withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة الأحزاب الخندق _15794

غزوة الأحزاب الخندق


المبحث الثامن: غزوة الأحزاب

أدت تحركات المسلمين قبل الأحزاب إلى إعادة الهيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأخذ أهل مكة وأعراب البوادي وقبائل العرب المنتشرة في أرجاء الجزيرة العربية يميلون إلى السلام مع المسلمين، ويهربون من عدم مواجهتهم كما رأينا من أبي سفيان في بدر الآخرة.

ونظر يهود بني النضير إلى حالتهم فوجدوا أنهم أخرجوا من ديارهم، وفقدوا أموالهم وشق عليهم أن يستقر المسلمون في المدينة، وينتشر الإسلام بين الناس فعملوا على القضاء على المسلمين ليعودوا إلى المدينة مرة أخرى, ورأوا أنه لا قبل لهم بالمسلمين فأخذوا يؤلبون الناس، ويجمعون الأحزاب لمقاتلة المسلمين.

وتولى كبر هذا التحريض نفر من اليهود على رأسهم سلام بن مشكم بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب في نفر من بني النضير، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس في بضعة عشر رجلا حيث خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بالدين الذي أصبحنا نختلف فيه، نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟ فنحن عمار البيت، ننحر الإبل، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام؟!

فقالوا لهم: بل دينكم خير من دينه، وإنكم أولى بالحق منه.

فأنزل الله فيهم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 1.

يقول المفسرون:

خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبًا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشًا على غدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة:

__________

1 سورة النساء الاية 51.

إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما فذلك قوله، يؤمنون بالجبت والطاغوت.

ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك.

فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقًا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟

فقال كعب: أعرضوا على دينكم.

فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث.

فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه.

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما سمعوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، واتعدوا له، وقال لهم أبو سفيان: مرحبًا وأهلا، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.

ثم خرج ذلك النفر حتى أتوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنهم سيعطونهم ثمر خيبر سنة إن هم نصروهم، وأخبروهم أن قريشًا تابعوهم على ذلك.

ثم ذهبوا إلى بني سليم فوعدوهم المسير معهم إذا خرجت قريش1.

وأخذ المنافقون في المدينة يبتعدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشاركون المسلمين في المحافظة على المدينة، ويتحايلون في عدم الالتزام بالعهود الموجودة وصاروا يعملون ضد الإسلام في لؤم وخفاء.

وتمكن يهود بني النضير من التأثير على بني قريظة كذلك وضموهم إلى معسكر المقاتليت لرسول الله وصحابته.

وظن الأحزاب بهذا التجمع أن الأمور دالت لهم، وأن انتصارهم بكثرتهم حق ثابت ولذلك تحركوا جماعات نحو المدينة، وتواعدوا اللقاء حولها، وقدموا من كل صوب بعددهم وعدتهم وعداوتهم، لينالوا من دين الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستأصلوا المسلمين من المدينة.

ولكن الله ناصر لدينه، ومظهر للحق، ومعين لجنده الذين يعملون في إخلاص وصدق فأيدهم ونصرهم وخذل عدوهم وهزمهم بقدرته سبحانه وتعالى.

ودراسة غزوة الأحزاب تحتاج إلى دراسة ما يلي:

__________

1 المغازي ج2 ص443.

,

أولا: وقت الغزوة

تعرف غزوة الأحزاب بغزوة "الخندق" لأنها الغزوة الوحيدة التي حفر فيها المسلمون خندقًا يفصل بينهم وبين أعدائهم.

يروي ابن إسحاق أن هذه الغزوة حدثت في شهر شوال من العام الخامس الهجري ونص على ذلك غير واحد من العلماء كعروة بن الزبير، وقتادة، والبيهقي، والذهبي، وابن القيم, وقال آخرون: إنها وقعت في شوال سنة أربع للهجرة مستدلين بحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه يوم "الخندق" وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"1.

ولا خلاف بين الرأيين في الحقيقة؛ لأن مرادهم أنها كانت بعد مضي أربع سنوات كاملة وقبل استكمال السنة الخامسة، وأن حديث ابن عمر يشير إلى أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في "أحد" وهو في أول الرابعة عشرة، وعرض يوم "الأحزاب" وهو في نهاية الخامسة عشرة ويمكن فهم قول ابن عمر رضي الله عنه على أنه في يوم الخندق بلغ سن القتال وتجاوز عمره الخامس عشرة ولو بأكثر من سنة.

ومن المعلوم أن غزوة بني قريظة كانت بعد الخندق مباشرة، والجمهور يرى أن الخندق كانت في اليوم السابع من ذي القعدة في السنة الخامسة فدل ذلك على أن الأحزاب كانت في الخامسة كذلك.

ولا شك أن المشركين لما انصرفوا من "أحد" واعدوا الرسول بدرًا في العام القابل فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى "بدر" بعد عام من "أحد" وجاء أبو سفيان مع قريش في شعبان من العام الرابع، إلا أنه رجع إلى مكة لجدب ذلك العام كما زعموا، وهذا يؤيد أن "الأحزاب" لم تقع في العام الرابع لأن كفار مكة بعد رجوعهم لضعفهم ما كان لهم أن يأتوا إلى المدينة بعد شهرين من رجوعهم وضعفهم الذي تعللوا به2.

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص319.

2 زاد المعاد ج3 ص270.

ثانيًا: تجمع الأحزاب

نشط يهود بني النضير في خطتهم للأخذ بثأرهم، والقضاء على المسلمين حتى يعودوا إلى المدينة مرة أخرى فجمعوا الجموع وحرضوا الأحزاب حتى جاءوا جميعًا لحصار المدينة وقتال المسلمين في وقت وقتوه، ومكان بينوه، وانضم إليهم المنافقون ويهود بني قريظة داخل المدينة، وبذلك وجد المسلمون أنفسهم محاطين بالأعداء من كل جانب.

يقول ابن كثير: إن كفار مكة لما سمعوا مقالة يهود بني النضير سروا، وفرحوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفرد من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس، وعيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في أربعة آلاف، وحمل اللواء عثمان بن طلحة وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وألفًا وخمسمائة بعير والتقت بهم سليم بمر الظهران، في سبعمائة مقاتل يقودهم سفيان بن عبد شمس السلمي.

وخرجت غطفان في ألف يقودهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة. وخرج الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري بألف من بني مرة.

وخرج مسعر بن رخلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع1

ووصلت القبائل إلى مشارف المدينة، وعسكرت بها، فنزلت قريش ومن تبعهم

__________

1زاد المعاد ج3 ص271.

من الأحابيش، وبني كنانة، وأهل تهامة بـ"مجمع الأسيال" المعروف بـ"وادي العقيق" ونزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، والأعراب بـ"ذنب نقمى".

ومجمع الأسيال وذنب نقمى موقعان متجاوران عند "أحد"1, وهما الموضعان اللذان نزل فيهما الأحزاب.

ولما عسكرت الأحزاب حول المدينة قاطعهم بنو قريظة ودخلوا حصونهم، وأغلقوها عليهم, فخرج إليهم حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي فاستأذن عليه حيي، فأبى أن يفتح له.

فناداه حيي وقال: ويحك يا كعب، افتح لي.

قال له كعب: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقًا.

قال حيي: ويحك افتح لي أكلمك.

قال: ما أنا بفاعل.

قال: والله ما أغلقت دوني إلا خوفًا على جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفظ الرجل بهذه المقالة ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، ومجد الدنيا.

قال: وما ذاك.

قال حيي: جئتك بـ"قريش" على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بـ"مجمع الأسيال" من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بـ"ذنب نقمى" إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا المدينة حتى نستأصل محمدًا ومن معه.

فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه2 يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقًا فلم يزل حيي بكعب يناقشه، ويحاوره، ويمنيه حتى سمع له، ونقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

__________

1 البداية والنهاية ج4 ص102 وذنب نقمى بفتح الذال والنون في ذنب، وفتح النون والقاف في نقمى.

2 الجهام هو السحاب، والمعنى أنه سحاب لا ماء فيه.

ووافقه على محاربته مع الأحزاب بعد أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما ينزل ببني قريظة فنقض كعب بن أسد زعيم بني قريظة العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم1.

وأمر كعب بن أسد، وبنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش، وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم، إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدًا على أن تكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم، فوافقهم حيي على ذلك فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد، وأسيد، وثعلبة فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقضوا عهدهم.

فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث الزبير بن العوام رضي الله عنه لينظر الأمر فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن بني قريظة يصلحون حصونهم، وطرقهم2 فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير رضي الله عنهم ليؤكدوا للنبي صلى الله عليه وسلم خبر القوم.

وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم، فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس".

فخرجوا حتى أتوهم فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا: الآن وقد كسر محمد جناحنا، وأخرجه من بيننا "يريدون بني النضير" ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم فأغضبوه.

ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه.

فاستهزءوا به وردوا عليه ردًا قبيحًا.

__________

1 زاد المعاد ج3 ص272.

2 صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق ج6 ص327، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي حواري، وإن حواريي الزبير".

فقال: غير هذا القول كان أجمل بكم وأحسن، ثم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخرين، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد!

فشاتمهم سعد بن معاذ، وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة.

فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، الذي بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم قالوا: عضل، والقارة. أي غدروا كغدر هؤلاء بأصحاب الرجيع.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين".

وتلك نبوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواقع يشير لغيرها؛ لأن الأحزاب جاءوا بأعداد كثيفة، وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب، وجندوا جنودهم خارج المدينة، وداخلها حتى سيطر الخوف على المسلمين، وزلزلت نفوسهم، وزاغت أبصارهم وظنوا أن الهزيمة بهم لاحقة، فاتجهوا إلى الله بالدعاء، والرجاء ليعينهم بأمره، وينصرهم بقدرته، والله على كل شيء قدير.

وظهر النفاق من بعض المنافقين، فقال معتب بن بشر: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأن أموالهما تنفق في سبيل الله وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وقالوا ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} 2 وقال رجال ممن كانوا مع معتب {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 3.

وهمت بنو قريظة بالإغارة على المدينة ليلا، وأرسلوا إلى الأحزاب ليمدوهم بألف من قريش، وألف من غطفان، فبلغ ذلك المسلمين فعظم الخطب واشتد البلاء ثم كفهم الله تعالى عن ذلك لما بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين وكان المسلمون يبيتون بالخندق خائفين، فإذا أصبحوا أمنوا.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خوات بن جبير لينظر غرة في بني قريظة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

__________

1 سيرة النبي ج2 ص221، 222، زاد المعاد ج3 ص272.

2 سورة الأحزاب: 12.

3 سورة الأحزاب: 13.

خاف على الذراري منهم، لكن النوم غلب خواتًا، فحمله يهودي، فلما استيقظ خوات تمكن من قتل اليهودي وتمكن المسلمون من هزيمة عشرة من اليهود جاءوا يريدون المدينة فأدى ذلك إلى خوف اليهود من ورائهم.

واجتمعت جماعة منافقة من بني حارثة فبعثوا أوس بن قيظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا، وليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فائذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرحوا بذلك، وتهيئوا للانصراف.

فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! لا تأذن لهم إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا.

ثم أقبل سعد عليهم فقال: يا بني حارثة، هذا لنا منكم أبدًا ما أصابنا وإياكم شدة إلا صنعتم هكذا فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بلغت حشود المشركين عند الخندق أكثر من عشرة آلاف مقاتل منهم أربعة آلاف من قريش، والباقون من بني سليم، وأسد، وفزارة، وغطفان ومع هؤلاء كان بنو قريظة وأشجع1.

__________

1 سيرة النبي ج2 ص219، 220.

ثالثًا: استعداد المسلمين للأحزاب

نشط يهود بني النضير في التحريض على قتال المسلمين، وتمكنوا من تجميع أحزاب عدة، وتعاهدوا معهم على القتال، ولم يكتفوا بالاتفاق مع القرشيين، وغطفان، وعرب نجد، وغيرها، وإنما ظلوا بيهود بني قريظة والمنافقين حتى ضموهم إليهم وكونوا بذلك قوة ضخمة تحيط بالمسلمين من ظاهر المدينة، ومن داخلها، بلغ عددها أكثر من عشرة آلاف من خيرة رجال القبائل وفرسانها، يصور الله تعالى هذا الحال في قوله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} 1

__________

1 سورة الأحزاب: 11، 12.

ولو تمكن هذا الجمع الغفير من مفاجأة المسلمين وأخذهم على غرة لأتوا عليهم ولقضوا على المدينة قضاء كليًا, لكن معونة الله كانت مع عباده المؤمنين فألهمهم الحق؛ ووفق رسوله صلى الله عليه وسلم في تتبع أخبار أعدائه، فبث العيون لمعرفة ما يعدون له، ولذلك لما جاءت الأخبار بتجمع الأحزاب وتأليب القبائل قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة عدم الخروج من المدينة، وتحصين كافة الطرق الموصلة إليها، وسد جميع المسارات التي تمكن قاصدها من الدخول فيها، ورأوا أن المدينة من الشرق والجنوب والغرب محصنة بحصون طبيعية، تتكون من البساتين الكثيفة، والموانع الطبيعية التي تحول دون إجراء قتال فيها بين قوات كثيرة ما عدا جانبها الشمالي فإنه منطقة مكشوفة واسعة يسهل القتال فيها والولوج منها إلى المدينة.

ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم، على المدينة، وبدأ يستعد لملاقاة الأحزاب فجعل شعار المسلمين "هم لا ينصرون" ثم أخذ رأي أصحابه العالمين بشأن الحرب والقتال في تحصين الجانب الشمالي للمدينة، وتنظيم المجاهدين, والاستعداد للقتال والمواجهة فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق عميق، واسع، يغطي المنطقة الشمالية، المفتوحة بطولها، الممتد من الحرة الشرقية إلى جبل سلع.

ولم يكن للعرب معرفة بالخندق في حروبهم السابقة؛ لأنهم تعودوا المواجهة المباشرة، والتلاحم اللصيق كما حدث في "بدر" و"أحد" ولذلك فوجئ الأحزاب حين مجيئهم بهذا الخندق الذي حفره المسلمون بعدما أخذوه من أساليب الفرس القتالية وكما ذكره لهم سلمان الفارسي رضي الله عنه ولذلك قال المشركون حين رأوا الخندق: والله إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها1.

رحب رسول الله بفكرة الخندق، وأمر أصحابه بالحفر، وأشار لهم صلى الله عليه وسلم بأهميته فعمل المسلمون فيه بجد ونشاط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم، ويساعدهم في عملهم هذا بعدما قسم الحفر على المهاجرين والأنصار، وجعل لكم عشرة من الصحابة أربعين

__________

1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص224.

ذراعًا يحفرونها ويسوونها، على الطريقة الفارسية ليكون الحرف قائمًا، عموديا على بطن عريض مستقيم.

وقد بلغ طول الخندق خمسة آلاف متر في عرض بلغ ستة أمتار، وعمق بلغ خمسة أمتار، وتم الحفر في مدة تقل عن نصف شهر عمل خلالها المسلمون بكل جد، واشتغل النبي صلى الله عليه وسلم معهم، ففي البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره1

وعن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره

فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا2

وعن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا

قال: ثم يمد بها صوته بآخرها3 ويرددها، ويقول: "أبينا، أبينا، أبينا".

واستمر المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع الذي يفتت الأكباد ويقعد عن العمل.

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص319

2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص320.

3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص324.

يقول أنس رضي الله عنه كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير, فيصنع به إهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.

يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا أمامه بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين.

وأثناء حفر الخندق عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الغلمان فأجاز منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب لبلوغهم خمسة عشر عامًا كاملة, ورد من هم دون ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم سمح لهم بالاشتراك في حفر الخندق، وعادوا بعدها إلى المدينة.

واصل المسلمون عملهم في الحفر، فكانوا يعملون بالنهار، ويذهبون للمبيت في بيوتهم ليلا حتى أتموا الحفر.

وعندما وصل الأحزاب قرب المدينة فوجئوا بالخندق يمنعهم من دخول المدينة، فأخذوا يدورون حوله ليعثروا على نقطة ضعف، أو مكان ضيق يجتازونه فلم يجدوه، فأسقط في أيديهم فوقفوا على شاطئ الخندق، مكتفين بالحصار بدل القتال.

رابعًا: سير القتال

عسكر الأحزاب في الجهة الشمالية من الخندق، ووقف المسلمون قبالتهم من الجهة الجنوبية، وجعلوا ظهورهم إلى جبل "سلع" وبذلك تمكن المسلمون من منع الأحزاب من القفز على الخندق، أو بناء قنطرة يعبرون فوقها إلى المدينة وقد بلغ عدد المسلمين أربعة آلاف مقاتل.

وفي أثناء ذلك أعلن بنو قريظة انضمامهم إلى معسكر الأحزاب، وكان يسكنون في ضواحي المدينة من الناحية الجنوبية، وبإمكانهم التسلل إلى داخل المدينة، لمعرفتهم السابقة بمسالكها وأهلها، ولو قدر لليهود أن ينجحوا في مهاجمة المدينة وإتيان المسلمين من ظهورهم لكانت ضربة أليمة للمسلمين.

لقد عمل اليهود على مهاجمة تجمع نساء المسلمين وأطفالهم فأرسلوا رجلا منهم يحدد مكانهم ويعرف غرتهم ويكتشف الطريق إليهم، لكن هذا اليهودي لم يتمكن من القيام بمهمته لأن امرأة مسلمة رأته يستطلع المواضع التي يوجد فيها النساء والأطفال ففاجأته

بضربة فوق رأسه بخشبة كانت معها فقتلته.

يقول ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وهي التي روت الحادثة حيث قالت: وكان حسان معنا في الحصن مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، ولا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إذا أتانا آت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.

قال حسان: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا تقول صفية: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئًا احتجزت ثم أخذت عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.

قال حسان: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب1.

وعندما وجد يهود "بني قريظة" أن دسيستهم لم تعد إليهم ظنوا وجود حراس، ورجال مع النساء والأطفال فقبعوا في بيوتهم، وانصرفوا عن مهاجمة المدينة، ولم يخرجوا إلى قتال، واكتفوا بمد الأحزاب بالمؤن والطعام.

ولما علم المسلمون وهم عند الخندق، بمقتل هذا اليهود ملكهم الخوف على نسائهم وذراريهم، ووجدوا أنفسهم أمام عدو يواجهونه في الخندق، وآخر يأتيهم من خلف ظهورهم، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتوقعوا هزيمة مفاجئة.

وهنا فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وأراد أن يضع له حلا فبعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة.

__________

1 سيرة النبي ج2 ص227، 228 وهذا حديث متصل صحيح ومع ذلك فإنه لا يدل على جبن حسان رضي الله عنه ويرجع سبب عدم خروجه لاعتلال صحته هذا اليوم وهو سبب بقائه خلف المجاهدين, ويرد البعض الحديث لعدم جبن حسان لأنه رضي الله عنه لو كان جبانًا لهجاه الشعراء بهذه الصفة, ولكن أحدًا لم يعارضه بهذه الصفة.

فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه.

فقالا: يا رسول الله هل هذا أمر أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم أنه شيء تصنعه لنا؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم".

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة، إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا، وأعزنا بك، وبه نعطيهم أموالنا؟

ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك".

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال ليجهدوا علينا1.

فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال إلا أن بعض رجال من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر تحمسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا بخيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيلهم، فاقتحمته فجالت بهم في السبخة بين الخندق، وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى سدوا الثغرة التي اقتحم الفرسان منها خيلهم.

__________

1 زاد المعاد ج3 ص273، سيرة النبي ج2 ص222.

وأقبلت الفرسان في عزيمة وقوة وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم "بدر" حتى ثبتته الجراحة، فلم يشهد "أحدا" فلما كان يوم "الخندق" خرج معلمًا ليرى مكانه فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز؟

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه.

قال: أجل.

قال له علي: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى الإسلام.

قال: لا حاجة لي بذلك.

قال: فإني أدعوك إلى النزال.

قال له: لم يابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.

قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك.

فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي رضي الله عنه فتنازلا، وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق وولت هاربة إلى حيث يوجد الأحزاب1.

ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها؟

فقال علي رضي الله عنه: ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت من ابن عمي أن أسلبه، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: "هو لكم لا نأكل ثمن الموتى". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية". ولم يقبل منهم شيئًا2.

تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة، ويقول: "ما

__________

1 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص285، 286.

2 إمتاع الأسماع ج1 ص234.

أخشى أن يؤتى الناس إلا منها". فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حضني قد دفئ وهو يقول: "ليت رجلا صالحًا يحرس هذه الثلمة الليلة". فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟.

فقال سعد بن أبي وقاص: سعد يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: "عليك هذه الثلمة فاحرسها".

تقول عائشة: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمعت غطيطه.

وكان عباد بن بشر، والزبير بن العوام، على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكنا في قر شديد، فإني لأنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق ". ثم نادى عباد بن بشر.

فقال عباد: لبيك!

قال: "أمعك أحد"؟.

قال: نعم، أنا في نفر من أصحابي نحرس قبتك.

قال صلى الله عليه وسلم: "خذ أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيل المشركين تطيف بكم، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة، اللهم فادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم واغلبهم فلا يغلبهم أحد غيرك".

فخرج عباد في أصحابه فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق، وقد نذر بهم المسلمون فرموهم بالحجارة والنبل حتى أذلقهم المسلمون بالرمي، فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم.

قال عباد: ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي فأخبرته.

قالت أم سلمة: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدًا.

وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا, ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هبيرة بن أبي وهب

يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب يومًا، حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا، متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم: وهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي في آخرين، فناوشوا يومًا بالنبل ساعة، وهم جميعًا في وجه واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله، وقال: خذها وأنا ابن العرقة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرق الله وجهه في النار".

ثم إن الأحزاب عبئوا قوتهم، واشتدوا في القتال بدءًا من السحر إلى هوى من الليل حتى شغل النبي والمسلمون معه عن صلاة الظهر، والعصر، ولم يتمكنوا من صلاتهما إلا بعد أن كشف الله الأحزاب1.

واستمر الحصار مدة طويلة قاربت شهرًا فتأثر جيش المشركين، وخارت معنوياته وأصيب بالألم من الوضع الذي وجد فيه نفسه.

فهو لم يفعل شيئًا طوال هذه المدة، ولم يحقق نتيجة تذكر وهو يعيش في جو شديد البرودة، ومؤنة بدأت في النفاذ واستمرارية هذا الوضع لا تتفق مع استعداداته وخبرته، لأنه جاء للقتال يومًا أو بعض يوم، وليس من خبرته التعامل من وراء الخندق والبقاء ساكنًا في مكان واحد مدة طويلة.

وهو لم ير من اليهود شيئًا يساعد على تغيير هذا الوضع، بعدما أمل منهم مهاجمة النساء والأطفال لينصرف المسلمون أو بعضهم للدفاع عن ذراريهم، فتتخلخل الجبهة ويتمكن القرشيون من اقتحام الخندق، ومهاجمة المدينة.

وبدأت علائف خيل وإبل القرشيين تنفذ فاستعانوا باليهود فأعانوهم بما طلبوا، غير أن الله جعلها للمسلمين، ذلك أن أبا سفيان قال لحيي بن أخطب: قد نفدت علافتنا فهل عندكم من علف؟

فقال حيي: نعم مالنا مالك فأصنع ما رأيت، مر القوم يأتوا بحمولة فيحملوا ما

__________

1 المغازي ج2 ص469.

أرادوا، فأرسلوا عشرين بعيرًا، فحملوها شعيرًا، وتمرًا، وتبنًا، وخرجوا بها إلى قريش حتى إذا كانو بـ"صفنة"1, وهم يريدون أن يسلكوا "العقيق" قابلوا جمعًا من بني عمرو بن عوف، وهم عشرون رجلا، فيهم أبو لبابة بن عبد المنذر، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، خرجوا لميت لهم مات منهم في حصنهم ليدفنوه فناهضوا الحمولة وقاتلهم القرشيون ساعة وكان فيهم ضرار بن الخطاب فمنع الحمولة ثم جرح فغلبهم المسلمون وأخذوا الإبل بحمولتها، وانصرفوا بها يقودونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما دفنوا ميتهم، وفكان أهل الخندق يأكلون منها، فتوسعوا بذلك وأكلوه حتى نفد، ونحروا من تلك الإبل أبعرة الخندق، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة.

فلما رجع ضرار بن الخطاب إلى القرشيين أخبرهم الخبر.

فقال أبو سفيان: إن حييًا لمشئوم، ما أعلمه إلا قطع بنا، ما نجد ما نتحمل عليه إذا رجعنا2 ثم إن الله -عز وجل وله الحمد- صنع أمرًا من عنده خذل به العدو, وهزم جموعهم، وفل قوتهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له "نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه" جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة".

فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيرًا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودى إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.

قالوا: صدقت.

قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم، وأبناؤكم ونساؤكم لن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وتركوكم ومحمدًا فينتقم منكم.

قالوا: فما العمل يا نعيم؟

__________

1 صفنة بفتح الصاد وسكون الفاء.

2 المغازي ج2 ص470.

قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن.

قالوا: لقد أشرت بالرأي.

ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودى لكم ونصحي لكم؟

قالوا: نعم.

قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.

فلما كانت ليلة سبت من شوال بعث الأحزاب إلى اليهود وقالوا لهم: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم هو يوم سبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا1.

قالت قريظة: صدقكم والله نعيم.

فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم، وسرى بينهم التخاذل، ثم أرسل الله عليهم جندًا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طنبًا إلا قلعته، كما أرسل الله سبحانه وتعالى جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، فلم يقر لهم قرار، وشعروا بالهزيمة، وبدءوا في الرحيل إلى مكة2.

يروي ابن كثير صورة الساعات الأخيرة للمشركين عند الخندق فيقول: ذكر حذيفة أحوال المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا، وفعلنا.

__________

1 زاد المعاد ج3 ص273، 274.

2 سيرة النبي ج2 ص231.

فقال حذيفة: لا تتمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحًا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه فيها.

فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون إن بيوتنا عورة وما هو بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، وحين يأذن لهم يتسللون ويرجعون.

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبلنا رجلا رجلا، حتى أتى عليّ وما عليّ جنة من العدو ولا من البرد، إلا مرط لمرأتي ما يجاوز ركبتي فأتاني وأنا جاث على ركبتي.

فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا".

فقلت: حذيفة!

فقال: "حذيفة".

فتقاصرت للأرض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم.

فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه كائن في القوم خبر فأتى بخبر القوم". وأنا من أشد الناس فزعًا وأشدهم قرًا فخرجت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته".

يقول حذيفة: فوالله ما خلق الله فزعًا، ولا قرًا في جوفي، إلا خرج من جوفي، فلم أجد فيه شيئًا.

فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئًا حتى تأتيني".

فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يشير بيديه على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل.

ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهمًا من كنانتي، أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرمي به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثن فيهم شيئًا حتى تأتيني". فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي.

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل. الرحيل، لا مقام لكم.

وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم، الريح تضرب بها.

ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق، أو نحو من ذلك، إذ أنا بنحو من عشرين فارسًا، أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل على شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرحلون1.

فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم، لم ينالوا خيرًا وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ولما رحل المشركون رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه من الخندق في يوم الأربعاء السابع من ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وسر المسلمون برجعوهم منتصرين، وأسرعوا إلى المدينة هربًا من القر والجوع، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السرعة حتى لا يظن المنافقون والأحزاب بهم ضعفًا.

وقد استشهد من المسلمين ستة شهداء وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك, وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عتمة، وكعب بن زيد النجاري رضي الله عنهم، ورحمهم وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ود، ولم يشترك المنافقون في قتال؛ لأنهم كانوا بادين في الأعراب خارج المدينة2.

إن معركة الأحزاب كانت هجمة شرسة من كافة مشركي الجزيرة العربية، وعلى رأسهم القرشيون الذين جاءوا إلى المدينة، ومعهم خبرة الغزوات السابقة، فكثروا العدد، وقصدوا اقتحام المدينة، والقضاء على أهلها، وإعادة اليهود إليها مرة أخرى.

__________

1 البداية والنهاية ج4 ص114، 115 وانظر الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص80.

2 البداية والنهاية ج4 ص115، 116 وقد عاش سعد بن معاذ بجراحه حتى انتهى المسلمون من بني قريظة.

لكن الله تعالى وفق المسلمين بحفر الخندق، ووضع النساء والأطفال في أماكن حصينة وسط المدينة فانقلب الأمر، ولم يحقق المشركون شيئًا من أهدافهم بل إنهم شعروا بضعفهم وتأكدوا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في رعاية الله تعالى، بعدما عجزوا بهذا الجمع الذي لن يتمكنوا من جمعه مرة أخرى، وقد رأوا كيف أيد الله سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يتوقعوه من ريح عاتية، وأعاصير مدمرة، وجدت حول الخندق فقط، وملائكة رأوا أثارهم.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم" 1.

وقد كتب أبو سفيان كتابًا أرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: "باسمك الله، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود أبدًا حتى نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد"2.

فلما قرأها أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبته, كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب، أما بعد، فقديمًا غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله ألهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وإساف، ونائلة، وهبل، حتى أذكرك ذلك" 3.

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب الخندق ج6 ص326.

2 المغازي ج2 ص492.

3 وفاء الوفاء ج2 ص344 المغازي ج2 ص493.

خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في يوم الخندق

أحاط الله المسلمين بالعون، ونصرهم على عدوهم، وأكرمهم في وقت شدتهم، وعاشوا هذه المعونة في أعمال خارقة للعادة أتتهم من قبل الله تعالى ومنها:

1- ظهور عوامل النصر:

لما اشتد الأمر بالمسلمين كانت عناية الله بهم، فهزم عدوهم بأمور خارقة حيث جاءت العواصف، والسيول، والرعب، وملائكة الله تعالى، وانقسام الأحزاب على أنفسهم وتلك كلها أهم عوامل انتصار المسلمين على نحو ما سبق ذكره.

2- كسر الكدية الصخرية:

لما بدأ المسلمون في حفر الخندق وواجهتهم بعض الصخور الصلبة، حاولوا تفتيتها مدة ثلاثة أيام فعجزوا، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه الأمر فكسرها من ضربة واحدة.

يروي البخاري بسنده عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا صلى الله عليه وسلم فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق.

فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا نازل". ثم قام، وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضربه فعادت الكدية كثيبًا أهيل، أو أهيم1.

يقول ابن إسحاق بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيًا لانهالت حتى عادت كالكثيب لا ترد فأسًا، ولا مسحاة2.

__________

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الأحزاب ج6 ص320.

2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص217.

3- تكثير الطعام:

عاش الصحابة رضوان الله عليهم، وهو عند الخندق بلا طعام مدة ثلاثة أيام فأصابهم الجوع، فرزقهم الله تعالى من حيث لا يتوقعون، يروي البخاري بسنده أن جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم، خمصًا شديدًا، فأخرجت لي جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساورته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعًا من شعير، كان عندنا، فتعال أنت، ونفر معك.

فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحي هلا بكم".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء". فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك.

فقلت: قد فعلت الذي قلتِ، فأخرجت له عجينًا، فبصق فيه صلى الله عليه وسلم وبارك ثم عمد إلى برمتنا، فبصق وبارك، ثم قال: "ادع خابزة فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". وهم ألف، فأقسم بالله، لقد أكلوا، حتى تركوه، وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو1.

ويروي ابن إسحاق بسنده عن أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حُفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.

قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي، وخالي فقال صلى الله عليه وسلم: "تعا




كلمات دليلية: