withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم_7260

ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم


الفصل التاسع والعشرون ما حدث عند مولده

صلى الله عليه وسلم وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ، وَمَا حَكَتْهُ أُمُّهُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ العجائب «1» ..

وكونه «2» رافعا رأسه عند ما وضعته شاخصا ببصره الى السماء وما «3»

__________

(1) اشارة إلى ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أمه صلى الله تعالى عليه وسلم لما حملت به أتاها آت في منامها بعد ستة أشهر وقال لها: «يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمي شأنك» فلما أخذني ما يأخذ النساء لم يعلم بي أحد وإني لوحيدة في منزلي في طرفه فسمعت وجبة عظيمه وأمرا عظيما هالني فرأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل ما أجد ثم التفت فاذا نور غالب ونسوة طوال حولي فقلت من أين علمن بي وفي رواية «انهن قلن نحن آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران «وهؤلاء من الحور العين» فلبينا أنا كذلك وإذا أنا بديباج أبيض بين السماء والأرض وقائل يقول خذاه من أعين الناس ورجال في الهواء بأيديهم أباريق من فضة وقطعة من الطير مناقيرها من زمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، فرأيت علما بالمشرق وعلما بالمغرب فوضعته صلّى الله عليه وسلم وكانت قريش مجدبة قأخصبت الى غير ذلك مما ذكروه

(2) كما رواه البيهقي عن الزهري مرسلا.

(3) كما رواه أحمد والبيهقي عن العرباض وأبي أمامة.

رَأَتْهُ مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ «1» وَمَا «2» رَأَتْهُ إِذْ ذَاكَ أُمُّ عُثْمَانَ «3» بْنِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ تَدَلِّي النُّجُومِ وَظُهُورِ النُّورِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ حَتَّى مَا تَنْظُرُ إِلَّا النُّورَ وَقَوْلِ «4» الشِّفَاءِ «5» أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَمَّا سَقَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيَّ وَاسْتَهَلَّ «6» سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ «7» ... وَأَضَاءَ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الرُّومِ وَمَا «8» تَعَرَّفَتْ به حليمة «9» وزوجها «10»

__________

(1) وحديث النور الذي خرج معه أضاء له جميع الأرض رواه جماعة صححه ابن حبان والحاكم وعن اسحق بن عبد الله أن امه صلّى الله عليه وسلم قالت لما ولدته: «خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام» قال ابن رجب رحمه الله تعالى «وهو اشارة إلى نور هدايته الذي محا ظلمة الشرك كما قال تَعَالَى: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مبين» .

(2) رواه البيهقي والطبراني عن ابنها عنها.

(3) فاطمة بنت عبد الله وعثمان ابنها هو أبو عبد الله بن بشير الثقفي من أكابر الصحابة وله فتوحات وتولى قضاء البصرة وروى عن أمه أنها شهدت مولده صلّى الله عليه وسلم

(4) رواه أبو نعيم في الدلائل عن عبد الرّحمن بن عوف عن أمه الشفاء رضي الله تعالى عنها.

(5) بشين معجمة مفتوحة وفاء مشددة ومد وقيل بكسر الشين وهي بنت عوف بن عبد الزهرية من المهاجرين والدة عبد الرّحمن وبنت عم أبية عوف بن الحارث وفي الاستيعاب أنها اخت عبد الرّحمن بن عوف وحكاه عن الزبير قال وقد قيل انها أمه.

(6) استهل: بتشديد اللام أي رفع صوته بأن عطس.

(7) أي إن الملائكة شمتت النبي صلّى الله عليه وسلم.

(8) رواه ابن اسحق الطبراني وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثت عن حليمة قال الذهبي جيد الاسناد.

(9) حليمه بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعته صلّى الله عليه وسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يكرمها وقد دفنت بالبقيع.

(10) الحارث بن عبد العزى زوج حليمة السعدية يكنى أبا ذؤيت وأسلم رضي الله تعالى عنه وحسن اسلامه.

ظئراه «1» من بركته وورود لبنها له ولبن شارفها «2» وخصب «3» غنمها وَسُرْعَةِ شَبَابِهِ وَحُسْنِ نَشْأَتِهِ.

وَمَا «4» جَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ مِنَ ارْتِجَاجِ إِيوَانِ «5» كِسْرَى «6» ، وسقوط شرفاته «7» ، وغيض «8» بحيرة «9»

__________

(1) ظئراه: عطف بيان أو بدل من حليمة وزوجها وهو تثنية ظئر وهو المرضعة في الأصل وتطلق على الأب من الرضاعة كما هنا والظئر مشترك معنوي لأنه من ظأر إذا عطف فلا إشكال في تثنيته فإنه لبس نحو عينين مع أنه مسموع أيضا.

(2) شارفها: الشارف الناقة المسنة والغالب ان لبنها لا يدر.

(3) خصب: بكسر الخاء المعجمة أي رعيها في مكان مخصب في سنة مجدبة أو هو مجاز عن سمنها وكثرة لبنها وكل ذلك ببركته صلّى الله عليه وسلم لكونه عندها. وأصل معنى الخصب بكسر الخاء المعجمة المكان الكثير العشب وأول من أرضعته صلّى الله تعالى عليه وسلم ثويبة جارية أبي لهب ثم حليمة رضي الله تعالى عنهما.

(4) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وابن السكن في معرفة الصحابة عن مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه والذي في مسلم وصححوه أنه ولد نهارا بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وجمع بينهما بأن تلك الحصة قد تعد ليلا لقربها منه وبعضهم يرى أن اليوم من طلوع الشمس والحاصل أنه لا ينافي ما تقرر من ولادته نهارا الحديث المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقرير صححه من دلالته على أنه ولد ليلا فإن زمان النبوة صالح للخوارق ويجوز أن يسقط النجوم نهارا أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل كما تقرر.

(5) ايوان: بكسر الهمزة وهو العقد.

(6) تقدمت ترجمته في ص «631» رقم «8» .

(7) شرفاته: جمع شرفة بضمتين ويجوز سكونها وفتحها كما قاله البرهان وهو جمع قلة وضعت موضع كثرة لأنهن أربع عشرة ولعل الخاتمة في عدد لها عن الكثرة إلى القلة تحقيرا لها لخراب مآلها.

(8) غيض: بفتح العين المعجمة وسكون الياء التحتية وضاد معجمة مصدر غاض يغيض إذ أقل أو ذهب يقال غاض الماء وغاضه الله وأغاضه يتعدى ولا يتعدى.

(9) بحيرة: تصغير بحرة وهي البركة الكبيرة التي كثرة ماؤها ويطلق على الأرض الواسعة والمراد الأول.

طَبَرِيَّةَ «1» وَخُمُودِ نَارِ فَارِسَ، وَكَانَ لَهَا أَلْفُ عَامٍ لَمْ تَخْمَدْ «2» ، وَأَنَّهُ «3» كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ «4» وَآلِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ شَبِعُوا وَرَوُوا «5» فَإِذَا «6» غَابَ فَأَكَلُوا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَشْبَعُوا «7» وَكَانَ سَائِرُ «8» وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ

__________

(1) طبرية: بلدة بالشام معروفة من الأرض المقدسة بينها وبين المقدس مرحلتين وبحيرتها عظيمة.

(2) تخمد: بضم الميم وفتحها لأنه ورد من باب نصر وعلم. كسرى وأتباعه يعبدون هذه النار ويرمون فيها المسك والعنبر ونحوه ولهم بها فتنة عظيمة إذ لم تزل في تأجج.

(3) رواه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد واسماعيل بن أبي حبيبة في حديث طويل دخل حديث بعضهم في حديث بعض.

(4) تقدمت ترجمته في ص «560» رقم «11» .

(5) بضم الواو.

(6) وفي نسخة (وإذا) .

(7) وزيد في نسخة (ولم يرووا) بفتح الواو ولعل النسخة الأولى مبنية على الاكتفاء أو على تغليب شبع الطعام على ري الماء.

(8) قال الحلبي: «استعمل القاضي عياض رحمه الله تعالى سائر بمعنى جميع، والشيخ عمرو بن الصلاح أنكر كون سائر بمعنى جميع وقال: ان ذلك مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشاههم من الخاصة» قال: الزهري في تهذيبه: «أهل اللغة اتفقوا على ان سائر بمعنى الباقي» وقال الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص: «ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يستعملون سائر بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي واستدل بقصة غيلان لما أسلم على عشر نسوة وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن انتهى. وقال ابن الصلاح ولا التفات الى قول صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم فانه ممن لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط وهذا من وجهين أحدهما تفسير ذلك بالجميع وثانيهما أنه ذكره في سر وحقه أن يذكره في سار وقال النووي: «وهي لغة صحيحة ذكرها غير الجوهري ولم ينفرد بها وافقه عليها الجواليقي في اول شرح أدب الكاتب لابن قتيبة الى آخر كلام النووي في تهذيبه انتهى كلام الحلبي. وتبعه الدلجي في تفسيره السائر بالجميع وقال صاحب القاموس «السائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات، او قد يستعمل له فقد ضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه فقال: «بطني عطري وسائري ذري انتهى ولا-

يُصْبِحُونَ شُعْثًا «1» وَيُصْبِحُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَقِيلًا «2» دَهِينًا «3» كَحِيلًا «4» قَالَتْ «5» أُمُّ أَيْمَنَ «6» حَاضِنَتُهُ «7» : ما رأيته صلّى الله عليه وسلم شكى جوعا وَلَا عَطَشًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا.

وَمِنْ «8» ذَلِكَ حِرَاسَةُ السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ «9» وَقَطْعِ رَصْدِ «10» الشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهِمِ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ.

وَمَا «11» نَشَأَ عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِ الْأَصْنَامِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَحَمَاهُ حَتَّى فِي سَتْرِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ «12» عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَخَذَ إِزَارَهُ لِيَجْعَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ «13» لِيَحْمِلَ عليه الحجارة

__________

- يخفى أنه يحتمل كلام الاعرابي أن يكون السائر بمعنى الباقي بل هو المتبادر على ما هو الظاهر والتحقيق أن السائر بمعنى الباقي حقيقة وبمعنى الجميع مجازا وأنه مأخوذ من السؤر مهموزا هـ والبقية الملائمة لمعنى الباقي بخلاف السور معتلا وهو سور البلد المناسب لمعنى الجميع وبهذا يرتفع الخلاف لمن ينظر بعين الانصاف.

(1) شعثا: جمع أشعث وهو المغبر المتغير لونه كما هو عادة الاطفال اذا قاموا من نومهم في مضاجعهم.

(2) صقيلا: أي رائق اللون غير متغير البشرة فهو استعارة من المرآة الصقيلة

(3) دهينا: اي كأن وجهه دهن بما كانوا يدهنون به حتى تبرق وجوههم.

(4) كحيلا: أي مكحل العين وكل ذلك من غير صنع لأحد.

(5) رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل.

(6) تقدمت ترجمتها في ص «158» رقم «5» .

(7) حاضنته: أي مربيته ومرضعته وسميت حاضنة لأنها تجعل الولد في حضنها.

(8) كما قال الله تعالى حكاية عنهم: «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا» سورة الجن آية (8)

(9) الشهب: وهي شعل النار المرئية في نجوم السماء جمع شهاب.

(10) رصد: أي ترصدهم وانتظارهم ظهور شيء اليهم ونزول خبر عليهم.

(11) كما روى البيهقي أن زيد بن حارثة مر بصنم فتمسح به فقال له صلّى الله عليه وسلم لا تمسه ونهاه عن القرب منه كما نهى ابراهيم عليه الصلاة والسلام آزر عنها.

(12) رواه الشيخان عن جابر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم.

(13) عاتقه: وهو ما بين المنكب والعنق.

وَتَعَرَّى فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى رَدَّ إِزَارَهُ عَلَيْهِ.. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ:

مَا بَالُكَ فَقَالَ: إني نُهِيتُ عَنِ التَّعَرِّي.

وَمِنْ ذَلِكَ «1» إِظْلَالُ اللَّهِ لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سَفَرِهِ وَفِي رِوَايَةٍ «2» أَنَّ خَدِيجَةَ «3» وَنِسَاءَهَا رَأَيْنَهُ لَمَّا قَدِمَ وَمَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِمَيْسَرَةَ «4» فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ «5» أَنَّ حَلِيمَةَ «6» رَأَتْ غَمَامَةً تُظِلُّهُ وَهُوَ عِنْدَهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَمِنْ ذَلِكَ «7» أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مبعثه تحت شجرة يابسة فاعشو شب مَا حَوْلَهَا وَأَيْنَعَتْ هِيَ فَأَشْرَقَتْ وَتَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَغْصَانُهَا بِمَحْضَرِ مَنْ رَآهُ وَمَيْلُ فَيْءِ «8» الشَّجَرَةِ إِلَيْهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُ وَمَا ذكر «9» من أنه كان لاظل لشخصه فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا..

__________

(1) رواه الترمذي والبيهقي.

(2) لابن سعد عن نفيسة بنت منبه.

(3) تقدمت ترجمتها في ص «260» رقم «5» .

(4) بفتح السين وضمها هو غلام خديجة الذي بعثته مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تجارتها الى الشام قال الحلبي: «لا أعلم له ذكرا في الصحابة وكان توفي قبل النبوة وإلا فلو أدركها لأسلم» .

(5) رواه الوافدي وابن سعد وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس.

(6) تقدمت ترجمتها آنفا.

(7) لم يذكر من رواه من المحدثين ولم يخرجه السيوطي.

(8) فيء: الفيء هو الظل مطلقا او بعد الظهيرة لأنه من فاء إذا رجع.

(9) ذكره الترمذي في نوادر الاصول عن عبد الرّحمن بن قيس وهو مطعون عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد وهو مجهول عن ذكوان.

وَأَنَّ «1» الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثِيَابِهِ وَمِنْ ذَلِكَ «2» تَحْبِيبُ الْخَلْوَةِ إِلَيْهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ ثُمَّ «3» إِعْلَامُهُ بِمَوْتِهِ وَدُنُوِّ أَجَلِهِ وَأَنَّ قَبْرَهُ «4» فِي الْمَدِينَةِ وَفِي «5» بَيْتِهِ وأنّ بين بيته وبين منبره رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ.

وَتَخْيِيرُ «6» اللَّهِ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ «7» عَلَيْهِ حَدِيثُ الْوَفَاةِ مِنْ كَرَامَاتِهِ وَتَشْرِيفِهِ وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَسَدِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ فِي بَعْضِهَا.. وَاسْتِئْذَانُ مَلَكِ الموت عليه.. ولم يستأذن على غره قبله وندائهم «8» الذي سمعوه: «لا تنزعوا القميص عنه عند غسله» وما روي «9»

__________

(1) قال الدلجي لا علم لي بمن رواه ولم يخرجه السيوطي وقال الحلبي نقل أيضا بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن ابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط قلت فعلى جسده بالاولى كما لا يخفى.

(2) رواه الشيخان عن عائشة.

(3) رواه الشيخان وغيرهما من طرق.

(4) رواه أبو نعيم في الدلائل عن معقل بن يسار ولفظه «المدينة مهاجري ومضجعي من الارض.

(5) روى البيهقي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن قبره يكون في بيته.

(6) رواه البيهقي في الدلائل عن عائشة.

(7) رواه الشافعي في حلقه والبيهقي في دلائله والعدني في مسنده.

(8) رواه أبو داود والبيهقي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأخرجه البيهقي عن بريدة رضي الله تعالى عنها.

(9) كما رواه البيهقي في دلائله يشير الى ما روي عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه أنه قال لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمعوا صوتا ولم يروا شخصا وهو يقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة وان في الله عز وجل لعزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك

مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ «1» وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بَيْتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَبَرَكَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ. كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ «2» بعمه «3» وتبرك غير واحد بذريته..

__________

- ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا واعلموا ان المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام كما رواه البيهقي وابن أبي حاتم وقال في مرأة الزمان أن المعزي هو جبريل لا الخضر ورواه العراقي في تخريج أحاديث الاحياء بلفظ آخر. وأنكر النووي وجوده في كتب الحديث وإنما ذكره الاصحاب بل رواه الحاتم في المستدرك من حديث أنس ولم يصححه ولا يصح ورواه الطبراني في الاوسط وإسناده ضعيف جدا وابن أبي الدنيا عن علي بسند واه أيضا وذكره الشافعي في الام من غير ذكر الخضر انتهى وانما قال الحاكم وغيره إنه غير صحيح لحديث «انه لا يبقى على وجه الارض ممن هو عليها أحد على رأس مئة سنة من تلك الليلة» وأراد به انخرام كل أحد فيشمل الخصر وغيره يعني به انكار وجوده وسئل عنه ابن حجر رحمه الله تعالى فقال سنده ضعيف ولو قدر ثبوته لم يخالف الحديث المذكور لانه يخص من عمومه ان صح ما ينقل عن بعض الصالحين من اجتماعه بالخضر إلا أنا لم نجد خبرا صحيحا يقتفى أنه خضر موسى عليه الصلاة والسلام والعلم عند الله والحاصل انهم قد اختلفوا في وجوده فالصوفية يثبتون وجوده وان منهم من رآه والمحدثون ينكرونه وبعضهم توقف فيه كابن حجر ومنهم من شدد النكير على من أثبت حياته كصاحب مرآة الزمان حتى صنف في ابطاله كتابا مستقلا سماه «عجالة المنتظر في شرح حال الخضر» ولكنا لا ننكر ما قاله المشايخ واختلفوا فيه هل هو نبي او ملك او عبد صالح من أولياء الله تعالى. والخضر تقدمت ترجمته في ص «523» رقم «1» .

(1) كما رواه البحاري.

(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .

(3) أي العباس بن عبد المطلب وتقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» .

الفصل الثّلاثون خاتمة وتذييل

قال القاضي أبو الفضل رحمه قَدْ أَتَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى نُكَتٍ «1» مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَاضِحَةٍ، وَجُمَلٍ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ مُقْنِعَةٍ، فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْكِفَايَةُ وَالْغُنْيَةُ، وَتَرَكْنَا الْكَثِيرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا وَاقْتَصَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ عَلَى عَيْنِ الْغَرَضِ، وَفَصِّ «2» الْمَقْصِدِ، وَمِنْ كَثِيرِ الْأَحَادِيثِ وَغَرِيبِهَا عَلَى مَا صَحَّ وَاشْتَهَرَ إِلَّا يَسِيرًا مِنْ غَرِيبِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مَشَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ.

وَحَذَفْنَا الْإِسْنَادَ فِي جُمْهُورِهَا طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَبِحَسْبِ هَذَا الْبَابِ لَوْ تُقُصِّيَ «3» أَنْ يَكُونَ ديوانا «4» جامعا يشتمل على مجلّدات

__________

(1) نكت: بضم ففتح أي لطائف وشرائف.

(2) فص: مثلث الفاء يقال أتى بالامر من فصه أي من أصله قال الشاعر:

ورب امرىء تزدريه العيون ... يأتيك بالامر من فصه

وفص الخاتم ما يزين به من الجواهر ويقال نقل الحديث بفصه اذا استوفاه والمراد هنا أي زبدة المقصود.

(3) تقصي: مبني للمجهول بقاف وصاد مهملة أي استوفي وبلغ أقصاه ونهايته.

(4) ديوانا: أي كتابا مستقلا مدونا.

عِدَّةٍ. وَمُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرُ مِنْ سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا كَثْرَتُهَا وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نَبِيِّنَا مِثْلُهَا أَوْ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهَا..

وَقَدْ نَبَّهَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ.. فَإِنْ أَرَدْتَهُ فَتَأَمَّلْ فُصُولَ هَذَا الْبَابِ وَمُعْجِزَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَقِفْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شاء الله.

وَأَمَّا كَوْنُهَا كَثِيرَةً فَهَذَا الْقُرْآنُ وَكُلُّهُ مُعْجِزٌ وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ أئمة المحققين سورة «1» «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» » أَوْ آيَةٌ فِي قَدْرِهَا.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ- كَيْفَ كَانَتْ- مُعْجِزَةً.

وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ- وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «3» » فَهُوَ أَقَلُّ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَعَ مَا يَنْصُرُ هَذَا مِنْ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ يَطُولُ بَسْطُهُ.. وَإِذَا كَانَ هَذَا فَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ على عدد بعضهم «4» وعدد

__________

(1) وهي أقصر سورة في القرآن.

(2) سورة الكوثر آية رقم «1» .

(3) سورة يونس آية رقم «28» .

(4) قال الداني رحمه الله عدد حروف القرآن سبعة وتسعون ألفا وأربعمئة وتسع وثمانون كلمة وحروفه ثلاثمائة الف وثلاثة وعشرون الفا وقيل ثلاثمائة الف وأحد وعشرون الفا أو خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا وقيل انه الصواب لا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى والسبب في الاختلاف أن الكلمة والحرف لهما اطلاقات.

كلمات «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» عشر كلمات فتجزيء القرآن على نسبة عدد «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» أَزِيدُ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ جُزْءٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ إِعْجَازُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِوَجْهَيْنِ:

طَرِيقُ بَلَاغَتِهِ وَطَرِيقُ نَظْمِهِ فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مُعْجِزَتَانِ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

ثُمَّ فِيهِ وُجُوهُ إِعْجَازٍ أُخَرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِعُلُومِ الْغَيْبِ.. فَقَدْ يَكُونُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ.. كُلُّ خَبَرٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ مُعْجِزٌ.. فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ كَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ وُجُوهُ الْإِعْجَازِ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تُوجِبُ التَّضْعِيفَ..

هَذَا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ.. فَلَا يَكَادُ يَأْخُذُ الْعَدُّ مُعْجِزَاتِهِ.. وَلَا يَحْوِي الْحَصْرُ بَرَاهِينَهُ..

ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.. وَعَمَّا دَلَّ عَلَى أَمْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى جُمَلِهِ يَبْلُغُ نَحْوًا مِنْ هَذَا- الْوَجْهُ الثَّانِي وُضُوحُ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَانَتْ بِقَدْرِ هِمَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَبِحَسْبِ الْفَنِّ الَّذِي سَمَا فيه قرنه.. فلما كان زمن مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ

مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ. فَجَاءَهُمْ مِنْهَا مَا خَرَقَ عَادَتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِمْ وَأَبْطَلَ سِحْرَهُمْ.

وَكَذَلِكَ زَمَنُ عِيسَى أَغْنَى مَا كَانَ الطِّبُّ وَأَوْفَرُ مَا كَانَ أَهْلُهُ فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ «1» وَالْأَبْرَصِ دُونَ مُعَالَجَةٍ وَلَا طِبٍّ وَهَكَذَا سَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْلَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ وَعُلُومِهَا أربعة.. البلاغة والشعر والخبر «2» والكهانة «3» .

فأنزل الله عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْخَارِقَ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فُصُولٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَمَطِ كَلَامِهِمْ.. وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ.. الَّذِي لَمْ يهتدوا في المنظوم الى طريفه وَلَا عَلِمُوا فِي أَسَالِيبِ الْأَوْزَانِ مَنْهَجَهُ وَمِنَ الأخبار عن الكوائن «4» والحوادث والاسرار والمخبئآت وَالضَّمَائِرِ فَتُوجَدُ عَلَى مَا كَانَتْ وَيَعْتَرِفُ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَصِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَى العدو.

__________

(1) الاكمه: الذي ولد أعمى مطموس العين.

(2) الخبر عمن سلف وما لهم من الوقائع والايام والانساب والمنازل.

(3) الكهانة: بفتح الكاف مصدر وبكسرها صناعته وحرفته وهي معاناة علم المغيبات بتلقيها عن الجن.

(4) الكوائن: عما سيكون في المستقبل من المغيبات جمع كائن.

فَأَبْطَلَ الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً وَتَكْذِبُ عَشْرًا. ثُمَّ اجْتَثَّهَا «1» مِنْ أَصْلِهَا بِرَجْمِ الشُّهُبِ «2» ، وَرَصْدِ «3» النُّجُومِ..

وَجَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَأَنْبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ مَا يَعْجِزُ مَنْ تَفَرَّغَ لِهَذَا الْعِلْمِ عَنْ بَعْضِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَسَطْنَاهَا وَبَيَّنَّا الْمُعْجِزَ فِيهَا ثُمَّ بَقِيَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْجَامِعَةُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ إلى الفصول الأخرى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ ثَابِتَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي لَا يَخْفَى وُجُوهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ إِلَى مَا أَخْبَرَ به من العيوب عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ.. فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ وَلَا زمن إلا ويظهر فِيهِ صِدْقُهُ بِظُهُورِ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ فَيَتَجَدَّدُ الْإِيمَانُ وَيَتَظَاهَرُ الْبُرْهَانُ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، للمشاهدة زِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ، وَالنَّفْسُ أَشُدُّ طُمَأْنِينَةً إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْهَا إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ..

وَإِنْ كَانَ كُلٌّ عِنْدَهَا حَقًّا وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِهِمْ وَعُدِمَتْ بِعَدَمِ ذَوَاتِهَا وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيدُ وَلَا تنقطع

__________

(1) اجتثها: بجيم ومثناة فوقية ومثلثة أي قطعها بعد إبطالها.

(2) الشهب: بضم الهاء وسكونها جمع شهاب أي رمي الشياطين بشهب تمنعهم من استراق السمع.

(3) رصد بسكون الصاد المهملة مصدر رصده يرصده اذا ترغبه وأعد له ما يمنعه.

وَآيَاتُهُ تَتَجَدَّدُ وَلَا تَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى الله عليه وسلم بقوله:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن «1» النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ.. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وحيا أوحاه اللَّهُ إِلَيَّ.. فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم القيامة. هذا معنى الحديث عند بَعْضِهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَظُهُورِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْنَى آخَرَ مِنْ ظُهُورِهَا بكونها وحيا وكلاما لا يمكن التخيل فيه ولا التحيل عَلَيْهِ وَلَا التَّشْبِيهُ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا بِأَشْيَاءَ طَمِعُوا فِي التَّخْيِيلِ بِهَا عَلَى الضُّعَفَاءِ كَإِلْقَاءِ السَّحَرَةِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَشِبْهُ هَذَا مِمَّا يُخَيِّلُهُ السَّاحِرُ أَوْ يَتَحَيَّلُ فِيهِ.

وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَيْسَ لِلْحِيلَةِ ولا للسحر ولا للتخييل فِيهِ عَمَلٌ..

فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.. كَمَا لَا يتم لشاعر ولا خطيب أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّمْوِيهِ وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَخْلَصُ وَأَرْضَى.. وَفِي هذا التأويل

__________

(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي.

الثاني ما يغمّض عليه الجفن ويغضى. وجه ثالث على مَنْ قَالَ بِالصِّرْفَةِ «1» . وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ فَصُرِفُوا عَنْهَا أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ..

وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلُ وَلَا يَكُونُ بَعْدُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يقدرهم ولا يُقَدِّرْهُمْ عَلَيْهِ.. وَبَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَعَلَيْهِمَا جميعا فترك الْعَرَبُ الْإِتْيَانَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ أَوْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ.

وَرِضَاهُمْ بِالْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ وَالسِّبَاءِ وَالْإِذْلَالِ وَتَغْيِيرِ الْحَالِ..

وَسَلْبِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.. وَالتَّقْرِيعِ.. وَالتَّوْبِيخِ.. وَالتَّعْجِيزِ..

وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.. أَبْيَنُ آيَةً لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.. وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ..

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ «2» وَغَيْرُهُ قَالَ:

وَهَذَا عِنْدَنَا أَبْلَغُ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا كَقَلْبِ العصاحيّة وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى بَالِ النَّاظِرِ بدارا «3» أنّ ذلك

__________

(1) الصرفة: بفتح الصاد المعجمة وكسرها وهو مذهب بعض المعتزلة والشيعة حيث قالوا صرف الله همهم عن الاتيان بأقصر سورة منه مع تمكنهم منه.

(2) تقدمت ترجمته في ص «475» رقم «3» .

(3) بدارا: بكسر الباء أي مبادرة ومسار عنه من اول وهلة قبل التأمل في حقيقة أمره وخفية سره.

من اختصاص صاحب ذلك بمزيد مَعْرِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ وَفَضْلِ عِلْمٍ..

إِلَى أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ صَحِيحُ النَّظَرِ.. وَأَمَّا التَّحَدِّي للخلائق المئين مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَلَمْ يَأْتُوا.. فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ عَدِمِهَا إِلَّا أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَنْهَا بِمَثَابَةِ مَا لَوْ قَالَ نَبِيٌّ: آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مَعَ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَارْتِفَاعِ الزَّمَانَةِ عنهم.. فلو كان ذلك وعجّزهم الله تعالى عن القيام لكان من أبهر آيَةٍ وَأَظْهَرِ دَلَالَةٍ.. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَدْ غَابَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ ظُهُورِ آيَتِهِ عَلَى سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى احْتَاجَ لِلْعُذْرِ عَنْ ذَلِكَ بِدِقَّةِ أَفْهَامِ الْعَرَبِ وَذَكَاءِ أَلْبَابِهَا وَوُفُورِ عُقُولِهَا وَأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمُعْجِزَةَ فِيهِ بِفِطْنَتِهِمْ.. وَجَاءَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ إِدْرَاكِهِمْ.. وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ السَّبِيلِ. بَلْ كَانُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ بِحَيْثُ جوّر عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَجَوَّزَ عَلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ «1» ذلك

__________

(1) هو موسى بن ظفر وهو رجل من بني اسرائيل منسوب لرجل اسمه ماهر. والسامري هذا من أهل كرمان من قوم تسمى السامرة يعبدون البقر وكان منافقا يظهر الاسلام قد صاغ لقومه عجلا من الحلي وزينه بالجواهر. وقذف فيه ترابا من أثر فرس ركبه جبريل عليه الصلاة والسلام فكان يتحرك فقال لهم هذا الهكم وإله موسى وان موسى أخطأ الطريق اليه فجاءكم يكلمكم كما كلمه فاتبعوه لسخافة عقولهم كما فصله المفسرون وغيرهم.

فِي الْعِجْلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَعَبَدُوا الْمَسِيحَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَلْبِهِ «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» »

فَجَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْأَبْصَارِ بِقَدْرِ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ مَا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا «2» : «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «3» » وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْمَنِّ «4» وَالسَّلْوَى «5» ، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «6» .

وَالْعَرَبُ عَلَى جَاهِلِيَّتِهَا أَكْثَرُهَا يَعْتَرِفُ بِالصَّانِعِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِالْأَصْنَامِ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ قَبْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ عَقْلِهِ وَصَفَاءِ لُبِّهِ. وَلَمَّا جاءهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بِكِتَابِ اللَّهِ فَهِمُوا حِكْمَتَهُ وَتَبَيَّنُوا بِفَضْلِ إِدْرَاكِهِمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مُعْجِزَتَهُ فَآمَنُوا بِهِ وَازْدَادُوا كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا، وَرَفَضُوا الدُّنْيَا كُلَّهَا فِي صُحْبَتِهِ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلُوا آبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِي

__________

(1) سورة النساء آية رقم «157» .

(2) وفي نسخة: «قالوا» .

(3) سورة البقرة آية رقم «55» .

(4) المن: وهو طل كالعسل ينزل على الاشجار فيجمع ويؤكل.

(5) السلوى: وهو طائر كالسماني واحده سلواه وكانوا لما خرجوا من التيه قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام أخرجتنا من العمران للقفر فادع الله أن يرزقنا فرزقهم المن ثم سألوه ان يطعمهم من اللحوم فأتاهم بالسلوى فكانوا يأخذونها بأيديهم ثم قالوا: «لن نصبر على طعام واحد» .

(6) أي طلبوا القوم والعدس والبصل.

نُصْرَتِهِ وَأُتِيَ فِي مَعْنَى هَذَا بِمَا يَلُوحُ لَهُ رَوْنَقٌ وَيُعْجِبُ مِنْهُ زِبْرِجٌ «1» لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ وَحُقِّقَ..

لَكُنَّا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِهَا مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ وَظُهُورِهَا.

وبالله أستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________

(1) زبرج: بكسر الزاي المعجمة وسكون الباء الموحدة وكسر الراء المهملة وجيم وهي الزينة والوشي.

تم بحمد الله ومنته، الجزء الأول من الشفا بتعريف حقوق المصطفى، مع تحقيقاته الهامة، وتعليقاته المفيدة التي تكشف عن سر البيان الساحر والعلم الجم، الذي ينطوي عليه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى..

ومما لا يخفى على القارىء بعد اطلاعه على مكنون الكتاب وفهمه لفحوى معانيه، معرفة عظمة الرسول صلّى الله عليه وسلم وفضله على الأمة جميعا جزاه الله عن أمة الإسلام خيرا..

ونحن أيها الأخوة القراء ما زلنا مستمرين في إصدار الجزء الثاني إن شاء الله تعالى تباعا على أعداد ونسأل المولى القدير أن يلهمنا الرشد والصواب.

المحققون

بسم الله الرّحمن الرّحيم




كلمات دليلية: