withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


معركة مؤتة_16900

معركة مؤتة


غزوة مؤتة من أرض الشام

«1»

ولما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء إلى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر، ثم بعث إلى الشام فى جمادة الأولى من سنة ثمان بعثة الذين أصيبوا بمؤنة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» .

فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج، وهم ثلاثة الآف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقالو: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: والله ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله ويذكر فيها النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] فلست أدرى كيف لى بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة:

لكنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

جتى يقال إذا مروا على جدثى ... ما أرشد الله من غاز وقد رشدا

ثم إن القوم تهيأو للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال:

أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر

فثبت الله ما آتاك من حسن ... فى المرسلين ونصرا كالذى نصروا

إنى تفرست فيك الخير نافلة ... فرأسة خالفت فيك الذى نظروا

يعنى المشركين.

ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم، جتى إذا ودعهم وانصرف عنهم

__________

(1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 318) ، المغازى للواقدى (2/ 755) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 92) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 241) .

قال عبد الله بن رواحة:

خلف السلام على امرىء ودعته ... فى النخل خير مشيع وخليل

وحدث زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة فى حجرة، فخرج بى فى سفره ذلك مردفى على حقيبة رحلة، فواله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياته هذه:

إذ أدنيتنى وحملت رحلى ... مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمى وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلى ورائى

وجاء المسلمون وغادرونى ... بأرض الشام مشتهى الثواء

وردك كل ذى رحم قريب ... إلى الرحمن منقطع الرجاء

هنالك لا أبالى طلع بعل ... ولا نخل أسافلها وراء

فلما سمعتهن بكيت فخفقنى بالدرة وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقنى الله الشهادة وترجع بين شعبتى الرحل؟!

ثم مضى القوم حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم.

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضى له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن الذى تكرهون للذى خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. فمضى الناس وقال عبد الله فى مجلسهم ذلك:

جلبنا الخيل من أجأ وفرع ... تعر من الحشيش لها العكوم

حذوناها من الصوان سبتا ... أزل كأن صفحته أديم «1»

أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم

فرحنا والجياد مسومات ... تنفس فى مناخرها السموم

__________

(1) حذوناها: أى جعلنا لها حذاء، وهو النعل. والصوان: حجارة ملس. والسبت: النعال المصنوعة من الجلد المدبوغ.

فلا وأبى مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم

بذى لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم

فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتها فتنكح أو تئيم

ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف. ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها. فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له: قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عبابة بن مالك، ويقال: عبادة. ثم التقى الناس فاقتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء. قال أحد بنى مرة بن عوف وكان فى تلك الغزوة: والله لكأنى أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها ... على إذ لا قيتها ضرابها

وكان جعفر أول من عقر فى الإسلام فرسه.

ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لى أراك تكرهين الجنه

قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة فى شنه

وقال أيضا:

يا نفس إلا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت

يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا. ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بنى العجلان فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال ما أنا بفاعل، فاصطلح القوم على خالد بن الوليد.

فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.

ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . ثم قال: «لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لى: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» «1» .

وذكر ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما حيث شاء.

ويقال: إن رجلا من الروم ضربه- يومئذ- فقطعه نصفين.

وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لما أصيبوا، قبل أن يأتيه نعيهم: «مر على جعفر بن أبى طالب فى الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان» . قال: وقدم يعلى ابن منبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» . قال: فأخبرنى يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه له.

فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفع لى الأرض حتى رأيت معتركهم» .

وحدثت أسماء بنت عميس امرأة جعفر قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ايتينى ببنى جعفر» . وقد كانت غسلتهم ودهنتهم ونظفتهم.

قالت: فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت ما يبكيك؟

أبلغك عن جعفر وأصحابه شىء؟ قال: «نعم، أصيبوا هذا اليوم» . قالت: فقمت أصيح واجتمع إلى النساء. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: «لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» «2» .

__________

(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 160) .

(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1/ 1610) ، سنن الترمذى (3/ 998) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 61) .

وقالت عائشة رضى الله عنها: لما أتى نعى جعفر عرفنا فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن.

ولما انصرف خالد قافلا بالناس ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطونى ابن جعفر. فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» «1» .

وقالت أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم لامرأة سلمة بن هشام بن العامر بن المغيرة: مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما يستطع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! حتى قعد فى بيته فما يخرج.

وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم- قيس ابن المسحر اليعمرى يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس:

وو الله لا تنفك نفسى تلومنى ... على موقفى والخيل قابعة قبل

وقفت بها لا مستجيزا فنافذا ... ولا مانعا من كان حم له القتل «2»

على أننى آسيت نفسى بخالد ... ألا خالد فى القوم ليس له مثل

وجاشت إلى النفس من نحو جعفر ... بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل

وضم إلينا حجزتيهم كليهما ... مهاجرة لا مشركون ولا عزل

فبين قيس فى شعره ما اختلف الناس فيه من ذلك: أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه.

وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان بن ثابت:

تأوبنى ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما هوم الناس مسهر «3»

لذكرى حبيب هيجت لى عبرة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوب وخلفا بعدهم يتأخر

__________

(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 253) .

(2) مستجيزا: أى منحازا إلى ناحية.

(3) تأوبنى: أى عاودنى ورجع إلىّ.

فلا يبعدن الله قتلى تباعدوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر إلى

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبى إذا سيم الطلامة يجسر

فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه قنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى فى جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر

وما زال فى الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا يزلن ومفخر

هم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علىّ ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الأواء فى كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك فى ذلك:

نام العيون ودمع عينك يهمل ... سحا كما وكف الطباب المخضل

فى ليلة وردت علىّ همومها ... طورا أحن وتارة أتململ

واعتادنى حزن فبت كأننى ... ببنات نعش والسماك موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا ... مما تأوبنى شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه ... قدام أولهم فنعم الأول

حتى تفرجت الصفوف وجعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل

فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قوم علا بنيانه من هاشم ... فرعا أشم وسؤددا ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده ... وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرما ... وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه جباهم ... ويرى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم ... تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

وبهديهم رضى الإله لخلقه ... وبحدهم نصر النبى المرسل

وقال حسان بن ثابت يبكى جعفرا:

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر ... حب النبى على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى ... من للجلاد لدى العقاب وظلها»

بالبيض حين تسل من أغمادها ... ضربا وإنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البرية كلها وأجلها

رزآ وأكرمها جميعا محتدا ... وأعرها متظلما وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل ... كذبا وأنداها يدا وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله ... حى من أحيا البرية كلها

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع عن غزوة مؤتة:

كفى حزنا أنى رجعت وجعفر ... وزيد وعبد الله فى رمس أقبر

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم ... وخلفت للبوى مع المتغير

واستشهد يوم مؤتة من المسلمين سوى الأمراء الثلاثة- رضى الله عنهم- من قريش ثم من بنى عدى بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة. ومن بنى مالك بن حسل: وهب بن سعد بن أبى سرح. ومن الأنصار: عباد بن قيس من بنى الحارث بن الخزرج، والحارث بن النعمان بن إساف من بنى غنم بن مالك بن النجار، وسراقة بن عمر بن عطية بن خنساء من بنى مازن بن النجار، وأبو كليب ويقال: أبو كلاب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم. وعمر وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد من بنى مالك بن أفصى. وهؤلاء الأربعة عن ابن هشام.



كلمات دليلية: