withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest

فتح مكة_15842

فتح مكة


المبحث الثاني عشر: وتطهير الجزيرة العربية كلها من الشرك

,

أولا: فتح مكة

,

سبب فتح مكة

...

أولًا: فتح مكة

هو الفتح الأعظم الذي انتهى به عصر الأصنام في الجزيرة العربية كلها، وعلت به كلمة الله تعالى، وأصبح الإسلام قوة ظاهرة بانضمام مكة والمدينة تحت لوائه.

وصارت مكة هي قلب الأمة الإسلامية، ومستقرها الآمن, وغدت الأمل الذي عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل له، ويجاهد من أجله.

وفتح مكة يحتاج إلى دراسة النقاط التالية:

1- سبب فتح مكة:

تعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرشيون في الحديبية على حرية كل فرد وكل جماعة في أن تنحاز لأيهما، وتدخل في دينه وعقيدته.

وقد انحازت بنو بكر لقريش، وانحازت بنو خزيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبنو بكر وبنو خزاعة قبيلتان متحاربتان في الجاهلية، وبينهما عداوات قديمة فلما انحاز كل منهما لطرف من طرفي الحديبية عاشوا آمنين في ظل هذا الصلح.

إلا أن بني بكر انتهزوا فرصة انشغال المسلمين بالسرايا، وبالدعوة إلى الله تعالى وظنوا أن يعد المسافة بين مكة والمدينة يؤدي إلى عدم وصول الأخبار إلى المدينة، وإلى تقاعس المسلمين عن الانتصار لحلفائهم بني خزاعة وبخاصة إذا خططوا لتآمرهم وخدعوا بحيلهم رسول الله والمسلمين معه, فتآمروا مع حلفائهم من قريش.

وقال القرشيون: ما يعلم بنا محمد، إذا دبرنا الغدر ليلا وفي الظلام.

فوثب بنو بكر على بني خزاعة ليلا وقتلوا منهم ثلاثًا وعشرين نفسًا عند بئر لهم

يعرف بـ"بئر الوتر" وكان أغلب القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ، ففرت خزاعة إلى الحرم ودخلت فيه ولجأت إلى البيت الكريم.

أدركت بنو بكر حرمة المبيت، وشعرت بافتضاح تآمرها، فنادت قائدها نوفل بن معاوية الدؤلي، قائلة له: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك.

فقال لهم: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؟ أفلا تصيبون فيه ثأركم؟ 1.

وقد أعانت قريش حلفاءها بالسلاح والرجال، وحاولوا إخفاء ما قاموا به حتى لا ينتقم المسلمون منهم، وظنوا أن ظلام الليل يستر غدرهم.

وفي مكة بحثت خزاعة بعد انتهاء العدوان الغادر عن مقر آمن تذهب إليه فلجأت إلى دار بديل بن ورقاء، واستجارت به.

وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، ويستنجده، فلما وصل إلى المدينة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في المسجد بين الصحابة فوقف عنده ثم قال:

يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا2

قد كنتم ولدًا وكنا والدا3 ... ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعًا وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب" 4.

ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وكتم الخروج، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم5.

__________

1 سيرة النبي ج2 ص390.

2 يشير إلى ما كان بين خزاعة وبني هاشم من حلف في الجاهلية.

3 يشير إلى أن زوجة قصي أم عبد مناف من أم بني هاشم خزاعة.

4 سيرة النبي ج2 ص395.

5 البداية والنهاية ج4 ص278، 279.

2- ,

محاولة أبي سفيان تجديد الصلح

:

استيقظت قريش لنفسها، وأدركت أنها ارتكبت جرمًا يستوجب نقض صلحها مع المسلمين، فأسرعت بإرسال أبي سفيان في وفادة الإنقاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الصلح والعهد، ويزيد في المدة، فخرج أبو سفيان من مكة، فلقيه بديل بن ورقاء عائدًا من المدينة فقال له: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال بديل: سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي.

فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى، وعلم أنه من نوى المدينة فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنيه ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش؟ أو رغبت به عني؟

فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشه.

فقال: يا بنية والله ولقد أصابك بعلمك شر.

قالت: هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟

قال: يا عجباه، وهذا منك أيضًا؟ أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟ ثم قام من عندها1.

فلما لقي رسول الله قال له: يا محمد اشدد العقد، وزدنا في المدة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم"؟.

فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير، ولا نبدل.

فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في المدة؟

فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم.

ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه.

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتًا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعًا فلا وصله الله.

فقال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرًا.

ثم دخل على عثمان فكلمه.

فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم اتبع أشراف قريش يكلمهم فكلهم يقول: عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها فقالت: إنما أنا امرأة وإن ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال لها: فأمري أحد ابنيك.

فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير.

قال: فكلمي عليًا.

فقالت: أنت فكلمه.

فلما كلمه قال له علي رضي الله عنه: إن ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها فأجر بين عشيرتك.

__________

1 المغازي ج1 ص792، 793، سيرة النبي ج2 ص357.

قال: صدقت وأنا كذلك، فخرج فصاح ألا أني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد.

ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يرد جواري؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت تقول يا أبا حنظلة".

فخرج أبو سفيان على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم حين أدبر أبو سفيان: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة".

وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟

قال: لا والله لقد أبى عليّ، وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قومًا لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي: التمس جوار الناس عليك، ولا تجر أنت عليه وعلى قومك وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا تخفر جواره، فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس وقلت: ما أظن أن تخفرني؟

فقال: "أنت تقول ذلك يا حنظلة"؟ 1.

فقالوا مجيبين له: رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئًا، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين.

ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت: قبحك الله من وافد فما جئت بخير.

__________

1 بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج21 ص144، والمغازي ج2 ص793، 795.

3- ,

استعداد المسلمين لفتح مكة

:

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو مشركي مكة، وأمر عائشة أن تستعد لذلك، وأمرها أن لا تخبر أحدًا بجهة الغزو ليأخذ القرشيين على غرة.

وعين صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على أطراف المدينة ليتحفظ على من يأتي المدينة من غير أهلها، ويرقب الحركة منها وإليها.

ودخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها: وهي تجهز للسفر، وتعمل قمحًا سويقًا ودقيقًا، فقال: يا عائشة أهم رسول الله بغزو؟

قالت: ما أدري.

قال: إن كان هم بسفر فأعلمينا نتهيأ له.

قالت: ما أدري، لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفًا، لعله يريد هوازن، فاستعجمت عليه وحافظت على أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أردت سفرًا؟

قال صلى الله عليه وسلم: "نعم".

قال أبو بكر: أفأتجهز؟

قال صلى الله عليه وسلم: "نعم".

قال أبو بكر: فأين تريد يا رسول الله؟

قال صلى الله عليه وسلم: "قريشًا وأخف ذلك يا أبا بكر".

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالاستعداد للجهاد وطوى عنهم الوجه الذي يريد.

قال أبو بكر: يا رسول الله! أوليس بيننا وبينهم مدة.

قال: "إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، واطو ما ذكرت لك".

ونشط المسلمون في الاستعداد، وبدأت القبائل تفد برجالها إلى المدينة بعدما أخبرهم بأهمية القدوم إليها وقال لهم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأت المدينة". وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا، فقدمت أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، المدينة ولحقت بنو سليم بهم عند قديد1.

وأخذ المسلمون يفكرون في جهة غزوتهم التي جاءوا لها، فظان يظن أنها الشام وظان يظنها ثقيفًا، وظان يظن أنها هوازن.

ومن التورية على الناس، إرساله صلى الله عليه وسلم ابن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن "إضم" ليصرف انتباه الناس عن مكة، وحتى يظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتجه باستعداداته لمساعدة من

__________

1 إمتاع الأسماع ص361 إلى ص364.

أرسلهم إلى "إضم" وبخاصة أنها في اتجاه مكة.

فلما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم، وكان كتابه موجهًا إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وفيه يقول: إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم.

وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة من أهل العرج تسمى "سارة" وجعل لها عشرة دنانير على أن تبلغه قريشًا، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق المألوف بين مكة والمدينة فإن عليه حرسًا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، وسلكت طريقًا غير مألوف حتى لقيت الطريق بالعقيق، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث صلى الله عليه وسلم عليًا، والزبير رضي الله عنهما وقال لهما: أدركا امرأة من مزينة، قد كتب معها حاطب كتابًا يحذر قريشًا، فخرجا، فأدركاها، فاستنزلاها، والتمساه في رحلها فلم يجدا شيئًا فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك، فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني، فأعرضا عنها، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب.

فلما جاءا بالرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حاطبًا فقال: "ما حملك على هذا"؟.

فقال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم.

فقال عمر رضي الله عنه: قاتلك الله، ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بأطراف المدينة، ويراقب كل داخل إليها، وتكتب إلى قريش تحذرهم، دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق.

فقال صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" 1. وأنزل الله تعالى في شأن حاطب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الفتح ج7 ص3، 4.

لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1 والآية واضحة الدلالة في طريقة التعامل مع أعداء الله تعالى، الذين كفروا بالإسلام، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هؤلاء لا يفيد معهم الود لامتلاء قلوبهم بالحقد، والكراهية.

إن ولاية المؤمن الحقة هي للمؤمنين وحدهم، ومن يوالي أعداء الله فقد ضل الطريق المستقيم الذي أمر الله به.

وأما "سارة" فقد تركها الصحابيان بعد أخذ الرسالة منها، وكانت لا تدري ما بها فمضت إلى مكة تباشر مهمتها في الغناء، فأقبلت تتغنى بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتدت عن الإسلام.

__________

1 سورة الممتحنة: 1.

4- ,

الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة

:

غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجهًا إلى مكة في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنه واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري رضي الله عنه في العاشر من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة.

ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله من مكة مسلمًا مهاجرًا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} 1.

فأنشده أبو سفيان أبياتًا منها:

__________

1 سورة يوسف: 91.

لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي

هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردته كل مطرد

فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "أنت طردتني كل مطرد" 1. {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2.

وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ "الكديد" وهو ماء بين عسفان وقديد، فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران في وادي فاطمة، نزله عشاء، فأمر الجيش بإيقاد النيران فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وركب العباس بعد نزول المسلمين بمر الظهران بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس أحدًا يخبر قريشًا ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.

وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج ومعه حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار.

قال العباس: والله إني لأسير على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا.

ويقول بديل: هذه والله خزاعة، خمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وقال العباس: أبا حنظلة؟ فعرف أبو سفيان صوته.

قال: أبا الفضل؟

قلت: نعم.

قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي.

قلت: والله لئن ظفر بك أحد من المسلمين ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه

__________

1 بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج21 ص145.

2 سورة يوسف: 92.

البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.

يقول العباس: فجئت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال عمر: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه.

قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي ما قلت مثل هذا.

قال عمر: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلي من الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به". فذهبت فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله"؟.

قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لأغنى عني شيئًا!

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله".

قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئًا.

فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.

قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا منه.

قال صلى الله عليه وسلم: "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن" 1.

وفي صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة ثمان غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول مثلا: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء.

قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار.

قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا.

قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة.

قال: فنعم إذن2.

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال أبو سفيان: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟

قال: وما قال؟

قال: كذا وكذا.

وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيها قريشًا".

__________

1 زاد المعاد ج3 ص401، 402, بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص244.

2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص241.

ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس1.

ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأخمش الساقين، قبح من طليعة قوم.

قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟

قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وبثوا أوباشًا لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا، فتجمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني بكر حماس بن قيس، كان يعد قبل ذلك سلاحًا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟

قال: لمحمد وأصحابه.

قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء.

قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم.

ثم قال:

إن يقبلوا اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل وأله

وذو غرارين سريع السله

فكان هذا الرحل فيمن اجتمعوا في الخندمة.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى إلى "ذي طوى" وكان يضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على الميمنة، ومعه أسلم، وسليم، وغفار ومزينة، وجهينة قبائل من العرب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة من أسفلها، وقال لخالد: "إن عرض لكم

__________

1 صحيح البخاري كتاب غزوة الفتح ج7 ص8.

أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا، حتى توافوني على الصفا".

وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدخل مكة من أعلاها، من كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه.

وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر، وهم الذين لا سلاح معهم، فأمره أن يأخذ بطن الوادي، ويدخل مكة من الشمال الغربي في اتجاه جبل هند حتى يأتي لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق حدده لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه، وقتل من أصحابه كرز بن جابر الفهري، وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقًا غير طريقه فقتلا جميعًا، وأما السفهاء من قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم شيئًا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلا وانهزم المشركون شر هزيمة.

وانهزم حماس بن قيس، الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين، حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي عليّ بابي.

فقالت: وأين ما كنت تقول؟

فقال لها:

وأنت لو رأيتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربًا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا.

وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس وحول

البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 1 وقوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 2.

وأخذت الأصنام تتساقط على وجوهها كلما ضربها رسول الله أو أشار إليها.

وكان طوافه على راحلته، ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه لم ينو العمرة يومئذ، فلما أتم طوافه صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان الأزلام، فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت3.

__________

1 سورة الإسراء: 81.

2 سورة سبأ: 49.

3 المغازي ج2 ص832، 834.

5- ,

مكة تحت القيادة الإسلامية

:

تهدمت الأصنام، وتطهرت الكعبة من ألوان الشرك، والضلال، وبدأ عهد جديد في مكة، علا فيه الإسلام، وخضع الجميع لحكم الله تعالى.

وأخذ صلى الله عليه وسلم يصرف أمور الناس والحياة، بوحي الله تعالى بعد استقرار الأمر لعشر بقين من رمضان سنة ثمان.

وأقام صلى الله عليه وسلم في قبة من أدم أقامها له أبو رافع عند الحجون، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي منها إلى المسجد عند كل صلاة.

وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، ومنهم كان يستجير بمسلم قبل أن يعلن إسلامه من شدة خوفه.

وتحرك صلى الله عليه وسلم من الحجون إلى الحرم أول مرة ضحى وقد اصطف الناس، واصطحب

أبا بكر، وابن أم مكتوم، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة استلم الركن وكبر، فكبر الناس لتكبيره حتى ارتجت مكة كلها.

ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناحية من المسجد والناس حوله، فأتى بدلو من زمزم فغسل وجهه، فما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان، إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا تمسح بها، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكًا قط أعظم مما رأينا اليوم.

وجاءته قريش فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله، اصنع بنا صنع أخ كريم.

فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم الطلقاء مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1 ".

ثم اجتمع الناس لمبايعته صلى الله عليه وسلم، فجلس على الصفا، وجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه وجلس ابن أم مكتوم بين يديه فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا وسألوه عن الهجرة إلى المدينة المنورة.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح".

وتجرد الرجال من الأزر، ثم أخذوا الدلاء فغسلوا ظهر الكعبة وبطنها حتى انبعج الوادي من الماء، وأزالوا ما كان فيها من عمل الجاهلية فلم يدعوا فيها صورة ولا أثرًا من آثار المشركين إلا محوه.

وجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ رأس الثنية، فبعث صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من البطحاء، ومعه عثمان بن طلحة ليفتح البيت، وأمره أن لا يدع صورة إلا محاها، ولا تمثالا إلا هدمه، ففعل عمر ذلك وترك صورة إبراهيم عليه السلام حتى محاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودخل صلى الله عليه وسلم الكعبة، ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها مدة وصلى ركعتين ثم خرج والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عنه حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف على باب البيت وأخذ بعضادتيه، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمه، وقال وقد جلس الناس:

__________

1 سورة يوسف: 92.

"الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش، ماذا تقولون؟ وماذا تظنون"؟. قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت.

فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ".

ألا إن كل ربا في الجاهلية، أو دم، أو مال، أو مأثرة, فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها.

إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكثرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب.

وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار، ألا لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ولا يختلى خلاها".

فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقبور، وظهور البيوت، فسكت ساعة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر فإنه حلال" 1.

"ولا وصية لوارث، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقاصهم، ويعقد عليهم أدناهم ومشدهم على مضعفهم، ومسيرتهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها،

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي ج7 ص21.

والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امراة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر، وعن لبستين، لا يحتجب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها"1.

ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد فجلس فقال: "ادعوا إليّ عثمان بن طلحة". فأقبل عثمان.

فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف" 2.

وقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "لم قاتلت وقد نهيت عن القتال"؟.

فقال خالد: هم يا رسول الله بدءونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بدًا قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: "فكف عن الطلب".

قال: قد فعلت يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير".

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا بني خزاعة عن بني بكر فلهم إلى صلاة العصر". فضربوهم ساعة، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحل لأحد قبله.

وقام صلى الله عليه وسلم خطيبًا في اليوم الثاني بعد قتل جندب بن الأدلع فقال:

"أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد

__________

1 المغازي ج2 ص835-837.

2 المرجع السابق ج2 ص838.

كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، فإن قال قائل، قد قاتل فيها رسول الله، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر إن نفع، وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار: إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله" 1.

وجاء الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة، وكانت قريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفًا من أن يقتلوا، فلما أذن بلال ورفع صوته كأشد ما يكون أمنوا ونزلوا.

وأتى يعلى بن منية بأبيه فقال: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة".

وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه بابه، وبعث إلى ابنه عبد الله بن سهيل أن يأخذ له أمانًا، فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إنه لميكن له بنافع". فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره.

فقال سهيل: كان والله برًا صغيرًا وكبيرًا، فخرج وشهد حنينًا، وأسلم بالجعرانة.

وهرب هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب ومعه عبد الله بن الزبعرى بن سهم القرشي السهمي إلى نجران، فبعث حسان بن ثابت بشعر إلى ابن الزبعرى فجاء، ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قال: "هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام". فأسلم ومات ابن هبيرة بنجران مشركًا.

وهرب حويطب بن عبد العزى بن لؤي القرشي العامري، فأمنه أبو ذر رضي الله عنه ومشى معه، وجمع بينه وبين عياله.

وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة ابن أبي جهل، والبغوم بنت المعذل امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة.

__________

1 المغازي ج2 ص844.

وهند بنت منبه بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوة من قريش.

فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعنه.

وكانت بيعة النساء عقيب بيعة الرجال عند الصفا، ورؤيت فيهن هند وهي متنكرة لأجل صنيعها بحمزة، وكان زوجها أبو سفيان حاضرًا، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنك لهند".

فقالت: أنا هند، فاعف عما سلف.

فبايعهن عمر رضي الله عنه واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أم حكيم أمانًا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن، فخرجت إليه حتى قدم، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ إليه". فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا فوقف، ومعه امرأته منتقبة.

فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني.

فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت، فأنت آمن". فأسلم.

وهرب صفوان بن أمية بن جمح القرشي الجمحي، فأخذ له عمير بن وهب بن حذافة أمانًا، وخرج في إثره حتى رجع، وشهد هوازن كافرًا، وأسلم بالجعرانة.

وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ممن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسأله أن يهبه له، فوهب له جرمه وأسلم.

وأهدر صلى الله عليه وسلم دم الحويرث بن نقيذ بن بجير بن عبد بن قصي، فضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنقه وكان مؤذيًا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وأهدر دم هبار بن الأسود بن عبد العزى بن قصي الأسدي القرشي، إلا أنه أسلم وحسن إسلامه.

وأخرج أبو برزة الأسلمي عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتله". فأخرج أبو برزة عبد الله بن خطل وقتله بين الركن والمقام

وعن السائب بن يزيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عبد الله بن خطل من بين أستار الكعبة فقتله صبرًا.

ثم قال: "لا يقتل أحد من قريش بعد هذا صبرًا".

وقتل مقيس بن صبابة نميلة بن عبد الله الليثي رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم.

ولما قتل النفر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم، سمع النوح عليهم.

وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل قريش صبرًا بعد اليوم". يعني على الكفر.

وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي، ففر إلى الطائف حتى قدم في وفدهم فأسلم.

فقال له صلى الله عليه وسلم: "غيب عني وجهك". فكان إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم توارى عنه.

واستسلف صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فردها من غنائم هوازن.

وقال: "إنما جزاء السلف الحمد والأداء".

وقال: "بارك الله لك في مالك وولدك".

واستقرض من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهمًا وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.

وأهدي له يومئذ راوية خمر.

فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرمها". فسارَّ الرجل المهدي غلامه: اذهب بها إلى الحزورة، فبعها.

فقال صلى الله عليه وسلم: "بم أمرته"؟.

قال: ببيعها.

قال صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". ففرغت بالبطحاء.

ونهى يومئذ عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن.

وقيل له يومئذ: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟

قال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله يهود، حرم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوا ثمنها".

وقال يومئذ، وهو بالحزورة: "والله إنك لخير أرض الله إليّ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".

وهبط ثمانون من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جبل التنعيم عند صلاة الفجر فأخذهم سلمًا فعفا عنهم، ونزل فيهم: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1.

وأتى بشارب فضربوه بما في أيديهم، فضرب بالسوط، وبالنعل، وبالعصا، وحثا عليه النبي صلى الله عليه وسلم التراب.

وجاء جبر غلام بني عبد الدار، وكان قد أسلم وكتم إسلامه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه لسيده وأعتقه.

وقال رجل يومئذ: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة.

فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لصلاة ها هنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، من البلدان".

وقالت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح لك فيه، فكأنك أتيتيه".

وكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمال ليشتري به زيت يستصبح به حتى ماتت فأوصت بذلك.

وأهدت هند بنت عتبة بعد إسلامها هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح، مع مولاة لها فانتهت الجارية إلى خيمته صلى الله عليه وسلم، فسلمت واستأذنت فأذن لها فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أم سلمة وميمونة ونساء بني عبد المطلب.

فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن

__________

1 سورة الفتح: 24.

غنمها اليوم قليلة الوالدة.

فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها". فسرت هند لما أخبرتها مولاتها بذلك، ورأوا من كثرة غنمهم ووالدتها ما لم يكن قبل ولا قريبًا منه.

وكانت هند تقول: هذا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته.

وأتته إحدى نساء بني بكر، إما خالة أو عمة، بهدية طعام وهو بالأبطح فعرفها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وسألها عن حليمة السعدية فأخبرته بوفاتها رضي الله عنها فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم.

وقالت له: أخواك وأختاك محتاجون فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بكسوة وجمل ومائتي درهم.

فقالت: نعم والله المكفول كنت صغيرًا، ونعم المرء كانت كبيرًا، عظيم البركة.

وأخذ أهل مكة ومن يقدم عليهم يأتي إليه صلى الله عليه وسلم يبايعه، ويسأله حاجته، ويتعلم ما يحتاج إليه في أمور دينه الذي آمن به.

وكان صلى الله عليه وسلم يذكر أهل مكة بما منّ الله عليهم بالإسلام، ويعرفهم بضلال ما كانوا فيه ليزدادوا إيمانًا، ولتشتد براءتهم مما كانوا فيه قبل الهدى والرشاد.

من ذلك قوله لعثمان بن طلحة حين أتى به ليعطيه مفتاح الكعبة: "ألم أقل لك يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت"؟.

فقال: بلى أشهد أنك رسول الله.

وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد فتحها مدة تقع بين اثني عشر وعشرين يومًا على اختلاف الروايات, انطلق خلالها لتطهير مكة وحواليها من كافة صور الأصنام والأوثان على كثرتها وتنوعها, كما قام انطلاقًا من مكة بغزوتي حنين والطائف، وبذلك أسلمت الجزيرة كلها1.

__________

1 راجع في أحداث الفتح سيرة ابن هشام، والطبقات، والمغازي، وزاد المعاد، وإمتاع الأسماع والبداية والنهاية ... إلخ.

ثانيًا: تطهير مكة وما حولها من الأصنام

بعد أن أتم الله نصره، وفتحت مكة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إزالة الأصنام والأوثان وكافة ألوان الشرك والضلال من صور، وبيوت، وهياكل. فبدأ أول دخوله مكة بتكسير الأصنام الموجودة حول البيت وعددها ثلاثمائة وستون صنمًا.

ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله وبرسوله فلا يدعن في بيته صنمًا إلا كسره، أو حرقه، وثمنه حرام.

فجعل المسلمون يكسرون الأصنام، ولم يكن في مكة رجل أو امرأة من قريش إلا واتخذ في بيته صنمًا يتمسح به حين الدخول، وحين الخروج.

ونشط عكرمة بن أبي جهل في معاداته للأصنام بعد إسلامه، فكان لا يسمع عن صنم في بيت إلا مشى إليه وكسره.

وجعلت هند بنت عتبة تضرب صنمًا في بيتها بالقدوم، وتكسره جزءًا جزءًا وهي تقول: كنا منك في غرور.

وأرسل صلى الله عليه وسلم سراياه إلى القبائل المشركة لدعوة القوم إلى الإسلام، وتكسير الأصنام التي ألهوها ومن هذه السرايا:

1- بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى "العزى" بـ"نخلة" في ثلاثين صحابيًا فهدمه لخمس بقين من رمضان والعزى أكبر أصنام العرب.

2- وبعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى "ذي الكفين" صنم عمرو بن حممة الدوسي فحرقه بالنار.

3- وبعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسًا إلى "مناة" بالمشلل فهدمه.

4- وبعث عمرو بن العاص إلى "سواع" صنم هذيل فكسره وأزاله، وأسلم سادنه.

5- وبعث هشام بن العاص في مائتين إلى يلملم.

6- وبعث خالد بن سعيد إلى جهة عرنة وعرفة.

وبهذه السرايا تم بسط سلطان الإسلام على مكة وضواحيها ولم يعد فيها صوت لغير الله تعالى وأزيلت الأصنام من الجزيرة كلها.

7- وبعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر من بني كنانة يدعوهم إلى

الإسلام فخرج في أول شوال من السنة الثامنة في ثلاثمائة وخمسين صحابيًا، وانتهى إليهم، فقالوا: نحن مسلمون، فلم يصدقهم خالد، فودعهم أسرى عند الصحابة وأمر بقتلهم، فقتل بنو سليم من كانوا في أيديهم، ورفض المهاجرون والأنصار القتل.

فلما رجع خالد وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ مما فعل خالد، وأرسل عليًا رضي الله عنه إلى بني جذيمة يودي لهم ما أصاب خالد.

8- وبعث صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخلصة وهو بيت لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يسمونها الكعبة اليمانية، يقول ابن جرير: فنفرت في مائة وخمسين راكبًا، من أحمس وكانوا أصحاب خيل، فأتيناه فكسرناه وحرقناه وقتلنا من وجدنا عنده.

9- بعث صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية وقصة ذلك أن عبد ياليل بن عمرو، وعمرو بن أمية أحد بني علاج الثقفيان لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد ثقيف وأسلموا قالوا: أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟

قال صلى الله عليه وسلم: "اهدموها".

قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا.

قال عمر بن الخطاب: ويحك يا عبد ياليل ما أجهلك. إنما الربة حجر لا تدري من عبده ممن لم يعبده.

قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر.

وقالوا: يا رسول الله اتركها ثلاث سنين لا تهدمها، فأبى.

فقالوا: سنتين، فأبى.

فقالوا: سنة، فأبى.

فقالوا شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا.

وإنما كانوا يريدون ترك الربة خوفًا من سفهائهم، كما كرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها وأملوا في إقناعهم بالإسلام، وبعدها تزول كل صور الشرك والهوى ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها وقالوا: يا رسول الله اترك أنت هدمها فإنا لا نهدمها أبدًا, حتى لا يقال فينا ما لا يجوز، وقد فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيهم

فقال بعد هذا: "أنا أبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها".

فرجع الوفد، وأخبروا قومهم بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال شيخ من ثقيف: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه فإن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من بعد هذا شيء.

وخرج أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة وأصحابهما لهدم الربة، فلما دنوا من الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدم أنت على قومك.

وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة فلما نزلوها عشاء باتوا ثم غدوا على الربة يهدمونها.

فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف.

فقام المغيرة بن شعبة واستوى على رأس الربة ومعه المعول وضرب الكرزين ثم سقط مغشيًا عليه يركض برجليه فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أسعد الله المغيرة قد قتلتم الربة، زعمتم أن الربة لا تمتنع بل والله لتمنعن، وفرحوا حين رأوه ساقطًا، وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها فوالله لا يستطاع أبدًا.

فوثب المغيرة بن شعبة وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع، حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله تعالى ولا تعبدوها ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرًا حجرًا حتى سووها بالأرض.

وهكذا كان فتح مكة سببًا مباشرًا للقضاء على أصنام العرب وأوثانها ليعلو الحق ويدوم1.

__________

1 انظر في سرايا تحطيم الأصنام سيرة ابن هشام والمغازي.



كلمات دليلية: