withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة بدر الكبرى_14654

غزوة بدر الكبرى


موقعة بدر سنة 2 هـ

:

صممت قريش على تحديها للدولة اليثربية بتمرير تجارتها في أراضيها منتهكة بذلك حق السيادة اليثربية. فكان لزامًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقف موقفًا حازمًا يحفظ على دولته حدودها ويصون كرامتها. وإلا تعرضت للمهانة في الخارج والداخل. فقد كان في خارجها وعلى حدودها قبائل لم توادع النبي -صلى لله عليه وسلم- وهي على علاقات طيبة مع قريش ترتبط بها وترى من مصلحتها تفوقها. إذ إنها تستفيد من رحلاتها التجارية. كما كان الوضع الداخلي في يثرب مضطربًا بوجود اليهود الذين رأوا أمر محمد يستقر ولواء الإسلام يرتفع فبدأوا يقلبون له ظهر المجن ويعملون على الوقيعة به. وطبيعي أنه لو ترك حبل اليهود على غاربهم في المدينة أن يستفحل أمرهم ويثيروا الفتن التي يسعون لإثارتها. وليس يكفي في عرف الدقة السياسية التحذير منهم والتنبيه لكيدهم؛ بل لا بد من إشعارهم أن للمسلمين من القوة ما يمكنهم من إخماد أية فتنة واجتثاث أصولها.

خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة لقريش يقصد الشام، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع يسمى: العشيرة، لمصادرتها؛ لكن أبا سفيان فاته، فعزم على انتظارها في عودتها1 ولما تحين فرصة انصرافها من الشام بعث عيونه يقتصون خبرها ثم ندب المسلمين للخروج، وخرج على رأسهم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان سنة 2هـ، فبراير سنة 634م 2. وكانت عدة من خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الغزوة سبعة عشر وثلاثمائة رجل، منهم ستة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج3 وانطلقوا مسرعين خوف أن يفلت منهم أبو سفيان، وهم يحاولون حيثما مروا أن يقفوا على أخباره.

__________

1 العشيرة: موضع من ناحية ينبع بين مكة والمدينة. ياقوت 13/ 127، ابن هشام 3/ 234- 236.

2 التوفيقات الإلهامية من 1 "في 20 فبراير سنة 624 حدثت موقعة بدر".

3 ابن هشام 2/ 332، 338، 354، ابن حزم: جوامع السيرة 114، 115.

أما أبو سفيان، فكان قد اتصل به خروج النبي لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته، فجعل من ناحيته يتجسس أخبارهم؛ فلما ترامى إليه خبر خروجهم. استأجر رجلًا من قبيلة غفار بعثه مسرعًا إلى مكة ليستنفر قريشًا لنجدة أموالها. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها؛ فقد كان لكل منها نصيب من هذه القافلة حتى قُوِّم ما فيها بخمسين ألف دينار. وهو مبلغ عظيم في ذلك الوقت1، ثم إنها كانت معتزمة إيقاف نشاط المسلمين وضربهم.

على أن أمر قريش بمكة لم يكن جميعًا نحو سياسة العدوان التي اتخذتها نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ فقد كانت هناك طائفة تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى اضطرتهم إلى الهجرة، وكانت هذه الطائفة تتردد بين النفير والقعود، كما أن العصبية العشائرية كانت تفعل فعلها، فبنو هاشم في مكة كان هواهم مع محمد، وبنو عبد مناف جميعًا كانت العصبية العشائرية تقوم في نفوسهم، وهم وإن سايروا إجماع القبيلة كانوا يودون لو يترك أمر محمد للظروف العامة فإن انتصر على العرب كان ذلك فخرهم، وهم لذلك كانوا مترددين لم ينشطوا للخروج والاستعداد له نشاط باقي البطون القرشية2.

وقد بدت روح العصبية العشائرية واضحة فيما كان من خلاف بين موقف عتبة بن ربيعة بن عبد شمس من بطن عبد مناف وأبي جهل بن هشام من بني مخزوم؛ إذ كان الأول يريد تجنب القتال، وكان الثاني يتهمه بممالأة ابن عمه محمد، وينفس على بني عبد مناف أن تكون فيهم نبوة ورياسة3.

وهكذا لم تكن قريش تؤمن بسلامة موقفها إيمانًا يذكي روحها المعنوية ويشعرها بسلامة القضية التي تقاتل من أجلها؛ ومن أجل ذلك رجع بعض بطونها فلم يشهد القتال، وكان بين زعمائها من الخلاف والتحاسد ما جعل وحدتها مفككة أمام عدوها، ولكنها مع ذلك كانت معتدة بقوتها مزهوة بعدتها.

أما المسلمون فقد انطلقوا حتى إذا كانوا قرب بدر جاءهم الخبر بأن قريشًا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم؛ إذ ذاك تغير وجه المسألة فلم يبق هؤلاء المسلمون أمام أبي سفيان وغيره والثلاثين أو الأربعين رجلًا معه لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه،

__________

1 الواقدي 17، 18.

2 انظر الواقدي 29- 37.

3 نفسه 20، 30، 37، 45- 47.

وإنما هي مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها، وإرغام المسلمين على الاعتراف بقوتها وقدرتها على تمرير هذه التجارة في أراضيهم على رغم أنوفهم.

لقد أصبح الموقف بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- غاية في الحرج والدقة؛ فلقد خرج ليواجه تجارة وحامية قليلة فلم يأخذ للحرب أهبتها، ولم يتزود بما يكفي من عتاد وسلاح، وكذلك تخلف عنه كثير من أصحابه فلم يخرجوا ظنًّا منهم أنه لا يلقى حربًا. وكذلك لم يكن متثبتًا من موقف الأنصار بإزاء هذا الوضع الجديد. أيقاتلون أم يتمسكون بموقفهم السابق من عدم المجازفة بالاشتباك مع قريش؟

وهب أن المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله واستاقوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم يحفزها حرصها على مالها وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة أو تموت دونها، ولكن إذا عاد محمد إلى المدينة من حيث أتى طمعت قريش وطمع يهود المدينة فيه، واضطر إلى اتخاذ موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى احتمال أذى اليهود والمشتركين معهم بالمدينة مثلما احتملوا من أذى قريش في مكة. ثم ماذا عن الدولة الجديدة وسيادتها وحدودها؟ إنها سوف تهدد تهديدًا خطيرًا قد يذهب بحرمتها ويجعلها غرضًا للمعتدين؛ بل قد يقضي عليها نهائيًّا.. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الله.

عند ذلك استشار أصحابه وأوضح لهم الموقف؛ فأدلى كبار المهاجرين برأيهم، وأظهروا طاعتهم واستعدادهم للتضحية مهما عظمت. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد رأي الأنصار؛ ولذلك ظل يكرر: "أشيروا علي أيها الناس" فأدرك سعد بن معاذ زعيم الأوس وحامل لواء الأنصار في هذه الغزوة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريدهم، فقام يجيب عن الأنصار قال: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله" 1. فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشطه ذلك، فقال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم" 2.

__________

1 ابن هشام 2/ 254.

2 نفسه 2/ 254.

وبهذه المشاورة وهذا التصريح من زعيم الأنصار اطمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موقفه وضمن اتحاد طرفي الصحيفة عن سياسة واحدة تجاه الأوضاع الخارجية أصبحت منذ ذلك اليوم تطبق تطبيقًا عمليًّا. ولم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في حاجة إلى التفكير في موقف أهل المدينة تجاه سياسته الخارجية وتدعم بذلك مركز الدولة إلى حد كبير.

نشط المسلمون وتقدموا إلى وادي بدر، وهو وادٍ به آبار ومياه كان موسمًا للعرب، ومحطة تجارية تنزلها القوافل في ذهابها وعودتها إلى الشام، وكان المسلمون يتوقعون لقاء القافلة هناك. لكن الوضع ما لبث أن تغير، فقد عرف أبو سفيان خروج المسلمين ونزولهم على ماء بدر، فساحل بقافلته وأفلت1. وأصبح المسلمون وهم ينتظرون قدوم القافلة، فإذا الأخبار تصلهم أنها فاتتهم، وأن الذين على مقربة منهم هم مقاتلة قريش. فلم تعد الغنيمة إذن هي التي تنتظرهم وإنما هو القتال، والقتال الشديد غير المتكافئ، فقريش قد جاءت بعدتها وعتادها في ثلاثة أضعافهم من الرجال وما يفوقهم خمسين ضعفًا من الخيل2؛ ولذلك كان على المسلمين أن يوطنوا أنفسهم على الشدة وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه، إلا أن بعض المسلمين قد تخوف القتال بعد أن ذهب الأمل في الغنيمة، فبدأ يجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- كي يعودوا إلى المدينة، ولا ضرورة للقاء مقاتلة قريش وهي أكثر منهم عدة وعددًا، وهذا البعض لم يدرك بطبيعة الحال معنى الدفاع عن الحدود؛ وإنما كانت نظرته سطحية قبلية؛ ولذلك نزل القرآن يوضح المسألة ويثبت المسلمين {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال] . وبذلك قضى على التردد واستعاد المسلمون روحهم المعنوية، ووضحت لديهم أغراض القتال.

وقريش هي الأخرى ما حاجتها إلى القتال وقد نجت تجارتها؟ أليس خيرًا لها أن تترك المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفي حنين؟ هكذا فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يطلب إليهم الرجوع، وهو يتخوف على قومه من لقاء المسلمين، ويشاركه في هذا التخوف كثير من زعماء الجيش المكي، فلقد خرج سادات قريش جميعًا إلى القتال، فلو

__________

1 نفسه 257.

2 الواقدي 26: "خرجوا بتِسْعمائة وخمسين مقاتلًا وقادوا مائة فرس بطرًا ورياء الناس".

أصابهم المسلمون فظفروا بهم قتلًا أو أسرى، فماذا يكون الحال في مكة؟ وإلى أي حد تبلغ المصيبة؟! إن قريشًا تقدم على قتال قوم في بلادهم بغيًا عليهم1، وعلى قتال قوم قد ظلموا وأوذوا في أنفسهم وأموالهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم جميعًا يتحدثون عن الموت حديثهم عن الحياة الخالدة الناعمة. وإنهم لينظرون من ورائه جنة عالية ونعيمًا مقيمًا. فهم إذن قوم مستميتون مستقتلون، يحفزهم الإحساس بالظلم ويدعوهم النعيم الذي ينتظرهم، وليس أشد بأسًا في القتال من مؤمن مظلوم.

وهكذا كانت الروح المعنوية في كل من الجيشين حين تقدما للقتال واستطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسبق عدوه إلى ميدان القتال، وبذلك اختار لرجاله أفضل المواقع، ثم عدل صفوفهم وبث فيهم الحمية وبشرهم بالنصر وبأن الملائكة ستشد أزرهم؛ وقد أظهر المسلمون منتهى النظام والطاعة والتفاني في محبة قائدهم، وبذلك عوضوا النقص في عددهم وعدتهم. أما قريش فلم تحسن اتخاذ مواقعها، كما كانت التفرقة تسود قوادها، ولم يستطعيوا جمع أمرهم على واحد يلزمهم طاعته، فما لبثوا حين اصطدموا بالمسلمين، أن بطش بهم هؤلاء بطشة شديدة، وتيمموا رؤساء قريش يقتلونهم ويأسرونهم، فارتبكت صفوف قريش وولوا منهزمين بعد أن تركوا في ميدان القتال سبعين قتيلًا كان منهم معظم زعماء مكة، كما تركوا في أيدي المسلمين سبعين أسيرًا، وتركوا كثيرًا من أمتعتهم وأموالهم ودوابهم وقعت غنيمة في أيدي المسلمين. وهكذا كانت هزيمة تامة ساحقة2.

وتعد معركة بدر على صغرها وعلى قلة الجيوش المتقابلة فيها؛ من المعارك الحاسمة في التاريخ، فقد استقر بها أمر المسلمين في جزيرة العرب، وقد ثبتت دعائم الدولة اليثربية التي كانت مقدمة لوحدة شبه الجزيرة العربية. كما كانت مقدمة لإمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف هي من أعظم ما عرف التاريخ من إمبراطوريات. وأقرت حضارة في العالم لا تزال ذات أثر عميق في حياة الإنسانية.

تركت بدر آثارًا عميقة بمكة والمدينة على السواء: فأما في مكة فقد عادت قريش مهزومة مخذولة، قد قتل سادتها وأسر كثير من رجالها وفيهم عدد من ذوي المكانة، وقد تركت الهزيمة في نفوس القرشيين حرصًا شديدًا على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ لهم الفرصة لهذا الثأر، وقد حرصوا على أن تكون فرصة الثأر قريبة وأن تعد

__________

1 الواقدي 37، 45.

2 انظر ابن هشام 2/ 366، 367، الواقدي 70- 73.

لها قريش العدة قبل أن تخمد نارها في الصدور، فما كادت ترجع حتى اجتمع رجالها في دار الندوة فاتفقوا على التنازل عن أرباح قافلة أبي سفيان، ووقفها على إعداد جيش قوي لغزو محمد والثأر منه، وقد قدر هذا الربح بخمسين ألف دينار وهذا مبلغ كبير في تلك الأيام1. ثم إنها أخذت تعد أحابيشها وتتصل بحلفائها، كما تتصل بيهود المدينة ممن امتلأت نفوسهم حقدًا على محمد وامتلأت قلوبهم خوفًا من علو أمره.

أما أثر بدر في المدينة؛ فقد كان أوضح وأكثر اتصالًا بحياة محمد والمسلمين معه، فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوة المسلمين، ورأوا هذا الرجل الذي جاءهم فارًّا من مكة منذ عامين يزداد سلطانه ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعًا. وكان اليهود قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشتهم للمسلمين، ولم يحل دون انفجار العداوة بين الطرفين إلا عهد الموادعة الذي كان بين الفريقين. على أنه ما كان المسلمون يعودون منتصرين من بدر حتى جعلت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر، وحتى أخذت تغري بهم وترسل الأشعار في شتمهم والتحريض عليهم. وهكذا انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة؛ غير أنه لم تعد هنا دعوة محمد هي وحدها التي تحارب؛ وإنما هو سلطانه ونفوذ كلمته وعلو أمره الذي أصبح موضع الخوف وسبب الائتمار به والتفكير في اغتياله، وما كان محمد لتخفى عليه خافية من هذا كله، وجعلت النفوس من جانب المسلمين ومن جانب اليهود تمتلئ بالغل والضغينة شيئًا فشيئًا، وجعل كل فريق يتربص بالآخر.

وكان المسلمون إلى يوم بدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا يستطيعون رد الاعتداء بالشدة على من يعتدي عليه منهم، فلما عادوا منتصرين امتلأت نفوسهم بالجرأة، ووجدوا أن مصلحتهم تقتضيهم رد العدوان وتأديب المعتدين، وإلقاء الرعب في قلوب من تحدثهم أنفسهم بإفساد أمور الدولة الإسلامية الناشئة في يثرب، فقتلوا بعض رجال من اليهود كانوا يحرضون على الدولة ويتصلون بالعدو2، وكذلك استطاعوا أن يخرجوا إحدى قبائل اليهود من المدينة وهم بنو قينقاع عندما تحدت المسلمين وأظهرت العداء3، وكانت هذه القبيلة اليهودية تساكن المسلمين بداخل المدينة، وكان وجودها يشكل خطرًا على كيان المدينة لو هددت بهجوم خارجي وحدثتهم نفوسهم الخيانة،

__________

1 الواقدي 157، ابن هشام 3/ 4.

2 ابن هشام 2/ 440، 441، الواقدي 144- 151.

3 نفسه 426- 429، الواقدي: 13- 141.

وحين خلت المدينة في داخلها من هؤلاء اليهود، زال عنها وجود عنصرين متحاقدين في داخلها، وبذلك أصبحت أقدر على مواجهة احتمال الهجوم الذي كانت قريش تستعد له لتثأر ليوم بدر.

موقعة أحد سنة 3هـ:

بدت الحالة الداخلية هادئة في المدينة بعد النصر الذي أحرزه المسلمون في بدر، وبعد إجلائهم بني قينقاع، وانكمشت الطوائف الأخرى من غير المسلمين، وخفتت أصوات المعارضة، بعد مقتل المحرضين على المسلمين من اليهود، وفزع اليهود وذلوا بعد أن أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دماء كل من تحدثه نفسه بالفتنة منهم1. وكان من الممكن أن يستمر هذا الهدوء فترة طويلة لولا أن أبا سفيان بمكة لم يطق صبرًا على عار بدر. ولم يطق أن يظل قابعًا في مكة دون أن يعيد إلى أذهان العرب أن قريشًا لا تزال لها قدرتها على الضرب والغزو؛ لذلك ما لبث بعد شهر أن جمع مائتين من رجال مكة وخرج بهم مستخفين، حتى إذا ما وصلوا منطقة المدينة ليلًا نزل على بني النضير في حصن زعيمهم سلام بن مشكم حيث قراه وسقاه وبطن له من خبر الناس ثم خرج في عقب ليلته هذه، فأغاروا على ناحية العريض فحرقوا بها بيتين ونخلًا ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له يعملان في حرث لهما فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين2. وندب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فخرجوا في أثر أبي سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر على نحو أربعة وعشرين ميلًا من المدينة 3، وأبو سفيان ومن معه جادون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السويق، فإذا مر به المسلمون أخذوه، ولذلك سميت هذه الغزوة غزوة السويق4، وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب أن الغزوة ترفع من شأن قريش بعد مصاب بدر.

أما القبائل المحيطة بالمدينة وبخاصة التي تنتشر على جانبي طريق التجارة فقد بدأت ترى ما يتهدد مصالحها من تزايد قوة المسلمين، ومن تعادل هذه القوة وقوة مكة تعادلًا تخشى نتائجه؛ فقد أصبح طريق الشاطئ وهو الطريق المعبد المعروف مهددًا،

__________

1 ابن هشام 2/ 441.

2 قراه: ضيَّفه، بطن له من خبر الناس: أعلمه من سرهم، ابن هشام 2/ 422.

3 ياقوت 66/ 441.

4 ابن هشام 2/ 422، 423.

وأصبحت تجارة قريش إلى الشام معرضة للتوقف التام، فإذا حدث هذا فإن هذه القبائل تتعرض لخسارة اقتصادية شديدة، فأما القبائل التي تعيش قريبًا من الساحل فقد حالفت النبي -صلى الله عليه وسلم- فزاد بذلك تهديده للطريق التجاري، وأما القبائل الأخرى فقد ملأ الرعب قلوبها بعد بدر، وإن كانت قد حاولت التجمع للنيل من المدينة محاولات لم تصمد فيها، فإنها كانت ما تكاد تسمع بخروجه إليها حتى تنخلع قلوبها وتتفرق في رءوس الجبال، ومسالك الصحراء.

وكان على قريش أن تحاول إيجاد وسيلة للتخلص من هذا الحصار وإلا تعرضت لشر ما تتعرض له مدينة مثل مكة تعيش على التجارة. وقف صفوان بن أمية يومًا في قريش يقول: "إن محمدًا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا نأكل رءوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه ما لنا بها بقاء وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة1 فقرروا أن يسلكوا طريق العراق، وبعثوا قافلة تبلغ قيمتها مائة ألف درهم2، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كاد يعلم بأمرها حتى أرسل إليها سرية اعترضتها عند ماء من مياه نجد يسمى: القردة، ففر الرجال واستولى المسلمون على الأموال، وأسروا دليل القافلة الذي أسلم حين وصل إلى المدينة وأقام بها3.

زاد هذا الحادث قريشًا حنقًا على محمد وطلبًا للثأر منه؛ فإنها إن لم تثأر لكرامتها من هزيمة بدر، وإن لم تفتح لنفسها طريق التجارة إلى الشام هوت مكانة مكة الاقتصادية ومكانتها الأدبية إلى حيث لا تقوم لها بعد ذلك قائمة؛ لذلك أخذت تعد نفسها وتتصل بالقبائل لتشاركها في الهجوم على المدينة، كما استنفرت معها من اتبعها من الأحابيش، وأصرت النسوة من قريش على أن يسرن مع الغزاة يحمسنهم ويحفزنهم ويذكرنهم قتلى بدر، وخرجت قريش معها عدد من نسائها وعلى رأسهن هند زوج أبي سفيان قائد الحملة، وهي أشدهن على الثأر حرقة أن قتل أبوها وأخوها وعمها يوم بدر، وكانت عدة الجيش ثلاثة آلاف مقاتل مزودين بأفضل ما قدروا عليه من عدة وسلاح، يمتطون ثلاثة آلاف بعير وقادوا مائتي فرس، ومن بين رجالهم سبعمائة دارع،

__________

1 الواقدي 155.

2 نفسه 156.

3 ابن هشام 2/ 430.

وقصدوا المدينة في ثلاثة ألوية عقدت في دار الندوة1. فلما أجمعوا المسير كتب العباس بن عبد المطلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصف له جمعهم وخروجهم إليه، كذلك خرج وفد من خزاعة -وقد كانت خزاعة تميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتخلص له- فأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر2 واقتربت قريش من المدينة وأطلقت خيولها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، ثم قدمت فنزلت بجوار أحد.

وعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا عامًّا دعا إليه أهل الرأي من المسلمين ومن المتظاهرين بالإسلام، وجعلوا يتشاورون كيف يلقون عدوهم، وكان رأي كبار الرجال من أهل التجربة أن يتحصنوا بالمدينة ويقاتلوا فيها. لكن الشباب من المسلمين أخذتهم الحماسة ورأوا في بقائهم بالمدينة أمرًا قد تعده قريش وتفهمه قبائل العرب نوعًا من الجبن عن لقاء العدو فيكون ذلك مجرئًا عليهم غيرهم، وأرادوا أن يحققوا نصرًا مثل الذي حققه المسلمون يوم بدر، وناصرهم على هذا الرأي رجال سمت روحهم الدينية فطلبوا الشهادة أو يجاهدوا في الله فيدحروا من كفر به. واشتد الجدال وظهرت الكثرة الواضحة في جانب الذين يقولون بالخروج إلى العدو وملاقاته، وقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إني أخاف عليكم الهزيمة" ومع ذلك أبوا إلا الخروج؛ فلم يكن له إلا أن ينزل على رأيهم، وكانت الشورى أساس نظامه في هذه الحياة إلا أن يكون وحيًا يوحى من عند الله.

وحين دخل بيته يلبس سلاحه ويتخذ عدة الحرب، اشتد الجدل بين القائلين بالتحصن بالمدينة وبين القائلين بالخروج وقال لهم أولئك: "لقد رأيتم رسول الله يرى التحصن بالمدينة فقلتم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج وهو له كاره، والأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوًى أو رأيًا فأطيعوه3".

وتراجع الداعون للخروج عن إصرارهم، وحين خرج النبي في عدة حربه ألقوا الأمر إليه ليبقى إذا أراد البقاء، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته -عدة حربه- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، انظروا ما آمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم" 4. وهكذا وضع محمد إلى جانب الشورى مبدأ النظام، فإذا تم للكثرة رأي بعد البحث والتفكير، لم يكن لها أن تنقضه لهوى أو لغاية، بل يجب أن ينفذ الأمر،

__________

1 الواقدي 158، 159.

2 الواقدي 160.

3 الواقدي 167، ابن هشام 3/ 7.

4 الواقدي 167، 168.

على أن يوكل التنفيذ إلى من يحسنه، ويوجهه إلى حيث يتحقق له النجاح، وعلى الجماعة أن تلتزم الطاعة والنظام.

وتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين متجهًا إلى أحد حيث عسكرت قريش، ورفض أن تنضم إليه كتيبة من اليهود كانوا حلفاء لعبد الله بن أبي بن سلول، حذر أن توقع الاضطرابات في نفوس الجيش، كما رفض أن يدعو الأنصار حلفاءهم من يهود1، وموقف اليهود مشكوك فيه بعد الذي ظهر من خيانتهم وبعد ما امتلأت به النفوس من حقد، وفي الطريق انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وعاد إلى المدينة محتجًّا بأنه خالف رأيه واتبع رأي الغلمان ممن لم يحسنوا استخدام الرأي2، وكذلك همت طائفتان أخريان من الأنصار أن تتراجعا متأثرتين بتراجع عبد الله بن أبي لولا أن ذكرتا إيمانهما فصبرتا3، وبقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سبعمائة من المسلمين ليقاتلوا ثلاثة آلاف من أهل مكة كلهم موتور وكلهم على ثأره حريص.

وفي ساحة أحد اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجاله. موقعًا استراتيجيًّا قويًّا، فاحتمى بظهره إلى أحد، وجعل العدو في مواجهته، ووضع خمسين من الرماة على مرتفع يقال له: جبل عينين، ليسدوا الطريق على خيالة قريش فلا تستطيع الالتفاف بجيش المسلمين وشدد عليهم الأمر ألا يفارقوا مكانهم إن كانت للمسلمين أو عليهم، وإنما همهم أن ينضحوا الخيل بالنبل حتى لا تأتي الجيش من خلفه4.

وفي تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرماة، وفي تراجع بعض الناس عنه، وفي المناقشات التي دارت قبل الخروج، ما يبرز أن الجبهة يوم أحد لم تكن متماسكة، فقد رأينا كيف أن المسلمين لم يكونوا موحدي الكلمة في الاستعداد لمقابلة العدو والتهيؤ لخوض غمار المعركة، لقد كانت كلمتهم موحدة في بدر، وكان أمرهم جميعًا، وكانوا مثال الطاعة والنظام، والحرص على تنفيذ أمر القيادة، كما كانوا يقدرون قوة العدو ويدركون تفوقه عليهم، ويعدون أنفسهم للصبر والشدة، وتمتلئ نفوسهم مع ذلك باليقين بالنصر، والثقة بموعود الله أن تكون إحدى الطائفتين واستعدادهم ليخوضوا وراء نبيهم إن هو استعرض بهم البحر.

__________

1 الواقدي 168، ابن هشام 3/ 8.

2 الواقدي: نفسه.

3 انظر سورة آل عمران 123.

4 ابن هشام 3/ 10.

وها هم أولاء في يوم أحد تختلف كلمتهم، فمنهم من يرى البقاء بالمدينة والتحصن بها وهؤلاء الكبراء وأصحاب الرأي وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومنهم من يرى الخروج ومناجزة العدو حيث هو بظاهر المدينة، وكان هؤلاء هم الأكثرية، وقد أنستهم حماستهم أن يقدروا قيمة العدو، ويعملوا حسابًا لتفوقه العددي، وأن يدركوا ما تضطرب به نفسه من الحقد والحرص على الثأر ليوم بدر، ولم يتفهموا تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم حين خاف عليهم نتيجة الاندفاع في الحماسة والاستخفاف بقوة العدو. ومع ذلك فقد وضح أن هذه الحماسة كانت فورة غمرت النفوس، ثم لم تثبت على محك الحوادث، ذلك أنهم ما كادوا يذكرون بأنه كان يجب عليهم أن يردوا الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تراجعوا عن موقفهم المتشدد في الخروج، ولم يكن الموقف يحتمل التراجع من جانب القيادة؛ وإلا تعرضت الروح المعنوية العامة للانهيار نتيجة للتردد والتراجع في اتخاذ القرارات، وبرغم ما حرص عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من توحيد الصفوف على قرار واحد صدر عن الجماعة، وبرغم حرصه على المحافظة على الروح المعنوية عالية بين رجاله، وبرغم ما وعدهم به من النصر على العدو ما صبروا واستجابوا لروح الطاعة والنظام وحرصوا على تنفيذ أوامر القيادة، برغم كل ذلك؛ فإنه ما كاد الجيش يخرج إلى ظاهر المدينة للقاء العدو حتى تراجع عبد الله بن أبي بثلث الناس مستجيبًا لتحريض حلفائه من اليهود، وحتى بعض المخلصين من المؤمنين اهتزت نفوسهم وتسرب الخوف إلى قلوبهم، وهمت طائفتان منهم أن تتراجعا1، لقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الضعف بين صفوفه فحرص على إمداد رجاله بالصبر واليقين والاعتصام بالإيمان، والثقة في نصر الله الذي آتاهم حين قاتلوا في بدر وكانوا أقل من ذلك عددًا وأضعف عدة، ونزل القرآن يثبت المسلمين ويصور موقفهم: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران] .

__________

1 البخاري 5/ 96.

من ذلك ندرك السر في تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرماة ألا يبرحوا أماكنهم مهما يكن الموقف من نصر أو هزيمة، وتكرار هذا التشديد مع توضيح الموقف لهم، ليدركوا أهمية محافظتهم على موقفهم بالنسبة لموقف الجيش كله، ثم إشهاده الله عليهم إثارة لإيمانهم لما يفرضه عليهم من طاعة تامة1.

ثم إنه لم يدخر وسعًا في تنظيم رجاله تنظيمًا عسكريًّا بارعًا ليعوضهم عن قلتهم، فتخير لهم أفضل المواقف إستراتيجية في ميدان القتال، وسد الثغرات على العدو حتى لا ينفذ من خلفهم، ثم إنه عمل على إثارة حمية رجاله وتنبيه روح البطولة فيهم؛ فقد مد يده بسيف وقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟ " وتسابق إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة الأنصاري، فقال: "وما حقه يا رسول الله؟ " فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن تضرب به العدو حتى ينحني". وكان أبو دجانة رجلًا شجاعًا له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل وأنه أخرج عصابة الموت، فأخذ السيف وأخرج عصابته فاعتصب بها، وجعل يتبختر بين الصفين على عادته إذ يختال عند الحرب، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"2.

هكذا كانت الجبهة اليثربية.

أما الجبهة المكية فقد بدت في هذا اليوم أكثر تماسكًا. قيادتها موحدة وكلمتها جميع، وحرصها على الثأر من المسلمين شديد، وقد ظاهرها كثرة في العدد وقوة في التسليح، ولديها قوة كبيرة من الفرسان، وخلف الجيش النسوة يحفظن الرجال ويحمسنهم، وكل واحدة منهن قد وعدت مولى لها بالخير الكثير، إن أدرك لها الثأر من قتلة الأحبة.

وهكذا وقفت في ميدان القتال قوتان غير متكافئتين لا في العدد ولا في العدة، يحرك القوة الكبرى ثأر لا يهدأ من يوم بدر في نفوس ثائرة، ومركز أدبي ومادي أوشك على الانهيار. ويحرك الصغرى عامل الدفاع عن الوطن أن تنتهك حرمته، وعامل الدفاع عن العقيدة ودين الله. فأما المطالبون بالثأر فقد كانت تؤيدهم الكثرة والعدة وتدفعهم الحفيظة، وأما المدافعون فقد بدأ بعض الخلل في صفوفهم، ولكن عوضته في

__________

1 البخاري 5/ 94. ابن كثير 4/ 25. إمتاع 1/ 124، 125.

2 ابن هشام 2/ 11، 12.

أول المعركة مهارة القيادة ودقة التنظيم، وثورة الإيمان في نفوس بعض أبطال المسلمين ممن سمت نفوسهم حتى ليرون ألا تقف قوة أمام سيوفهم، وكان هذا قمينًا أن يتم عليهم النصر. لولا ذلك الخلل الذي وصل إلى بعض النفوس فأطمعها في الدنيا وأغراها بحب العاجلة، فذهلت عن أمر نبيها فأفسدت على الفئة المؤمنة موقفها. فقد حمل المسملون في أول المعركة حملة شديدة على العدو وتناولوا حملة لوائه بالقتل حتى قتلوا منهم تسعة على التوالي، فتراجعت قوات قريش وانكشفت حتى دخل المسلمون معسكرهم، وكادوا يذيقونهم هزيمة أشد من يوم بدر. لولا أن شغلوا بالغنيمة يجمعونها، وخالف الرماة الأوامر المشددة، فتركوا مواقفهم ونزلوا يشاركون في جمع الغنائم ظنًّا منهم أن الهزيمة قد تمت على العدو، وعند ذلك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد قائد خيل قريش، فنفذ من الثغرة التي كان يسدها الرماة، ودار خلف جيش المسلمين وأوقع الخلل في صفوفه، وعاد المنهزمون من قريش حين رأوا خيلهم تقاتل بين المسلمين، فألحقوا بهم هزيمة شديدة وقتلوا منهم سبعين رجلًا منهم عدد من الأبطال من بينهم حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بطل ذلك اليوم، ووصل العدو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بعد أن تفرق عنه رجاله منهزمين، وأصابه بجراحات شديدة، وتعرضت حياته للخطر لولا أن دافع عنه رجال من المهاجرين والأنصار فدوه بحياتهم.

وفشلت كل محاولة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لرد هزيمة المنهزمين، وإعادة تسوية الصفوف فقد ابتلعت الكثرة من قريش هذا العدد القليل من المسلمين بعد أن فقدوا النظام واختلت صفوفهم، وفي تصوير هذا الموقف نزل القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ1 بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران] .

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران- 155] .

__________

1 تحسونهم: تقتلونهم، تفسير الطبري 7/ 287.

أما قريش فقد طارت بنصرها فرحًا، وحسبت نفسها انتقمت أشد الانتقام ليوم بدر. حتى صاح أبو سفيان يخاطب المسلمين: يومٌ بيومِ بدرٍ والموعد العام المقبل. ولقد أسرفت قريش في نكايتها بالمسلمين وفي إظهار حقدها وتشفيها، فمثلت بالقتلى: جدعت الأنوف وصلمت الآذان وبقرت البطون، وبلغ الحقد بهند زوج أبي سفيان أن لاكت كبد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بقرت بطنه وجدعت أنفه وصلمت أذنيه واتَّخَذَتْ من هذه وغيرها من قتلى المسلمين قلائد وأقراطًا ومسكًا -أساورَ1 وكثيرًا من الفظائع التي تبرأ أبو سفيان من تبعتها وأعلن أنه لم يأمر بها وبلغ من شناعة ما فعلت وفعل النسوة معها، بل ما فعل الرجال كذلك -وإن لم يسخط على من فعلها- فقال يخاطب المسلمين: "إنه كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت"2.

وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها، ولم تشأ أن تهاجم المدينة فتحتلها وتقضي عليها، مكتفية بأن تنال من ثمار النصر أقربها وأيسرها على ما جرت عليه العادة عند القبائل العربية في حروبها.

وانصرف المسلمون إلى المدينة وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دفنوا قتلاهم والحزن يثقل نفوسهم، لما أصابهم من هزيمة بعد نصر ومن مذلة وهوان بعد ظَفَر عزيز لا ظفر مثله؛ وذلك لاختلافهم ومخالفتهم أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- وانبعاثهم وراء عرض الدنيا في الوقت الذي يقاتلون فيه لإعلاء الحق وإقرار المثل العليا.

وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهزيمة أن يعالج الموقف من نواح متعددة: عليه أولًا أن يعالجه من الناحية النفسية عند المسلمين، وقد أوشكت الهزيمة أن تقتل الروح المعنوية فيهم، وأوشك الشعور بالإثم أن يذل نفوسهم، ويصغر أقدارهم في نظر أنفسهم؛ فلقد خالفوا رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبار المسلمين، وأصروا على الخروج للقاء العدو وهم يتحرقون شوقًا للقائه وإلحاق الهزيمة به كما أذاقوه إياها يوم بدر، وها هم الآن يذوقون مرارة الهزيمة نتيجة عصيانهم وفشلهم، ولقد كانوا يتمنون الموت ويطلبون الشهادة قبل لقاء العدو، فلما عاينوا الموت فروا منه وازورت نفسهم عن الشهادة، بل إن بعضهم يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} [آل عمران] ولقد كانوا

__________

1 ابن هشام 3/ 41.

2 نفسه 45.

يعتزون بأنهم جند الله يقاتلون لإعلاء كلمته وينتصرون بتأييده، فإذا الدينا تصرفهم بعرضها عن غايتهم العظمى فيخسرون النصر الذي أوشكوا أن ينالوه، وما أدراهم أن الله لم يغضب عليهم لعصيانهم وطمع نفوسهم فيخسرون الآخرة أيضًا.

كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج هذه النفوس وإلا وصلت الهزيمة إلى قرارتها وأصبح من الصعب إقالتها من عثرتها، وكان عليه كذلك أن يعالج الموقف الداخلي في المدينة نفسها، فقد أخذت الطوائف الأخرى من أهل المدينة من اليهود والمنافقين والمشركين يظهرون السرور لما كان من هزيمته وأصحابه، وأظهر اليهود القول السيئ في النبي -صلى الله عليه وسلم- وراحوا يشككون في نُبوته، كما أخذ المنافقون يخذلون عنه أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه1.

ولو بقيت هزيمة أحد هي الكلمة الأخيرة بين المسلمين وقريش فإن أمر محمد وأصحابه ليشرف على الأُفُول، ولتضعضع سلطانه بيثرب بعد أن أصبح صاحب الكلمة العليا فيها بعد بدر.

وماذا عن قريش؟ إنها لو رجعت بنصرها كما كسبته. لربما رجعت إلى المدينة فهاجمتها، والمسلمون مضعضعون من الهزيمة لم يستردوا نفوسهم من آثارها، ولو أنها لم ترجع واكتفت بما نالت لكان المسلمون عرضة لاستخفافها وإرسال دعاية السخرية والاستهزاء بهم في أنحاء الجزيرة كلها، ولئن حدث هذا لجاء في أثره اجتراء القبائل على المدينة والاستخفاف بها ومهاجمتها.

كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج الموقف من جميع هذه النواحي: فأما من الناحية النفسية عند المسلمين؛ فإنه عفا عن كل مسيء في المعركة ولم يحمل أحدًا بعينه ممن حضرها نتائجها، بل جعل المسئولية عامة.

ثم إن القرآن الكريم نزل مواسيًا للمسلمين معالجًا لجرح نفوسهم مذكيًا الروح المعنوية فيهم، مذكرًا إياهم بأن الحرب سجال والأيام دول. وأنهم لكي ينتصروا لا بد أن تكون لديهم القدرة على مواجهة الهزيمة، فإن القدرة على تقبل الهزيمة أقوى أنواع الانتصار. ثم يثير فيهم العظة المستفادة من هذه المعركة حتى يستعدوا لما بعدها من أيام {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا

__________

1 إمتاع 1/ 165.

يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران] .

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران] .

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران] .

وهكذا عاون القرآن الكريم في شفاء نفوس المسلمين حتى عادت إليها سلامتها. كما حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يرد إليها سريعًا شجاعتها ويشعرها ويشعر من حولها أنها لا تزال قادرة على الضرب والغلب ومواجهة العدو، وأن ما حدث في المعركة إن هو إلا حالة عارضة لم تؤثر بأي حال من الأحوال على جوهر نفوس المسلمين ولا على شجاعتهم، وأن قوتهم الضاربة لا تزال قادرة على خوض غمار الحرب واستئناف القتال من جديد في عزم وثقة بالنصر.

لذلك، وليتحوط لرجوع قريش لضرب المدينة واحتلالها، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأذن مؤذن في المسلمين بطلب العدو، في الغد من يوم أحد على ألا يخرج إلا من حضر القتال.

وتحامل المسلمون على جراحاتهم، وقد استردوا روحهم المعنوية، فلم يتخلف منهم أحد، وحتى من أثقلته جراحه لم يرد أن يفوته من أمر القتال شيء، وأظهروا من الصبر والجلد وشجاعة النفس ما يعتبر مثلًا فذًّا في تاريخ الحروب1.

بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- حمراء الأسد -على ثمانية أميال من المدينة- وكان أبو سفيان ورجاله قد وصلوا الروحاء -على سبعة وسبعين ميلًا- وقد صدق تقدير النبي -صلى الله عليه وسلم-

__________

1 انظر ابن هشام 3/ 52، 53.

فإن قريشًا قد تلاومت على ترك الفرصة تفلت من يديها بعد أن أوقعت الهزيمة بالمسلمين فأجمعت على الرجعة، وقالوا: أصبنا حد أصحابه -محمد- وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم1.

وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوهن نفوس المكيين ويضعف عزيمتهم، فأوحى إلى رجل من خزاعة -وكانت خزاعة مسلمها ومشركها هواها مع النبي صلى الله عليه وسلم، تناصحه وتود نصره- أن يخذِّلها عنه ويلقي إليها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين قد خرجوا لقتالها وقد رجع إليهم من تخلف عن القتال، واستعدوا استعدادًا كبيرًا وفعل الخزاعي ما كلف به، فخارت عزيمة أبي سفيان وأجمع على الرجوع إلى مكة؛ ولكنه كلف نفرًا من العرب كانوا يريدون المدينة أن يخذلوا المسلمين عن مطاردته، ثم رحل عائدًا إلى مكة. وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام يوقد النيران ليعلم قريشًا أنه ينتظرها، وليشعر القبائل بقوته وعزمه، ثم عاد إلى المدينة2 وقد استرد كثيرًا من مكانة المسلمين وأعاد إلى نفوسهم كثيرًا من شجاعتها واطمئنانها.

__________

1 نفسه 3/ 54.

2 ابن هشام 3/ 54- 56، إمتاع 1/ 167- 170.



كلمات دليلية: