withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة بنى النضير

غزوة بنى النضير


يهود المدينة ومنافقوها

وجد محمد لقتلى بئر معونة أشدّ الوجد، وحزن من أجلهم أعمق الحزن، وقال: هذا عمل أبي براء،

لقد كنت كارها متخوّفا وشق على أبي براء إخفار عامر بن الطفيل إيّاه، حتى لقد ذهب ابنه ربيعة فطعن عامرا بالرمح انتقاما منه لأبيه. وبلغ من حزن محمد أنه ظلّ شهرا كاملا يدعو الله بعد أداء فريضة الفجر لينتقم لهم من قتلتهم. وتأثّر المسلمون جميعا لهذه الكارثة التي أصابت إخوانهم في الدين. وإن آمنوا بأنهم جميعا استشهدوا، وبأنهم جميعا لهم الجنة.

ووجد أهل المدينة من المنافقين واليهود فيما أصاب المسلمين بالرّجيع وبئر معونة ما أعاد إلى ذاكرتهم انتصار قريش بأحد، وما أنساهم نصر المسلمين على بني أسد، وما أضعف في نفوسهم من هيبة محمد وأصحابه. وفكّر النبيّ عليه السلام في هذه الحالة تفكير سياسيّ دقيق النظر بعيد مرامي الرأي. فليس شيء أشدّ على المسلمين يومئذ خطرا من أن تضعف في نفوس مساكنيهم بالمدينة هيبتهم، وليس شيء يطمع قبائل العرب فيهم مثل أن تشعر بهذا الانقسام الداخلي يوشك أن يثير حربا أهليّة إذا غزا المدينة غاز من جيرانها. ثم إنه رأى اليهود والمنافقين كأنهم يتربّصون به الدوائر، فقدّر أن لا شيء خير من أن يستدرجهم لتتّضح نيّاتهم.

ولمّا كان اليهود من بني النّضير حلفاء لبني عامر، فقد ذهب إلى محلّتهم على مقربة من قباء، في عشرة من كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمر وعليّ، وطلب إليهم معاونتهم في دية القتيلين الذين قتل عمرو بن أميّة خطأ، ومن غير أن يعلم أن محمدا أجارهما.

,

ائتمار اليهود بمحمد

فلمّا ذكر لهم ما جاء فيه أظهروا الغبطة والبشر وحسن الاستعداد لإجابته. لكنه ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أن رأى سائرهم يتامرون، ويذهب أحدهم إلى ناحية، ويبدو عليهم كأنهم يذكرون مقتل كعب بن الأشرف، ويدخل أحدهم (عمرو بن جحاش بن كعب) البيت الذي كان محمد مستندا إلى جداره. إذ ذاك را به أمرهم، وزاده ريبة ما كان يبلغه من حديثهم عنه وائتمارهم به. لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركا أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره. أمّا اليهود فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا يعرفون ما يقولون لأصحاب محمد ولا ما يصنعون بهم. فإن هم غدروا بهم فمحمد لا ريب منتقم منهم شرّ انتقام. وإن هم تركوهم فلعل ائتمارهم بحياة محمد وأصحابه لا يكون قد افتضح فيظلّ ما بينهم وبين المسلمين من عهد قائما. وحاولوا أن يقنعوا ضيوفهم المسلمين بما يزيل ما قد يكون رابهم من غير أن يشيروا إلى شيء منه. لكن أصحاب محمد استبطئوه فقاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة عرفوا منه أن محمدا دخلها وأنه قصد توّا إلى المسجد فيها، فذهبوا إليه. فلمّا ذكر لهم ما رابه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به وتنبهوا إلى ما كانوا رأوا، آمنوا بنفاذ بصيرة الرسول وما أوحي إليه. وبعث النبي يدعو إليه محمد بن مسلمة وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي. لقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه» . وأبلست «1» بنو النّضير، فلم يجدوا لهذا الكلام دفعا ولم يحيروا عنه جوابا إلّا أن قالوا لابن مسلمة: «يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس» . وذلك إشارة إلى تحالفهم وإياهم من قبل في حرب الخزرج، فكان كلّ ما أجاب به ابن مسلمة: «تغيّرت القلوب» .

,

ابن أبي يحرض اليهود

ومكث القوم على ذلك أيّاما يتجهزون وإنهم لكذلك إذ جاءهم رسولان من عند عبد الله بن أبيّ يقولان:

__________

(1) أبلست: يئست تحيرت.

لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم؛ فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم. وتشاورت بنو النضير في مقالة ابن أبيّ وهم أشدّ ما يكونون حيرة؛ فمنهم من لم يكن له بابن أبيّ أية ثقة. ألم يعد بني قينقاع من قبل مثل ما يعد بني النّضير اليوم، فلمّا جدّ الجدّ تخلّى عنهم وولّى مدبرا؟ وهم يعلمون أن بني قريظة لا ينصرونهم لما بينهم وبين محمد من عهد. ثم إنهم إن جلوا عن ديارهم إلى خيبر أو إلى محلّة قريبة، استطاعوا أن يعودوا حين يثمر نخيلهم إلى يثرب، يجنون ثمره ويعودون أدراجهم فلا يكونون قد خسروا كثيرا. قال كبيرهم حييّ بن أخطب: كلا بل أنا مرسل إلى محمد: إنّا لا نخرج من ديارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له، وما علينا إلا أن نرمّ حصوننا ندخل إليها ما شئنا، وندرّب أزقتنا وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة. وانقضت الأيّام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم.

,

حصار بني النضير

فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة، وكانوا أثناءها إذا ظهروا على الدرب أو الديار تأخر اليهود إلى الديار التي من بعدها بعد تخريبهم إيّاها. ثم أمر محمد أصحابه أن يقطعوا نخل اليهود وأن يحرّقوه حتى لا تبقى اليهود في شدّة تعلقها بأموالها تتحمّس للقتال وتقدم عليه. وجزع اليهود ونادوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! وفي ذلك قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) «1» .

,

جلاء اليهود عن المدينة

وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ أو تقدّم أحد من العرب لنجدتهم، حتى لم يبق لديهم ريبة في سوء مصيرهم إذا أصروا على متابعة القتال. فلمّا ملأ اليأس قلوبهم رعبا، سألوا محمدا أن يؤمّنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاؤا من مال أو طعام أو شراب، وليس لهم غيره. واحتمل اليهود وعلى رأسهم حييّ بن أخطب، فنزل خيبر منهم من نزل وسار آخرون إلى أذرعات بالشام، وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح بلغ خمسين درعا وثلثمائة وأربعين سيفا، ثم كان ما خلّت اليهود من الأرض التي كانوا يملكون خير ما غنم المسلمون. على أنّ هذه الأرض لم تعتبر أسلاب حرب، ولذلك لم نقسم بين المسلمين، بل كانت لرسول الله خاصّة يضعها حيث يشاء. وقد قسمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار بعد أن استبقى قسما خصصت غلّته للفقراء والمساكين. وبذلك أصبح المهاجرون في غنى عن معونة الأنصار، وأصبح لهم مثل ثروتهم. ولم يشترك في القسمة من الأنصار إلا أبو دجانة وسهل بن حنيف؛ فقد ذكرا فقرا فأعطاهما محمد كما أعطى المهاجرين. ولم يسلم من يهود بني النّضير غير رجلين أسلما على أموالهما فأحرزاها.

ليس من العسير أن يقدّر الإنسان قيمة نصر المسلمين وإجلاء بني النّضير عن المدينة بعد الذي قدّمنا من تقدير الرسول عليه السلام لما كان يخلقه بقاؤهم من تشجيع عوامل الفتنة، ومن دعوة المنافقين إلى أن يرفعوا رؤسهم كلما أصاب المسلمين شر، ومن التهديد بالحرب الأهلية إذا غزا المسلمين غاز من الأعداء. وفي جلاء بني النضير نزلت سورة الحشر، وفيها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

__________

(1) سورة الحشر آية 5.

الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) «1» وتجري السورة بعد ذلك بذكر الإيمان وسلطانه؛ الإيمان بالله وحده لا تعرف النفس الإنسانية التي تعرف قيمتها وكرامتها لغيره سلطانا: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) «2» .

كان كاتب سرّ النبيّ، إلى حين إجلاء بني النّضير عن المدينة، من اليهود؛ ليتسنّى له أن يبعث من الرسائل بالعبرية والسريانيّة ما يريده. فلمّا جلا اليهود خاف النبيّ أن يستعمل في أسراره غير مسلم، فأمر فتعلّم زيد بن ثابت من شبّان المدينة المسلمين اللغتين المذكورتين، وأصبح كاتب سرّ النبيّ في كل شئونه.

وزيد بن ثابت هذا هو الذي جمع القرآن في خلافة أبي بكر، وهو الذي عاد فراقب الجمع حين اختلفت القراآت في خلافة عثمان، فوضع مصحف عثمان وأحرقت سائر المصاحف.

اطمأنّت المدينة بعد إجلاء بني النضير عنها، فلم يعد المسلمون يخشون المنافقين فيها واغتبط المهاجرون بما أصابوا من أرض اليهود؛ واغتبط الأنصار باستغناء المهاجرين عن معونتهم، وتنفسوا جميعا الصّعداء، وكانت فترة سكينة وهدوء وطمأنينة استراح إليها المهاجرون والأنصار جميعا. وظلوا كذلك، حتى إذا استدار العام منذ أحد ذكر محمد عليه السلام قولة أبي سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل» ، ودعوته محمدا للقائه ببدر مرّة أخرى. وكان العام عام جدب. وكان أبو سفيان يودّ لو يؤجّل اللقاء إلى عام آخر، فبعث نعيما إلى المدينة يقول للمسلمين إن قريشا جمعت جيشا لا قبل لجيش في العرب بمواجهته لتحاربهم به حتى تقضي عليهم قضاء لا يعدّ ماتم بأحد إلى جانبه شيئا. وبدا للمسلمين أن يجتنبوا الخطر، فأظهر الكثيرون الرغبة عن النهوض والسير لبدر. لكن محمدا غضب لهذا الضعف والتراجع، وصاح بهم مقسما أنه ذاهب إلى بدر ولو ذهب وحده.



كلمات دليلية: