withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة بدر الكبرى_677

غزوة بدر الكبرى


المبحث الثاني: موقف المنافقين قبل بدر الكبرى

لقد دخل الإسلام المدينة المنورة، قبل مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وانتشر في ربوعها، وأصبح سكانها يرددون حديث الإسلام، ويلهجون بذكره في منتدياتهم ومجالسهم العامة والخاصة، منشرحين لهذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وحباهم به.

ثم ازداد فرحهم وغبطتهم بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفوا حوله يتلقون منه نور الإيمان ومبادئ الإسلام، فجمعهم الله به بعد الفرقة، وسادت بينهم المودة والإخاء بعد أن كانوا أعداء متناحرين متدابرين، يوضح هذا قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى

شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، [سورة آل عمران، الآية: 103] .

غير أن مرض الحسد والخبث حال بين ضعفاء النفوس وبين الدخول في هذا الدين الحنيف، وعلى رأس هذا الفريق عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه عزه ومجده، إذ كان مقدمه صلى الله عليه وسلم والأوس والخزرج ملتفون حوله، وقد باشروا نسج الخرز ليتوجوه ويرئسوه عليهم، فكان مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم قاطعا لدابره، إذ لم يتم له ما كان يحلم به من الرياسة والسيادة، ولما فقد مكانته في المجتمع وحرم من المنصب القيادي الذي كان يحلم به رأى أن السبب الوحيد في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، فامتلأ قلبه غيظا وحقدا وحسدا على النبي صلى الله عليه وسلم وصار يحارب الإسلام سرا وعلانية مع من انضم إليه من مرضى القلوب من قومه وغيرهم وحلفائه من اليهود القاطنين في المدينة آنذاك1.

فكانوا يدا واحدة في عداوة الإسلام وأهله.

__________

وأول موقف برزت فيه عداوة عبد الله بن أبي ابن سلول للإسلام بوضوح هو ما دل عليه حديث البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد2، وهذا سياقه عند مسلم: قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي3 ومحمد بن رافع4

1 سيرة ابن هشام 1/ 584- 585.

2 أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، الأمير أبو محمد وأبو زيد، صحابي مشهور، (ت54) وهو ابن 75 سنة بالمدينة / ع. التقريب 1/ 53.

3 إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو محمد بن راهويه المروزي، ثقة حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، (ت238) وله 72سنة، / خ م د ت س، المصدر السابق 1/ 54.

4 محمد بن رافع القشيري النيسابوري، ثقة عابد، من الحادية عشرة، (ت245) / خ م د ت س، المصدر السابق 2/ 160.

وعبد بن حميد1 و (اللفظ لابن رافع) قال ابن رافع حدثنا: وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق2 أخبرنا معمر3 عن الزهري عن عروة أن أسامة ين زيد أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف4 تحته قطيفة فدكية5، وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذاك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة6 الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ القرآن، فقال عبد الله بن أبي: "أيها المرء لا أحسن7 من هذا إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع

__________

1 عبد بن حميد بن نصر الكسي، أبو محمد، قيل اسمه عبد الحميد وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقة حافظ، من الحادية عشرة (ت249) / خت م ت، المصدر السابق 1/ =529. قال ابن الأثير: الكسي: بكسر أولها وتشديد السين المهملة – هذه نسبة إلى كس وهي مدينة بما وراء النهر بقرب نخشب ذكرها الحفاظ في تواريخهم كذلك. غير أن الناس يكثرون ذكرها بفتح الكاف والشين المعجمة، ينسب إليها جماعة منهم عبد الحميد بن حميد بن نصر الكسي، المعروف بعبد بن حميد. اللباب في تهذيب الأنساب 3/ 98.

2 عبد الرزاق بن همام بن نافع، الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، من التاسعة، (ت211) / ع. التقريب 1/ 505.

3 معمر بن راشد الأزدي، مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار السابعة (ت145) / ع. المصدر السابق 2/ 266.

4 إكاف: بوزن كتاب: برذعة الحمار، القاموس المحيط 3/ 118 وفي رواية للبخاري 7/ 103 من كتاب المرضى، باب عيادة المريض (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية) قال ابن حجر: (عل) الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى والحاصل أن الإكاف يلي الحمار، والقطيفة فوق الإكاف، والراكب فوق القطيفة. فتح الباري 1/ 122.

5 قطيفة فدكية: القطيفة: كساء له خمل، والفدكية: منسوبة إلى فدك بلدة معروفة على مرحلتين من المدينة، فتح الباري 8/ 231 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/ 441.

6 عجاجة الدابة: هو ما ارتفع من غبار حوافرها.

7 قوله لا أحسن من هذا قال ابن حجر: "بنصب أحسن وقتح أوله على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في أحسن الرفع على أنه خبر (لا) والاسم محذوفن أي أحسن من هذا، ووقع في رواية الكشميهني: بضم أوله وكسر السين وضم النون – لا أحسن – ووقع في رواية أخرى لأحسن بحذف الألف لكن بفتح السين وضم النون على أنها لام قسم كأنه قال: أحسن من هذا أن تقعد في بيتك، حكاه عياض عن أبي علي واستحسنه، وحكى ابن الجوزي: تشديد السين المهملة بغير نون من الحس أي لا أعلم منه شيئا" انتهى، فتح الباري 8/ 232.

وقال النووي: لا أحسن من هذا: "هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بألف في أحسن أي ليس شيء أحسن من هذا، وكذا حكاه القاضي عن جماهير رواة مسلم، قال: ووقع للقاضي أبي علي لأحسن من هذا بالقصر من غير ألف قال القاضي: وهو عندي أظهر، وتقديره أحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا". انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 442.

إلى رحلك فمن جاءك منا فاقصص عليه"، فقال عبد الله بن رواحة: "إغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك"، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته، حتى دخل على سعد ابن عبادة فقال: "أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب (يريد عبد الله بن أبي) " قال كذا وكذا، قال: "اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة1 أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة2 فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق3 بذلك فذلك فعل به ما رأيت"، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم4.

وحدثني محمد بن رافع حدثنا حجين5

__________

1 البحيرة: بالتصغير قال النووي: قال القاضي: وروينا في غير مسلم هذه البحيرة مكبرة وكلاهما بمعنى، وأصلها القرية، والمراد بها هنا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، شرح النووي على مسلم 4/ 442.

2 فيعصبوه بالعصابة: أي اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانا أن يتوجوه ويعصبوه. المصدر السابق 4/ 442.

3 شرق بذلك: أي غص به وهو مجاز فيما ناله من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحل به حتى كأنه شيء لم يقدر على إساغته فغص به. النهاية لابن الأثير 2/ 465- 466.

4 صحيح مسلم 5/ 182- 183 كتاب الجهاد والسير وصحيح البخاري 4/ 44 كتاب الجهاد (باب الردف على الحمار) و6/ 33 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) و 7/ 103 كتاب المرضى (باب عيادة المريض) و 7/ 145 كتاب اللباس (باب الارتداف على الدابة و8/ 38- 39 كتاب الأدب (باب كنية المشرك) .

5 حجين: مصغرا آخره نون ابن المثنى اليمامي، أبو عمير، سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقة من التاسعة (ت285) وقيل بعد ذلك./خ م د ت س التقريب1/155.

(يعني ابن المثنى) حدثنا ليث1 عن عقيل2 عن ابن شهاب في هذا الإسناد بمثله.

وزاد: وذلك قبل أن يسلم عبد الله34.

__________

1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصرين ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور، من السابعة، (ت175) / ع. التقريب 2/ 138.

2 عقيل بالتصغير ابن خالد بن عقيل مكبرا، الأيلي، بفتح الهمزة بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام، أبو خالد الأموي، مولاهم، ثقة ثبت، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر من السادسة، (ت144) على الصحيح/ ع. التقريب 2/ 29 وتقدمت تراجم بقية رجال الإسناد.

3 قوله: قبل أن يسلم عبد الله: قال النووي: معناه قبل أن يظهر الإسلام، وإلا فقد كان كافرا، منافقا ظاهر النفاق، شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 442.

4 صحيح مسلم 5/ 182- 183 كتاب الجهاد والسير، وصحيح البخاري 4/ 44 كتاب الجهاد (باب الردف على الحمار) و6/ 33 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) .

,

المبحث الثالث: موقف المنافقين بعد بدر الكبرى

فعند البخاري: من حديث أسامة المتقدم1: "فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه2، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا"3.

وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق

__________

1 انظر ص 150 وما بعدها.

2 توجه: أي نفذ على وجهه ومقصده.

3 صحيح البخاري 6/ 34 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) و 8/ 39 كتاب الأدب (باب كنية المشرك. قال ابن حجر: "هذا حديث آخر أفرده ابن أبي حاتم عن الذي قبله، وإن كان الإسناد متحدا، وقد أخرج مسلم الحديث الذي قبله مقتصرا عليه، ولم يخرج شيئا من هذا الحديث الآخر". فتح الباري 8/ 232.

المسلمون وهي أرض سبخة1، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليك عني فوالله آذاني نتن 2 حمارك"، قال: فقال رجل3 من الأنصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه، قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابهن قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال، قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، [سورة الحجرات، من الآية: 9] 4.

فهذا الحديث بظاهره يخالف حديث أسامة بن زيد لأن في حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته قاصدا عيادة سعد بن عبادة، وفي حديث أنس بن مالك: أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي ابن سلول.

وقد حاول ابن حجر الجمع بين الروايتين فقال: "يحتمل اتحادهما بأن يكون الباعث له صلى الله عليه وسلم عيادة سعد بن عبادة، فاتفق مروره بعبد الله بن أبي، فقيل له حينئذ لو أتيته فأتاه".

قال: "ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه"، ثم قال ابن حجر: "وقد استشكل ابن5 بطال نزول الآية المذكورة في حديث أنس وهي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، [سورة الحجرات، من الآية: 9] ، في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان

__________

1 قوله: وهي أرض سبخة: بفتح المهملة وكسر الموحدة، بعدها معجمة، أي ذات سباخ وهي الأرض التي لا تنبت، وكانت تلك صفة الأرض التي مر بها صلى الله عليه وسلم، إذ ذاك، وذكر ذلك للتوطئة لقول عبد الله بن أبي إذ تأذى بالغبار فتح الباري 5/ 298.

2 نتن حمارك: أي ريحها.

3 قوله فقال رجل من الأنصار: هو عبد الله بن رواحة على القول باتحاد القصتين.

4 صحيح مسلم 5/ 183 كتاب الجهاد، والبخاري 3/ 159 كتاب الصلح باب الصلح باب ما جاء في الإصلاح بين الناس وأحمد 3/ 157.

5 ابن بطال هو الإمام أبو الحسن علي بن خلف الشهير بابن بطال المغربي المالكين له شرح على صحيح البخاري، وغالبه فقه الإمام مالك، من غير تعرض لموضوع الكتاب غالبا، أصله من قرطبة وكان عالما فقيها عني بالحديث وولي قضاء لورقة، له كتاب الاعتصام في الحديث (ت444 أو 449) مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/ 255.

مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارا، فكيف ينزل فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن في رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون".

ثم قال ابن حجر: "ويمكن أن يحمل على التغليب، ثم قال: مع أن فيها إشكالا من جهة أخرى وهي: أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد الله بن أبي وأصحابه، والآية المذكورة، في الحجرات، ونزولها متأخر جدا، كان في وقت مجيء الوفود، ثم أجاب عن هذا الإشكال بقوله: لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح، نزلت قديما فيندفع الإشكال"1.

تلك نبذة من مواقف عبد الله بن أبي قبل أن يعلن إسلامه ظاهرا، ثم بدا له أن يظهر إسلامه في أعقاب غزوة بدر، لأن شوكة المسلمين قويت، وأصبحت مصالح عبد الله بن أبي مرهونة بأن يظهر إسلامه، وتبعه على ذلك بقية المنافقين.

ولكن عداوتهم للإسلام وإضمارهم الشر للمسلمين لم تتغير، فمازالوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وينتهزون الفرص المواتية للانقضاض عليهم، متعاونين في ذلك مع اليهود، يوضح ذلك انحيازهم إلى جانب يهود بني قينقاع2، الذين نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يعتدي أحد الجانبين على الآخر، ولكن اليهود لم يلتزموا بهذا العهد الذي أقروه على أنفسهم.

فقد ذكر ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: "كان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم

بسوق بني قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم

__________

1 فتح الباري 5/ 299.

2 بنو قينقاع: بفتح القاف وتثليث النون بطن من بطون يهود المدينة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 136 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 76.

قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم"، قالوا: "يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس".

ثم ساق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ1 الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [سورة آل عمران، الآيتان:: 12- 13] 2.

والحديث بهذه الطريق أخرجه أبو داود في سننه3.

وحسن إسناده الحافظ ابن حجر4.

وهناك سبب آخر ذكره ابن هشام بسند مرسل أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فهذان سببان ذكرا في قصة نقض بني قينقاع العهد المبرم بينهم، وبين المسلمين، وكل منهما كاف في ضرب هذه الشرذمة من اليهود، وقد كان صنيعهم هذا مستوجبا ما عاملهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضرب الحصار وشد الخناق عليهم.

__________

1 الفئتان: هما أصحاب بدر، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فئة، وقريش فئة.

2 سيرة ابن إسحاق المسماة: المبتدأ والمبعث والمغازي 1/294، وسيرة ابن هشام 2/47.

3 2/ 138 كتاب الخراج (باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة) .

4 فتح الباري 7/ 332.

وذلك فيما رواه ابن إسحاق عن عاصم1 بن عمر بن قتادة، مرسلا، أن بني قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: "يا محمد أحسن في موالي" - وكانوا حلفاء الخزرج - قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد أحسن في موالي"، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني" وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا2، ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك" 3.

وروى ابن إسحاق أيضا بسند مرسل من طريق عبادة4 بن الوليد ابن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث5 بأمرهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وقام دونهم، قال: ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، قال: ففيه وفي عبد الله بن

__________

1 تقدمت ترجمته.

2 الظلل: جمع ظلة، وهي السحابة في الأصل فاستعارها هنا، لتغير الوجه إلى السواد إذا اشتد غضبه.

3 سيرة ابن هشام 2/ 48 وسيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبدأ والمبعث والمغازي 1/ 295- 296.

4 عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ويقال له عبد الله، ثقة من الرابعة / خ م د س ق. التقريب 1/ 396.

5 تشبث: التشبث بالشيء التعلق به. مختار الصحاح، ص 327.

أبي، نزلت هذه القصة من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، [سورة المائدة الآيتان: 51-52] ، – لعبد الله بن أبي، وقوله: إني أخشى الدوائر- {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، [سورة المائدة، الآيتان: 52-53] ، ثم ذكر القصة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، [سورة المائدة، الآية: 55] .

وذكر لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرئه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، [سورة المائدة، الآية: 56] 1.

فلقد أوضحت هذه الآيات والأحاديث أن المنافقين اتخذوا موقفا مؤازرا لبني قينقاع وسعوا في خلاصهم من العقاب بعد ما أحدثوا من تمرد في وجه الدولة والخروج على العهد الذي أقروه على أنفسهم والتزموا به.

وقد ذكر ابن حجر وغيره أن بني قينقاع أول يهود نقضوا عهدهم مع المسلمين وهذا نص كلامه: قال: كان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:

قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع.

وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش.

وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، ومنهم من لا يحب ظهوره كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحارهم في شوال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه،

__________

1 سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبدأ والمبعث والمغازي 1/ 295- 296، وسيرة ابن هشام 2/ 49.

وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات1 ثم نقض العهد بنو النضير، ثم نقضت قريظة2.

__________

1 أذرعات: بكسر الراء وفتحها بلدة بالشام، انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي3/ 23، وهي الآن في (سوريا) على حدود الأردن الشمالية.

2 فتح الباري 7/ 330 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 2/ 79.




كلمات دليلية: