withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


معركة مؤتة_19708

معركة مؤتة


الفصل الثالث والعشرون غزوة مؤتة

اتجاه نظر محمد إلى الشام- توجيهه ثلاثة آلاف لغزوها- لواؤهم لزيد بن حارثة، فإن أصيب فلجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة- الروم في مائة ألف أو مائتي ألف- التقاء الجيشين بمؤتة- موت الثلاثة أصحاب اللواء على التعاقب- الراية لخالد بن الوليد- مداورته وانسحابه.

,

مناوشات صغيرة

لم يكن محمد يستعجل فتح مكة وهو يعلم أن الزمن في صفه، كما أن عهد الحديبية لم يكن قد مضى عليه غير عام واحد، ولم يكن قد جدّ ما يوجب نقضه. ومحمد رجل وفاء لا ينقض كلمة قال ولا عهدا عقد. لذلك ذهب إلى المدينة فأقام بضعة أشهر لم تقع خلالها غير مناوشات صغيرة؛ كإرسال خمسين رجلا إلى بني سليم ليدعوهم إلى الإسلام وغدر بني سليم بهم وقتلهم إيّاهم بغيا بغير حق، حتى لم ينج رئيسهم إلا بمحض المصادفة؛ وكغزو جماعة من بني اللّيث والظفر بهم والغنم منهم؛ وكمعاقبة بني مرّة على ما غدروا من قبل؛ وكإرسال خمسة عشر رجلا إلى ذات الطّلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام دعوة كان جزاؤهم عنها القتل لم ينج منه إلا رئيسهم. وقد كانت ناحية الشام وهذه الجهات الشمالية متّجه نظر النبيّ منذ أمن الجنوب بعهده مع قريش وبإذعان عامل اليمن لدعوته. ذلك أنه كان يتوسّم طريق انتشار دعوته إلى الإسلام أوّل مغادرتها حدود شبه الجزيرة، فيرى الشام والبلاد المجاورة هي المنفذ الأوّل لهذه الدعوة. لذلك لم تمض أشهر على مقامه بالمدينة بعد عوده من عمرة القضاء حتى وجّه ثلاثة آلاف هم الذين قاتلوا في مؤتة مائة ألف في رواية؛ ومائتي ألف في رواية أخرى.

,

غزوة مؤتة

ويختلف الرواة في سبب غزوة مؤتة هذه؛ فيذهب بعضهم إلى أن قتل أصحابه في ذات الطّلح كان سبب الغزو لتأديب هؤلاء الغادرين، ويذهب آخرون إلى أن النبيّ أرسل رسولا من رسله إلى عامل هرقل على بصرى وأن أعرابيّا من غسّان قتل هذا الرسول باسم هرقل، فبعث محمد بالذين قاتلوا في مؤتة لتأديب العامل ومن ينصره.

وكما كان عهد الحديبية مقدمة عمرة القضاء ففتح مكة، كانت غزوة مؤتة مقدمة تبوك وما كان بعد وفاة النبيّ من فتح الشام. وسواء أكان السبب الذي أدّى إلى غزوة مؤتة هو قتل رسول النبيّ إلى عامل بصرى أم

قتل رجاله الخمسة عشر في ذات الطّلح، فإنه عليه السلام دعا إليه، في جمادي الأولى من السنة الثامنة للهجرة (سنة 629 م) ، ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس» . وخرج هذا الجيش وخرج معه خالد بن الوليد متطوّعا ليدلّ بحسن بلائه في الحرب على حسن إسلامه. وودع الناس أمراء الجيش والجيش، وسار محمد معهم حتى ظاهر المدينة، يوصيهم ألّا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار. ودعا عليه السلام ودعا المسلمون لهذا الجيش قائلين: صحبكم الله ودفع عنكم وردّكم إلينا سالمين! وكان أمراء الجيش كلهم يفكرون في أخذ القوم من أهل الشام على غرّة منهم، على عادة النبي في سابق غزواته، فيسرع إليهم النصر ويعودون بالغنيمة. وسار القوم حتى بلغوا معان من أرض الشام وهم لا يعلمون ما هو ملاقيهم. لكن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم. فقام شرحبيل عامل هرقل على الشام فجمع جموع القبائل ممن حوله، وأوفد من جعل هرقل يمدّه بجيوش من الإغريق ومن العرب. وتذهب بعض الروايات إلى أن هرقل نفسه تقدم بجيوشه حتى نزل ماب من أرض البلّقاء على رأس مائة ألف من الروم، كما انضم إليه مائة ألف أخرى من لخم وجذام والقين وبهراء وبليّ. ويقال إن تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش لا هرقل نفسه. وبلغ المسلمين وهم بمعان أمر هذه الجموع، فأقاموا بها ليلتين يفكرون ماذا يصنعون أمام هذا العدد الذي لا قبل لهم به. قال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنخبره بعدد عدوّنا؛ فإما يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة، وكان إلى جانب شهامته وفروسيته شاعرا، فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إمّا ظهور وإمّا شهادة. وامتدّت عدوى النخوة من الشاعر الشجاع إلى الجيش كله؛ فقال الناس: فو الله صدق ابن رواحة! ومضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف. فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة أن رأوها خيرا من مشارف لتحصّنهم بها. وفي مؤتة بدأت المعركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين.

,

مداورة خالد بن الوليد

قتل ابن رواحة بعد تردد ثم إقدام، فأخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فأخذ خالد الراية مع ما رأى من تفرّق صفوف المسلمين وتضعضع قوتهم المعنوية. وكان خالد قائدا ماهرا ومحرّكا للجيوش قلّ نظيره. لذلك أصدر أوامره، فداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم، ووقف من محاربة العدو عند مناوشات امتدّت به حتى أرخى الليل سدوله، ووضع الجيشان السلاح إلى الصباح. أثناء ذلك أحكم خالد تدبير خطّته، فوزّع عددا غير قليل من رجاله في خط طويل من مؤخّرة جيشه أحدثوا، إذا أصبح الناس، من الجلبة ما أدخل في روع عدوّه أن مددا جاءه من عند النبي. وإذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالروم الأفاعيل في اليوم الأوّل وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وإن لم يستطيعوا أن يثبتوا، فما عسى أن يصنع هذا المدد الذي جاء لا يدري أحد عدّته!! لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد وسرّوا بعدم مهاجمته إيّاهم، وكانوا أكثر سرورا بانسحابه ومن معه راجعين إلى المدينة، بعد معركة لم ينتصر بها المسلمون وإن كان حقّا كذلك أن عدوّهم لم ينتصر عليهم فيها.

,

بكاء محمد المستشهدين

لذلك ما كاد خالد والجيش معه يدنون من المدينة حتى تلقّاهم محمد والمسلمون معه. وطلب محمد فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه. أما الناس فجعلوا يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله: ليسوا بالفرّار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله. ومع هذه التأسية من محمد للعائدين من مؤتة فقد ظلّ المسلمون لا يغفرون لهم انسحابهم وعودهم، حتى كان سلمة بن هشام لا يحضر الصلاة مع المسلمين خشية أن يسمع من كل من رآه: يا فرّار فررتم في سبيل الله. ولولا ما كان بعد ذلك من فعال هؤلاء الذين حضروا مؤتة، ومن فعال خالد بنوع خاص، لظلّت مؤتة معتبرة بعض ما لطّخ به إخوانهم في الدين جبينهم من عار الفرار.

وقد بلغ الألم من نفس محمد منذ علم بقتل زيد وجعفر، وحزّ الأسى في نفسه من أجلهما. لمّا أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر. فلما أتته بهم تشمّمهم وذرفت عيناه الدمع. قالت أسماء في لهف وقد أدركت ما أصابها: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟

قال: نعم أصيبوا هذا اليوم! وإزدادت عيناه بالدمع تهتانا. فقامت أسماء تصيح حتى اجتمع النساء إليها.

أمّا محمد فخرج إلى أهله فقال: لا تغافلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.

ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربّت على كتفيها وبكى. وأظهر بعضهم دهشة لبكاء الرسول على من استشهد؛ فقال ما معناه: إنما هي عبرات الصديق يفقد صديقه.

وفي رواية أن جثّة جعفر حملت إلى المدينة ودفنت بها بعد ثلاثة أيام من وصول خالد والجيش إليها. ومن يومئذ أمر الرسول الناس أن يكفوا عن البكاء، فقد أبدل الله جعفرا من يديه اللتين قطعتا جناحين طار بهما إلى الجنة.

,

أثر مؤتة واختلافه

عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة ولواؤهم لخالد بن الوليد. عادوا لا منتصرين ولا منكسرين ولكن راضين من الغنيمة بالإياب. وقد ترك إنسحابهم بعد موت زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، أثرا مختلفا أشدّ الاختلاف عند الروم وعند المسلمين المقيمين بالمدينة وعند قريش بمكة- أمّا الروم ففرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا ربهم أن لم يطل القتال بهم، مع أن جيش الروم كان مائة ألف على قول ومائتي ألف على قول آخر، في حين كانت عدّة المسلمين ثلاثة آلاف. وسواء أكان فرح الروم راجعا إلى ما أبدى خالد بن الوليد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم حتى لقد تحطّمت في يده تسعة أسياف وهو يحارب بعد موت أصحابه الثلاثة، أم كان راجعا إلى مهارته في توزيع الجيش في اليوم الثاني وإحداث ما حدث من الجلبة حتى ظنّ الروم أن مددا جاءه من المدينة، فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب أشد الإعجاب. وكان من ذلك أن أحد زعمائهم (فروة بن عمر والجذاميّ، وكان قائدا لفرقة من جيش الروم) ما لبث أن أعلن إسلامه؛ فقبض عليه بأمر من هرقل بتهمة الخيانة. وكان هرقل على استعداد للإفراج عنه إذا هو عاد إلى المسيحية، بل كان على استعداد أن يردّه إلى مركز القيادة الّذي كان فيه. لكن فروة أبى وأصرّ على إبائه وعلى إسلامه فقتل. وكان من ذلك أيضا أن ازداد الإسلام انتشارا بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام حيث كان سلطان الروم في ذروته.




كلمات دليلية: