withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة_1052

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة


الهجرة إلى المدينة:

* ولما تمّ أمر البيعة بين النبى صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل المدينة، وبقى أصحابه في ضنك من إيذاء المشركين، شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم استأذنوه في الهجرة، فمكث أياما وخرج إلى أصحابه وهو مسرور، وقال: قد أخبرت بدار هجرتكم، ألا وهو يثرب، فمن أراد منكم الخروج فليخرج. فصار القوم يتجهزون ويترافقون، ثم صاروا يرحلون من مكة أرسالا (أى قطائع) سرا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه أعلن بالهجرة ولم يمنعه أحد من المشركين ولا قصده بسوء. فلما قدموا المدينة أنزلهم الأنصار في دورهم وواسوهم، ولم يبق بمكة إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعلي رضى الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذنه في الخروج، فيقول له:

«لا تعجل؛ لعل الله أن يجعل لك صاحبا» ، فرجا أبو بكر أن يكون ذلك الصاحب، وترصّد رفاقته وانتظر صحبته صلّى الله عليه وسلّم.

وورد في حق أبى بكر حديث عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحم الله أبا بكر، زوّجنى ابنته، وحملنى إلى دار الهجرة، وصحبنى في الغار، وأعتق بلالا من ماله، وما نفعنى مال في الإسلام ما نفعنى مال أبى بكر» «1» .

ولما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليّا.

__________

(1) والحديث بتمامه: «رحم الله أبا بكر: زوّجنى ابنته، وحملنى إلي دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله، وما نفعنى مال في الإسلام ما نفعنى مال أبى بكر. رحم الله عمر: يقول الحق وإن كان مرّا، لقد تركه الحق وما له من صديق، رحم الله عثمان تستحييه الملائكة، وجهّز جيش العسرة، وزاد في مسجدنا حتّى وسعنا. رحم الله عليّا: اللهم أدر الحق معه حيث دار» . (رواه الترمذى عن على)

[التامر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة] :

ثم لما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد صارت له شيع وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج شيعته وأصحابه «1» من المهاجرين إليهم تحدّوا خروجه صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في إخراجه أو حبسه أو قتله، وهي دار قصى بن كلاب، وهو أوّل من بناها، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، ومنعوا الناس من الدخول إليهم، لئلا يدخل أحد من بنى هاشم، فيطّلع علي حالهم، فلما قعدوا للتشاور تزيّا* لهم إبليس بصورة شيخ نجدى متطيلس» «2» فوقف علي الباب، فلمّا رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحا قالوا: ادخل.

فدخل، وكان قد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة.

فزعم ابن دريد في «الوشاح» «3» أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، وقال ابن دحية فى «مولده» : إنهم كانوا مائة رجل. ثم شرعوا في الكلام فقال بعضهم: إن هذا الرجل- يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم- قد كان من أمره ما كان، وإنّا لا نأمن منه الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأيا، فقال بعضهم: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا بابه، غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتربصوا به ريب المنون حتي يهلك فيه، كما هلك من الشعراء من كان قبله، كزهير والنابغة. فصرخ الشيخ النجدى (عدو الله ورسوله) فقال: بئس الرأي؛ والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فوثبوا وانتزعوه من أيديكم،

__________

(1) فى الأصل: «شيعة أصحابه» وبهذا يكون المعنى أصحاب أصحابه، وهو غير مستقيم المعنى، فأصلحناه إلى ما تري.

(2) متطيلس: أي يلبس طيلسانا وهو ضرب من الأوشحة يحيط بالبدن أو يلبس على الكتف، خال من التفصيل والحياكة.

(3) من كتب ابن دريد المفقودة. راجع كتاب ابن دريد حياته وتراثه، للدكتور السنوسى نشر مكتبة الاداب ص 122- 131.

* أى ظهر لهم في زى شيخ نجدى.

قالوا: صدق الشيخ، وقال بعضهم: رأيي أن تحملوه علي جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضرّكم ما صنع، واسترحتم. فقال الشيخ: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال مما يأتى به، فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتّى يبايعوه، ثم يسير بهم حتّى يطأكم بهم. فقالوا: صدق الشيخ، فقال أبو جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في هذه البطون، فلا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعا، فصوّب الشيخ النجدى قول أبى جهل. فتفرقوا على رأيه مجمعين على قتله، فأخبر جبريل بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مما أنزل عليه في ذلك اليوم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الاية 3 سورة الأنفال] وقوله عز وجل أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الاية 30 سورة الطور] .

* ولما استقر رأي قريش بعد المشاورة على قتله صلّى الله عليه وسلّم، أتاه جبريل وأخبره بذلك، وقال: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذى كنت تبيت عليه، وقال له: إن الله يأمرك بالهجرة إلى المدينة، ثم سأل جبريل عمّن يهاجر معه، قال: «أبو بكر الصدّيق» ، فمن ذلك سمّاه الله صديقا، وقد سبق أن سبب تسميته صدّيقا في المعراج بقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت في كل ما تخبر به» ، فلعل هذا سببا ثانيا لتأكيد التسمية بالصدّيق وتحقيقها. فلما كان الليل اجتمعوا علي بابه يرصدونه حتي ينام، فيثبوا، أى ينهضوا ويقوموا عليه، وهو إذ ذاك داخل الدار، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا فنام مكانه، وغطّى ببرد أخضر، وكان أول من شرى نفسه، ونزل فيه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الاية: 207 سورة البقرة] .

وذكر الغزالى في «الإحياء» بأن الله تعالى أمر جبريل وميكائيل أن يهبطا إلى

الأرض ويحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

وأنشد علي بن أبى طالب رضى الله عنه قصة مبيته على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:

وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار امنا ... موقّى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتّ أراعيهم وما يثبتوننى ... وقد وطّنت نفسى عن القتل والأسر

وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرصدوا له، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد، ونثر عيي رؤسهم كلهم ترابا في يده وهو يتلو يس إلى قوله تعالى:

فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] كما قيل:

وقريش إذ عزم الرحيل مهاجرا ... ملأوا المسالك راصدا ومشاجرا

فمضى لحاجته ولم ير حاجرا ... والقوم يقظى والبصائر نوّم

نثر التراب علي رؤوس الحسّد ... وسري وقد وقفوا له بالمرصد

قولوا لأعمى العين مغلول اليد ... أنف الشّقي ببعض أحمد مرغم

ثم انصرف حيث أراد، فأتاهم ات ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيّبكم الله، والله قد خرج محمد عليكم ما ترك منكم رجلا إلا وضع عليه ترابا وانطلق لحاجته، فما ترون ما بكم!» فوضع كل رجل يده علي رأسه فإذا عليه تراب.

فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

نعم. فجهزت أسماء بنت أبى بكر وال أبى بكر «1» جهاز السفر أحسن جهاز، وصنعن لهم «2» سفرة (أى زادا في جراب) ، وكان في السفرة أى في الزاد شاة مطبوخة، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب المشتمل علي الزاد، وأبقت الاخرى نطاقا لها، فبذلك سميت ذات النطاقين، كما روى في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق زوّج الزبير بن العوام من كبار الصحابة، روي عنها ابناها عبد الله وعروة وجماعة، أسلمت قديما بمكة وهاجرت إلي المدينة، وتوفيت بمكة بعد ابنها عبد الله بيسير سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقد جاوزت المائة.

ويروى أنها قالت للحجّاج: بلغنى أنك تعيّر ابنى عبد الله بن الزبير بابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وأما الاخر فنطاق المرأة التى لا تستغنى عنه عند أشغالها.

وفي حديث أم إسماعيل: «أول ما اتخذ الناس النّطق من قبل: أم اسماعيل اتخذت منطقا» المنطق: النطاق، وجمعه مناطق، وهو أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشدّ وسطها بشئ وترفع وسط ثوبها وترسله علي الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها، ومنه سميت أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنها «ذات النطاقين» ؛ لأنها كانت تطارق نطاقا فوق نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الاخر الزاد إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وهما في الغار، وقيل: شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الاخر شدادا لزادهما.

__________

(1) فى الأصل: «فجهز زوجات النبى صلّى الله عليه وسلّم وغيرهن جهاز السفر» وهو خطأ فاحش، إذ لم يكن للنبى صلّى الله عليه وسلّم زوجات في ذاك الوقت- فخديجة رضى الله عنها انتقلت إلي رضوان الله تبارك وتعالى قبل الهجرة بمدة، ولم يتزوج بأحد من زوجاته رضى الله عنهن إلا بعد الهجرة والاستقرار بالمدينة، ولعل هذا من التحريف المطبعى أو سبق قلم، وجلّ من لا يسهو سبحانه وتعالى.

(2) لأنهم كانوا أربعة: سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسيدنا أبو بكر، وعامر بن فهيرة، مولى أبى بكر- وعبد الله بن أريقط. أما أبو بكر رضى الله عنه فكان صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حله وترحاله، وأما عامر بن فهيرة فكان راعى غنم يخرج بغنمه فيعفى اثارهما ليضلل المشركين، وأما عبد الله ابن أريقط فكان الدليل لهما في شعاب الجبال؛ لأنه كان يعرفها جيدا. وعن عائشة أنه لم يكن يعرف مكانهما في الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر وعامر بن فهيرة.

وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ووقف علي الحزورة «1» ونظر إلي بيت الله الحرام، وقال حين خروجه من أم القري: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ وإنك خير بقعة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله تعالى، ولولا أهلك أخرجونى لما خرجت منك» «2» .

وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن خير بلدة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله مكة» .

وسميت أمّ القري «3» لأنها قبلة أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج والتجارة كما يجتمع الأولاد للأم، وقيل:

لأن الكعبة أوّل بيت وضع للناس. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:

لا تنكرنّ لأهل مكة قسوة ... والبيت فيهم والحطيم وزمزم

اذوا رسول الله وهو نبيّهم ... حتى حمته أهل طيبة منهم

خاف الإله على الذى قد جاءه ... سلبا فلا يأتيه إلّا محرم

أى خاف الله أن يسلب أهل مكة القادم إلى الحرم، فصار يقصد مكة الناس بالإحرام.

وأما حديث: «اللهم كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ، فأسكنّى أحبّ البقاع إليك» «4» فلم يصح عنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن مكة أفضل من غيرها بوجوه:

__________

(1) الحزورة: ضبطها صاحب المراصد بسكون الزاى وفتح الواو: سوق كانت بمكة، ودخلت في المسجد الحرام لمّا زيد فيه.

(2) وفي لفظ اخر «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام مالك والترمذى وابن ماجه وابن حبان، والحاكم عن عبد الله بن عديّ ابن الحمراء.

(3) سماها الله تعالى «أم القري» يي قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الاية: 92 الأنعام] .

(4) التحقيق في هذا الحديث أنه صحيح. قال محب الدين الطبرى في كتابه «القرى لقاصد أم القرى» ص 677 ما نصه: « ... ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فذهب عمر وبعض الصحابة إلى تفضيل المدينة، وهو قول مالك وأكثر المدنيين، وحملوا الاستثناء في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إلا المسجد الحرام على أن مسجدى يفضله» بدون الألف. وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة، وبه قال ابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وإليه-.

منها أنه تعالى أوجب قصدها للحج والعمرة الواجبين، وقصد المدينة سنّة، وإن فضّلت بإقامة النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة فمكة أفضل؛ لأنه أقام بها ثلاث عشرة أو خمس عشرة، وبالمدينة عشرا، فإن فضّلت بكثرة الطارقين فمكة أفضل؛ لكثرة من طرقها من الأولياء والصالحين والأنبياء والمرسلين، فما من نبي إلا حجّها؛ وهى متبوّأ إبراهيم وإسماعيل، ومولد سيد المرسلين، وليست المدينة كذلك، وإن ذهب إلي تفضيلها علي مكة الإمام مالك. ولو صحّ الحديث السابق فهو مجاز لوصف المكان بما يقع فيه، كبلد امن، أو خائف، فوصف بأنه محبوب لما فيه مما يحبه الله من إقامة الرسول به إلي القيامة، وتكميل إرشاد الأمة والدين به، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ في أمر معاشى فأسكنّى الأحب إليك في أمر معادي، وهو ظاهر؛ فإنه لم يزل في زيادة من دينه وبلوغ أمره إلى إلي أن تكامل، وبشّر بذلك في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3] الاية.

وسيأتى قريبا بيان ذلك على وجه أوضح.

__________

- ذهب الشافعي. وزيادة أبى حاتم وغيره تردّ ما ذهبوا إليه من التأويل. وما احتجوا به من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجتنى من أحب البقاع إليّ فأسكنّى في أحب البقاع إليك» محمول على أنه أراد أحب البقاع بعد مكة، بدليل حديث النسائى وابن حبان في فضل مكة، فإنه دلّ على أنه أحب أرض الله إلى الله، علي أن الحديث نفسه لا دلالة فيه؛ لأن قوله «فأسكنى في أحب البقاع» ، هذا السياق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة؛ فإن الإنسان لا يسأل ما أخرج منه، فإن قوله «أخرجتني» «فأسكنى» يدل على إرادة غير المخرج منه، وتكون مكة مسكوتا عنها في الحديث» اهـ. بحروفه. ونص حديث النسائى وابن حبان، وأخرجه الترمذى أيضا، «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» ولكن في «الفتح الكبير» ورد هذا الحديث بلفظ: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عدى ابن الحمراء. وكلا الحديثين وارد وصحيح. والله تعالى أعلم.

الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

لما بايعت الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي ما ذكر، أمر أصحابه فهاجروا إلي المدينة، وبقي هو وأبو بكر وعليّ، فخرج هو وأبو بكر مستخفيين من قريش، فلما فقدت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، فلم يجدوه، فشقّ عليهم خروجه، وجعلوا مائة ناقة لمن يردّه. ولما خرج أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوجها إلي الغار جعل طورا يمشى أمامه وطورا يمشى خلفه، وطورا عن يمينه، وطورا عن شماله، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك، وأتخوّف الطلب فأحب أن أكون خلفك، وأحفظ الطريق يمينا وشمالا، فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر؛ الله معنا.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير لابس شيئا في رجليه، فحفي*؛ لأنه لم يتعوّد الحفاء، فحمله أبو بكر رضى الله تعالى عنه على كاهله حتّى انتهي إلى الغار، فلما أراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل، قال أبو بكر: والذى بعثك بالحق نبيّا لا تدخله حتي أدخله فأسبره «1» قبلك. فدخل أبو بكر رضى الله عنه، فجعل يلتمس الغار بيده في ظلمة الليل مخافة أن يكون فيه شئ يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا لم ير فيه شيئا دخل صلّى الله عليه وسلّم الغار، وجعل رأسه في حجره «2» ونام، ورأى أبو بكر رضى الله عنه جحرا فألقمه عقبه، فلدغ أبو بكر رضى الله عنه في رجله، فلم يتحرّك، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما هذا؟ قال له: لدغت، فتفل

__________

* حفى: رقّت قدمه من كثرة المشى حافيا (المعجم الوسيط 193) .

(1) السير: معرفة الغور، من قولك: سبر فلان الشئ أى عرف غوره، ومنه المسبار: مقياس الحرارة. والمقصود أنه يتعرف علي ما فيه خشية الأذي.

(2) أى في حجر أبى بكر.

عليه صلّى الله عليه وسلّم فذهب ما يجده. وباتا في الغار، وأمر الله العنكبوت فنسجت على فم الغار، وأمر حمامتين فعشّشتا وباضتا. وما أحسن ما قيل:

وخافت عليك العنكبوت من العدا ... فأرخت بباب الغار مكرا بها سترا

ووافقها في الذّبّ عنك حمائم ... أتين سراعا فابتنين به وكرا

فلمّا أتي الكفّار طرن خديعة ... فحيّا الحيا «1» تلك الخديعة والمكرا

وأقبل فتيان قريش بسهامهم وسيوفهم، ومعهم من يقصّ الأثر، حتي انتهى إلى الغار فقال لهم: إلي هنا انتهى أثره، فما أدرى بعد ذلك أصعد إلى السماء أم غاص في الأرض! فقال لهم قائل: ادخلوا الغار، فقال أميّة بن خلف: ما تنظرون إلى الغار، وإن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد؟ فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اعم بصرهم» فجعلوا يترددون حول الغار، لا يرون أحدا، ويقولون: لو دخلا هذا الغار تكسّر بيض الحمام وتفسّخ بيت العنكبوت. فعلما أن الله تعالى حمي حماها بالحمام، وصرف عنهما كيد الأعداء بالعنكبوت، ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك.

روى ابن وهب أنّ حمام مكة أظلت النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتحها، فدعا لها بالبركة.

ونهى عن قتل العنكبوت. وقال: «هى جند من جنود الله» .

إلّا أن البيوت تطهّر من نسجها لأنه يورث الفقر «2» .

__________

(1) حيّا من التحيّة، والحيا: المطر والخصب، وهو دعاء للعنكبوت والحمامتين؛ لأنهما فعلا شيئا لم يفعله بنو ادم.

(2) فى الأسلوب ركاكة، ولعل سقطا حدث في الكلام أوجب هذه الركاكة. وأسند الثعلبى وابن عطية عن الإمام على رضى الله عنه وكرّم الله وجهه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت؛ فإن تركه في البيت يورث الفقر» . وقد نسجت العنكبوت على الغار الذى دخله «عبد الله بن أنيس» لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قتل خالد بن نبيح بالعرنة، فقتله واحتمل رأسه، وطارده الكفار، فدخل غارا، فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا، فرجعوا. ونسجت على سيدنا داود عليه الصلاة والسلام حين طلبه عدوّ الله جالوت، ونسجت على عورة الإمام زيد بن علي بن الحسين، لما قتل، وصلبوه عريانا رضى الله عنه عام 121 هجرية، لعن الله كل من اشترك في قتله ولو بحرف من كلمة.

وإلى ذلك يشير صاحب البردة بقوله:

وما حوى الغار من خير ومثن كرم ... وكلّ طرف من الكفار عنه عمى

فالصدّق في الغار والصدّيق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم

وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم

وقيل في هذا المعنى:

والعنكبوت أجادت حوك حلّتها ... فما تخال خلال النسج من خلل

وما أحسن قول ابن النقيب:

ودودة القزّ إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شئ

فإنّ العنكبوت أجلّ منها ... بما نسجت على رأس النبى «1»

وروى لما اطّلع المشركون فوق الغار، وأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ؟!. وقال حسان ابن ثابت:

وثانى اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا

وكان حبّ رسول الله- قد علموا- ... من الخلائق لم يعدل به بدلا

__________

(1) ومن الطرائف أن رجلا يقال له ياقوت، قال:

ألقنى في لظى فإن أحرقتنى ... فتيقن أن لست بالياقوت

جمع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت

نسج داود: الدروع وما يتقى به في الحروب فرد عليه يعقوب بن جابر:

أيها المدّعى الفخار دع الفخ ... ر لذى الكبرياء والجبروت

نشج داود لم يفد ليلة الغا ... ر، وكان الفخر للعنكبوت

وبقاء السمندل في لهب السنا ... ر مزيل فضيلة الياقوت

وكذا النعام يلتقم الحم ... حر، وما الحمر للنعام بقوت

والسمندل: طائر يبيض ويفرخ في النار في بلاد الهند.

قال أبو بكر- كما في الصحيحين-: «نظرت إلى أقدام المشركين من الغار على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» . وكان مكثه صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر في الغار ثلاث ليال، وقيل بضع عشرة يوما*، وروى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما رأى القافة**- جمع القائف- قال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، قال صلّى الله عليه وسلّم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أى بالمعونة والنصرة فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى علي أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، لا علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن السكينة لا تفارقه؛ وهى أمنة تسكن عندها القلوب، وَأَيَّدَهُ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ أى ملائكة يصرفون أبصار الكفار عنه.

وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبى بكر: «أنت صاحبى في الغار، وصاحبى على الحوض» «1» .

قال الحسن بن الفضيل: من قال إن أبا بكر رضى الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر؛ لإنكار نص القران، وفي سائر «2» الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا.

قال بعض النقاد ما معناه: ولما غار الحقّ تعالى علي نبيّه وصاحبه من أعدائهما، أدخلهما غار الحفظ والأمان، وأذهب عنهما الهموم بجميل رعايته والأحزان، كما صرّح بذلك القران: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] فكشف في تلك الخلوة لصدّيقه الحجاب، ودعا له بالبركة من عقبه إلى يوم الحساب، وكان الله معهما في هاتيك الخلوة، والمتجلّى عليهما في تلك الجلوة «3» ، فصحبهما اسم الجلالة لفظا ومعنى؛ فإنه من حيث اللفظ يقال رسول رسول الله، وخليفة رسول الله، ولم يكن ذلك إلا للصدّيق رضى الله عنه، ومن حيث المعنى

__________

* الصواب: بضعة عشر.

** القافة: الذين يتبعون الأثر.

(1) ورواه الترمذى، والحاكم عن عمر بن الخطاب.

(2) أى بقية الصحابة.

(3) موضع تجلّى الله أى ظهور عظيم فضله.

فإنه معهما بالإمداد والإسعاد. واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأبو بكر رضى الله عنه عبد الله بن أريقط دليلا، وهو علي دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام، فدفعا إليه راحلتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فساروا علي طريق السواحل، ونزل صلّى الله عليه وسلّم بقديد «1» علي أم معبد: عاتكة بنت خالد، فمسح ضرع شاة مجهودة، وشرب من لبنها، وسقى أصحابه، واستمرت تلك البركة فيها، فلما جاء زوجها أكتم بن الجون، ورأي ما بالشاة من اللبن، سألها فقالت: «رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلّج الوجه، حسن الخلق» ، وصارت تصفه بأوصافه إلي أن قالت: له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر يبادرون إلى أمره، فقال: والله هذا صاحب قريش. ثم هاجرت بعد ذلك هى وزوجها، فأسلما، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ولمّا مرّت قريش سألوها عنه ووصفوه.

فقالت: ما أدرى ما تقولون، قد ضافنى حالب الحائل «2» ، فقالوا: ذاك الذي نريد.

وبعد أن خرج من مكة سمع صوت لا يرى صاحبه:

جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد

هما نزلا بالهدى واهتديا به ... وقد فاز من أمسى رفيق محمد

فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد

فيال قصى «3» ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد

ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت ... به من صريح ضرّة الشّاة مزيد

فغادرها رهنا لديها لحالب ... تزوّدها في مصدر ثم مورد

فعرف الناس توجهه إلى المدينة.

__________

(1) فى المراصد «قديد» تصغير «قد» موضع قرب مكة.

(2) الحائل: فى الأصل: كل أنثى لا تحبل، وبالتالى لا تدرّ لبنّا، والمقصود هنا الشاة المجهودة.

(3) يا أل قصى.

ولما سمع حسان بن ثابت قال في جوابه هذه الأبيات:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسرى إليهم ويغتدى

ترحّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مدّد

هداهم به بعد الضلالة ربّهم ... وأرشدهم: من يتبع الحقّ يرشد

وهل يستوى ضلال قوم تسفّهوا ... همّى وهداة يهتدون بمهتد

لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم باعد

نبىّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد

وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ثم تعرّض للنبى صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر رضى الله عنه سراقة بن مالك المدلجي، وعلم أنهما اللذان جعلت فيهما قريش ما جعلت لمن أتى بهما، فركب فرسه وتبعهما بزعمه، فبكى أبو بكر وقال: «يا رسول الله أتينا «1» ، قال: كلا» فلما دنا سراقة صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يمنعنى العزيز الجبار، الواحد القهار. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعوات، وقال: «اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت» فساخت* قوائم فرسه، فطلب الأمان، وقال:

أعلم أن قد دعوتما عليّ فادعوا لي، ولكما أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما. قال سراقة: فوقفا لي، ثم ركبت فرسى حتّى جئتهما، قال: فوقع في نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرتهما بما يريد الناس منهما، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا. وأنشد بعضهم لأبى بكر رضى الله عنه قصيدة مطلعها:

قال النبىّ ولم يجزع بوقر بى ... ونحن في سدف من ظلمة الغار

«لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا............... ............... ...

إلي اخر القصيدة المذكورة في بعض السير.

__________

(1) فى الأصل «أوتينا» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.

* أى غاصت في الأرض.

قال: ومع أن مثل هذه القصيدة الساقطة لا يسمح الذوق السليم بنسبتها إلي أبى بكر رضى الله تعالى عنه- علي فرض كونه يقول الشعر- فقد ذكر ابن عبد البر في ترجمة الصدّيق رضى الله عنه ما لفظه:

روى سفيان بن حسين عن الزهرى قال: سألنى عبد الملك بن مروان، قال:

رأيت هذه الأبيات التي تروى عن أبى بكر رضى الله عنه؟ فقلت له: حدثنى عروة عن عائشة رضى الله عنها أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام حتي مات. انتهي.

فحينئذ يحتمل أن تكون هذه الأبيات نظمت علي لسانه، وأنه أنشدها، كما قيل فيما نسب إليه من قوله بعض أبيات، منها قوله:

كلّ امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

وعن عائشة رضى الله عنها قالت: «إن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أى ولا في الجاهلية» كما في رواية عنها، أي لم ينشئ الشعر حتي مات. وأما ما روى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال: كان أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه إذا رأى النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول:

أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام «1»

فمحمول علي أنها لم تسمع ذلك منه، علي فرض أنه من إنشائه، وكذلك ما ذكره صاحب «الينبوع» «2» في قوله: ليس عمل الشعر رذيلة؛ فقد كان الصدّيق وعمر وعلى رضوان الله عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبى بكر وعمر، ولو أنه بظاهره مناف لقول عائشة، إلا أنه يحمل على الإنشاد كثرة وقلة، فإن عليا رضى الله عنه دوّن باسمه ديوان، ولا مانع أن يكون كله مما تمثل به إن لم يثبت عنه إنشاد الشعر» .

ولما بلغ أبا جهل أمر سراقة أنشد يقول:

__________

(1) المزايلة: المفارقة، ومنه قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] ..

(2) ربما كان كتاب ينابيع المودة لسلمان بن خوجة كيلان البلخنى.

بنى مدلج أنّى أخال سفيهكم ... سراقة يستغوى بنصر محمد

عليكم به ألايفرّق جمعكم ... فيصبح شتّى بعد عزّ وسؤدد

فأجابه سراقة:

أبا حكم «1» : واللات لو كنت شاهدا ... بأمر جوادى حيث ساخت قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمدا ... نبى وبرهان، فمن ذا يكاتمه

عليك بكفّ الناس عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه

بأمر تودّ النّضر فيه بأنه ... لو أنّ جميع الناس طرّا تسالمه

وأسلم سراقة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف من حنين والطائف، وكان شاعرا مجيدا رضى الله عنه.

فلما بلغ خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم حييّ بن ضمرة الجعدى قال: «لا عذر لى في مقامى بمكة» وكان مريضا، فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم «2» فمات، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] .

فلمّا رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا؛ فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين، فردّوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، وأقام عليّ رضى الله عنه بعد مخرجه عليه الصلاة والسلام بمكة ثلاثة أيام حتّى أدّى ما كان عنده من الودائع، وأدركه بقباء، وقد نزل على كلثوم بن الهدم (وقيل سعد بن خيثمة) يوم الاثنين سابع، وقيل ثامن ربيع، وكانت مدّة مقام عليّ هناك مع النبى صلّى الله عليه وسلّم ليلة أو ليلتين.




كلمات دليلية: