withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


خلوه وتعبده بغار حراء وبداية أمر الوحي_19946

خلوه وتعبده بغار حراء وبداية أمر الوحي


الفصل السابع البعث

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.

«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ «بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ «يَعْلَمْ.»

(القرآن الكريم، السورة 96، الآيات 1- 5) وقبيل بلوغ محمد، صلوات الله عليه، سن الأربعين تزايد انقطاعه للتحنّث والتأمل، فكان يخلو إلى نفسه في غار حراء ويفرغ للتّفكّر الروحي أياما متوالية. وفي غضون ذلك رأى في نومه رؤى عديدة صدقت كلّها بالحرف الواحد. وفيما هو مستغرق على هذا النحو في عبادة الله في غار حراء جاءه الملك جبريل ذات ليلة من ليالي رمضان (وكان ذلك في السنة التاسعة بعد الستمئة للميلاد) وقال له: «إقرأ» ، فأجابه النبيّ: «ما أنا بقارئ.» فضمّه الملك إلى

صدره ضما وثيقا، وسأل كرة أخرى أن يقرأ. لقد كرر الملك سؤاله هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة كان الرسول يقول إنه لا يحسن ذلك. عندئذ تلا الملك عليه الآيات التي توّجنا بها هذا الفصل، والتي حملت معنى ذا شقين. لقد أكّد للرسول انه برغم عجزه عن القراءة فأن محاولته ذلك خليق بها- إذا ما تمّت باسم الله- أن تقترن بالنجاح. وقد انطوى هذا على درس عام يتلخص في ان أيما شيء يظنّه أعسر من ان يقوم به بنفسه لا بدّ أن يمسي هينا يسيرا بعون من الله. هذا أولا. واشتملت الآيات، ثانيا، على إلماع إلى الثقافة العريضة التي قدّر لها أن ترى النور بفضل النبي. وكان هذا هو اليوم الذي ألقيت فيه على منكبيه، أول ما القيت، تبعات النبوة الثقيلة. وهكذا انكشف له، آخر الأمر، السبيل القويم الذي طالما بحث هو عنه في كثير من الحيرة والارتباك. وأومض له النور الذي طالما سعى اليه في توق عظيم. بيد أنه أعلم في الوقت نفسه أن مهمة الاصلاح الانساني الضخمة سوف تقع على عاتقه. ولقد كان خليقا به، وهو الذي يشارك كلّ الناس ضعف الانسان الفطريّ، أن يستشعر ثقل المسؤولية حتى ولو كانت عادية. إن اصلاح الجنس البشري مهمة تثير في نفس المرء أعظم القلق وأبهظه. فقد كلّف موسى اصلاح أمة مفردة، ومع ذلك فقد وجد نفسه أعجز من أن يقوم بذلك من غير مساعدة، وهكذا صرخ طالبا العون الالهي: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» * أما الرسول الكريم، محمد، فقد كلّف بأحياء الجنس البشريّ كله، الغارق في الدّرك الاسفل من الانحطاط. ومع ذلك فأن قلبه الجريء لم يتكشّف لحظة واحدة عن أضأل قدر من الجزع، برغم ثقل المسؤولية القاصم للظهر أو يكاد. لقد نهض بالعبء كله،

__________

(*) السورة 20، الآيات 29- 31.

منفردا، غير معتمد إلا على عون الله وحده. إنه لم يسأله أيّ مساعد.

ولكن الوحي الالهي ظاهرة استثنائية، وهو موصد في وجه الخبرة الانسانية العادية. إنه يقتضي انفصال المرء، بالكلّية، عن بيئته.

وفي أثناء هذه الخبرة يكون الهيكل الجسماني كله المتلقّي الوحي خاضعا للسلطان الالهي. وحتى عندما ألف الرسول هذه الخبرة كان جسده يتفصّد عرقا، وكان يمسي بالغ الثقل. ويروي أحد أصحابه أن فخذ الرسول اتفق ان كانت- في إحدى هذه المناسبات- على ركبته، فاذا بها تمسي ثقيلة جدا حتى لقد خشي على ركبته ان تسحق سحقا.

والحق ان أول خبرة من خبرات الوحي كانت أشدّ ثقلا على جسده من سائرها، فأوقعت فيه الرعدة. وهكذا مضى إلى بيته وهو يرتجف؛ لقد دبّ البرد إلى يديه وقدميه، فسأل خديجة أن تزمّله. وبعد فترة قصيرة، حين زايلته الرعدة وزايله ما لا بد ان يصاحب الرعدة من شعور بالخوف، قصّ على خديجة الحكاية كلها. حتى إذا سمعت بالخبرة الجديدة التي تمّت له، شجعته وثبّتته بكلمات موحية قائلة له ان الله لن يتخلى عنه، وانه لا بدّ سيوفّق إلى اداء رسالته. ثم راحت تعدّد بعض فضائله العديدة، وصلته للرحم، وإغاثته الفقير، والمسكين، واليتيم، والأرملة، واكرامه للضعيف، ودفاعه عن الحق في أشد الظروف قسوة، واكدت له ان من يتمتع بهذه الفضائل كلها لا يمكن أن يخفق أبدا. *

وكان ورقة بن نوفل، الذي سبقت منا الاشارة اليه، ابن عم خديجة. كان قد سئم الوثنية، وانشأ يبحث عن دين صحيح، حتى

__________

(*) أثبتنا كلام المؤلف في المتن بحرفه، وها نحن اولاء ننقل هنا كلام خديجة كما ورد في كتب السيرة، قالت: «ابشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو ان تكون نبي هذه الأمة، وو الله لا يخزيك الله ابدا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل- بفتح الكاف- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. (المعرب)

اعتنق آخر الامر الديانة النصرانية. وكانت خديجة تدرك إدراكا حسنا ما يعتلج في صدر نسيبها من ألم مبرّح لعدم اهتدائه إلى دين يوقع اليقين في قلبه التائق إلى الحق. ولعلها ان تكون قد سمعته يتحدث عن ظهور النبي الموعود، «المعزّي» الذي كان يسوع قد تنبأ بمجيئة. فما إن وجدت محمدا يدعى إلى اداء هذه الرسالة حتى مضت معه إلى ابن عمها، شعورا منها- من غير ريب- مع هذا الأخير الذي كان قد فقد بصره وأمسى عاجزا عن الحركة بعد أن بلغ سنا عالية. ولم يكد ورقة يسمع ما نزّل على محمد من وحي وكيف نزّل حتى هتف:

« [قدّوس، قدّوس! والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة] لقد جاءه الناموس الذي كان يأتي موسى،» مشيرا بذلك كما هو واضح إلى النبوءة التي أطلقها موسى. ثم أضاف:

« [ولتكذّبنّ، ولتؤذينّ، ولتخرجنّ، ولتقاتلنّ] ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه.» فسأله النبي، في دهش، أتكون هذه هي المعاملة التي سيلقاها من أهله وعشيرته.

فأجابه ورقة قائلا: «نعم، هذه هي المعاملة التي يلقاها كل نبيّ.»

وما هي إلا فترة يسيرة، حتى توفي ورقة. وبسبب من هذا التوكيد الذي صدر عنه لصدق رسالة محمد اعتبره المسلمون واحدا من صحابة الرسول.

وبعد هذا الوحي الاول الذي نزّل عليه في غار حراء انقطع جبريل عن زيارة محمد فترة من الزمان. وهذه هي المدة المعروفة ب «فترة انقطاع الوحي» . والعلماء مختلفون اختلافا كبيرا في مدى استمرار هذه الفترة، فذهب بعضهم إلى أنها دامت سنتين أو ثلاث سنوات، ولكن ما رواه ابن عباس من أنها لم تدم غير برهة قصيرة اجدر بالاعتماد، وهو معزّز بالبيّنة التاريخية. أما القصة القائلة بأن النبي كان يصعد خلال هذه الفترة إلى رؤوس الحبال ليلقي بنفسه من

حالق فليس لها سناد قويّ البتة. وهي، وفقا للمحك التقليدي الذي به تعرف صحة الروايات، رواية ضعيفة متهافتة، ذلك بأن الزّهري، الذي اسندت اليه، عاش في عهد متأخر؛ ولكي تكون أيما رواية موضع الثقة والاعتماد يتعيّن أن تسند إلى أحد صحابة الرسول مباشرة.

ومن هنا فليس في استطاعتنا أن نعلّق عليها كبير أهمية. وفوق هذا، فأن الفكرة القائلة بأن الرسول فكّر في الانتحار غير متناغمة مع حال قلبه. فمنذ صباه الأول كان قلبه يتوهج بالرغبة في الاصلاح الانساني.

فهل يعقل ان يفكر الآن بالانتحار بعد أن عهد الله اليه بأداء هذه الرسالة نفسها؟ وإذا صحّ ان القوم لاحظوا على الرسول في هذه الفترة أيما عمل غير مألوف، فما كان ذلك ليعدو اختلافه إلى الجبال أكثر من ذي قبل. ولكن علينا أن لا نقفز إلى استنتاج غير معقول، ولا تبرره المقدّمات، فنزعم انه مضى إلى هناك لكي ينتحر. لقد كان من دأبه أن ينطلق إلى الجبال قبل تلقّيه الوحي بزمن طويل. ولقد كان طبيعيا، وهو النزّاع إلى التأمّل، أن يلتمس العزلة في الجبال، وهي خير مكان يستطيع فيه أن يفرغ للتحنّث والتفكّر. وهكذا فليس ثمة أيما سبب يدعونا إلى الافتراض انه قصد إلى الجبال وفي نيته ان ينتحر.

وإذا كان قد طوّف بها، في حال من الارتباك أقوى وأعنف من حاله السابقة- وهذا أقصى ما يستطيع المرء أن يزعمه- فليس من العسير الاهتداء إلى السبب الذي حمله على ذلك. فلم يكد النور الالهي، الذي طالما التمسه في لهفة بالغة، يومض لعقله حتى خبا. وزاده هذا قلقا على قلق. وتعاظم توق فؤاده إلى سماع الكلمات الالهية الحلوة، كرة أخرى. ومن هنا كان انطلاقه نحو الجبال التماسا لشيء عزيز على قلبه ليس غير. ولقد قام بذلك وهو خالي الذهن من فكرة الانتحار. وكل حدث من أحداث حياته التي تلت يكذّب مثل هذا الظن. ففي وجه أقسى الظروف وأدعاها إلى اثارة الحيبة لم يتزعزع ايمانه

بالعون الالهي لحظة واحدة، ولم يتراجع هو قيد شعرة أمام أدهى المصاعب وأكأدها.

وأخيرا انتهت فترة انقطاع الوحي. لقد بدت، في عيني الرسول، طويلة إلى حد استثنائي، ذلك بأنها كانت فترة انفصال عن الذات التي أحبّها من صميم فؤاده. وبهذا المعنى بالذات اعتبر بعضهم تلك الفترة طويلة. والواقع ان انقطاع الوحي كان لحكمة الهية. فقد كان الأرهاق الذي لازمه قد أثّر في صحة الرسول تأثيرا سيئا. وكان من الجائز أن لا يقوى جسمه على احتمال تكرار له سريع. وهكذا كانت الفترة أمرا ضروريا حفاظا على عافيته الجسمانية. وحتى بعد انصرام مدة من الزمن لا يمكن أن تتجاوز بأية حال ستة أشهر، ظل الوحي مصحوبا بالشعور نفسه، وإن تكن وطأته قد خفّت بعض الشيء. وكرة أخرى: سأل خديجة، من غير ان يستبدّ به الرّوع بقدر ما استبدّ به من قبل، أن تدثّره. وكانت هذه أول مرة كلّف فيها أن يؤدي رسالته تكليفا جديا: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.» * وهذا ما قاد إلى مرحلة أخرى في حياة الرسول- مرحلة اعلان كلمة الله، وابلاغ رسالته إبلاغا ناشطا للناس أجمعين.

__________

(*) السورة 74، الآية 1- 2.

الفصل الثّامن المؤمنون الأوّلون

«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ «الْمُقَرَّبُونَ.»

(القرآن الكريم، السورة 56، الآية 10- 11)

كان أول من أقرّ بصدق رسالة النبي زوجه خديجة. إنها لم تشكّ أقل الشّكّ، ولو لحظة واحدة، في صدق نبوءته. بل لقد أثبتت انها كانت، في لحظات الكآبة والغمّ، مصدر عزاء له لا يخطىء البتة.

وقبل ذلك بخمسة عشر عاما، حين لم تكن صلتها به هي صلة الزوجة ببعلها، رأت فيه- بعين المرء المجرّد عن الغاية- صفات نبيلة تركت في نفسها انطباعة عميقة. ولكن هذه الانطباعة الأولى ازدادت عمقا بتوثّق معرفتها به، من طريق حميمية العلاقة التي نشأت بعد بينهما بوصفهما زوجة وبعلا. وحين تلقّى الرسول الوحي الالهي أول مرة، ولم يدر كيف يؤدّي رسالة الاصلاح الثقيلة، ثبّتته هذه السيدة الفاضلة بشهادة فؤادها الخالصة. لقد لاحظت قائلة إن امرآ في

مثل خلق الرسول الرفيع وحنانه العظيم لا يمكن ان يخفق البتة. والحق ان أحدا لا يستطيع ان يزعم لنفسه نفاذا إلى خلق الرسول أبعد من نفاذ خديجة. فأدق تفاصيل حياة الزوج لا يمكن ان تخفى عن زوجته.

وبمثل هذه المعرفة الحميمة لافكاره الاشدّ ايغالا في الباطن استشعرت انها مقتنعة بأن محمدا هو وحده الشخص المؤهل لتلقّي النداء الالهي لاصلاح البشر. وهكذا كانت خديجة أول من آمن برسالة النبي وأكثرهم غيرة وحماسة.

وبعد خديجة يأتي ورقة [بن نوفل] في مقدمة المؤمنين الاولين.

لقد التحق بالرفيق الأعلى خلال فترة انقطاع الوحي، وبذلك حرم الفرصة لاعلان اسلامه رسميا. ومع ذلك فقد شهد في أثناء اجتماعه بالرسول، ذلك الاجتماع الذي ألمعنا اليه من قبل والذي هيأته خديجة، أن محمدا هو من غير ريب النبي الموعود. وهذا وحده يؤهله لاحتلال مقام متقدم في لائحة المؤمنين.

ثم يجيء أبو بكر، أحد وجوه المكّيين وأعيانهم. كان يتمتع عند القوم باحترام عظيم بالنظر إلى رجاحة عقله، وكان ينعم بشعبية واسعة بين مواطنيه. والواقع ان أبا بكر كان صديقا للرسول قبل أن يتلقّى الوحي بزمن طويل. وكان ايمانه بصدقه وأمانته وطيدا كأيمان خديجة بهما.

ومثل خديجة، لم يتزعزع ايمان ابي بكر لحظة واحدة. فما ان سمع محمدا يدعو إلى دين جديد حتى أعلن انه هو رسول الله. لقد كان أول المؤمنين من الرجال.

وكان عليّ، ابن عم الرسول ابي طالب، في طليعة المؤمنين الأولين أيضا. لقد عرف الرسول معرفة جدّ حميمة، ذلك بأنهما كانا قد ترعرعا معا في كنف والد عليّ ورعايته العطوف. فلم يتردد، وهو العالم بأن صدق الرسول لا يرقى اليه الشك، في تصديقه والايمان برسالته.

وكان زيد بن حارثة عتيقا* لرسول الله. ولقد سبق منا الألماع إلى حبّه العميق لسيده. إذ آثر الحياة مع الرسول على الحياة مع أهله وعشيرته، رافضا العودة مع أبيه إلى بيته. لقد كان هو أيضا من السابقين إلى الايمان.

وكانت خديجة، وأبو بكر، وعليّ، وزيد على أوثق الصلة بالرسول، وكان لهم أعظم الاطلاع على حياته الخاصة. وبالنسبة نفسها آمنوا كلهم ارسخ الإيمان بنبوّته. إن أيا منهم لم يخامره أدنى الشك في صدق رسالته. كانوا قد عرفوا فيه «الأمين» طوال سني حياته السالفة. ولم بسمعوه طوال السنوات الاربعين التي سبقت تلقّيه النداء الالهي ينطق بكذبة واحدة. وهكذا كان مما يفوق التصور عندهم ان يفكروا لحظة واحدة أنه قد ينزع إلى ادعاء النبوّة كذبا وبهتانا. وليس من ريب في انهم كانوا لا يستطيعون ان ينظروا اليه نظرتهم إلى مخادع دجال. وإذ رافقوه منذ أيام صباه الأول فقد أتيحت لهم فرصة للنفاذ إلى سمات خلقه الاشدّ ايغالا في الباطن. كان المرء كلما ازداد معرفة بالرسول ازداد افتتانا به وتعاظم نزوعه إلى تصديق رسالته. وهذا المظهر من خلق الرسول يكره حتى نقادا من مثل ميووير Muir وشبرانغر على الاعتراف بأن محمدا، صلى الله عليه وسلم، كان صادقا كل الصدق في دعواه. كانت له ثقة كاملة في الصفة الالهية لما تلقّاه من وحي. ولو قد كان ثمة ظل من الرياء في دعواه اذن لكان خليقا بأولئك الذين كانوا على مثل هذه الصلة الحميمة به أن يكونوا هم أول من يرتاب به وينبذه. ولكنهم على العكس، كانوا هم السابقين إلى الاعتراف به رسولا صادق القول حقيقيا.

وما ان اعتنق ابو بكر الاسلام حتى راح يبشّر الآخرين برسالة الحق. إلى هذا الحدّ كان ايمانه بصدق دعوى الرسول عميق الجذور!

__________

(*) العتيق: العبد المعتوق الذي فاز بحريته.

وفي عهد جدّ مبكّر، دخل في الاسلام من طريق حماسته التبشيرية الناشطة رجال ذوو مكانة عليّة من مثل عثمان [بن عفان] ، والزبير [ابن العوام] ، وعبد الرحمن [بن عوف] وسعد [بن أبي وقاص] وطلحة [بن عبيد الله] قدّر لهم بعد أن يلعبوا دورا بارزا لا في تاريخ الاسلام فحسب بل في التاريخ العالمي أيضا. وانضمّ إلى جماعة المؤمنين في هذه الفترة المبكرة أيضا نفر ينتسبون إلى طبقة اجتماعية أدنى، ومن هؤلاء بلال [الحبشيّ] ، ويسار [غلام خديجة] وزوجته سميّة وابنه عمّار. وكان عبد الله بن مسعود وخبّاب من السابقين إلى الاسلام، وكذلك كان الأرقم [بن ابي الأرقم المخزومي] الذي جعلت داره مركز نشاط الرسول التبشيري، حوالى السنة الرابعة بعد البعث. وخلال السنوات الثلاث الأولى بلغ عدد الذين دخلوا في الدين اربعين رجلا وامرأة. وهذا ما ينسف الظنّ القائل بأن فترة انقطاع الوحي امتدت أكثر من ثلاث سنوات. إذ ان مثل هذا الافتراض يحتم ان تكون الدعوة إلى الايمان قد بدأت في السنة الرابعة، على حين ان الاسلام كان في الواقع قد اكتسب حتى ذلك الحين عددا من الأتباع كبيرا. والحق ان هذا النمو المطّرد الذي عرفه الاسلام هو الذي روّع المكيين وأثار معارضتهم الشرسة. ومن اجل هذا تعيّن على الرسول أن يشخص إلى موطن ناء عن المضايقات العدوانية لكي يتمكن من اداء رسالته على نحو أحفل بالأمن. ووقع الاختيار على دار الارقم لهذا الغرض. والحقيقة القائلة بأن عدد المسلمين في السنة الرابعة لم يكن أقلّ من أربعين ينهض دليلا قاطعا على ان فترة انقطاع الوحي لم تدم ثلاث سنوات بأية حال، بل لم تدم حتى سنة واحدة.

وتواصل دخول الناس في الدين، وكان في إسلام بعض البارزين من رجال قريش ما زاد في قوة الجماعة الصغيرة. وإنما كان ابرز هؤلاء حمزة، عمّ الرسول وأخوه من الرضاع. وكان رجلا عسكري

الروح ذا ولع بالصيد. ولقد تمتّع، بشيء من خلقه الرفيع، باعتبار واحترام عظيمين بين مواطنيه. وكان يستشعر نحو محمد حبا خاصا.

أما اسلامه فتمّ على النحو التالي: ذات يوم، كان أبو جهل يؤذي الرسول- جريا على مألوف عادته- عندما مرّت جارية حمزة بالمكان فارتاعت لمشهد تلك المعاملة الوحشية. وكان حمزة قد مضى في رحلة صيد، فلم يكد يرجع إلى بيته حتى روت عليه جاريته القصة المحزنة.

وكان قد أعجب قبل ذلك بشخصية ابن عمه. حتى إذا سمع بما أخضع له من ضروب الاساآت على اختلاف أنواعها اخضاعا لا رحمة فيه غضب غضبا شديدا. ولقد اعتبر أن من اللامروءة إلى الحد الاقصى أن لا ينصر رجلا في مثل استقامة الرسول وصلاحه، بل لقد اعتبر ان من الخسّة المحض ان يقف من هذه الأعمال موقف المتفرج.

وهكذا عقد العزم في تلك اللحظة وفي ذلك المكان على الانضمام إلى معسكر الحق، والدفاع عنه بكل ما يملك من قوة جسدية. فشخص لتوّه إلى الكعبة، حيث كان ابو جهل واشياعه يعقدون اجتماعا ابتغاء شنّ حملة على الاسلام، وأعلن على رؤوس الأشهاد اعتناقه الدين الاسلامي.

وكان عمر هو الرجل العظيم الثاني الذي اثبتت الأيام أن انضواءه تحت لواء الرسول كان نصرا للاسلام وقوّة له. ولقد سبق له، بوصفه رجلا حادّ الطبع، أن كان شديدا، على نحو متكافئ، في مقاومته للاسلام. والواقع انه ذهب إلى حد عقد النية على قتل الرسول، مصدر الحركة الجديدة، ووضع حد للبلاء كله. وهكذا انتضى سيفه، ذات يوم، وانطلق إلى بيت الرسول. ومع ذلك فأنه لم يكن قد علم ان اخته فاطمة، وزوجها سعيد [بن زيد] قد أسلما. واتفق ان التقاه في بعض الطريق رجل من المسلمين [هو نعيم بن عبد الله] ، وإذ لاحظ الشرّ في عينيه سأله ما الذي يعتزم أن يفعله، فأجابه عمر بقوله:

«أريد ان اقتل محمدا» ، فقال له المسلم ان من الخير له أن يرجع إلى أهل بيته ويقيم أمرهم ثم يفكر بعد ذلك بقتل الرسول*، ذلك بأن أخته وبعلها كانا كلاهما قد اعتنقا الاسلام. ولم يكد عمر يسمع نبأ اسلامهما حتى استبدّ به أعظم الغيظ، واتخذ سبيله نحو بيتهما، أولا، لكي يصفي حسابه معهما. واتفق ان كان خبّاب يتلو عليهما آيات من القرآن الكريم عندما دخل عمر بيتهما. فسارعا، بسبب من خوفهما، إلى اخفاء الصحيفة التي خطّت الآيات عليها. وكان قد سمعهما يتلوان القرآن. فما إن اجتاز عتبة البيت حتى تساءل [ما هذه الهينمة التي سمعت؟ فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت انكما تابعتما محمدا على دينه] ، وأمسك بسعيد وأنشأ يوسعه ضربا. وتدخلت أخته محاولة ان تنقذ زوجها من غائلة غضبه، فضربها، فشجّها، فسال الدم منها. وأخيرا صاحت في نبرة متحدّية: «نعم! أسلمنا، فاقض ما أنت قاض!» وكان لهذه الجرأة التي تكشّفت عنها أخت عمر برغم تعنيفه إياهما أثر عظيم في فثأ غيظه. فاذا به يكفّ عن ضربهما، ويسألهما ان يرياه الصحيفة التي كانا يتلوان القرآن منها.

وترددت أخته في ذلك خشية أن تبدر منه إهانة ما للكتاب الكريم، حتى إذا أكّد لها انه لن يؤذي مشاعرهما الدينية أكثر مما فعل قدّمت اليه الصحيفة التي اشتملت على سورة طه**. واليك مستهلّها: «طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى.

تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.» *** فما ان

__________

(*) جاء في كتب السيرة ان نعيم بن عبد الله قال لعمر: «والله لقد غشتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الارض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك وتقيم أمرهم!» (المعرب)

(**) وهي السورة العشرون.

(***) السورة 20، الآية 1- 4.

سمع جزآ من السورة حتى عجز عن مقاومة سلطان الحقيقة القرآنية الذي استحوذ عليه استحواذا. ومن ثم راح يتدبّر حماقة عدائه لما أظهرت له الروية أنه تعاليم فاتنة. ولم يتلكأ خبّاب، الذي ألجأه الخوف إلى الاختباء طوال تلك الفترة، عن اقتناص اللحظة السيكولوجية والافادة منها. فغادر مخبأه وأنشأ يدعوه إلى الدخول في الدين. وسرعان ما أذعن عمر الجبار لقوة الاسلام الروحية. وبعد أن سأل خبّاب أين يستطيع أن يلقى الرسول، مضى مباشرة إلى دار الأرقم التي كانت في تلك اللحظة تظل الرسول واربعين من صحابته، رجالا ونساء.

وقرع عمر الباب، فاختلس أحد المسلمين النظر ليرى من القادم. حتى إذا بصر بعمر متقلّدا سيفه، استبدّ به الرعب، بعد ان توهم ان عمر أقبل إلى هناك لأمر مريب. بيد ان الرسول سأله ان يفتح الباب ويدخله. ولم يكد عمر يمثل بين يديه ويوجّه اليه محمد جملة واحدة ليس غير حتى أعلن قائلا: «يا رسول الله، أشهد ان لا إله إلا الله وانك رسول الله.» فغمر الجماعة الاسلامية كلها فرح بالغ، وهللوا وكبّروا حتى لقد ردّدت الهضاب المجاورة صيحاتهم: «الله اكبر! الله اكبر!»

وكان في اسلام عمر منعة للجماعة الاسلامية الفتية التي كان عودها ما يزال أطرى من ان يواجه عاصفة المعارضة. وإنما اعزّ الله الاسلام بحمزة وعمر في السنة السادسة من رسالة محمد. فحتى ذلك الحين لم يجرؤ المسلمون على ممارسة شعائرهم علنا. وكانوا قد حصروا نشاطهم الديني ضمن جدران دار الأرقم الاربعة. حتى إذا أعلن عمر إسلامه استشعروا انهم أمسوا من القوة بحيث يخرجون من نطاق السّرّية، فأنشأوا يقيمون صلواتهم على نحو علنيّ في البيت الحرام (الكعبة) .

وفي غضون ذلك دخل في كنف الاسلام كثير من أبناء الطبقات الدنيا.

وكان أبناء الأسر النبيلة يوفقون في بعض الأحيان إلى اجتناب مساآت

المكيين واضطهاداتهم، ولكن المهتدين من العبيد المساكين كانوا في وضع يائس بائس. لقد أنزلت بهم في غير ما رحمة ضروب التعذيب على اختلافها من غير أن يجدوا من يحميهم من غضب ساداتهم. والواقع ان من مآثر أبي بكر التي يقوم عليها سموّ خلقه انه أنفق ثروته، بسخاء، في شراء هؤلاء العبيد المضطهدين من سادتهم الغلاظ القلوب، وإعتاقهم. وكان بلال، وعامر، ولبينى، وزنّيرة، ونهديّة، وامّ العبيس بعض اولئك الذين كانوا مدينين بحريتهم لجود ابي بكر وكرمه.

ومن السّمات الرائعة جدا لانتشار الاسلام في أيامه الأولى أنه كان مقصورا في الأعم الاغلب على الفقراء. أما الارستوقراطية فقد اعارت الرسالة المحمدية أذنا تكاد ان تكون صماء. وفي القرآن الكريم حادثة تلقي ضوآ كافيا على الغرض الالهي من بقاء الطبقات العليا محرومة في طفولة الاسلام من نعمه وبركاته. * فقد كان الرسول منشغلا ذات يوم في دعوة نفر من نبلاء قريش إلى الدخول في الدين عندما جاءه رجل أعمى يدعى ابن امّ مكتوم. وإذ لم يكن يعلم ان الرسول في شغل شاغل فقد طرح بضعة أسئلة متوقعا من وراء ذلك ان يلفت نظر النبي اليه. ولم يرتح النبي، وهو المنهمك في ذلك الحديث الهام، لهذه المقاطعة. إنه لم يعنّف الاعمى ولم ينطق بأية كلمة من كلمات الاستياء، ولكن شيئا من العبوس ليس غير تبدّى على جبينه.

بيد ان الله الذي أراد له ان يبلغ الذروة العليا في الخلق والأدب لم يدع هذه الحادثة تمرّ من غير تعليق. ومن ثمّ نزل عليه الوحي الالهي محذّرا: «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.» ** ثم تمضي الآيات الكريمة فتقول انه كان من الجائز جدا ان ينشرح صدر ذلك

__________

(*) السورة 80.

(**) السورة 80، الآية 1- 2.

الاعمى نفسه للدعوة المحمدية؛ ذلك بأن القرآن كان ناموس حياة يستطيع البسطاء من الناس ان يرتفعوا بفضله إلى الصعيد الاعلى. ولقد نصحت الرسول أيضا بأن لا يعلق أهمية كبيرة على العظماء من الرجال. فقد كان رسوخ الاسلام مرهونا بالفقراء والضعفاء الذين سوف يتحقّقون هم أنفسهم بالمجد بفضل نضالهم من أجل نصرة قضيته. والواقع أن هذه كانت هي الحكمة الالهية الكامنة وراء الحقيقة القائلة بأن العنصر الاضعف من أهل مكة هم الذين رحبوا أكثر من غيرهم بالهدي الاسلامي. لقد أريد بهم أن يكونوا دليلا ملموسا على ان في استطاعة العاديين من الناس، تؤيدهم روح الله، ان ينجزوا ما يعجز عن فعله أشد الناس قوة وأعزّهم نفرا. ونحن نعلم علم اليقين، في ضوء التاريخ، ان الاسلام لم يمكّن طبقة الضعفاء والمرذولين هذه نفسها من تقلّد صولجان الملكية فحسب، بل عدا ذلك إلى رفعهم في الوقت نفسه إلى اسمى مراتب الاخلاق، والفن، والعلم، والفلسفة، وإلى جعلهم حملة مشعال المعرفة في عصر كان العالم غارقا خلاله في ظلمات الجهالة.

أليس في هذا أعظم شاهد على مقدرة التعاليم الاسلامية على النهوض بالناس ورفعهم [من درك المذلة إلى قمة المجد؟] .

وحادثة الرجل الأعمى، على تفاهتها، تلقي فيضا من النور على مشكلة ذات خطر عظيم. إنها تزوّدنا بما نستطيع أن نقرر على ضوئه أمرا في قضية طالما اختلف فيها العلماء وتنازعوا، أعني طبيعة الوحي الالهي الذي قدّر للرسول أن يتلقّاه. هل كان صوتا نابعا من قلب الرسول نفسه، ام كان رسالة مستقبلة من مصدر خارجي؟ إن الآيات التي نزلت بعيد لا مبالاة الرسول بالرجل الكفيف تنهض دليلا على انه لا يمكن بأية حال ان يكون ثمرة عمل باطني قام به عقل الرسول نفسه. فقوامها لوم الهي للرسول لإعراضه عن الأعمى. وليس يطيق ايما امرئ ان نعرض اخطاؤه على أنظار الخاص والعام، إذا استطاع اجتناب ذلك، مهما

استشعر الندم والتوبة. وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الرسول، برغم كبر قلبه وشهامته، كان يستشعر أيما نزوع ملحّ إلى التشهير بنفسه، لهذا الإعراض، مهما يكن تافها، على رؤوس الأشهاد.

وذلك يظهر ان الوحي جاء من مصدر خارجي ما- هو الذات الالهية نفسها. ولقد أذاعها في الناس، على الرغم من علمه بأنها استنكار الهي لعمله سوف يظل خالدا يتردد في آذان الناس إلى أبد الآبدين.

والحق ان الاذعان البهيج لارادة الله العليا كان هو المبدأ الرئيسي في حياته كلها. وبالاضافة إلى إثبات مصدر الوحي الخارجي على نحو قاطع، فأن تلك الحادثة تغني عن تحبير مجلدات لتوكيد فناء الرسول الكلّي في الخضوع لمشيئة الله.



كلمات دليلية: