.
واعلم أن رواية البخاري في هذا خالية عن التقييد باستئذان المسلمين، ولكن زاد البيهقي في
__________
(23) ذهب أبو حنيفة إلى أن للفارس سهمين، سهم له وآخر لفرسه. وهو محجوج بما ذكرنا من تقسيم النبي صلّى الله عليه وسلم لغنائم خيبر.
روايته أن النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلّم المسلمين فأشركوهم، وزيادة العدل مقبولة. والذي زاد من قيمة القيد الذي رواه البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسهم لأبان بن سعيد، وقد كان أرسله على سرية قبل نجد فعاد منها إلى خيبر بعد انتهاء القتال، وقال له: «اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له، وإنما يجمع بين الخبرين بحمل الأول منهما على إذن الجماعة في القسمة، والثاني على عدمه» «24» .
ولعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم هذا، مع ما تطورت إليه اليوم حالة الحروب والجند وسياسة عطاءاتهم ومرتباتهم؟
والجواب: أنك قد علمت مما سبق أن الأموال غير المنقولة من الغنائم لا توزع بين المحاربين عند مالك وأبي حنيفة على نحو ما مرّ بيانه إلا إذا دعت المصلحة أو الضرورة. أما الأموال المنقولة منها فيجب أن توزع على الغانمين بالطريقة ذاتها التي كان يسلكها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال وطرائقه في تفاوت درجات المقاتلين.
ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات أو مرتبات متلاحقة إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستملك شيئا من هذه الأموال لنفسها.
رابعها: (مشروعية عقد المساقاة) ، وهي أن يعامل مالك الأرض غيره على ما فيها من شجر ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمار تكون بينهما، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم إلى صحة هذا العقد مستدلين على ذلك بمعاملته صلّى الله عليه وسلم أهالي خيبر، وانفرد أبو حنيفة رضي الله عنه، فلم يجز ذلك، قال: ولا دليل في الحديث، لأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدا له صلّى الله عليه وسلم، فما أخذه فهو له وما تركه فهو له، وخالفه الصاحبان فاتفقا مع الجمهور على صحته. ثم اختلف العلماء: «هل ينبغي أن يقال بصحة هذا العقد على كل أنواع الشجر أم هو خاص بالنخيل والعنب؟ وقوفا عند مورد الدليل، إذ كانت عامة أشجار خيبر نخيلا وعنبا، والذي ذهب إليه كثير من الفقهاء هو التعميم في كل أنواع الشجر» .
أما المزارعة فقد منعها قسم كبير ممن صحح عقد المساقاة، منهم الشافعية، وهي أن يعامل مالك الأرض شخصا آخر على أن يعمل فيها بالزراعة والاستنبات بجزء مما ستخرجه الأرض، قال جمهور الشافعية هو غير صحيح، لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة قالوا: إلا أن يكون عقد المزارعة تبعا للمساقاة أي بأن يكون بين الشجر بياض اتفق الطرفان على زراعته ضمن اتفاقهما على عقد المساقاة.
__________
(24) راجع فتح الباري: 7/ 340 و 349
والراجح لدى التأمل في مجموع الأدلة، صحة كل من عقد المساقاة والمزارعة فقد قالوا في بيانه: إن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليست لهم أرض، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار بالتكرم بالمواساة، ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: «كان لرجال من الأنصار فضول أرض، وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسكها» ، ثم بعد توسّع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيحت لهم المزارعة وأن يتصرف المالك في ملكه كما يشاء. ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة والمؤاجرة في عهده صلّى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده.
خامسها: (مشروعية تقبيل القادم والتزامه) ، وهو مما لا نعلم فيه خلافا معتدا به إذا كان قادما من سفر أو طال العهد به، واستدل العلماء في ذلك بتقبيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين عينيه والتزامه إياه عند قدومه من الحبشة، والحديث رواه أبو داود بسند صحيح، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلّى الله عليه وسلم يجرّ ثوبه، فاعتنقه وقبله» .
ويشكل عليه في الظاهر ما رواه الترمذي أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل:
يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» .
وجواب الإشكال أن سؤال الرجل في هذا الحديث عن اللقاءات العادية المتكررة بين الرجل وصاحبه، والتقبيل أو الالتزام أمر غير مرغوب فيه في مثل هذه الحال، أما ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالنسبة لجعفر وزيد فإنما كان ذلك- كما قد علمت- على أثر قدوم من سفر فالحالتان مختلفتان.
سادسها: (حرمة ربا الفضل في المطعومات) ، وهو أن يتبادل اثنان مطعومين من جنس واحد مع تفاضل بينهما. وقد نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى» . ومنها ما رويناه عن البخاري من نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن مبادلة التمر الجيد بالتمر الرديء مفاضلة.
وليس هذا مجال البحث في الحكمة من تحريم هذا التبادل واعتباره ربا محرما، فمجال ذلك المطولات من كتب الفقه.
ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هنا، هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرشد من يريد أن يستبدل تمرا جيدا
برديء أو غيره من المطعومات بمثله، إلى وسيلة أخرى سائغة لا ربا فيها، وهي أن يبيع الرديء بالدراهم ثم يشتري بها الجيد الذي يبتغيه. ولا يضيره في شيء، إنه إنما يريد أن يتوسل بالبيع، إلى شيء آخر كان محرما في الأصل وأنه لا يقصد البيع لذاته، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم سوغ ذلك. وإنما المحرم ما قد نهى عنه الكتاب أو نهت عنه السنة نهيا جازما.
والحكم الذي يستنتج من هذا، أنه يجوز التوصل إلى استباحة حكم محرّم بواسطة مشروعة لذلك، ولا يعتبر ذلك حيلة محرمة، فيجوز أن ينكح الرجل امرأة مطلقة بقصد تحليلها لزوجها السابق إذا لم يشترط ذلك في العقد، ويجوز أن يعطي صاحب الدين زكاة ماله للمدين الذي عجز عن إبراء ذمته نحوه، ثم يسترده منه عن دينه.
ولا عبرة لمخالفة ابن القيم في هذا، محتجا بأن الأعمال بمقاصدها، وأن الذي باع، قاصدا شيئا آخر غير ما شرع له البيع، والذي نكح قاصدا غير الذي شرع له النكاح، متلبسان بفعل باطل لأنهما حوّلا الحكم عن غايته إلى غاية أخرى لم يشرع لها ذلك الحكم، نقول لا عبرة لكلامه هذا، لأنه يناقض حديث البخاري الذي ذكرناه مناقضة صريحة والقواعد الفقهية إنما تأتي من وراء النصوص لا من فوقها، ولأن ابن القيم ناقض نفسه مناقضة في منتهى الغرابة والعجب بصدد هذا البحث في كتابه أعلام الموقعين. فقد أطال في ذم تحريم بعض الصور التي سماها حيلا محرمة وأطنب في تفنيد آراء الأئمة القائلين بصحتها، وتوعد بأن لهم مواقف عصيبة بين يدي الله يوم القيامة. ثم ما لبث بعد بضع صفحات أن راح يسوّغها ويضرب المثل بها للحيل الشرعية الصحيحة، وكأنه ليس هو الذي أطنب قبل قليل في تفنيدها والتحذير منها «25» .
*** ثم إن في هذه الغزوة حادثتين، كل منهما ثابت بالحديث الصحيح، تعدان من الخوارق العظيمة التي أيد الله بها محمدا صلّى الله عليه وسلم.
الأولى: أنه صلّى الله عليه وسلم تفل في عين علي رضي الله عنه وقد كان يشتكي منها، فبرأت في الوقت نفسه حتى كأن لم يكن به وجع.
الثانية: ما أوحى الله إليه من أمر الشاة المسمومة عندما أراد الأكل منها. ولأمر ما سبق قضاء الله تعالى فابتلع بشر بن البراء لقمته قبل أن ينطق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، فكان
__________
(25) انظر أعلام الموقعين: 3/ 292 ط التجارية عندما يتحدث عن حيلة التوسل بالخلع لدرء الطلاق قائلا: هذه الحيلة باطلة شرعا.. إلخ ثم انظر 4/ 110 منه، لتجد كيف يسوغ هذه الحيلة ويوجهها بعشرة أوجه من الأدلة المعتبرة عنده. وانظر ما قبل ذلك وبعده لتجد صورا من التناقض العجيب! وإذا أردت التوسع في بحث ما يسمى بالحيل الشرعية وأثر المقاصد في العقود والأحكام، فارجع إلى تفصيل ذلك في كتابي: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية من ص 293 إلى 324
قضاؤه في ذلك، ولعل في ذلك مزيدا من بيان ما اختص الله تعالى به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحفظ والعصمة من أيدي الناس وكيدهم، تنفيذا لوعده جلّ جلاله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] .
ولقد ذكرنا أن الرواة اختلفوا: هل أسلمت المرأة اليهودية أم لا؟، والذي يغلب- على ما جزم به الزهري وغيره- أنها قد أسلمت، ولذلك لم يقتلها صلّى الله عليه وسلم على ما ذكره مسلم.
لا يقال، إن القصاص كان يقتضي قتلها، لأن القاعدة المتفق عليها: أن الإسلام يجبّ ما قبله، فالقتل الذي استوجب القصاص، هو ما كان واقعا بعد إسلام القاتل أما ما قبله فالأمر في ذلك راجع إلى الحرابة، ومعلوم أن الحرابة تنتهي بالدخول في الإسلام.
ثم إن يهود خيبر مكثوا يزرعون الأرض على النصف من نتاجها، إلى أن كانت خلافة عمر رضي الله عنه، فقتلوا أحد الأنصار وعدوا على عبد الله بن عمر ففدعت يداه، فقال رضي الله عنه للناس: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان قد عامل يهود خيبر على أن نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما قد بلغكم، مع عدوهم على الأنصاري قبله، لا نشك أنهم أصحابه، ليس لنا عدو غيرهم فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإني مخرج يهود» .
وهكذا تمّ إخراج اليهود من الجزيرة العربية، ولولا بغيهم وعدوانهم واستكبارهم على الحق لما طوردوا ولما أخرجوا. ولكن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
,
الآن، وقد رأيت أحداث الفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم وأصحابه،
__________
(58) انظر البخاري: 8/ 135 ومسلم: 6/ 29
(59) متفق عليه.
(60) ذكر هذه القصة ابن هشام في سيرته، وأوردها ابن القيم في زاد المعاد.
تستطيع أن تبصر قيمة الدعوة السابقة وأحداثها وأن تبصر أسرارها وحكمها الإلهية مجسدة أمام عينيك.
الآن، وقد اطلعت على قصة فتح مكة، تستطيع أن تدرك قيمة الهجرة منها قبل ذلك.
تستطيع أن تدرك قيمة التضحية بالأرض والوطن والمال والأهل والعشيرة في سبيل الإسلام. فلن يضيع شيء من ذلك كله إن بقي الإسلام.. ولكن ذلك كله لن يغني عن صاحبه شيئا إن لم يكن قد بقي له الإسلام.
الآن، وقد تأملت أحداث هذا الفتح الأكبر، تستطيع أن تدرك تماما قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، إن شيئا من ذلك لم يذهب بددا، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدرا، ولم يتحمل المسلمون كل ما لا قوه، مما قد رأيت في غزواتهم وأسفارهم، لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها. ولكن كل ذلك كان جاريا وفق حساب.. وكل ذلك كان يؤدي أقساطا من ثمن الفتح والنصر.. وتلك هي سنة الله في عباده؛ لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية له، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله.
والآن، وقد رأيت خبر هذا الفتح، تستطيع أن تدرك القيمة الكبرى لصلح الحديبية، وأن تستشف من وراء ظاهرها الذي أدهش عمر وكثيرا من الصحابة، السر الإلهي الرائع، وأن تقف باطمئنان تام على المعنى الذي من أجله أطلق الله على ذلك الصلح اسم الفتح: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وإذا أدركت هذا، أدركت مزيدا من حقائق النبوة التي كانت تقود حياة النبي صلّى الله عليه وسلم.
أتذكر يوم خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من وطنه، مكة، مستخفيا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟ ..
هاهم أولاء وقد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين..
ودخل أهل مكة في دين الله أفواجا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته:
الله أكبر.. الله أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوما ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله والكل خاشع منصت خاضع! ..
ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثانية لها: هي الإسلام، فما أحمق الإنسان وما أجهله، حينما يكافح أو يناضل أو يجاهد في غير سبيل الإسلام، إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل.
*** وبعد، فإن أحداث هذا الفتح العظيم تنطوي على دلالات وأحكام كثيرة مختلفة، يجب تبصرها والوقوف عليها. وسنذكر ما تيسر ذكره من ذلك حسب ترتيب الأحداث نفسها.
أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:
1- يدلنا سبب فتح مكة، على أن أهل العهد والهدنة مع المسلمين، إذا حاربوا من هم في ذمة المسلمين وجواره، صاروا حربا لهم بذلك. ولم يبق بينهم وبين المسلمين من عهد. وهذا ما اتفق عليه علماء المسلمين.
2- تدلنا الطريقة التي قصد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة، على أنه يجوز لإمام المسلمين ورئيسهم أن يفاجئ العدو بالإغارة والحرب لدى خيانته العهد ونبذه له، ولا يجب عليه أن يعلمهم بذلك.
فقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أجمع الخروج إلى مكة دعا قائلا: «اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة» ، وهذا ما اتفق عليه عامة العلماء.
أما إذا لم تقع الخيانة، وإنما خيف منهم ذلك، بسبب علائم ودلائل قوية، فلا يجوز حينئذ للإمام أن ينبذ عهدهم ويفاجئهم بالحرب والقتال، بل لابد من إعلامهم جميعا بذلك أولا، بدليل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال 8/ 58] أي أعلمهم كلهم عن نبذك لعهدهم.
3- وفي عمله صلّى الله عليه وسلم أيضا دليل على أن مباشرة البعض لنقض العهد، بمثابة مباشرة الجميع لذلك، ما لم يبد الآخرون استنكارا حقيقيا له. فالنبي صلّى الله عليه وسلم اكتفى بسكوت عامة قريش وإقرارهم لما بدر من بعضهم من الإغارة على حلفاء المسلمين، دليلا على أنهم قد دخلوا بذلك معهم في خيانة العهد. وهذا لأنه لما دخلت عامة قريش في أمر الهدنة تبعا لكبارهم وممثليهم، اقتضى الأمر أن يخرج أيضا هؤلاء العامة عن الهدنة، تبعا لما قام به كبارهم وزعماؤهم وممثلوهم.
وقد قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة دون أن يسأل كلّا منهم هل نقض العهد أم لا؟، وكذلك فعل ببني النضير فقد أجلاهم كلهم بسبب خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، وإنما كان الذين باشروا الخيانة بضعة أشخاص منهم فقط.
ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:
1- إننا نجد أنفسنا أمام مظهر جديد آخر لنبوته صلّى الله عليه وسلم، وما كان يؤيّد به من الوحي من قبل ربه جلّ جلاله. لقد قال لبعض أصحابه: «اذهبوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة
معها كتاب فخذوه منها» ، فمن الذي أخبره بأمر هذا الكتاب وأطلعه على ما دار بين الظعينة وحاطب بن أبي بلتعة في شأنه؟ إنه الوحي.. وإذن فهي النبوة، وهي التأييد من الله تعالى لنبيه حتى يتم المخطط الإلهي للفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه والمسلمين.
2- هل يجوز تعذيب المتهم بمختلف الوسائل، حملا له على الاعتراف؟ لقد استدل بعضهم بما قاله علي رضي الله عنه لتلك المرأة: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، استدلوا بذلك على أنه يجوز للإمام أو نائبه أن يسلك من الوسائل ما يراه كفيلا بكشف الجريمة وإظهارها. كما استدلوا على ذلك بما روي من أن اليهود غيبوا أموالا في غزوة خيبر لحييّ بن أخطب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمه: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ (المسك وعاء من جلد) فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال لهم: قد رأيت حيي يطوف بخربة هنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة» .
وبعض الباحثين اليوم، يسندون مثل هذا الرأي إلى الإمام مالك رضي الله عنه.
والحق الذي عليه كل الأئمة الأربعة وجمهور الباحثين والعلماء، أنه لا يجوز تعذيب المتهم الذي لم تثبت عليه الجريمة ببينة شرعية كافية، حملا له على الإقرار، فالمتهم بريء ما لم تثبت جريمته.
وخبر الظعينة التي أرسلها حاطب إلى مكة، وتهديد علي رضي الله عنه لها، ليس من هذا في شيء، وذلك للسببين التاليين:
أولا: ليست تلك المرأة مجرد متهمة بما ووجهت به، بل هي حقيقة ثابتة، دلّ عليها خبر أصدق الناس محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أقوى في دلالته من بينة الاعتراف والإقرار، فكيف يقاس عليها من حامت حوله التهم لمجرد ظنون وشكوك من أناس غير معصومين؟ وما يقال عن هذه المرأة، يقال أيضا عن عم حيي بن أخطب.
ثانيا: ليس إلقاء الثياب للتفتيش عن الكتاب، كأمر التعذيب أو الحبس، فالفرق بينهما كبير واضح، وإذا ثبت أن الكتاب معها لا محالة، ولم يكن من سبيل إلى الوصول إليه إلا بالتنقيب في ثيابها، فذلك أمر مشروع ولا ريب، بل هو واجب استلزمه أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وأما تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب، فهو أولا: قائم كما قلنا على الحقيقة لا التهمة، ثم هو ثانيا متعلق بأمر الجهاد والحرابة بين المسلمين وغيرهم، فكيف يقاس عليه تعامل المسلمين بعضهم مع بعض؟!.
وأما زعم أن هذا مذهب ذهب إليه مالك رضي الله عنه في فقهه، فهو زعم باطل مخالف لما هو معروف واضح من مذهبه.
جاء في المدوّنة وهو من رواية سحنون عن مالك رضي الله عنه قوله:
«قلت أرأيت إذا أقر بشيء من الحدود بعد التهديد أو القيد أو الوعيد أو الضرب أو السجن، أيقام عليه الحد أم لا؟ قال: قال مالك: من أقر بعد التهديد أقيل، فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي كله وأرى أن يقال» ثم قال: «قلت فإن ضرب وهدد فأقرّ فأخرج القتيل أو أخرج المتاع الذي سرق، أيقيم عليه الحدّ فيما أقر به أم لا وقد أخرج ذلك؟ قال: لا أقيم عليه الحد إلا أن يقرّ بذلك آمنا لا يخاف شيئا» «61» .
3- دلنا حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاطب وجوابه له، ثم القرآن الذي نزل بسببه، على أنه لا يجوز للمسلمين- في أي ظروف كانوا- أن يتخذوا من أعداء الله تعالى أولياء لهم يلقون إليهم بالمودة، أو أن يمدوا نحوهم يد الإخاء والتعاون، وذلك رغم ما كان قد اعتذر به حاطب من أنه لصيق بقريش ليس له فيها شيعة تدافع عنه أو يحتمي بها، فهو يريد أن يتخذ عندهم يدا يحتمي بها، عندما يحتمي غيره بما له بينهم من قرابة وأهل.
إن الآيات القرآنية نزلت صريحة تأمر المسلمين أن يجعلوا ولاءهم لله وحده، وأن يقيموا علاقاتهم مع الناس، أيّا كانوا، على أساس ما يقتضيه ولاؤهم لهذا الدين الحنيف والإخلاص له وإلا كيف يتصور أن يضحي المسلمون بأموالهم وأنفسهم وشهواتهم وأهوائهم في سبيل الله تعالى؟!.
وتلك هي مشكلة كثير ممن يعدون أنفسهم مسلمين في هذا العصر.
يقبلون إلى المساجد للصلاة، ويتمتمون بالكثير من الأذكار والأوراد، وتظل مسابحهم تطقطق حباتها في أيديهم، ولكنهم يقيمون علاقاتهم مع الناس على أساس الولاء للأهل والعشيرة، أو مصلحة المال والدنيا، أو وحي الشهوات والأغراض. ولا يهمّهم أن يبيعوا بذلك الحق بالباطل أو أن يجعلوا من دين الله غلافا للأماني الدنيوية الحقيرة! ..
أولئك هم المنافقون الذين بسببهم يعاني المسلمون من صنوف التأخر والتفرق والضعف، وتلك هي الواجهة التي تقام في كل مرة في وجه المؤامرات المختلفة التي تحاك ضدّ إسلام المسلمين ودينهم! ..
ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه:
والعجيب في أمر أبي سفيان يوم الفتح، أن يكون هو أول وطليعة المحذرين لقومه من قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن يكون في مقدمة الداخلين في دين الله أفواجا يومئذ، وهو الذي لم تخرج غزوة من مكة لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا بإشرافه وتوجيهه وتهييجه! ..
ولعل الحكمة الإلهية شاءت أن تفتح مكة بدون قتال يذكر، وأن يدين أهلها
__________
(61) المدونة: 16/ 93
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهم الذين أخرجوه وآذوه وقاتلوه- بدون أيّ جهد أو مغامرة من المسلمين، فتهيأت أسباب إسلام أبي سفيان قبل غيره، وذلك في اللقاء الذي تمّ بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عند (مرّ الظهران) ، كي يعود إلى قومه في مكة، فينتزع من رؤوسهم فكرة الحرب والقتال، ويهيئ جو مكة لسلم يكون مآله دفن حياة الجاهلية والشرك وبزوغ شمس التوحيد والإسلام.
ولقد كان من مظاهر التمهيد لهذا الأمر ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم من إعلان: أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وذلك بعد أن أعلن إسلامه، إلى جانب ما في ذلك من تألف قلبه على الإسلام وتثبيته عليه. وأنت خبير أن الإسلام إنما هو الاستسلام لأركانه العملية والاعتقادية، ولا بد للمسلم بعد ذلك من رسوخ الإيمان في قلبه، وإنما يكون ذلك بمداومته على التمسك بمبادئ الإسلام وأركانه، ومن أهم ما يحفزه على المداومة والاستمرار، تألّف المسلمين لقلبه بمختلف الوسائل والأسباب المشروعة، ريثما تستقر جذور الإيمان في قلبه ويغدو إسلامه قويا صلدا لا تهزه أو تزعزعه الأعاصير.
لقد غابت هذه الحكمة من أذهان بعض الصحابة من الأنصار، حينما سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فظنوا أنه صلّى الله عليه وسلم شعر بالميل والعاطفة نحو بلدته وجماعته، فهو من أجل ذلك قال هذا الكلام، وأظهر وجه المسالمة والصفح! ..
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلم لما قال هذه الكلمة، قال الأنصار بعضهم لبعض:
«أما الرجل فقد أدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، قالوا: قد كان ذلك، قال: كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم! .. فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله» .
وهذا الذي قلناه من الفرق بين الإسلام والإيمان، هو الذي يكشف لك ما قد تستشعره من الإشكال في الشكل الذي تمّ عليه إسلام أبي سفيان رضي الله عنه. فقد رأيت أنه أجاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حينما قال له: «ألم يأن لك أن تعلم أنني رسول الله؟ بقوله: أمّا هذه والله، فلا يزال في النفس منها شيء! .. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك!. وحينئذ شهد شهادة الحق» .
والإشكال في هذا أنه قد يقال: فما هي قيمة إسلام لم يأت إلا بالتهديد، إذ قد كان من قبل
بلحظة واحدة يقول، إن في نفسه من نبوة رسول الله شيئا؟! ..
ولكن الإشكال يزول بما قد علمت، من أن المطلوب في الدنيا من المشرك أو الكافر ليس هو استقرار الإيمان كاملا في فؤاده، في اللحظة التي يراد منه فيها الدخول في الإسلام، وإنما المطلوب منه أن يستسلم كيانه ولسانه لدين الله تعالى فيخضع لتوحيد الله تعالى ويذعن لنبوة رسوله وكل ما جاء به من عند الله تبارك وتعالى. أما الإيمان فيربو بعد ذلك في قلبه مع استمرار تمسكه بالإسلام وخضوعه له.
ولذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 14] .
ولذلك أيضا لا يجوز للمسلم أثناء القتال أن يحمل إسلام أحد من الكفار في أثناء المعركة على الخوف من السلاح أو الرغبة في الغنيمة، أو التظاهر بما لا يوقن به، مهما كانت القرائن دالة على ذلك، لأن المطلوب ليس الاستيلاء على ما في الضمائر والقلوب ولكن المطلوب إصلاح ما هو مكشوف وظاهر. وفي ذلك يقول الله تعالى تعليقا على ما بدر من بعض الصحابة في إحدى السرايا التي أرسلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قتل شخصا أعلن إسلامه ظنا منه أنه إنما أعلن ذلك مخافة السلاح:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا؟ فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء 4/ 94] .
وانظر كيف ذكرهم بحالهم يوم أن دخلوا الإسلام جديدا، فقد كان كثير منهم إذ ذاك مثل هذا الذي لا يثقون بإسلامه اليوم، ثم منّ الله عليهم فحسن إسلامهم وتصفّى مع الاستمرار في ممارسة أحكامه، من الدّخل والشوائب.
ولقد كان من حكمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أعلن أبو سفيان إسلامه، أن أمر العباس أن يقف به عند مضيق الوادي، الذي ستمر فيه جنود الله تعالى، حتى يبصر بعينه كيف أصبحت قوة الإسلام، وإلام انقلبت حال أولئك الذين هاجروا من مكة قلة مشتتين مستضعفين! .. وحتى تكون هذه العبرة البالغة أول مثبت لدينه ومؤكد لعقيدته.
وأخذ أبو سفيان يتأمل الكتائب التي تمر، واحدة إثر أخرى، وهو في دهشة وذهول مما يرى! .. والتفت يقول للعباس، وهو لا يزال تحت تأثير بقايا من الفكر الجاهلي وأوهامه:
«لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!» .
فأيقظه العباس من بقايا غفلته السابقة قائلا: «يا أبا سفيان إنها النبوة» .
أيّ ملك هذا الذي تقول؟ .. لقد ألقى الملك والمال والجاة تحت قدميه يوم أن عرضتم كل
ذلك عليه في مكة، وهو يعاني من تعذيبكم وإيذائكم له، وهل ألجأتموه إلى الهجرة من بلده إلا لأنه رفض أن يستبدل الملك الذي عرضتموه عليه بالنبوة التي كان يدعوكم إلى الإيمان بها؟
إنها النبوة! ..
تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الردّ الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية وهي كلمة جاءت عنوانا لحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحله كلها دليلا ناطقا على أنه إنما بعث لتبليغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض.
رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة:
1- لقد رأينا فيما يرويه البخاري عن عبد الله بن المغفل أنه صلّى الله عليه وسلم كان وهو على مشارف مكة يقرأ سورة الفتح، يرجّع في تلاوته لها، والترجيع كيفية معينة في القراءة يترنم بها القارئ.
وهذا يدل- كما نرى- أنه صلّى الله عليه وسلم كان مستغرقا في حالة شهود مع الله تعالى أثناء دخوله مكة، فما كانت لنشوة الظفر والنصر العظيم إلى نفسه من سبيل ولم يكن شيء من التعاظم أو التجبر ليستولي على شيء من مشاعره، إنما هو الانسجام التام مع شهود الله تعالى والشكر على نصره وتأييده.
ويزيد في تصوير هذا المعنى ما رواه ابن إسحاق من أنه صلّى الله عليه وسلم لما وصل إلى ذي طوى كان يضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
وهذا يعني أنه صلّى الله عليه وسلم كان مندمجا في حالة من العبودية التامة لله تعالى إذ رأى ثمرة القيام بأمر ربه، ونظر إلى نتيجة كل ما قد كان لقيه من العذاب من قومه، وكيف أن الله أعاده إلى البلدة التي أخرجته عزيزا منصورا مكرما! .. إنها الساعة التي ينبغي أن تمتلئ بشكر الله تعالى وحده، وينبغي أن يفيض الزمن كله فيها بمعنى العبودية التامة لله تعالى.
وهكذا يجب أن تكون حال المسلمين دائما، عبودية مطلقة لله في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، عند الضعف والقوة. وليس من شأن المسلمين إطلاقا، أن يتظاهروا بالذل لله تعالى كلما حاقت بهم مصيبة أو كرب، حتى إذا انكشف الكرب وزال الضر، أسكرتهم الفرحة بل أسكرهم الطغيان عن كل شيء، ومرّوا من جنب أوامر الله تعالى وأحكامه ساهين لاهين، كأن لم يدعوه ويتذللوا له في كشف ضر مسّهم! ..
2- يدلنا أيضا هذا الذي رواه البخاري، على مشروعية الترنم والتغني بقراءة القرآن، وهو المعنى الذي عبر عنه عبد الله بن المغفل بالترجيع. وهو الحق الذي عليه عامة العلماء من الشافعية
والحنفية وكثير من المالكية وغيرهم.
ولقد حمل هؤلاء الأئمة ما روي عن كثير من الصحابة أو التابعين مما يدل على النهي عن التطريب والتغني في تلاوة القرآن، على التطريب الذي يطغى على سلامة الأداء ويذهب بالحروف والكلمات عن مخارجها العربية الصحيحة، إذ إن مثل هذه التلاوة غير جائزة باتفاق.
3- لقد كان من التدبير الحكيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أمر به أصحابه من أن يتفرقوا في مداخل مكة، فلا يدخلوها من طريق ومدخل واحد، وذلك بغية تفويت فرصة القتال على أهل مكة إن أرادوا ذلك إذ يضطرون إلى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم في جهات مكة وأطرافها فتضعف لديهم أسباب المقاومة ومغرياتها.
وإنما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، حقنا للدماء ما أمكن، وحفظا لمعنى السلامة والأمن في البلد الحرام، ومن أجل هذا أمر المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأعلن أن من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن.
خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:
1- حرمة القتال فيه:
لقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن قتال أحد، إلا أن يبدأ أناس المسلمين بالقتال، وإلا ستة أنفار أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتلهم أينما وجدوا.
ولقد رأينا أنه صلّى الله عليه وسلم أنكر على خالد بن الوليد قتاله لبعض أهل مكة حينما رأى بارقة السيوف على بعد، فقيل له أنه قوتل فقاتل فقال: قضاء الله خير، ولم يقع فيما عدا ذلك قتال ما في مكة.
كما رأينا أنه صلّى الله عليه وسلم قال فيما خطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرّمها الله، ولم يحرمها الناس، لا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص في قتال فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس» .
وقد أخذ عامة العلماء من هذا أنه لا يجوز القتال في مكة وما يتبعها من الحرم، وهو صريح أمر النبي صلّى الله عليه وسلم في خطبة يوم الفتح.
ولكنهم بحثوا بعد هذا، في كيفية تطبيق هذا الأمر، وسبيل التوفيق بينه وبين النصوص التي تأمر بقتال المشركين والبغاة وقتل من ثبت عليهم القصاص.
فقالوا: «أما المشركون والملحدون فلا يتصور أن تقع المشكلة بالنسبة لقتالهم، فقد ثبت شرعا أنه لا يجوز تمكين أحد يدين بغير الإسلام من الاستيطان بمكة» وذلك باتفاق الأئمة، بل ومن
مجرد الدخول إليها عند الشافعية وكثير من المجتهدين، وذلك لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] . وعلى من فيها أن يقاتلوا هؤلاء قبل وصولهم إليها والدخول فيها، هذا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ حرمه من أن يدنس بإقامة أي كافر أو مشرك فيه، وذلك مظهر من مظاهر إعجاز هذا الدين يتجلى في صدق الوعد الذي جاء في كتابه وعلى لسان نبيه.
وأما البغاة- وهم الذين يعلنون البغي على الإمام الصالح- فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردّهم عن بغيهم إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي: «وهذا الذي نقل عن الجمهور هو الصواب وقد نصّ عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث» .
قال الشافعي: «ويجاب عما يقتضيه ظاهر الأحاديث من منع القتال مطلقا (أي حتى للبغاة) بأن القتال المقصود بالتحريم إنما هو نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعمم كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك. وأما إذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم حينئذ على كل وجه وبكل شكل» .
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يحرم قتال البغاة بل يضيّق عليهم في كل الوجوه حتى يضطروا إلى الخروج من الحرم أو الرجوع إلى الطاعة «62» .
وأما إقامة الحدود، فقد ذهب مالك والشافعي إلى أن الحدود تقام في الحرم المكي لما رواه البخاري من أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» «63» .
وذهب أبو حنيفة- وهو رواية عن أحمد- إلى أنه آمن مادام في الحرم، ولكن يضيّق عليه ويضطر إلى الخروج منه، حتى إذا خرج استوفي منه الحد أو القصاص، ودليل هؤلاء عموم ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في يوم الفتح.
قال الزركشي: «فوجه الخصوصية إذن للحرم المكي، أن الكفار أو البغاة لو تحصنوا بغير مكة من البلدان الأخرى جاز نصب حرب عامة شاملة عليهم على أي وجه وبأي شكل تقتضيه المصلحة، ولكنهم لو تحصنوا بها لم يجز قتالهم على ذلك الوجه «64» . قلت: هذا إلى جانب أن الله تعالى قد تعهد بأن يكون هذا الحرم موئلا ومثابة للمسلمين وحدهم، وإذا كان الواقع كذلك ففيم يقوم سبب القتال فيه إذن اللهم إلا لإقامة الحدود وردّ البغي وقد عرفت حكم كل منهما.
__________
(62) انظر شرح مسلم للنووي: 9/ 124 و 125، والأحكام السلطانية للماوردي: 166
(63) قال في النهاية: الخربة أصلها العيب، والمراد به هنا الذي يفرّ بشيء يريد أن ينفرد به ويتغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة.
(64) انظر إعلام الساجد في أحكام المساجد للزركشي: 162 وطرح التثريب: 5/ 86
2- تحريم صيده:
وهذا ثابت بالإجماع لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده» . فإذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. فإن أصاب صيدا فيه وجب عليه إرساله، وإن تلف في يده ضمنه بالجزاء كالمحرم. ويستثنى من عموم حيوانات الحرم خمسة أصناف استثناها صلّى الله عليه وسلم من عموم المنع وسماها الفواسق وهي: الغراب، الحدأة، العقرب، الفأرة، الكلب العقور، وقد قاس العلماء عليها ما يشاركها في صفة الإيذاء من الحيوانات الأخرى كالحية والسباع الضارية.
3- تحريم قطع شيء من نباته:
ودليله قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «لا يعضد شوكه» وضابط ذلك قطع كل نبات أنبته الله تعالى دون أن يغرسه أحد من الناس مادام رطبا. فلا يحرم ما غرسه الآدميون، كما لا يحرم فيه ذبح الأنعام، واسترعاء خلاه ونباته وقطع ما يبس من أشجاره وأعشابه، وروى الزركشي عن أبي حنيفة وأحمد منع رعي البهائم في الحرم «65» !
واستثنى الجمهور من عموم النباتات ما كان مؤذيا منها قياسا على الفواسق الخمسة التي استثناها صلّى الله عليه وسلم، فهو من قبل تخصيص النص بالقياس «66» .
4- وجوب دخوله محرما:
فمن قصد مكة- أو قصد شيئا من حرمه كما قال النووي- وكان ممن لا يتكرر دخوله كالتجار والحطابين ومن تجبرهم مهنتهم على استمرار الدخول إلى الحرم والخروج منه، فإن عليه أن لا يدخل إلا محرما بحج أو عمرة.
وقد اختلف العلماء هل يتعلق الطلب بذلك وجوبا أم ندبا؟ المشهور عن الأئمة الثلاثة وهو المفتى به عند الحنفية والمروي عن ابن عباس أن الطلب على سبيل الوجوب. وذهب جمهور الشافعية إلى أنه على سبيل الندب.
وسبب الخلاف أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما بدليل ما رواه مسلم وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
فالذين قالوا إن الإحرام مندوب استدلوا بهذا الحديث، والذين صححوا الوجوب، قالوا:
إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل خائفا من غدر الكفار فكان متهيأ لقتال من سيقاتله منهم، وهي من الحالات التي تستثنى من عموم حالات الوجوب.
__________
(65) راجع إعلام الساجد للزركشي: 157
(66) راجع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: 200
5- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه:
وقد أوضحنا هذا الحكم مع بيان دليله عند ذكر الحكم الأول، وهو حرمة القتال فيه.
سادسا- تأملات فيما قام به صلّى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:
1- الصلاة داخل الكعبة: ذكرنا ما رواه البخاري عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى أخرج ما كان فيه من أصنام وأخرجت صورة لإبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام.. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه ولم يصل.
وقد روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه ثم مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: «جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه» ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى. وقد روى البخاري عن ابن عمر قريبا من هذا.
وقد قال العلماء إنه لا تعارض بين الحديثين، وذلك لأن ابن عباس- وهو راوي حديث عدم الصلاة- لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل الكعبة، وإنما أسند نفي الصلاة- كما يقول ابن حجر- تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل، على أن الفضل أيضا لم يكن معهم في الكعبة.
أما بلال، وهو الذي نقل إثبات الصلاة، فقد كان معه صلّى الله عليه وسلم، وبناء على هذا ينبغي أن يقدم حديث ابن عمر عن بلال، لسببين:
الأول: أنه مثبت فمعه زيادة علم، والمثبت مقدم على النافي.
الثاني: أن رواية بلال عن تثبت ومشاهدة لأنه كان معه صلّى الله عليه وسلم في داخل الكعبة، أما رواية ابن عباس فهي كما علمت إنما تستند إلى نقل لا مشاهدة، وهو مرة ينقل عن أسامة، ومرة ينقل عن أخيه الفضل، والفضل لم يكن موجودا معه.
قال النووي: «أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال، لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فواجب ترجيحه» «67» .
وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء إلى أن الصلاة تصح في داخل الكعبة إذا اتجه المصلي إلى أحد جدرانها، سواء في ذلك النافلة والفريضة. وفرق مالك: «فصحح النفل المطلق دون الفرض والرواتب» «68» .
2- حكم التصوير واتخاذ الصور: وقد رأيت فيما نقلناه من حديث البخاري نفسه أنه صلّى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أخرج كل ما فيها من صور وأصنام، وقد روى أبو داود عن جابر رضي الله
__________
(67) راجع فتح الباري: 3/ 304، وشرح مسلم للنووي: 9/ 82
(68) انظر النووي على مسلم. وطرح التثريب للحافظ العراقي: 5/ 175
عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور، وقد روى البخاري في كتاب الحج عن أسامة أنه صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورة إبراهيم، فدعا بماء فجعل يمحوها.
وهذه الأحاديث، في مجموعها، تدل على أنه صلّى الله عليه وسلم، أمر بالرسوم المخطوطة على الجدران فمحيت، كما أمر بالصورة المجسمة القائمة في جوفها فأخرجت، ويبدو أنه حينما دخل بعد ذلك وجد آثارا لتلك الرسوم على بعض جدرانها فدعا بماء وجعل يبالغ في حتها ومحوها.
وهذا يدل بوضوح على حكم الإسلام في حق التصوير والصور المجسمة وغير المجسمة. ولننقل لك في ذلك نص الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم، قال:
«قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد الحرمة، وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام على كل حال، لأن فيه مضاهاة بخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.
أما تصوير الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير. وأما حكم اتخاذ المصوّر فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على الحائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك، مما لا يعد ممتهنا، فحرام. وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها، مما يمتهن، فليس بحرام. ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام نذكره فيما بعد إن شاء الله.
ولا فرق في هذا كله بين ما له ظلّ وما لا ظلّ له. هذا تلخيص مذهبنا في هذه المسألة.
وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعضهم: «إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصورة التي ليس لها» ، وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم الصور فيه «69» ، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة» .
ثم قال رحمه الله تعالى: «وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره. قال القاضي إلا ما ورد في اللعب بالبنات (اللّعب) لصغار البنات، ففي ذلك رخصة» «70» .
__________
(69) يقصد بذلك ما رواه مسلم عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صور (أي متخذة ستائر رقيقة عليها صور) فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله.
(70) النووي على صحيح مسلم: 14/ 81
قلت: ويستشكل الناس حكم الصور الفوتوغرافية اليوم: هل هي في حكم الرسوم والصور التي ترسم وتخطط بمهارة اليد، أم لها حكم آخر.
وقد فهم بعضهم من علة التصوير التي ذكرها النووي فيما نقلناه من كلامه أن التصوير الفوتوغرافي ليس في حكم الرسم باليد، إذ العمل الفوتوغرافي لا يقوم على أي مهارة في الصنعة أو اليد، بحيث تتجلى فيها محاولة المضاهاة بخلق الله تعالى، إذ هو يقوم على تحريك بسيط لناحية معينة في جهاز التصوير، يتسبب عنه انحباس الظل في داخله بواسطة أحماض معينة؛ وهي حركة بسيطة يستطيع أن يقوم بها أي طفل صغير والحق أنه لا ينبغي تكلف أي فرق بين أنواع التصوير المختلفة حيطة في الأمر، ونظرا لإطلاق لفظ الحديث. نقول هذا على سبيل التورع والحيطة، أما الخوض في حقيقة حكمه الشرعي فيحتاج إلى بحث ودراسة مفصلة.
هذا فيما يتعلق بالتصوير. أما الاتخاذ فلا فرق بين الفوتوغرافي وغيره، فيما يبدو. والله أعلم.
ولكن مهما يكن، فإن لنوع الصور أثرا في الحكم على التصوير واتخاذه. فإن كان الشيء المصور من قبيل المحرمات كصور النساء وما شابه ذلك فهو محرم ولا شك، وإن كان مما تدعو المصلحة والحاجة إلى تصويره فربما كانت في ذلك رخصة؛ والله أعلم.
ثم إنه ربما يعجب بعض الناس اليوم من أن يكون التصوير أو النحت محرما في الإسلام، مع أنهما يعدّان من المقومات الفنية الكبرى لدى سائر الأمم المتحضرة في هذا العصر! ..
وسرّ العجب عند هؤلاء الناس، أنهم يتوهمون الإسلام متفقا مع هذه الحضارة الغربية اليوم، وإنما هو يخالف منها هذه المظاهر الجزئية فيعجبون للتناقض. مع أن الإسلام حينما لا يقر هذه المظاهر من الفن ويحرمها فإنما ذلك لأن للإسلام منطلقا حضاريا آخر مستقلا بذاته لا يتفق ومنطلقات هذه الحضارة التي فرضت نفسها علينا من نافذة التقليد الأعمى، ولم تتقدم إلينا عن طريق المحاكمة العقلية الصافية، فهم يحتجون على الإسلام باسم الفن، مع أن للفن في الحكم الإسلامي مضمونا آخر غير هذا المضمون الذي تلقيناه من فلسفة أخرى لا شأن لها بعقيدتنا.
3- حجابة البيت: وبناء على ما ذكرناه من أنه صلّى الله عليه وسلم أعاد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة وقال له: «خذوها خالدة مخلدة- يقصد بني عبد الدار وبني شيبة- لا ينزعها منكم إلا ظالم» ، فقد ذهب عامة العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن ينتزع حجابة البيت وسدانته منهم إلى يوم القيامة.
قال النووي نقلا عن القاضي عياض: «هي ولاية لهم عليها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتبقى دائمة لهم ولذرياتهم أبدا، ولا ينازعون فيها ولا يشاركون ما داموا موجودين صالحين لذلك. أقول: وهي لا تزال اليوم في أيديهم طبق وصية النبي صلّى الله عليه وسلم وأمره.
4- تكسير الأصنام: وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» . وقد روى ابن إسحاق وغيره أن كل صنم منها كان مرصصا من أسفله حتى يثبت قائما على الأرض، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذا!. ولماذا لا تنقلب لإشارته صلّى الله عليه وسلم ولا تتكسر، وقد قلب الله له جبروت قريش خضوعا وذلا، وجعل مكة كلها وبمن فيها تدين للدين الذي جاء به وتذعن للحق الذي نادى به!! ..
سابعا- تأملات في خطابه صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح:
والآن.. ها هي ذي مكة: البلدة التي هاجر منها قبل ثمان سنوات، خاضعة له مؤمنة برسالته وهديه، وهاهم أولاء، الذين طالما ناصبوه العداء وساموه أصناف الأذية والعذاب، مجتمعون حوله في خشوع وترقب وإطراق، فما الذي سيقوله صلّى الله عليه وسلم لهم اليوم؟!.
إن عليه قبل كل شيء أن يبدأ بالثناء على ربه الذي نصره وأيده وصدق وعده، وهكذا استفتح خطابه بقوله:
«لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم عليه بعد ذلك أن يعلن أمام قريش وغيرهم من سائر الناس، عن المجتمع الجديد وشعاره وهو الشعار الذي يتجلى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 49/ 13] وإذن فلتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك المآثر الجاهلية العتيقة العفنة، من التفاخر بالآباء والأجداد، والتباهي بالقومية والقبلية والعصبيات، والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب.
لقد طويت منذ اللحظة جاهلية قريش، فلتطو معها سائر عاداتها وتقاليدها، ولتدفن في غياهب الماضي الذي أدبر، ولتغتسل قريش من بقية أدرانها لتنضم إلى القافلة وتسير مع الركب ... فإن الموعد عما قليل هناك.. عند إيوان كسرى، وداخل بلاد الروم، وإن مكة ستصبح بعد اليوم مشرق حضارة ومدنية جديدتين تلبس منهما الدنيا كلها حلة من السعادة الإنسانية الشاملة.
وهكذا دفنت فعلا في تلك الساعة بقايا المآثر الجاهلية تحت الأقدام، وبايعت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الإسلام، على أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وعلى أنه لا تعاظم إلا بحلّة الإسلام ولا مباهاة إلا بالتمسك بنظامه. وبناء على ذلك ملّكهم الله زمام العالم وأخضع لهم الدنيا.
فاعجب بعد ذلك لجيفة منتنة تبعث اليوم من رمسها بعد مضي أربعة عشر قرنا على موتها ودفنها! ..
,
في هاتين الحادثتين المؤثرتين دلالات هامة نجملها فيما يلي:
أولا: يدل كل من حادثة الرجيع وبئر معونة على اشتراك المسلمين كلهم في مسؤولية الدعوة إلى الإسلام وتبصير الناس بحقيقته وأحكامه. فليس أمر الدعوة موكولا إلى الأنبياء والرسل وحدهم أو إلى خلفائهم والعلماء دون غيرهم.
وإنك لتستشعر مدى أهمية القيام بواجب هذه الدعوة، من إرسال النبي صلّى الله عليه وسلم أولئك القراء الذين بلغت عدتهم سبعين شابا من خيرة أصحابه صلّى الله عليه وسلم، ولما يمض أمد طويل على مقتل أولئك النفر الستة الذين كان قد بعثهم في ذلك السبيل نفسه.. ولقد استشعر الخوف عليهم، وذكر ذلك لعامر بن مالك عندما اقترح عليه إرسال وفد لدعوة الناس إلى الدين ولكنه كان يرى أن القيام بأعباء التبليغ أهم من كل شيء، ولئن لم يمكن تحمل مسؤولية الدعوة والنهوض بها إلا بمثل هذه المغامرة وقبول ما قد ينتج عنها، فلتكن المغامرة، وليكن ما أراد الله تعالى في سبيل القيام بأمره وتبليغ دعوته.
__________
(36) البخاري: 5/ 43
(37) انظر سيرة ابن هشام: 2/ 173، وخبر قنوت الرسول صلّى الله عليه وسلم ودعائه على قبائل سليم رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: كنا قد قلنا في القسم الأول من هذا الكتاب، إنه لا يجوز للمسلم المقام في دار الكفر أو الحرب إن لم يمكنه إظهار دينه، ويكره له ذلك إن أمكنه إظهار دينه، والذي يدل عليه هذا المشهد من سيرته صلّى الله عليه وسلم أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان مقام المسلم في دار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك، فذلك من أنواع الجهاد الذي تتعلق مسؤوليته بالمسلمين كلهم على أساس فرض الكفاية الذي إن قام به البعض قياما تاما سقطت المسؤولية عن الباقين، وإلا اشتركوا كلهم في المأثم «38» .
ثالثا: إذا تجاوزنا ما ينطوي عليه كل من حادثتي الرجيع وبئر معونة من دلالة واضحة على مدى ما كانت تفيض به أفئدة المشركين من غل وحقد على المؤمنين، حتى إنهم ارتضوا لأنفسهم أحط مظاهر الخيانة والغدر ابتغاء إطفاء غليل أحقادهم على المسلمين- أقول إذا تجاوزنا ذلك- وقفنا على صورة رائعة لعكس هذه الطبيعة تماما لدى أولئك المسلمين الذين راحوا ضحية تلك الخيانة والأحقاد. فقد رأيت كيف حبس خبيب رضي الله عنه أسيرا في بيت بني الحارث في انتظار ساعة قتله، وكان قد استعار شفرة ليصلح بها شأنه ويتطهر استعداد للموت، وفي البيت طفل صغير راح يدرج نحوه في غفلة من أمه، ولقد كانت هذه اللحظة، في حساب من يتعلق بالحياة ويفكر في الانتقام، فرصة رائعة لمساومة أو غدر في مقابل غدر. ولقد كان هذا هو حساب أهل البيت كلهم، فما إن انتبهت أم الطفل إلى انصرافه نحو خبيب حتى هبت مذعورة لتخلصه من براثن موت مؤكد! .. ولكنها وقفت مندهشة عندما رأت طفلها وقد أجلسه خبيب في حجره يلاطفه كأنه أب شفوق! .. ونظر إليها وقد ألّم بما في نفسها من الخوف، وقال لها في هدوء المؤمن الحليم: «أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله» .
فانظر إلى معجزة التربية الإسلامية للإنسان!. خبيب هذا، وأولئك المشركون الحاقدون الذين راحوا يصنعون له الموت ظلما وعدوانا، عرب أنبتتهم أرض واحدة وأظلتهم طبائع وتقاليد واحدة، ولكن خبيبا اعتنق الإسلام فأخرجه الإسلام إنسانا آخر، وأولئك عكفوا على ضلالاتهم، فحبستهم ضلالاتهم في طبائعهم المتوحشة الغادرة، فما أعظم ما يفعله الإسلام في الطبيعة الإنسانية من تغيير وتحويل! ..
رابعا: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم.
فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقبا الفرصة مؤملا الخلاص كما فعل خبيب وزيد.
__________
(38) راجع مغني المحتاج: 4/ 239
ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم، لآن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه «39» .
خامسا: إذا تأملنا في جواب زيد بن الدثنة لأبي سفيان، قبيل قتله، علمنا مدى المحبة التي كانت تنطوي عليها أفئدة الصحابة لرسولهم صلّى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذه المحبة من أهم الأسباب التي حببت إلى قلوبهم كل تضحية وبذل في سبيل دين الله تعالى والدفاع عن رسوله. ومهما بلغ المسلم في إيمانه، فإنه بدون مثل هذه المحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتبر ناقص الإيمان. وإنها لحقيقة صرح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «40» .
سادسا: دلّ ما ذكرناه من أمر خبيب أيام كان أسيرا في مكة، أن كل ما أمكن أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، مع فارق أساسي لا بدّ منه، وهو أن معجزة النبي تكون مقرونة بالتحدي ودعوى النبوة، أما كرامة الأولياء والصالحين فتأتي عفوا دون أن تقترن بأي نوع من التحدي. وهذا ما جرى عليه جمهور أهل السنة والجماعة. ولا أدلّ عليه من هذا الذي أكرم الله به خبيبا قبيل قتله، وهو ثابت كما رأيت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره.
سابعا: قد يتساءل البعض: فما الحكمة في تمكين يد الغدر من هؤلاء الفتية المؤمنين الذين لم يخرجوا إلا استجابة لأمر الله ورسوله؟ وهلّا مكّنهم الله من أعدائهم ليتغلبوا عليهم؟ ..
والجواب هو، ما كنا ذكرناه أكثر من مرة، من أن الله تعالى تعبّد عباده بتحقيق أمرين اثنين: إقامة المجتمع الإسلامي، والسعي إلى ذلك في طريق شائكة غير معبّدة. والحكمة من ذلك أن تتحقق عبودية الإنسان لله تعالى، وأن يمحّص الصادقون عن المنافقين، وأن يتخذ الله منهم شهداء، وأن يتجلّى المعنى التنفيذي للمبايعة التي جرت بين الله وعباده المؤمنين، والتي صرح بها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.. [التوبة 9/ 111] وأي معنى كان يبقى للتوقيع على صك هذه المعاهدة، لو أن كل ما جاء في مضمونها وهم لا يتحقق؟! بل وأي قيمة تبقى حينئذ لهذا التوقيع حتى يحرز به صاحبه الجنة والسعادة الأبدية الخالدة.
والمشكلة في أساسها، إنما تطوف في رأس من قدر هذه الحياة العاجلة أكثر من قدرها الحقيقي وأولاها أكثر مما تستحق من الاهتمام، وضعف تعلقه في المقابل بالحياة الآخرة وشأنها. وتلك هي
__________
(39) انظر نهاية المحتاج للرملي: 8/ 78
(40) متفق عليه.
آية عدم الإيمان بالله تعالى أو ضعفه في النفس. ومثل هؤلاء الناس لا ينتظر منهم أن يغامروا بروح ولا مال. أما المؤمنون حقا فالمشكلة غير متصوّرة لديهم من أساسها، فلذّة الحياة الدنيا في يقينهم، أقل شأنا من أن تحبس المسلم عن أداء أصغر طاعة يتقرب بها إلى خالقه، وما التضحية بالروح في يقينهم إلا الانطلاقة من سجن الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأنعم بها من غاية هي كل أمل المسلم في حياته التي يعيشها.
وهذا الشعور يتجلى بأوضح صورة في الأبيات التي قالها خبيب عند مقتله، خاصة في آخر بيت منها، وهو قوله:
ولست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا، إني إلى الله مرجعي
,
معالم المرحلة الجديدة: حديث هذه السرايا التي بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلم منتشرة في القبائل، والكتب التي أرسلها إلى مختلف ملوك ورؤساء العالم، جزء من المظاهر التي تميز هذه المرحلة من الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام، عن المرحلة التي قبلها.
لقد كانت المرحلة التي تسير فيها الدعوة من بدء الهجرة إلى صلح الحديبية، مرحلة دفاعية كما قلنا، إلى جانب القيام بمهام الدعوة السلمية. فلم يحدث خلال تلك المرحلة أن بدأ النبي صلّى الله عليه وسلم هجوما أو شن غزوة على فئة ما من الناس، ولم يحدث أن أرسل سرية إلى قبيلة ما ليدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا قاتلوهم عليه.
فلما أبرم صلح الحديبية بين المشركين من قريش والمسلمين في المدينة، واطمأنت أفئدة المسلمين واستراحوا من متاعب قريش ومناوشاتهم، تفرغ النبي صلّى الله عليه وسلم للدخول في مرحلة جديدة
__________
(29) خبر كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى بهذا التفصيل من رواية ابن سعد في طبقاته وقد ذكر ذلك البخاري أيضا مختصرا، وفيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليهم- لما بلغه أنه مزق كتابه- أن يمزقوا كل ممزق، وقد أسند الشيخ ناصر، في تعليقاته على كتاب فقه السيرة للغزالي، إلى ابن سعد، زيادة على ما ذكرته، لم أجدها في طبقاته، وهي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى شواربهما (أي الرجلين اللذين أرسلهما إليه باذان) مفتولة وخدودهما محلوقة فأشاح عنهما وقال: ويحكما، من أمر كما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا: يعنيان كسرى. فهذه الزيادة، لم أجدها في رواية سعد، وإنما هي من رواية ابن جرير.
(30) رواه الواقدي، عن عمر بن الحكم، قال ابن حجر: وذكره أيضا ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد.
لابدّ منها في حكم الشريعة الإسلامية التي بعث لتبليغها وتطبيقها، ألا وهي مرحلة قتال أولئك الذين بلغتهم الدعوة فوعوها وفهموها، ولكنهم استكبروا عن الإيمان بها والإذعان لها حقدا وعدوانا.
إنها المرحلة التي بها أنجز رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعوة ربه، وهي المرحلة التي أصبحت- بعمله وقوله- حكما شرعيا باتفاق المسلمين في كل عصر إلى يوم القيامة، وهي المرحلة التي يحاول محترفو الغزو الفكري أن يطمسوا عليها ويغيبوها عن أعين المسلمين، بزعم أن كل ما يتعلق بالجهاد في الشريعة الإسلامية إنما هو قائم على أساس الحرب الدفاعية وردّ العدوان، وها هي ذي هيأة الأمم قامت لتتولى الدفاع وردّ العدوان عن المستضعفين، فلا حاجة إلى استبقاء مبدأ الحرب الدفاعية أيضا.
وليس سرا خافيا أن الأمر الذي يدعوهم إلى هذا الكيد والتضليل في البحث، إنما هو الخوف الشديد لدى الدول الأجنبية- غربيها وشرقيها على السواء- من أن يعود فيستيقظ في نفوس المسلمين معنى الجهاد في سبيل الله، ثم يتصل هذا المعنى بجذوة الإيمان في قلوبهم! .. فلئن تمّ هذا، فسيتم عندئذ لا محالة انهيار الحضارة الغربية مهما تطاول بنيانها.
ولقد نضجت عقلية الرجل الأوروبي لمعانقة الإسلام بمجرد أن يسمع دعوة خالصة إليه، فكيف بالدعوة الخالصة تتلوها تضحية وجهاد؟! ..
,
أهم ما يثير الدهشة، في هذه الغزوة، تلك النسبة الكبيرة من الفرق بين عدد المسلمين فيها وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين العرب! .. لقد رأيت أن عدد المشركين ومن معهم من الروم قد بلغ ما يقرب مئتي ألف مقاتل! .. وذلك على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد وعامة كتاب السيرة «42» على حين أن عدد المسلمين لم يتجاوز ثلاثة آلاف. ومعنى ذلك أن عدد المشركين والروم
__________
(41) انظر فتح الباري: 7/ 361 و 362
(42) انظر طبقات ابن سعد: 3/ 175 وسيرة ابن هشام: 2/ 375
قد بلغوا ما لا يقل عن خمسين ضعفا لعدد المسلمين! ..
وهي نسبة إذا ما تصورتها، تجعل رقعة الجيش الإسلامي، أمام حشود الروم والمشركين، أشبه ما تكون بساقية ماء صغيرة بالنسبة إلى بحر خضم مائج، هذا إلى ما كان قد جهز به جيش الأعداء من العدة والذخيرة والسلاح ومظاهر الأبهة والبذخ، على حين أن المسلمين كانوا يعانون من ذلك القلة والفقر! ..
ومكان الدهشة في الأمر، أن تجد المسلمين بعد هذا كله- وهم سرية ليس فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- مقبلين غير مدبرين، لا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة أمامهم وزنا، مع أنها- فيما يبدو ويظهر- لو التفّت من حولهم وطوقتهم من جهاتهم، لانقلبوا إلى ما يشبه نواة صغيرة في جوف قطعة أرض سوداء! ..
ثم إن مكان الدهشة بعد ذلك، أن يصمد المسلمون لقتال هذا اليمّ المتلاطم. يقتل أميرهم الأول، ثم الثاني، فالثالث، وهم يقتحمون أبواب الشهادة في نشوة بالغة وإقبال عجيب، حتى يدخل الرعب الإلهي في أفئدة كثير من المشركين، دون أن يكون له سبب ظاهر، فينكشفون عن مواقعهم ويدبر منهم الكثير، وتقتل منهم خلائق لا تكاد تحصى! ..
ولكن الدهشة كلها تزول، والعجب ينتهي، إذا تذكرنا ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده.
بل إن المدهش بالنسبة للمسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يكونوا كذلك والعجيب فيهم حقا، أن يكونوا مسلمين ثم يكون لأرقام العدد والعدّة حساب مع ذلك في أفكارهم، إلى جانب ما وعد الله به من نصر وتأييد، أو جنة ونعيم خالدين! .. فالمسلمون- كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه- لا يقاتلون بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وإنما يقاتلون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به.
ثم إن هذه الغزوة، تنطوي، على عظات ودلالات باهرة كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أولا: دلت توصية النبي صلّى الله عليه وسلم، على أنه يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد الناس بشرط وأن يولّي المسلمين عدة أمراء بالترتيب، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في تولية زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، قال العلماء: «والصحيح أنه إذا أمر الخليفة بذلك فإن ولاية الكل تنعقد، بوقت واحد، في الحال، ولكنها لا تنفذ إلا مرتبة» «43» .
ثانيا: دلت توصية الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضا، على مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أميرهم، إذا غاب أميرهم، أو وكل إليهم الخليفة اختيار من يرون. وقال الطحاوي: «هذا أصل يؤخذ منه
__________
(43) انظر فتح الباري: 7/ 361
أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر» . كما دلت هذه التوصية على مشروعية اجتهاد المسلمين في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم.
ثالثا: لقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم نعى لأصحابه زيدا وجعفر وابن رواحة وعيناه تذرفان وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبينهم مسافات شاسعة بعيدة! ..
وهذا يدل على أن الله تعالى قد زوى لرسوله الأرض، فأصبح يرى من شأن المسلمين الذين يقاتلون على مشارف الشام، ما حدث أصحابه به، وهي من جملة الخوارق الكثيرة التي أكرم الله بها حبيبه صلّى الله عليه وسلم.
كما يدل هذا الحديث نفسه على مدى شفقته على أصحابه، فلم يكن شيئا قليلا أن يبكي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو واقف في أصحابه يحدثهم عن خبر هؤلاء الشهداء. وأنت خبير أن بكاءه صلّى الله عليه وسلم عليهم، لا يتنافى مع الرضى بقضاء الله تعالى وقدره فإن العين لتدمع والقلب ليحزن- كما قال عليه الصلاة والسلام- وتلك رقة طبيعية ورحمة فطر الله الإنسان عليهما.
رابعا: وحديث نعيه صلّى الله عليه وسلم لهؤلاء الشهداء الثلاثة، يسجل فضلا خاصا لخالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد قال لهم في آخر حديثه: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح عليهم» . وتلك أول وقعة يحضرها خالد رضي الله عنه في صف المسلمين، إذ لم يكن قد مضى على إسلامه إلا مدة يسيرة. ومن هنا تعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلم، هو الذي سجل لقب سيف الله، لخالد رضي الله عنه.
ولقد أبلى رضي الله عنه، في هذه الغزوة بلاء رائعا، روى البخاري عنه رضي الله عنه قال:
«لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية» . قال ابن حجر: وهذا الحديث يدل على أن المسلمين قد قتلوا من المشركين كثيرا.
هذا، وأما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة: «يا فرّار، فررتم في سبيل الله» ، فهو أنهم لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم، وتركوا الأرض التي قاتلوا فيها كما هي ولم يكن ذلك شأنهم في الغزوات الأخرى، واكتفى خالد بذلك فكرّ عائدا إلى المدينة. ولكنه كما رأيت كان تدبيرا حكيما من خالد بن الوليد رضي الله عنه حفظا للمسلمين وهيبتهم التي انطبعت في أفئدة الروم، ولذلك ردّ النبي صلّى الله عليه وسلم عليهم قائلا: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار، إن شاء الله» .
,
هذه القطعة الظالمة، تصور قمة الشدة التي لقيها النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه طوال ثلاثة أعوام.
وقد رأيت أن المشركين من بني هاشم وبني المطلب، شاركوا المسلمين في تحملها، ولم يرضوا أن يتخلوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وليس لنا من حديث عن هؤلاء المشركين وسبب موقفهم هذا، فقد كان الذي دفعهم إليه حمية القرابة والرحم، وإباء الذل الذي كان يتلبس بهم لو أنهم خلوا بين محمد صلّى الله عليه وسلم ومشركي قريش من غير بني هاشم وبني المطلب يقتلونه ويفتكون به، بقطع النظر عن العقيدة والدين.
فقد آثروا إذن أن يجمعوا بين رغبتين في صدورهم:
الأولى: الثبات على الشرك والاستكبار على الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلم.
الثانية: الانصياع للحمية التي تدعو إلى حماية القريب من بطشة الغريب وظلمه، بحق كان أو بباطل.
أما المسلمون، وعلى رأسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنما صبّرهم على ذلك الانصياع لأمر الله وإيثار الآخرة على الدنيا، وهوان الدنيا عندهم في جنب مرضاة الله عز وجل، وهذا ما يهمنا أن نبحث فيه.
قد تسمع بعض المبطلين من محترفي الغزو الفكري، يقولون:
«إن عصبية بني هاشم وبني المطلب، كانت تكمن خلف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكانت تحوطها بالرعاية والحفظ! .. والدليل على ذلك موقفهم السلبي من مشركي قريش في مقاطعتهم للمسلمين» .
وإنها لمغالطة مكشوفة، لا يتماسك عليها حجاب أي منطق ولو كان صوريا.
ذلك لأن من الطبيعي جدا أن تقود الحمية الجاهلية بني المطلب وبني هاشم إلى الذود عن حياة ابن عم لهم، عندما تتهددها يد غريبة ويدنو إليها بالسوء شخص دخيل.
والحمية الجاهلية، إذ تدفع ذوي القرابة إلى مثل هذا التعصب، لا تنظر إلى مبدأ، ولا تتأثر في ذلك بحق أو بباطل، وإنما هي العصبية ولا شيء غير العصبية.
ولذلك أمكن أن يجتمع في ذوي قرباه صلّى الله عليه وسلم صفتان متناقضتان بحسب الظاهر، الاستكبار على دعوته والجحود بها، والانتصار له ضدّ سائر المشركين من قريش.
ومع ذلك، فأي فائدة حققوها للنبي صلّى الله عليه وسلم من وراء اعتصامهم معه؟ لقد أوذوا كما أوذي هو وأصحابه، ومضت قريش في قطيعتها للمسلمين بالضراوة والشراسة اللتين أرادتهما دون أن يخفف بنو هاشم وبنو المطلب من غلوائهما شيئا.
والمهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت حماية لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغلّ هذه الحماية، من قبل المسلمين، وسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم، فأنعم بذلك من جهد مشكور، وسبيل يتنبهون إليها.
*** أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه المؤمنون، فما الذي كان يمسكهم على هذا الضيق الخانق؟ .. وأي غاية كانوا يتأملونها من وراء الثبات على الشدة؟ ..
بماذا يجيب على هذا السؤال، أولئك الذين يتأولون رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وإيمان أصحابه بها على أنها ثورة يسار ضدّ يمين أي ثورة الفقراء المضطهدين ضدّ الأغنياء المترفين؟
تصور هذه السلسلة التي استعرضناها، من حلقات الإيذاء والتعذيب، لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، ثم أجب على ضوئها، كيف يستقيم أن تكون دعوة الإسلام ثورة اقتصادية ألهبها الجوع وقادها الحقد على تجار مكة وأرباب الفعاليات الاقتصادية فيها؟ ..
لقد عرض المشركون على محمد صلّى الله عليه وسلم الملك والثراء والزعامة، على أن يتخلى عن الدعوة إلى الإسلام، فلماذا لم يرض عليه الصلاة والسلام بذلك؟ ولماذا لم يثر عليه أصحابه ولم يضغطوا عليه
- وإن غايتهم الشبع بعد الجوع- كي يقبل بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيء أكثر من الحكم يكون في أيديهم والمال يكون في جيوبهم؟
ولقد قوطع محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المسلمون عن سبيل كل معايشة اقتصادية واجتماعية مع بني قومه، فلم تترك سلعة تتسلل إلى أيديهم، ولم يترك طعام يدخل إلى بيوتهم، حتى راحوا يأكلون ورق الشجر، وهم على ذلك صابرون، محدقون برسولهم عليه الصلاة والسلام. أفهكذا يصنع من تعتلج وراء صدره الثورة من أجل لقمة العيش؟! ..
وعندما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر إليها من قبله ومن بعده أصحابه، تركوا المال والأرض والممتلكات المختلفة واستقبلوا بوجوههم شطر المدينة المنورة، وقد تجردوا عن كل ما يتعلق به الطامعون في المال، لا يبتغون عن إيمانهم بالله بديلا، ولا يقيمون وزنا لدنيا فاتتهم ولملك أدبر عنهم، أفهذا هو الدليل على أنها ثورة يسارية قامت من أجل لقمة طعام؟! ..
قد يكون دليل هؤلاء الناس على ما يتصورون، ملاحظة الأمرين التاليين:
الأول: أن الجماعة الأولى من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة، كانت على الأغلب من الفقراء والموالي والمضطهدين، وهو يدل على أنهم ينفّسون باتباعهم محمدا صلّى الله عليه وسلم عن شيء من كربهم، وأنهم كانوا يتأملون مستقبلا اقتصاديا أفضل لأنفسهم في ظل الدين الجديد.
الثاني: أن هؤلاء الأصحاب، ما لبثوا بعد حين أن فتحت عليهم آفاق الدنيا، وأقبل إليهم الثراء والمال، وهو دليل على أن خطة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت ترمي إلى تحقيق هذه الغاية.
وأنت إذا تأملت في استدلالهم على ما يتصورونه، بهاتين الملاحظتين، أدركت كم هو نصيب الخيال والوهم من عقولهم ومنهج تفكيرهم.
أمّا أن الجماعة الأولى من أصحابه صلّى الله عليه وسلم كانت على الأغلب من الفقراء والموالي، فنعم، ولكن ليس بين هذه الحقيقة وذلك الوهم أي علاقة أو نسب. إن شريعة تقضي بإرساء ميزان العدالة بين الناس، وبالضرب على يد كل ظالم وطاغية ومستكبر، من المسلم به أن يعرض عنها بل أن يحاربها أولئك الذين استمرؤوا حياة البغي والظلم، لأنها تحملهم المغارم أكثر من أن تقدم إليهم المغانم، كما أن من المسلم به أن يرحب بها كل مستضعف مظلوم، بل كل إنسان ليس له في تجارة البغي والاستغلال نصيب؛ لأنها تقدم لهم المغانم أكثر من أن تحملهم المغارم، أو لأنهم- على أقل تقدير- ليست لهم مع الناس مشكلات تجعلهم يستثقلون تبعاتها وتكاليفها.
إن معظم من كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان مستيقنا أنه على حق وأنه نبي مرسل، ولكن أرباب الزعامة وعشاق العظمة والسيطرة، وجدوا من طبيعتهم وظروفهم ما أصبح عائقا لهم عن
الاستسلام لهذا الحق والتفاعل معه، أما الآخرون فلم يجدوا ما يعوقهم عن الاستسلام لشيء آمنوا به واستيقنوه.
فما العلاقة بين هذه الحقيقة التي يفهمها كل باحث، وما يزعمه أولئك الزاعمون؟
وأما أن خطة الدعوة الإسلامية التي سلكها رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت تهدف إلى امتلاك المسلمين لمنابع الثروة واستيلاءهم على عروش الملوك واستلاب السيادة منهم، - بدليل أن المسلمين قد وصلوا فعلا إلى ذلك- فإنه والله أشبه بمحاولة الجمع بين المشرق والمغرب؟ ..
إذا كان المسلمون قد تمكنوا من فتح بلاد الروم وفارس، في حقبة يسيرة من الزمن، بعد أن صدقوا الله في إسلامهم، أفيكون ذلك دليلا على أنهم ما أسلموا إلا طمعا بعرش الروم والفرس؟!.
لو أنهم أرادوا من وراء إسلامهم الوصول إلى شهوة من شهوات الدنيا أيا كانت، لما تحقق لهم ولا الجزء اليسير من معجزة ذلك الفتح.
لو كان عمر وهو يجهز جيش القادسية ويودع قائده سعد بن أبي وقاص، يطمع في كنوز كسرى، ويسيل لعابه رغبة في أن يتقلب في مثل نعيمه ويجلس على مثل عرشه، لما عاد إليه سعد إلّا بأثقال من الخيبة والهوان، ولكنهم صدقوا الله في الجهاد من أجل نصرة دينه، فصدقهم فيما أكرمهم به من تمليكهم زمام الحكم وإغنائهم بما لم يكونوا يحلمون.
لو كان الحلم الذي يراود المسلمين في معركة القادسية، وصولا إلى ثروة وتقلبا في نعيم وتحقيقا للذائذ العيش، إذن لما دخل ربعي بن عامر رضي الله عنه سرادق رستم مزدريا مظاهر الترف التي غمس فيها السرادق غمسا يتوكأ بزج رمحه على البسط والنمارق الفاخرة حتى أفسدها، ولما قال لرستم: «إن دخلتم الإسلام تركناكم وأرضكم وأموالكم» ! .. أهكذا يقول من جاء ليستلب الملك والأرض والمال؟
لقد أكرمهم الله بمقدرات الدنيا كلها، لأنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وإنما كان تفكيرهم منصرفا إلى تحقيق مرضاة الله.
ولو كانوا يهدفون من جهادهم إلى هذه المقدرات لما وصلوا إلى شيء منها.
المسألة بما فيها ليست إلا تحقيقا للقانون الإلهي الذي يقول:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] .
وإن تفهم هذا القانون لأيسر ما يكون على العقل أي عقل كان، بشرط واحد، هو أن يكون صاحبه حرا عن العبودية لأي رغبة أو غرض.
,
تحدثنا في فصل سابق، عن معنى الهجرة في الإسلام، عند تعليقنا على هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقلنا إذ ذاك ما خلاصته: «إن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء، فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب أو الزوال، ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك- إذا اقتضى الأمر- في سبيل العقيدة والإسلام» .
وقلنا أيضا: «إن سنّة الله تعالى في الكون اقتضت أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين الحق هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية، فمهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في أخلاقها مضطربة تائهة في عقيدتها فإن سلطانها المادي المتمثل فيما ذكرنا يغدو أقرب إلى الاضمحلال والزوال. وقلنا: إن التاريخ أعظم شاهد على ذلك» .
ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين عندما يقتضي الأمر ذلك. فبه يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه.
وحسبنا دليلا على هذه الحقيقة هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. لقد كانت بحسب الظاهر تركا للوطن وتضييعا له، ولكنها كانت في واقع الأمر حفاظا عليه وضمانة له، ورب مظهر من مظاهر الحفاظ على الشيء يبدو في صورة الترك له والإعراض عنه. فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته هذه- بفضل الدين الذي أقام صرحه ودولته- إلى وطنه الذي أخرج منه، عزيز الجانب، منيع القوة، دون أن يستطيع أحد من أولئك الذين تربصوا به ولا حقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بأي سوء..
__________
(60) الإصابة لابن حجر: 1/ 405، وسيرة ابن هشام: 1/ 479، وترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 292
ولنعد الآن إلى التأمل فيما سردناه من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام لنستنبط منها الدلالات والأحكام الهامة لكل مسلم:
1- من أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام، استبقاؤه لأبي بكر رضي الله عنه دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في هذه الرحلة.
وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر وأنه أقرب أصحابه إليه وأولاهم بالخلافة من بعده، ولقد عززت هذه الدلالة أمور كثيرة أخرى مثل استخلافه عليه الصلاة والسلام له في الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على أن لا يصلي عنه غيره. ومثل قوله في الحديث الصحيح: «لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا» «61» .
ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه- كما رأينا- على مستوى هذه المزية التي أكرمه الله بها، فقد كان مثال الصاحب الصادق بل والمضحي بروحه وكل ما يملك من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دخول الغاركي يجعل نفسه فداء له عليه الصلاة والسلام فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أي مكروه ينال الإنسان منه الأذى، ورأينا كيف جنّد أمواله وابنه وابنته ومولاه وراعي أغنامه في سبيل خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الشاقة الطويلة.
ولعمري، إن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال كل مسلم آمن بالله ورسوله. ولذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» «62» .
2- قد يخطر في بال المسلم أن يقارن بين هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتساءل: لماذا هاجر عمر علانية متحديا المشركين دون أي خوف ووجل، على حين هاجر رسول الله مستخفيا محتاطا لنفسه؟ أيكون عمر بن الخطاب أشد جرأة من النبي عليه الصلاة والسلام؟! ..
والجواب: أن عمر بن الخطاب أو أي مسلم آخر غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يعدّ تصرفه تصرفا شخصيا لا حجة تشريعية فيه، فله أن يتخير من الطرق والوسائل والأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو مشرّع، أي إن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعا لنا، ولذلك كانت سنته التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع مجموع أقواله وأفعاله وصفاته
__________
(61) مسلم: 7/ 105
(62) متفق عليه.
وتقريره. فلو أنه فعل كما فعل عمر، لحسب الناس أن هذا هو الواجب! .. وأنه لا يجوز أخذ الحيطة والحذر، والتخفي عند الخوف. مع أن الله عز وجل أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته.
لأجل ذلك، استعمل الرسول صلّى الله عليه وسلم كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها، فترك علي بن أبي طالب ينام في فراشه ويتغطى ببرده، واستعان بأحد المشركين- بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التي قد لا تخطر في بال الأعداء، وأقام في الغار ثلاثة أيام متخفيا، إلى آخر ما عبّأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله عز وجل بعظيم حكمته أن يجعلها أسبابا.
وليس قيامه بذلك بسبب خوف في نفسه، أو شكّ في إمكان وقوعه في قبضة المشركين قبل وصوله المدينة. والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعد ما استنفد الأسباب المادية كلها، وتحلق المشركون حول الغار الذي يختبئ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبه- بحيث لو نظر أحدهم عند قدمه لأبصر الرسول صلّى الله عليه وسلم- استبد الخوف بقلب أبي بكر رضي الله عنه على حين كان يطمئنه عليه الصلاة والسلام قائلا: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» ، ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشيء من الخوف والجزع في تلك الحال.
لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذن، وظيفة تشريعية قام بها، فلما انتهى من أدائها، عاد قلبه مرتبطا بالله عز وجل معتمدا على حمايته وتوفيقه، ليعلم المسلمون أن الاعتماد في كل أمر لا ينبغي أن يكون إلا على الله عز وجل، ولكن لا ينافي ذلك احترام الأسباب التي جعلها الله في هذا الكون أسبابا.
ومن أبرز الأدلة على هذا الذي نقوله أيضا، حالته صلّى الله عليه وسلم عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه. لقد كان من مقتضى كل تلك الاحتياطات الهائلة التي قام بها أن يشعر بشيء من الخوف من هذا العدوّ الذي يجدّ في اللحاق به. ولكنه لم يشعر بشيء من ذلك، بل كان مستغرقا في قراءته ومناجاته لربه لأنه يعلم أن الله الذي أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرّهم كما بيّن في كتابه المبين.
3- وفي تخلف علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في أداء الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذي كان المشركون واقعين فيه. ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويرونه ساحرا أو مخادعا لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقا،
فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! .. وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به وخوفا على زعامتهم وطغيانهم من اتباعه.
4- ثم إننا نلمح في النشاط الذي كان يبذله عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، ذاهبا آيبا بين الغار ومكة، يتحسس الأخبار وينقلها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبيه، وفيما بدا على أخته أسماء رضي الله عنها من مظاهر الاهتمام والجد في تهييء الزاد والراحلة واشتراكها في إعداد العدة لتلك الرحلة، نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا وإناثا في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي. فلا يكفي أن يكون الإنسان منطويا على نفسه مقتصرا على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعيا في سبيل الإسلام. وتلك هي مزية الشباب في حياة الإسلام والمسلمين في كل زمن وعصر.
وإذا تأملت فيمن كان حول النبي صلّى الله عليه وسلم إبان دعوته وجهاده، وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شبانا لم يتجاوزوا المرحلة الأولى من عمر شبابهم، ولم يألوا جهدا في تجنيد طاقاتهم وقوتهم من أجل نصرة الإسلام وإقامة مجتمعه.
5- أمّا ما حدث لسراقة وفرسه وهو يلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم فينبغي أن لا يفوتنا أنها معجزة خارقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اتفق أئمة الحديث على صحتها ونقلها. وفي مقدمتهم البخاري ومسلم.
فأضفها إلى معجزاته الأخرى التي سبق الحديث عنها، فيما مضى.
6- ومن أبرز المعجزات الخارقة في قصة هجرته عليه الصلاة والسلام خروجه صلّى الله عليه وسلم من بيته وقد أحاط به المشركون يتربصون به ليقتلوه، فقد علق النوم بأعينهم جميعا حتى لم يحس به أحد منهم، وكان من تتمة السخرية بتآمرهم على حياته ما امتلأت به رؤوسهم من التراب الذي ألقاه رسول الله عليها إذ خرج من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس 36/ 8] .
لقد كانت هذه المعجزة بمثابة الإعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم في كل عصر ووقت، بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من ألوان الاضطهاد والعذاب على أيديهم مدة من الزمن في سبيل دينه، لا يعني أن الله قد تخلى عنهم وأن النصر قد ابتعد عن متناولهم. فلا ينبغي للمشركين وسائر أعداء الدين أن يفرحوا ويستبشروا بذلك، فإن نصر الله قريب وإن وسائل هذا النصر توشك أن تتحقق بين كل لحظة وأخرى.
7- وتكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالا ونساء وأطفالا. لقد كانوا
يخرجون كل يوم إلى ظاهر المدينة ينتظرون تحت لفح الشمس وصول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، حتى إذا هبّ النهار ليدبر، عادوا أدراجهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم الثاني، فلما طلع الرسول عليهم جاشت العواطف في صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد والأهازيج فرحا لمرآه عليه الصلاة والسلام ومقدمه عليهم، ولقد بادلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ذاتها، حتى إنه جعل ينظر إلى ولائد بني النجار من حوله، وهن ينشدن ويتغنين بمقدمه، قائلا: «أتحببنني؟ والله إن قلبي ليحبكن» .
يدلنا كل ذلك أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليست في مجرد الاتّباع له، بل المحبة له هي أساس الاتباع وباعثه، فلولا المحبة العاطفية في القلب لما وجد وازع يحمل على الاتباع في العمل.
ولقد ضلّ قوم حسبوا أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلا الاتباع والاقتداء. وفاتهم أن الاقتداء لا يأتي إلا بوازع ودافع، ولن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية التي تهز المشاعر وتستبد بالعواطف. ولذلك جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم مقياس الإيمان بالله امتلاء القلب بمحبته عليه الصلاة والسلام، بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. وهذا يدلّ على أن محبة الرسول من جنس محبة الوالد والولد أي مصدر كل منهما العاطفة والقلب وإلا لم تصح المقارنة والمفاضلة بينهما.
8- أما الصورة التي رأيناها في مقامه صلّى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري في منزله، فتكشف لنا مظهرا آخر من محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له.
والذي يهمنا من ذلك هنا، هو التأمل في تبرك أبي أيوب وزوجه، بآثار أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصعة الطعام، حينما كان يردّ عليهما فضل طعامه. إذن فالتبرك بآثار النبي صلّى الله عليه وسلم أمر مشروع قد أقره.
وقد روى البخاري ومسلم صورا كثيرة أخرى من تبرك الصحابة بآثار النبي عليه الصلاة والسلام والتوسل بها للاستشفاء أو العناية والتوفيق وما شابه ذلك.
من ذلك ما رواه البخاري في كتاب اللباس، في باب (ما يذكر في الشيب) ، من أن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم كانت تحتفظ بشعرات من شعر النبي صلّى الله عليه وسلم في جلجل لها (ما يشبه القارورة يحفظ فيه ما يراد صيانته) فكان إذا أصاب أحدا من الصحابة عين أو أذى أرسل إليها إناء فيه ماء، فجعلت الشعرات في الماء، ثم أخذوا الماء يشربونه توسلا للاستشفاء والتبرك به.
ومن ذلك ما رواه مسلم في كتاب الفضائل في باب طيب عرقه صلّى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست هي في البيت، فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فجاءت أم سليم وقد عرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش
ففتحت عتيدتها «63» فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، فأفاق النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
«ما تصنعين يا أم سليم؟» فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت» «64» .
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من استباق الصحابة إلى فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام والتبرك بالكثير من آثاره كألبسته والقدح الذي كان يشرب به «65» .
فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله؟
وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين؟
ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك، وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس. فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسّل به. وكل من التوسل بجاهه صلّى الله عليه وسلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه، أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة، وكل الصور الجزئية له تدخل تحت عموم النص عن طريق ما يسمى ب (تنقيح المناط) عند علماء الأصول.
ولنكتف من تعليقنا على قصة هجرته صلّى الله عليه وسلم عند هذا القدر، لنتحدث بعد ذلك عن الأعمال الجليلة التي بدأ يقوم بها صلّى الله عليه وسلم، في المجتمع الجديد في المدينة المنورة.
__________
(63) العتيدة كالصندوق الصغير تجعل فيه المرأة ما يعز من متاعها.
(64) مسلم: 1/ 83
(65) يرى الشيخ ناصر الألباني أن مثل هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر، ذكر ذلك في نقد له على أحاديث كان قد انتقاها الأستاذ محمد المنتصر الكتاني لطلاب كلية الشريعة. ونحن نرى أن هذا كلام خطير ما ينبغي أن يتفوه به مسلم، فجميع أقوال الرسول وأفعاله وإقراراته تشريع، والتشريع باق مستمر إلى يوم القيامة ما لم ينسخه كتاب أو سنة صحيحة. ومن أهم فوائد التشريع ودلالاته معرفة الحكم والاعتقاد بموجبه. وهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة لم ينسخها كتاب ولا سنة مثلها فمضمونها التشريعي باق إلى يوم القيامة. ومعنى ذلك أنه لا مانع من التوسل والتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام فضلا عن التوسل بذاته وجاهه عند الله تعالى، وإن ذلك ثابت ومشروع مع الزمن، فكيف يقال مع ذلك إنه لا فائدة منها في هذا العصر؟ .. أكبر الظن أن السبب الذي ألغى فائدتها بنظر الشيخ ناصر، أنها تخالف مذهبه في التوسل، غير أن ذلك وحده لا يكفي موجبا لنسخها وانتهاء فائدتها كما هو معلوم.
,
حديث بدء الوحي هذا، هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته. وفهمه واليقين به هما المدخل الذي لا بدّ منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النّبي صلّى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية ذلك أن حقيقة (الوحي) هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذي يبلغ عن ربّه دون أن يغيّر أو ينقص أو يزيد.
من أجل هذا يهتم محترفو التشكيك بالإسلام، بمعالجة موضوع الوحي في حياته صلّى الله عليه وسلم، ويبذلون جهدا فكريا شاقّا، في تكلّف وتمحل، من أجل التلبيس في حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضا. وذلك لعلمهم بأن موضوع (الوحي) هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم من عند الله. فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتي.
من أجل هذه الغاية، أخذ محترفو الغزو الفكري، يحاولون تأويل ظاهرة الوحي وتحريفها عما يرويه لنا المؤرخون وتحدث به صحاح السّنة الشريفة، وإبعادها عن حقيقتها الظاهرة وراح كل منهم يسلك إلى ذلك ما يروق لخياله من فنون التصورات المتكلفة الغريبة.
فمن متصور بأن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يزل يفكر.. إلى أن تكونت في نفسه بطريقة
__________
(22) راجع فتح الباري: 1/ 21
الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية، ومن مفضل على ذلك إشاعة القول بأنه صلّى الله عليه وسلم إنما تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، ومن قائل بأن الأمر ليس هذا ولا ذاك ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان رجلا عصبيا أو مصابا بداء الصرع «23» .
ونحن حينما ننظر إلى مثل هذه التمحلات العجيبة التي لا يرى العاقل مسوغا لها إلا التهرب من الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام، ندرك في جلاء ووضوح الحكمة الإلهية الباهرة من بدء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي استعرضناها الآن، في حديث الإمام البخاري.
لماذا رأى رسول الله جبريل بعيني رأسه لأول مرة، وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟
لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه والحيرة في فهم حقيقته، وقد كان ظاهر محبة الله لرسوله وحفظه له يقتضي أن يلقي السكينة في قلبه ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي تمثل له في الغار أتيا من الجن، ولم يرجح على ذلك أن يكون ملكا أمينا من عند الله؟
لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدة طويلة، وجزع النّبي صلّى الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى إنه كان يحاول- كما يروي الإمام البخاري- أن يتردى من شواهق الجبال؟
هذه أسئلة طبيعية بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة باهرة، ألا وهي أن يجد المفكر الحر فيها الحقيقة الناصعة الواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري والتأثر بأخيلتهم المتكلفة الباطلة.
لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مردّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلقّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصوّر، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط.
ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى، حتى إنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائدا إلى البيت يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن متشوفا للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثّها في العالم، وأن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر في باله، وإنما طرأت طروءا مثيرا على حياته، وفوجئ بها دون أي توقع
__________
(23) راجع حاضر العالم الإسلامي: 1/ 38 و 39
سابق. ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه- بطريقة الكشف التدريجي المستمر- عقيدة يؤمن بالدعوة إليها! ..
ثم إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية، لا يستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون. وليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير والتأمل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى. وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة.
وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها- حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكس ذلك.
ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه صلّى الله عليه وسلم، في توهمه بأن هذا الذي رآه وغطّه وكلّمه في الغار قد يكون أتيّا من الجن، إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» أي من الجانّ. ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة.
وقد كان الله عزّ وجلّ قادرا أن يربط على قلب رسوله ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا من أركان العقيدة الإسلامية أو التشريع الإسلامي لم يطبخ في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام سابقا ولم يتصور الدعوة إليه سلفا.
ثم إن فيما ألهم الله خديجة من الذهاب به عليه الصلاة والسلام إلى ورقة بن نوفل، وعرض الأمر عليه تأكيدا من جانب آخر بأن هذا الذي فوجئ به عليه الصلاة والسلام إنما هو الوحي الإلهي الذي كان قد أنزل على الأنبياء من قبله، وإزالة لغاشية اللبس التي كانت تحوم حول نفسه بالخوف والتصورات المختلفة عن تفسير ما رآه وسمعه.
أما انقطاع الوحي بعد ذلك، وتلبّثه ستة أشهر أو أكثر، على الخلاف المعروف فيه، فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة. إذ في ذلك أبلغ الرّد على ما يفسر به محترفو الغزو الفكري الوحي النّبوي من أنه الإشراق النفسي المنبعث لديه من طول التأمل والتكرار، وأنه أمر داخلي منبعث من ذاته نفسها.
لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة، وأن يستبدّ به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن
يكون الله عزّ وجلّ قد قلاه بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه وراحت تحدثه نفسه، كلما وصل إلى ذروة جبل، أن يلقي بنفسه منها! ..
إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه في حراء، وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يقول:
«يا محمد أنت رسول الله إلى الناس» . فعاد مرة أخرى وقد استبدّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. [المدثر 74/ 1- 2] .
إن هذه الحالة التي مرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تجعل مجرّد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا، ضربا من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.
إذن فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام. وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عزّ وجلّ.
وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلّى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟
والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلّا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جلّ جلاله- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد:
«إن عمى الألوان مثلا يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهنا لك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية» «24» .
ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي:
1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنّبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما الحديث فمعناه
__________
(24) الظاهرة القرآنية: 127
وحي من الله عزّ وجلّ، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عزّ وجلّ الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2- كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها، وربّما مرّ على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
3- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أميّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف.. وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليمّ.. وقصة فرعون.. ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلّى الله عليه وسلم أميّا: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت 29/ 48] .
4- إن صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلّى الله عليه وسلم، من قبل ذلك، صادقا مع نفسه، ولذا فلا بدّ أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره.
وكأن هذه الآية جاءت ردّا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس 10/ 94] .
ولذا روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل» «25» .
__________
(25) رواه ابن كثير عن قتادة.
القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلّى الله عليه وسلم
مرّت الدّعوة الإسلامية في حياته عليه الصلاة والسلام، منذ بعثته إلى وفاته بأربع مراحل:
المرحلة الأولى: الدّعوة سرّا، واستمرت ثلاث سنوات.
المرحلة الثانية: الدّعوة جهرا، وباللسان فقط، واستمرت إلى الهجرة.
المرحلة الثالثة: الدّعوة جهرا، مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال أو الشّر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية.
المرحلة الرابعة: الدّعوة جهرا مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام- بعد فترة الدعوة والإعلام- من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين.
وكانت هذه المرحلة هي التي استقر عليها أمر الشريعة الإسلامية وقام عليها، حكم الجهاد في الإسلام.
الدّعوة سرّا
بدأ النّبي صلّى الله عليه وسلم يستجيب لأمر الله، فأخذ يدعو إلى عباده الله وحده ونبذ الأصنام، ولكنه كان يدعو إلى ذلك سرّا حذرا من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها ووثنيتها، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يظهر الدّعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشدّه إليه قرابة أو معرفة سابقة.
وكان في أوائل من دخل الإسلام من هؤلاء: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام ومتبنّاه، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان، والزّبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.. وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا.
فكان هؤلاء يلتقون بالنّبي صلّى الله عليه وسلم سرّا، وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها عن أنظار قريش.
ثم لما أربى الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين- ما بين رجل وامرأة- اختار لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار أحدهم، وهو الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم، وكانت حصيلة الدعوة في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلا وامرأة دخلوا في الإسلام، عامتهم من الفقراء والأرقاء وممن لا شأن له بين قريش «1» .
,
ترى، ما الحكمة في أن يتعجل قضاء الله تعالى في استلاب أبي طالب من الحياة، قبل أن يشتد ساعد المسلمين في مكة ويتكون لهم شيء من المنعة؟ ومعلوم أنه قد كان يحمي الرسول- قدر الإمكان- من كثير من المصائب والشدائد، وما الحكمة في أن يتعجل القضاء باستلاب زوجته خديجة رضي الله عنها، وقد كان يجد عندها أنسه وسلواه، وينفض بمساعدتها عن كاهله كثيرا من أحاسيس الشدائد والآلام؟
تبرز هنا ظاهرة هامة تتعلق بأساس العقيدة الإسلامية.
فلو أن أبا طالب بقي إلى جانب ابن أخيه يكلؤه ويحميه إلى أن تقوم الدولة الإسلامية في المدينة وريثما ينجو الرسول من أذى المشركين وقبضتهم، لكان في ذلك ما قد يوهم أن أبا طالب كان من وراء هذه الدعوة، وأنه هو الذي كان يدفعها إلى الأمام ويحميها بمكانته وسلطانه بين قومه، وإن لم يظهر الإيمان بها والانضواء تحت لوائها، ولجاء من يطيل ويطنب في بيان الحظ
__________
(15) رواه ابن إسحاق، وانظر تاريخ الطبري: 2/ 544
الحسن الذي تهيأ للرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء قيامه في الدعوة، بسبب حماية عمه له، بينما لم يتهيأ هذا الحظ لغيره من المسلمين من حوله، فأوذوا وهو محفوظ الجانب، وتعذبوا وهو مستريح البال.
لقد قضت حكمة الله تعالى أن يفقد الرسول عمه أبا طالب وزوجته خديجة بنت خويلد، ويفقد من حوله من كان في الظاهر حاميا له ومؤنسا، حتى تتجلّى حقيقتان هامتان:
أولاهما: أن الحماية والعناية والنصر، إنما يأتي كل ذلك من الله عز وجل. ولقد تعهد الله أن يعصم رسوله من المشركين والأعداء، فسواء كان ثمة من يحميه من الناس أو لم يكن، فهو معصوم من الناس وستبلغ دعوته منتهاها من النصر والتوفيق.
ثانيتهما: ليس معنى العصمة من الناس أن لا يرى منهم إيذاء أو عذابا أو اضطهادا، وإنما معنى العصمة التي تعهد بها الله عز وجل بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] العصمة من القتل ومن أي صد أو عدوان من شأنه إيقاف الدعوة الإسلامية، فقد قضت حكمة الله تعالى أن يذوق الأنبياء من ذلك قدرا غير يسير، وذلك لا ينافي العصمة التي وعد بها أنبياءه ورسله.
ولذلك يقول الله عز وجل لنبيّه بعد قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، يقول له: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 15/ 97، 98] .
ومن الحكم الجليلة لما قضت به سنة الله عز وجل، من أن يلاقي الرسول ما لاقى من المحنة في طريق الدعوة، أن يستسهلها ويستخف بها عامة المسلمين في كل عصر ممن أنيطت بهم مسؤولية الدعوة الإسلامية.
فلو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نجح في دعوته بدون أي مشقة أو جهد، لطمع أصحابه والمسلمون من بعده بأن يستريحو كما استراح، ولا ستثقلوا المصائب والمحن التي قد يجدونها في طريقهم إلى الدعوة الإسلامية.
أما، والحالة هذه، فإن مما يخفف وقع المحنة والعذاب على المسلمين شعورهم أنهم يذوقون مما ذاقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنهم يسيرون في الطريق ذاتها التي أو ذي فيها رسول الله.
ومهما أصابهم من ألم السخرية بهم وإهانة الناس لهم، فإن ذلك لا يفتّ في عضدهم بعد أن رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ألقي التراب في السوق على رأسه حتى اضطر أن ينقلب إلى بيته لتقوم إحدى بناته فتغسل عن رأسه التراب، مع أنه حبيب الله وصفوته من خلقه. وسنجد في هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف وما لاقاه إذ ذاك ما يجعل المسلمين يستسهلون كل محنة وعذاب في سبيل أن يضربوا مع رسولهم بنصيب مما قاساه وعاناه في سبيل الدعوة الإسلامية.
هذا شيء.
والشيء الآخر، الذي يتعلق بهذا المقطع من سيرته عليه الصلاة والسلام هو أن بعض الناس يحسبون أن سبب تسمية الرسول لهذا العام عام الحزن إنما هو مجرد فقده صلّى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وزوجته خديجة بنت خويلد، وربما استساغوا إقامة علائم الحزن والحداد على موتاهم مدة طويلة من الزمن مستدلين بهذا.
والواقع أن هذا خطأ في الفهم والتقدير.
فالنبي صلّى الله عليه وسلم لم يحزن على فراق عمه وفراق زوجه ذلك الحزن الشديد، ولم يطلق على تلك السنة: عام الحزن، لمجرد أنه فقد بعض أقاربه فاستوحش لفقدهم. بل سبب ذلك ما أعقب وفاتهما من انغلاق معظم أبواب الدعوة الإسلامية في وجهه، فقد كانت حماية عمه له تترك مجالات كثيرة للدعوة وسبلا مختلفة للتوجيه والإرشاد والتعليم.. وكان يرى في ذلك بعض النجاح في العمل الذي أمره به ربه.
أما بعد وفاته، فقد سدّت في وجهه تلك المجالات، فمهما حاول وجد صدا وعدوانا، وحيثما ذهب وجد السبل مغلقة في وجهه، فيعود بدعوته كما ذهب بها؛ لم يسمعها أحد ولم يؤمن بها أحد، بل الكل ما بين مستهزئ ومعتد، ومتهكم به، فيحزنه أن يعود وهو لم يأت من الوظيفة التي كلفه الله بها بنتيجة، فمن أجله سمى ذلك العام عام الحزن.
بل، لقد كان حزنه على أن لا يؤمن الناس بالحق الذي جاء به، شيئا غالبا على نفسه، في أكثر الأحيان. ومن أجل تخفيف هذا الحزن عليه كانت تنزل الآيات مواسية له ومسلية، ومذكّرة إياه بأنه ليس مكلفا بأكثر من التبليغ، فلا داعي إلى أن يذهب نفسه عليهم حسرات إذا لم يستجيبوا ولم يؤمنوا. استمع مثلا إلى هذه الآيات:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِي