withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة أحـد من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

غزوة أحـد من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

اسم الكتاب:
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث

أولا: حوار أبي سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

قال البراء - رضي الله عنه -: وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» , فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه» , فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: أعلُ هبل (3) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» , قال: قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» , قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» , قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» , قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني (4). وفي رواية قال عمر: (لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (5).

كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم؛ لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه لا يقوم الإسلام بعدهم.

وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولاً تصغيرًا له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر، وردوا عليه بشجاعة (5).

وفي هذا يقول ابن القيم في تعليقه على هذا الحوار: فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبشركه، تعظيمًا للتوحيد. وإعلامًا بعزة من عبده المسلمون، وقوة جانبه، وأنه لا يغلب، ونحن

_________

(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 169).

(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 94).

(3) أعل هبل: ظهر دينك.

(4) البخاري، المغازي، رقم 4043، السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392).

(5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392).

حزبه وجنده. ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل روي أنه نهاهم عن إجابته، وقال: لا تجيبوه؛ لأن كَلْمَهم لم يكن برد في طلب القوم، ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت يا عدو الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة وعدم الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال، ما يؤذيهم بقوة القوم وبسالتهم, وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسؤوهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه، وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو كيده، فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عمر فرد بسهام كيده عليه، وكان ترك الجواب عليه أحسن، وذكره ثانيًا أحسن، وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأله عنهم إهانة له، وتصغيرًا لشأنه، فلما منته نفسه موتهم, وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل، كان في جوابه إهانة له، وتحقير وإذلال, ولم يكن هذا مخالفًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجيبوه» فإن إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً، ولا أحسن من إجابته ثانيًا (1).

ثانيًا: تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشهداء:

بعد أن انسحب أبو سفيان من أرض المعركة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتفقد أصحابه رضي الله عنهم، فمر على بعضهم، ومنهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع والأصيرم، وبقية الصحابة رضي الله عنهم، فلما أشرف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا شهيد على هؤلاء, إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله بعثه يوم القيامة، يدمي جرحه, اللون لون دم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعًا للقرآن، فاجعلوه أمام أصحابه في القبر» (2).

وقال جابر بن عبد الله في رواية البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى واحد قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا (3).

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث صرعوا، وأعيد من أخذ ليدفن داخل المدينة.

_________

(1) انظر: زاد المعاد (3/ 202، 203).

(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 109).

(3) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4079.

ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، وقد مُثِّل به حزن حزنًا شديدًا، وبكى حتى نشغ (1) من البكاء (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم»، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن ظفرنا الله بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب (3) , فنزل قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126]. لقد ارتكب المشركون صورًا من الوحشية، حيث قاموا بالتمثيل في قتلى المسلمين فبقروا بطون كثير من القتلى وجدعوا أنوفهم، وقطعوا الآذان ومذاكير بعضهم (4). ومع ذلك صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستجابوا لتوجيه المولى عز وجل، فعفا وصبر وكفَّر عن يمينه، ونهى عن المثلة.

روى ابن إسحاق بسنده عن سمرة بن جندب قال: (ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه، حتى يأمرنا بالصدقة وينهانا عن المثلة) (5).

ثالثًا: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد:

صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعود، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا، حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات الدالة على عمق الإيمان (6) , فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت, اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة, والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق» (7) ثم ركب فرسه ورجع إلى

_________

(1) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي.

(2) انظر: مختصر سيرة الرسول، لمحمد عبد الوهاب، ص331.

(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 106).

(4) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص104.

(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 107).

(6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 210).

(7) انظر: مجمع الزوائد (6/ 121، 122) وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

المدينة (1).

وهذا أمر عظيم شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته لكي يطلبوا النصر والتوفيق من رب العالمين، وبين لأمته أن الدعاء مطلوب في ساعة النصر والفتح، وفي ساعة الهزيمة لأن الدعاء مخ العبادة, كما أنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ويجعل القلوب متعلقة بخالقها، فينزل عليها السكينة، والثبات والاطمئنان ويمدها بقوة روحية عظيمة، فترتفع المعنويات نحو المعالي وتتطلع إلى ما عند الله تعالى.

في أعقاب المعركة، يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أهبته وينظم المسلمين صفوفًا، لكي يثني على ربه عز وجل، إنه لموقف عظيم، يجلي إيمانًا عميقًا، ويكشف عن العبودية المطلقة لرب العالمين الفعَّال لما يريد، فهو القابض والباسط، المعطي والمانع، لا راد ولا معقب لحكمه.

إن هذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجل المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار، وأبرز ما يكون الحمد والثناء (2).

رابعًا: معرفة وجهة العدو:

بعد أن انسحب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد الغزوة مباشرة، وذلك لمعرفة اتجاه العدو، فقال له: «اخرج في آثار القوم، وانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» قال علي: فخرجت في أثرهم ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة (3). فرجع علي - رضي الله عنه - وأخبر رسول الله بخبر القوم.

وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها:

يقظة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو، وقدرته صلى الله عليه وسلم على تقدير الأمور، وظهور قوته المعنوية العالية، ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة، وفيه ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعلي - رضي الله عنه - ومعرفته بمعادن الرجال، وفيه شجاعة علي - رضي الله عنه -؛ لأن هذا الجيش لو أبصره ما تورع في محاولة قتله (4) , ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في أرض المعركة بعد أن انتهت، تفقد خلالها الجرحى والشهداء، وأمر بدفنهم ودعا ربه وأثنى عليه سبحانه، وأرسل عليًّا ليتتبع خبر القوم، كل ذلك من أجل أن يحافظ على النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة أحد، وهذا من فقه سنن الله تعالى في الحروب والمعارك، فقد

_________

(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 394).

(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فيض الله، ص132، 133.

(3) انظر: البداية والنهاية (4/ 41).

(4) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص95، 96.

جعل سبحانه من سننه في خلقه أن جعل للنصر أسبابًا، وللهزيمة أسبابًا، فمن أخذ بأسباب النصر، وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى حقيقة التوكل نال النصر بإذن الله عز وجل، كما قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الفتح: 23].

ويتجلى فقه النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة سنة الأخذ بالأسباب في غزوة حمراء الأسد.

خامسًا: غزوة حمراء الأسد:

نجد في بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم تابع أخبار المشركين بواسطة بعض أتباعه حتى بعد رجوعهم إلى مكة، وبلغه مقالة أبي سفيان يلوم فيها جنده لكونهم لم يشفوا غليلهم من محمد وجنده، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انصرف أبو سفيان والمشركون من أحد وبلغوا الروحاء (1) قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم, شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وتفيد هذه الرواية خبر استطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم أعداءه حتى بعد انتهاء المعركة؛ وذلك لكي يطمئن على عدم مباغتتهم له.

وعندما سمع ما كان تعزم عليه قريش من العودة إلى المدينة خرج بمن حضره يوم أحد من المسلمين دون غيرهم إلى حمراء الأسد.

قال ابن إسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وألا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج مرهبًا للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم (3)، وقد استجاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنداء الجهاد حتى الذين أصيبوا بالجروح، فهذا رجل من بني عبد الأشهل يقول: شهدت أحدًا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة (4) ومشى عقبة (نوبة) , حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون (5). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، واقترب بجنوده من جيش المشركين فأقام فيه ثلاثة

_________

(1) الروحاء: تبعد عن المدينة 73 كيلومترًا في طريق مكة.

(2) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/ 121) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز.

(3) انظر: البداية والنهاية (4/ 50).

(4) عقبة: فترة.

(5) المصدر نفسه، (4/ 50).

أيام يتحدى المشركين, فلم يتشجعوا على لقائه ونزاله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإشعال النيران فكانوا يشعلون في وقت واحد خمسمائة نار (1).

وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان، فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، فقد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة (2). فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال معبد: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتًا من شعر:

قال: وما قلت؟ قال: قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد (3) الأبابيل

تردي (4) بأسد كرام لا تنابلة (5) ... عند اللقاء ولا ميل (6) معازيل (7)

فظلت عدوًا أظن الأرض مائلة ... لما سمو برئيس غير مخذول

فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجبل (8)

إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي أُربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخش (9) قنابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (10)

فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وحاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشن حرب نفسية على المسلمين، لعله يرهبهم فأرسل مع ركب عبد القيس -وكانوا يريدون المدينة للميرة- رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفادها، أن أبا سفيان وجيشه قد أجمعوا على السير إليه وإلى أصحابه ليستأصلهم من الوجود، وواعد أبو سفيان الركب أن يعطيهم زبيبًا عندما يأتوه في سوق عكاظ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال هو والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل (11). واستمر المسلمون في معسكرهم، وآثرت قريش السلامة والأوبة، فرجعوا إلى مكة، وبعد ذلك عاد المسلمون إلى المدينة بروح قوية متوثبة، غسلت عار الهزيمة، ومسحت مغبة الفشل، فدخلوها أعزة رفيعي الجانب، عبثوا بانتصار المشركين، وهزوا

_________

(1) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص144 نقلا عن الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 43).

(2) انظر: زاد المعاد (3/ 245).

(3) الجرد: جمع أجرد وهو الضرسي قصير الشعر، والأبابيل: الفرق الكثيرة.

(4) تردى: تسرع.

(5) تنابلة: جمع تنبال وهو القصير.

(6) الميل: جمع أميل وهو الجبان.

(7) معازيل: جمع معزال وهو من لا رمح له.

(8) تغطمطت: اضطربت وثارت.

(9) وخش: ردئ.

(10) انظر: البداية والنهاية (4/ 51)

(11) تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص226.

أعصابهم، وأحبطوا شماتة المنافقين واليهود في المدينة، وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحرب الباردة، وسجل ظواهرها (1)

بقوله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 172 - 175] ووقع في أسر النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجوعه إلى المدينة أبو عزة الجمحي الشاعر فقتل صبرًا؛ لأنه أخلف وعده للرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يقاتل ضده عندما منَّ عليه ببدر وأطلقه, فعاد فقاتل في أحد، وقد حاول أبو عزة أن يتخلص من القتل، وقال: يا رسول الله أقلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا والله، لا تمسح عارضيك (2) بمكة بعدها، وتقول: خدعت محمدًا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» (3) فضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» (4) فصار هذا الحديث مثلا ولم يسمع قبل ذلك.

وبعد هذا العمل من قبيل السياسة الشرعية؛ لأن هذا الشاعر من المفسدين في الأرض، الداعين إلى الفتنة، ولأن في المن عليه تمكينًا له من أن يعود حربًا على المسلمين.

ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي (5).

وأما عدد القتلى من المسلمين في أحد فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيدًا من المسلمين، ويؤيد هذا تفسير قوله تعالى: (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، قال ابن عطية رحمه الله: وكان المشركون قد قتلوا منهم سبعين نفرًا، وكان المسلمون قد قتلوا من المشركين ببدر سبعين وأسروا سبعين (6) , أما عدد الذين قتلوا يوم أحد من المشركين فاثنان وعشرون قتيلا (7). كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاحقة المشركين في غزوة حمراء الأسد يهدف لتحقيق مجموعة من المقاصد المهمة منها:

1 - ألا يكون آخر ما تنطوي عليه نفوس الذين خرجوا يوم أحد هو الشعور بالهزيمة.

_________

(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص142 ..

(2) عارضيك: هما جانبا الوجه، لسان العرب (2/ 742).

(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 116).

(4) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المرء (7/ 134) رقم 6133.

(5) انظر: البداية والنهاية (4/ 53).

(6) المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 411).

(7) مرويات غزوة أحد للباكري، ص367، 369.

2 - إعلامهم أن لهم الكرة على أعدائهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله ورسوله.

3 - تجرئة الصحابة على قتال أعدائهم.

4 - إعلامهم أن ما أصابهم في ذلك اليوم إنما هو محنة وابتلاء اقتضتها إرادة الله وحكمته وأنهم أقوياء، وأن خصومهم الغالبين في الظاهر ضعفاء (1).

كما أن في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم، حيث خرج صلى الله عليه وسلم بجنوده إلى حمراء الأسد، ومكث فيها ثلاثة أيام، وأمر بإيقاد النيران فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها، حتى خيل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لا طاقة لهم به فانصرفوا، وقد ملأ الرعب أفئدتهم (2). قال ابن سعد: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى بذلك عدوهم) (3).

سادسًا: مشاركة نساء المسلمين في معركة أحد:

كانت غزوة أحد أول معركة في الإسلام تشارك فيها نساء المسلمين، وكان لهذا أثر بالغ في سقي المحاربين وتضميد الجرحى، وقد ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن في هذه المعركة، فقد خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم, وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأم عمارة، وحمنة بنت جحش الأسدية، وأم سليط، وأم سليم، ونسوة من الأنصار (4)، قال ثعلبة بن أبي مالك - رضي الله عنه -: (إن عمر بن الخطاب قسم مروطًا بين نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك, يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر - رضي الله عنه -: أم سليط أحق به من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنها كانت تزفر (5) لنا القرب يوم أحد (6)».

_________

(1) انظر: في ظلال القرآن (1/ 519).

(2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص51.

(3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 49)

(4) مسلم، كتاب الجهاد، باب غزو النساء، رقم 1779.

(5) تزفر: تحمل القرب مملوءة بالماء.

(6) البخاري، كتاب المغازي رقم 4071.

أ- سقي العطشى من المجاهدين:

عن أنس - رضي الله عنه - قال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهن تنقزان (1) القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم (2).

وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى (3).

ب- مداواة الجرحى ومواساة المصابين:

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى (4).

وأخرج عبد الرزاق عن الزهري: كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى (5). وعن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي القوم، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة، وفي رواية: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة (6). وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد - رضي الله عنه - وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم (7).

_________

(1) تنقزان: أي تحملان وتقفزان بها وثبا.

(2) البخاري، كتاب الجهاد واليسر، باب غزو النساء رقم 2880.

(3) انظر: المغازي للواقدي (1/ 249).

(4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء، رقم 1810.

(5) البخاري فتح الباري لابن حجر (6/ 92) عند حديث رقم 2880.

(6) البخاري، كتاب الجهاد والسير رقم 2882، 2883.

(7) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4075.

ج- الدفاع عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم بالسيف:

لم تقاتل المشركين يوم أحد إلا أم عمارة نسيبة المازنية -رضي الله عنها-, وهذا ضمرة ابن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدًا تسقي الماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان» وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحًا، فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحًا جرحًا فوجدتها ثلاثة عشر جرحًا، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها -وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة- ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني (1) -أخو أم عمارة- يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (2). وقد علق الأستاذ حسين الباكري عن مشاركة نسيبة بنت كعب في القتال فقال: وخروج المرأة للقتال مع الرجل لم يثبت في ذلك منه شيء غير قصة نسيبة, وقتال نسيبة إنما كان اضطراريًا حين رأت أن رسول الله أصبح في خطر حين انكشف عنه الناس، فأم عمارة كانت في موقف أصبح حمل السلاح واجبًا على من يقدر على حمله رجلا كان أو امرأة (3).

وعلق الدكتور أكرم ضياء العمري على الآثار الدالة في مشاركة النساء في أحد بقوله: وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء، مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار المسلمين فيجب قتاله من الجميع رجالا ونساء (4).

وأما الأستاذ محمد أحمد باشميل فقد قال: وقد كانت معركة أحد أول معركة قاتلت فيها المرأة المسلمة المشركين في الإسلام، ومن الثابت أن امرأة واحدة فقط اشتركت في هذه المعركة، وهي تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه من الثابت أيضًا أن المرأة التي اشتركت في معركة أحد، لم تخرج بقصد القتال فهي لم تكن مجندة فيها كالرجال، وإنما خرجت لتنظر ما يصنع الناس لتقوم بأية مساعدة يمكنها القيام بها للمسلمين كإغاثة الجرحى بالماء وما شابه ذلك، يضاف إلى هذا أن هذه المرأة التي خاضت معركة أحد هي امرأة قد تخطت سن

_________

(1) أخو أم عمارة: انظر الذهبي سير أعلام النبلاء (2/ 278).

(2) المغازي للواقدي (1/ 269، 270).

(3) انظر: مرويات غزوة أحد، ص254.

(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 391).

الشباب، كما أنها لم تخرج إلى المعركة إلا مع زوجها وابنيها الذين كانوا من الجند الذين قاتلوا في المعركة، يضاف إلى هذا الرصيد الهائل الذي لديها من المناعة الخلقية والتربية الدينية، فلا يقاس على هذه الصحابية الجليلة مجندات هذا الزمان اللواتي يرتدين لباس الميدان وعنصر الإغراء والفتنة هو أهم عنصر يتميزن به ويحرصن على إظهاره للرجال فأين الثرى من الثريا؟

كذلك رجال ذلك العصر لا يقاس عليهم أحد من رجال هذا الزمان من ناحية الشهامة والاستقامة والعفة والرجولة، فكل المحاربين الذين اشتركت معهم امرأة في معركة أحد كانوا صفوة الأمة الإسلامية ورمز نبلها وشهامتها وعنوان رجولتها واستقامتها، فلا يصح مطلقًا جعل اشتراك تلك المرأة في معركة أحد قاعدة تقاس عليها (من الناحية الشرعية) إباحة تجنيد المرأة في هذا العصر لتقاتل بجانب الرجل (كعنصر أساسي من عناصر الجيش) , فالقياس في هذه الحالة قياس مع الفارق وهو قياس باطل قطعًا (1).

سابعًا: دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمة:

أ- صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:

لما استُشهد أخوها حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في أحد وجاءت لتنظر إليه وقد مثل به المشركون؛ فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مُثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.

فلما جاء الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت (2) , واستغفرت له (3).

ب- حمنة بنت جحش رضي الله عنها:

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن أصحابه -رضي الله عنهم- ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمنة: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «أخوك عبد الله بن جحش» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون, غفر الله له, هنيئًا له الشهادة, ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «خالك حمزة بن عبد المطلب» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «زوجك مصعب بن عمير»، قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان»

_________

(1) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص171: 173.

(2) استرجعت، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 108).

لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: «ولم قلت هذا؟» قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني, فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف (1). فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمدًا وعمران (2) وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها (3).

ج- المرأة الدينارية رضي الله عنها:

قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (4)، تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.

د- أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد الخزرجية رضي الله عنها:

خرجت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي, فقال رسول الله: «مرحبًا بها» فدنت حتى تأملت رسول الله فقالت: أما إذا رأيتك سالمًا، فقد أشوت (5) المصيبة، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: «يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعًا، وهم اثنا عشر رجلاً، وقد شفعوا في أهليهم» قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خُلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم, وأحسن الخلف على من خُلفوا» (6).

* * *

المبحث الرابع

بعض الدروس والعبر والفوائد

لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفًا دقيقًا، وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحًا من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعًا وقويًا، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي صلى الله عليه وسلم,

_________

(1) انظر: البداية والنهاية (4/ 47) , غزوة أحد دراسة دعوية، ص236.

(2) انظر: الإصابة (8/ 88) رقم 11060.

(3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص109.

(4) انظر: البداية والنهاية (4/ 48).

(5) أشوت: صارت صغيرة خفيفة.

(6) انظر: مغازي الواقدي (1/ 315، 316).

وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عما جاء في كتب السيرة, فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، والناظر عموما في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول.

يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجًا عميقًا عنيفًا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد، كما لو كانت تتحرك، ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير (1).

إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله، تعتبر انعكاسًا في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره، وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم، ونحاول تسليط الأضواء على بعض النقاط المهمة في هذا المنهج.

,

أولا: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:

قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ - وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 137 - 139].

إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم (2).

قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين (3).

ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره.

_________

(1) في ظلال القرآن (1/ 532).

(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 190).

(3) انظر: تفسير القرطبي (4/ 216).

وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم (1).

وفي قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.

ثانيًا: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:

قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران: 140 - 143].

بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى (2).

وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا (3). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم (4).

وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات, وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا (5).

_________

(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 191).

(2) انظر: تفسير الرازي (9/ 14).

(3) انظر: تفسير الكشاف (1/ 465).

(4) انظر: تفسير الرازي (4/ 105).

(5) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 199).

ثالثًا: كيفية معالجة الأخطاء:

ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 67، 68].

وقال في أحد: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه (1).

رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:

قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146 - 148].

قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال (2).

وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها

_________

(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص137.

(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 410).

واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء (فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده (1).

خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده:

ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها.

ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - , بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة (2) رضي الله عنهم، قال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153].

يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى:

_________

(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 204).

(2) انظر: غزوة أحد دارسة دعوية، ص207 - 209.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم (1).

سادسًا: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:

وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].

وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك:

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (2) ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد.

قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نريم (3) حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم) (4) فنزلت: (مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ) [آل عمران: 152].

قال الطبري: قوله سبحانه: (مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا) يعني الغنيمة, قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد (5) (مِنْكُم مَّن

_________

(1) انظر: الطاعة والمعصية وأثرهما في المجتمع، محمد بن العثيمين نقلا عن غزوة أحد، ص211.

(2) مسلم، رقم 2742.

(3) لا نريم: لا نبرح المكان.

(4) انظر: تفسير الطبري (3/ 474).

(5) المصدر نفسه (3/ 474).

يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ).

إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها (1).

سابعًا: التعلق والارتباط بالدين:

قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه (2).

وقد جاء في تفسير الآية السابقة، أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله، فقال تعالى: (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: (وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا (3).

_________

(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 197).

(2) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 441).

(3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 200).

لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب

منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا (1).

قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت، وما نُعت محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] , والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم) (2).

قال القرطبي: (فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء) (3). وكلامه -رحمه الله- نفيس جدًا، فالذين ظنوا من قبل أن الإسلام قد انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن ظهور الإسلام ودعوته متوقف على شخص بعينه، فهؤلاء وأولئك قد أخطأوا ولم يقدروا هذا الدين قدره، ولم يوفوه حقه؛ لأن ظهور هذا الدين وهيمنته على كل الأديان هو قدر الله عز وجل وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].

_________

(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/ 616).

(2) انظر: زاد المعاد (3/ 224).

(3) انظر: تفسير القرطبي (4/ 222).

فسبب ظهور هذا الدين أنه حق وأنه هدى (1).

في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد, وعند موت الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة (3) , فكشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) (4).

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر - رضي الله عنه - فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر - رضي الله عنه - تلاها فَعَقِرْت (5) حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها, علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات (6).

ثامنًا: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا:

أ- الرماة:

إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصف، ولم يقل لهم إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة، رغم ما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وما ترتب

_________

(1) انظر: مرض النبي ووفاته وأثر ذلك على الأمة، خالد أبو صالح، ص20 نقلا عن غزوة أحد دراسة دعوية، ص191.

(2) فتيمم: قصد.

(3) الحبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن.

(4) البخاري، كتاب المغازي، باب مرض رسول الله ووفاته، رقم4454.

(5) عقرت: دهشت وتحيرت، وسقطت.

(6) انظر: البخاري، كتاب المغازي، رقم 4454.

عليه من خسائر فادحة، فعفا سبحانه وتعالى عفوًا غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا, قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] , وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثرًا في نفوسهم يعوقها بعض الشيء, ذلك هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلا بد أن ينالوا منه عفوًا تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفًا له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم (1) , قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

ب- انخذال ابن سلول المنافق:

كان هدف عبد الله ابن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته. وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحلك الظروف، وقد حاول عبد الله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخذال إلا أنهم رفضوا دعوته (2) وفيهم نزل قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران: 166 - 167].

فالبرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد, لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس (3)، وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الإمام الزهري: كان عبد الله بن أبي له مقام يقومه كل جمعة لا ينكسر له شرفًا في نفسه وفي قومه, وكان فيهم شريفًا, إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به, فانصروه

_________

(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص218.

(2) المصدر نفسه، ص219.

(3) نفس المصدر، ص220.

وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجرًا (1) , إن قمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرًا أن قمت أشدد أمره, قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي (2).

تاسعًا: «أحد جبل يحبنا ونحبه»:

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَع له أحدٌ فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» (3).

وهذا يدل على دقة شعور النبي صلى الله عليه وسلم حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟. ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى (4).

والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ما ذكره الحميدي، ومنها ما قاله الأستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيرًا ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها .. وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بيانًا للحق، وابتعادًا عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان, ولا شك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لا يرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيئ بين لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لا علاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمر بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لا مصيبة، وهكذا تتسق المفاهيم في إطارها الإيماني, إذًا (أحد) يكرم ويحب انطلاقًا من هذا القول الكريم، وكيف لا يكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في

_________

(1) بجرًا: شرًا.

(2) انظر: البداية والنهاية (4/ 53).

(3) انظر: صحيح البخاري، المغازي، رقم 4084.

(4) انظر: التاريخ الإسلامي (5/ 198).

ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته (1).

عاشرًا: الملائكة في أحد:

قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام (2). وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد (3) , قال تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ - بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 124، 125].

,

ثاني عشر: فضل الشهداء وما أعده الله لهم من نعيم مقيم:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات (1) , قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 169 - 171].

وقد جاء في تفسير الآيات السابقة ما رواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة, فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ) إلى قوله: (وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (2). وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» (3).

,

ثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين:

كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء, وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة، وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراؤهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبد الله الزَّبَعْرَى

_________

(1) انظر: تفسير الطبري (4/ 170).

(2) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص125، تفسير الطبري (4/ 269).

(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب أرواح الشهداء في الجنة (3/ 1887).

وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص (1).

وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويوبخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة، حتى لا يغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين.

ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على

ما نكلوا عنه (2). ومما قاله في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء:

إذا عَضَلٌ سيقت إلينا كأنها ... جداية شركٍ معلمات الحواجب (3)

أقمنا لهم طعنًا مبيرًا منكلاً ... وحُزناهم بالضرب من كل جانب (4)

فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب (5)

وعندما أخذ اللواء من الحارثية غلام حبشي لبني طلحة، كان لواء المشركين قد أخذه صؤاب من الحارثية وقاتل به قتالاً عنيفًا قتل على أثره فرمى حسان بن ثابت أبياته في هذا الموضوع فقال:

فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين رد إلى صؤاب

جعلتم فخركم فيه بعبد ... وألأم من يطا عفر التراب

ظننتم، والسفيه له ظنون ... وما إن ذاك من أمر الصواب (6)

ومما قاله كعب بن مالك - رضي الله عنه - في الرد على بعض شعراء قريش قال:

أبلغ قريشاً وخير القول أصدقُه ... والصدقُ عند ذَوِي الألباب مقبول (7)

أن قد قَتَلنا بقتلانا سَراتَكم ... أهل اللِّواء فَفيما يكثر القليل

ويومَ بدرٍ لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النصر ميكالٌ وجبريل

إن تقتُلُونا فدين الحقِ فطرتُنا ... والقَتل في الحق عند الله تفضيل

_________

(1) انظر: معين السيرة، ص252، 253.

(2) انظر: التاريخ الإسلامي (5/ 21).

(3) عضل: اسم قبيلة ابن خزيمة، الجداية: الصغير من أولاد الظباء.

(4) مبيرًا: مهلكًا، ومنكلاً: قامعًا لهم ولغيرهم.

(5) الجلائب: ما يجلب إلى الأسواق ليباع فيها.

(6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 87).

(7) الألباب: العقول.

وإن تَرَوا أمرنَا في رأيكم سَفَهاً ... فرأيُ من خالف الإسلام تضليل (1)

ومن أعجب ما قرأت في المعركة الإعلامية بين المسلمين والمشركين محاولة ضرار بن الخطاب قبل إسلامه أن يفتخر ببدر على اعتبار النصر كان لرسول الله والمهاجرين وفي ذلك قوله:

فإن تظفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر

وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء والموت حاضر

يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... وبُدْ عن علي وسط من أنت ذاكر

ويدعى أبو حفص وعثمان منهم ... وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر

أولئك لا من نتجت من ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر (2)

وهكذا حولها إلى لغة قبلية تقوم على مفاهيم جاهلية ولقد أجابه كعب - رضي الله عنه -:

وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر

وجمع بني النجار تحت لوائه ... يمسون في المأذى والنقع ثائر

إلى أن قال:

وكان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا وقالوا: إنما أنت ساحر

لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمه النار زاجر

كما أجابه بقوله:

وبيوم بدر إذ نرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد

وهو أفخر بيت قالته العرب كما قال صاحب العقد الفريد (2).

* * *

_________

(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/ 164.

(2) انظر: معين السيرة، ص252.

الفصل العاشر

أهم الأحداث ما بين أحد والخندق

المبحث الأول

محاولات المشركين لزعزعة الدولة الإسلامية

كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عضل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القراء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق.

أولاً: طمع بني أسد في الدولة الإسلامية:

بلغت النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عيونه المنبثة في الجزيرة العربية أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعا في خيراتها، وانتصارا لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تشكيل سرية في مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وأمَّر عليهم أبا سلمة بن عبد الأسد (1)، المخزومي وعقد له لواء، وقال له: «سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم» (2). فسار إليهم أبو سلمة في المحرم (3) فأغار على أنعامهم، ففروا من وجهه فأخذها، ولم يلق عناء في تشتيت أعداء الإسلام، وعاد إلى المدينة مظفرًا، وأبو سلمة يعد من السابقين إلى الإيمان ومن خيرة الرعيل الأول، وقد عاد من هذه الغزوة متعبًا، إذ نَغَر جرحه الذي أصابه في (أحد) فلم يلبث حتى مات (4).

ونلحظ في هذه السرية عدة أمور منها: الدقة في التخطيط الحربي عند

_________

(1) انظر: نضرة النعيم (1/ 313).

(2) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص162، 163.

(3) انظر: زاد المعاد (3/ 243).

(4) فقه السيرة للغزالي، ص274.

النبي صلى الله عليه وسلم حيث فرق أعدائه قبل أن يجتمعوا, فذهلوا لمجيء سرية أبي سلمة وهم يظنون أن المسلمين قد أضعفتهم وقعة أحد وأذهلتهم عن أنفسهم، فأصيب المشركون بالرعب من المسلمين، ووهنت عزيمتهم، وانشغلوا بأنفسهم عن مهاجمة المدينة، وتظهر دقة المسلمين في الرصد الحربي واختيارهم التوقيت الصحيح والطريق المناسب، حيث وصلوا إلى الأعداء قبل أن يعلموا عنهم أي شيء رغم بعد المسافة، وكان هذا هو أهم عوامل نجاح المسلمين في هذه السرية، وتركت هذه السرية في نفوس الأعداء شعورًا مؤثرًا على معنوياتهم، ألا وهو قناعتهم بقدرة المسلمين على الاستخفاء والقيام بالحروب الخاطفة المفاجئة تجعلهم يمتلئون رعبا منهم ويتوقعون الإغارة في أي وقت، وهذا الشعور حملهم على الاعتراف بقوة المسلمين، ومسالمتهم (1).

ثانيًا: خالد بن سفيان الهذلي وتصدي عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - له:

قام خالد بن سفيان الهذلي يجمع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقربًا إليها، ودفاعًا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعًا في خيرات المدينة, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلفه مهمة قتله (2). وهذا عبد الله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال - رضي الله عنه -: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني» وهو بعرنة فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله انعته حتى أعرفه، قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».

قال: فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، حين كان وقت العصر, فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: «أفلح الوجه» قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت»، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس».

قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول

الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم

_________

(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 23).

(2) انظر: نظرة النعيم (1/ 313).

القيامة، إن أقل الناس المختصرون (1) يومئذ يوم القيامة» فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا) (2).

وفي هذا الخبر فوائد ودروس وعبر منها:

1 - دقة الرصد الحربي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي للجانب الأمني أهميته؛ ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعد بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزم؛ وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار.

2 - فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الرجال: كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر (3). فقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان (4). وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه (جهينة) (5).

3 - المكافأة على هذا العمل أخروية: لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنيوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله (6) , فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر المتقين لا ينتظرون جزاء في

_________

(1) المختصرون: أو المتخصرون: والمراد هنا يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها.

(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص319.

(3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 27).

(4) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 50، 51).

(5) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص31.

(6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص159، 160.

الدنيا, ولو حصلوا على شيء من متاع الدنيا فإنه لا يعتبر عندهم شيئًا كبيرًا، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة, ولهذا كانت مكافأة عبد الله بن أنيس تلك العصا التي ستكون علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة، وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة (1).

4 - بعض الأحكام الفقهية: تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبًا كان له أن يصلي إيماء، وإذا كان طالبًا نزل إن كان راكبًا وصلى بالأرض راكعًا وساجدًا (2)، وكذلك قال ابن المنذر (3)، أما الشافعي فشرط شرطًا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين، وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء.

قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس (4)، وقد ذكر بدر العيني في عمدة القاري مذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبًا فلا بأس بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء, كل واحد منهما يصلي على دابته.

وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة, وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور.

وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا (5).

5 - جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, فعبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم, مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء (6).

وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه؛ لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه (7).

6 - من دلائل النبوة: فقد وصف صلى الله عليه وسلم خالد بن سفيان الهذلي لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن

_________

(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 29).

(2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص160.

(3) المصدر نفسه، ص160.

(4) معالم السنن للخطابي (2/ 42) حاشية واحد على سنن أبي داود.

(5) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/ 263).

(6) انظر: السرايا والبعوث، ص161.

(7) انظر: عون المعبود، العظيم آبادي (4/ 129).

يراه حتى أن ابن أنيس عندما رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبًا كما وقع في رواية الواقدي: (يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته» (1) وقد وجد عبد الله بن أنيس خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله: فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله (2).

7 - ما قاله عبد الله بن أنيس من الشعر في قتله لخالد الهذلي:

تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد

تناولته والظعن خلفي وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد المهند

أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد

وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد

وكنت إذا هم النبي بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد (3)

ثالثًا: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع:

اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو (4) , فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام) (5) , ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي (6) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة (7).

وهكذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة (8)، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم

_________

(1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 532).

(2) انظر: البيهقي, دلائل النبوة (4/ 41) من رواية موسى بن عقبة.

(3) انظر: البداية والنهاية (4/ 143).

(4) البخاري رقم 4086.

(5) انظر: مغازي الواقدي (1/ 354، 355).

(6) المصدر نفسه (1/ 354، 355).

(7) انظر: نضرة النعيم (1/ 314).

(8) البخاري رقم 4086.

الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر (1) , وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:

ما عِلَّتي وأنا جلد نابل ... النبل والقوس لها بلابل (2)

تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل

وكل ما حمّ الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل

إن لم أقاتل فأمي هابل (3)

فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه, فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا وكان يقول وهو يقاتل:

أنا أبو سليمان ومثلي رامي ... ورثت مجدًا معشرًا كرامًا

ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشُّهيد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين: الحارث، ومسافعًا، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف (4) رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان, فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته, فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه (5).

لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين, فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم, وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش (6) , وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ (7).

فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد

_________

(1) انظر: نضرة النعيم (1/ 314).

(2) بلابل: جمع بلبلة وبلبال، وهو شدة الهم.

(3) انظر: مغازي الواقدي (1/ 355).

(4) المصدر نفسه (1/ 355).

(5) انظر المغازي للواقدي (1/ 356).

(6) انظر: نضرة النعيم (1/ 314).

(7) جوامع السير لابن حزم، ص176.

قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو (1) , ثم قال: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا (2) ولا تبق منهم أحدًا) ثم قال:

لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهم مبدي العداوة جاهد ... عليَّ لأني في وثاق بمضيع

وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس (3) مطمعي

وقد خيروني الكفر، والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت إني لميت ... وإن إلى ربي إيابي ومرجعي

ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا ... على أي شق كان في الله مضجعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع

فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي (4)

فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه (5) , ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلا، فذهب به ودفنه (6). وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.

_________

(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 399).

(2) أي متفرقين في القتل واحدًا بعد واحد من التبديد.

(3) ياس: لغة في يئس.

(4) انظر: زاد المعاد (3/ 245).

(5) انظر: زاد المعاد (3/ 245).

(6) المصدر السابق (3/ 246).

فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا (1).

وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده، وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها:

1 - فوائد ذكرها ابن حجر: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك, وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.

وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًّا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له من حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة, ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه (2).

2 - بين التسليم والقتال حتى الموت: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن مترقبًا الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد، ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم, لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه (3).

وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين بابًا واسعًا في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذا طلبوا مظلومين, أو اختيارهم القتال حتى الموت, ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية (4).

3 - تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم: وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر

_________

(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 400).

(2) انظر: فتح الباري (7/ 444، 445).

(3) انظر: السيرة للبوطي، ص188، 189.

(4) انظر: الأساس في السنة لسعيد حوى (2/ 622).

المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها, ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموسى لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة (1).

4 - الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد: عندما استعار خبيب موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله (2).

إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15].

إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة (3).

وفي قول خبيب - رضي الله عنه -: (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة (4). وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم, وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم (5).

5 - حب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة: إن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر, ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم؛ فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر (6).

ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في

_________

(1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، ص234.

(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص320 رواية غريبة.

(3) انظر: معين السيرة، ص259.

(4) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص153.

(5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 38).

(6) انظر: حقوق النبي على أمته، د. محمد التميمي (1/ 314)

أهلي (1).

وهذا الحب من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (2).

6 - مما قاله حسان في ذم بني لحيان: تأثر المسلمون بمقتل أصحاب الرجيع تأثرًا بالغًا، وكان حسان - رضي الله عنه - بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه، ومن يستحق المدح مدحه, فقال في هجاء بني لحيان:

إن سرك الغدر صرفًا لا مراج له ... فأت الرجيع فسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم ... فالكلب والقرد والإنسان مثلان

لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم ... وكان ذا شرف فيهم وذا شان (3)

رابعًا: طمع عامر بن الطفيل في المسلمين وفاجعة بئر معونة (4 هـ)

:

عامر بن الطفيل زعيم من زعماء بني عامر كان متكبرًا متغطرسًا، طامعًا في الملك، وكان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف تكون له الغلبة على الجزيرة العربية؛ ولذلك جاء هذا المشرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك السهل، ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك من بعدك, أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء (4). فرفض صلى الله عليه وسلم تلك المطالب الجاهلية، وجاء إلى المدينة ملاعب الأسنة سيد بني عامر عم عامر بن الطفيل وقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني لا أقبل هدية من مشرك، فقال ملاعب الأسنة: فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له المعتق ليموت أو أعتق الموت, فاستجاش (5) عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية (6).

ومن حديث أنس - رضي الله عنه - قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء

_________

(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص154.

(2) البخاري، كتاب الإيمان (1/ 72) رقم 21.

(3) انظر: البداية والنهاية (4/ 70)

(4) البخاري، رقم 4091 يقصد بألف أشقر وألف شقراء الخيل.

(5) استجاش: طلب لهم الجيش وجمعه.

(6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص322.

فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس, من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت وربِّ الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا» (1).

وفي هذه الحادثة المؤلمة، والفاجعة المفجعة دروس وعبر وفوائد منها:

1 - لا بد للدعوة من تضحيات: رأينا كيف غدر حلفاء هذيل بأصحاب الرجيع من القراء، الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم معلمين ومفقهين في غزوة الرجيع، وها هنا عامر بن الطفيل يغدر بالسبعين القراء، الذين استنفروا للدعوة إلى الله، والتفقيه في دين الله في مجزرة رهيبة دنيئة، وذلك في يوم بئر معونة.

وقد تركت هذه المصائب في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم آثارًا غائرة، بعيدة الأعماق حتى إنه لبث شهرًا يقنت في صلاة الفجر، داعيًا على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله (2). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: (سمع الله لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية, ويؤمِّن من خلفه (3) , قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت (4).

لكن ذلك لم يفت في عضد المسلمين، ولا فتر من حميتهم في الدعوة إلى الله, ولا كسر من عزمهم في مواصلة الدعوة وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يمكن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات واسترخاص التضحيات من أجلها.

إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة تلفها الكتب وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن.

إن حادثتي الرجيع وبئر معونة تبصرنا بالمسئولية الضخمة عن دين الله، والدعوة إليه، ووضعت نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام من أجل عقيدتهم

_________

(1) مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد رقم 677.

(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ص151.

(3) انظر: سنن أبي داود في الصلاة باب القنوت في الصلوات: 1443.

(4) البخاري، رقم 4088.

ودينهم ومرضاة ربهم.

إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة: دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه, وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة (1).

2 - فزت ورب الكعبة: صاحب الكلمة حرام بن ملحان - رضي الله عنه - فعندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة) (2)؛ إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجرًا يتأثر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لا تصفر وجوههم فزعًا من الموت، وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة (3). وهذا المنظر البديع الرائع الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: فزت ورب الكعبة، وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: إن مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي: ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببًا لإسلامه (4).

وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟

وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في قوله: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» (5).

فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل, لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه مكافأة بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا بمن فيها، فعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه» (6).

_________

(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص152.

(2) البخاري في المغازي رقم 4091.

(3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 50).

(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص243، 244، وابن هشام (3/ 207).

(5) انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني (2/ 132).

(6) المصدر نفسه (2/ 129).

هذا بالإضافة إلى الوسام المميز المشرف الذي يأتي به يوم القيامة، وجرحه كهيئة يوم جُرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك (1).

كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم (2) , قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].

3 - عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للغيب: إن حادثتي بئر معونة والرجيع وغيرهما تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، كما دلت على ذلك أدلة أخرى منها قوله عز وجل: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188].

فالله عز وجل وحده عالم الغيب، والرسل والملائكة لا يعلمون عن الغيب إلا ما علمهم ربهم عز وجل (3): (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26].

4 - الوفاء بالعهد: وقع عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - أسيرًا في بئر معونة، ولما علم عامر ابن الطفيل أنه من مضر أطلقه، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فلما خرج عمرو قاصدا المدينة نزل في طريقه في ظلل والتقى برجلين من بني عامر، وكان معهم عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقال: من بني عامر، فأمهلهما، حتى ناما، عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين لأدينَّهما» (4). وهذا موقف رفيع فقد ودى صلى الله عليه وسلم ذينك الرجلين العامريين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري لكونهما يحملان عقدًا منه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤاخذهما بما فعل بعض أفراد قومهما، وهذا يمثل منتهى القمة في الوفاء بالعهود.

قد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتبر عمل عمرو بن أمية جزاء من الانتقام الذي ينبغي أن يواجه به المجرمون المعتدون، ولكن ما ذنب الأبرياء حتى يؤخذوا بجريرة المعتدين من قومهم؟.

_________

(1) المصدر السابق (2/ 128).

(2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص245.

(3) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، ص237.

(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 206).

إن التوجيهات الإسلامية الرفيعة دفعت بالمسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الرقي الأخلاقي الذي لا نظير له في دنيا الناس (1).

5 - الصحابي الجليل عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -: لما قُتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو ابن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وُضع (2).

6 - حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يحرض على قتل عامر بن الطفيل: كان حسان - رضي الله عنه - من رجالات المؤسسة الإعلامية، فكان يشن الحرب النفسية على الأعداء، وكان بجانبه كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- فلم يتركوا حدثا من أحداث السيرة إلا قالوا فيه شعرًا، وكل قصيدة للكافرين يردون عليها بقصائد، وقد علمنا ما أحدثه شعر حسان في طرد كعب بن الأشرف اليهودي، وكان صلى الله عليه وسلم يتعهد شعراء الدولة الإسلامية ويشجعهم على خوض هذا الباب من الجهاد، فعلى المسلمين المعاصرين قادة وزعماء وعلماء وفقهاء وجماعات أن يرعوا شعراءهم ويشجعوهم لخوص هذا الجهاد العظيم (3).

ولما بلغ حسان خبر أصحاب بئر معونة نظم أبياتًا تناقلتها الركبان يحث فيها ربيعة بن عامر ملاعب الأسنة ويحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمة أبي براء:

ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحادثان بعدي

أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ما جد حكم بن سعد

بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد

تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد (4)

فلما بلغ ربيعة بن أبي براء هذا الشعر، وكان الشعر عندهم أوجع من رشق النبل، وقطع السيوف للرقاب، وطعن النحور بالرماح، قام ربيعة بأخذ ثأر أبيه فضرب عامر بن الطفيل ضربة أشواه بها -أي لم تصب منه مقتلا- فوثب عليه قومه، وقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت، وإن عشت فسأرى رأيي فيما أتى إليَّ (5). ومما قاله حسان وهو يبكي قتلى بئر معونة، ويخص المنذر بن عمرو - رضي الله عنه -:

_________

(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 50).

(2) البخاري في المغازي رقم 4093.

(3) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (2/ 656).

(4) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 64).

(5) المصدر نفسه (4/ 64).

على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحَّا غير نزْر (1)

على خيل الرسول غداة لاقوا ... مناياهم ولاقتهم بقدْر (2)

أصابهم الفناء بعقد قوم ... تُحُوّن عقد حبلهم بغدر (3)

فيا لهفي لمنذر إذ تولى ... وأعنق في منيته بصبر (4)

7 - مصير عامر بن الطفيل العامري: استجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فقد دعا على عامر بن الطفيل فقال: «اللهم اكفني عامرًا» (5) فأصيب الطاغية بمرض عضال وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: «غدة كغدة البعير» (6) وسماه صلى الله عليه وسلم بـ «الطاعون» , وهو وصف دقيق للطاعون الدبلي الذي يتميز (بارتفاع درجة الحرارة، وتضخم العقد الليمفاوية في منطقة الأُرب وتحت الإبط, وكذا تضخم الطحال) (7) وهو ما أصيب به عامر بن الطفيل حتى أصبح حبيسًا في بيت امرأة من قومه.

لقد أصيب عامر بن الطفيل وتلاشت أحلامه بالتملك على أهل المدن في الجزيرة العربية, أو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تلك الجيوش التي هدد النبي صلى الله عليه وسلم بها، فقد تحولت إلى آلام تحبسه في بيت امرأة قد ولى عنه الناس و



كلمات دليلية: