withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


غزوة أحـد_16888

غزوة أحـد


غزوة أحد

«4»

وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم، مشى عبد الله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية فى رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا ابا سفيان ومن كانت له فى تلك العير تجارة من قريش، وقالوا لهم: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن اصاب منا. ففعلوا.

ففيهم يقال: أنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .

__________

(1) طبقت: قطعت. والزفران: عظمان ناتئان خلف الأذنين. والقاضب: القاطع.

(2) الحسام: السيف القاطع.

(3) بصرى: مدينة بالشام. ومأرب: مدينة باليمن.

(4) انظر السيرة (3/ 20) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير، وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم «1» ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا، فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة، وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم.

وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشى بالخروج مع الناس وقال له: إن قتلت حمزة عم محمد بعمى طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشى أو مر بها قالت: ويها أبا دسمة، وهى كنيته، اشف واشتف.

فأقبلوا حتى نزلوا بعينين- جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادى مقابل المدينة.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال عليه السلام:

«إنى قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، فأما البقر، فهى ناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى فى ذباب سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» «2» .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، وكان عبد الله بن أبى يرى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم. فقال عبد الله بن أبى: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا.

__________

(1) أحابيشهم: أحياء من القارة انضموا إلى بنى ليث فى الحرب التى وقعت بينهم وبين قريش قبل الإسلام.

(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 351) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 107) ، الدلائل للبيهقى (3/ 225، 266) ، تفسير الطبرى (4/ 46، 47) .

فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أخو بنى النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، فقالوا: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليه وسلم عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغى للنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» «1» .

فخرج فى ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس.

فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك فى حرة بنى حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف:

«يا صاحب السيف، شم سيفك، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم» «2» .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب، أى من قرب، من طريق لا تمر بنا عليهم» ، فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة: أنا يا رسول الله.

فنفذ به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قيظى، وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثى فى وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى.

وذكر أنه أخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا اصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» «3» .

__________

(1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (2/ 68) ، تفسير الطبرى (4/ 46) ، تفسير ابن كثير (2/ 91) .

(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) .

(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) .

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشّعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» «1» .

وقد سرحت قريش الظهر والكراع فى زروع كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار: أترعى زرع بنى قيلة ولما نضارب!

وتعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو فى سبعمائة رجل، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، فقال: انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار.

وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل.

وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفى من الأوس، خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعد قريشا أن لو لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وبذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى فى الجاهلية الراهب، فلما سمع ردهم عليه، قال: «لقد أصاب قومى بعدى شر! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم «2» بالحجارة» «3» .

وقال أبو سفيان- يومئذ- لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك: يا بنى عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.

فهموا به وتواعدوه قالوا: أنحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.

وذلك أراد أبو سفيان.

فاقتتل الناس حتى حميت الحرب.

__________

(1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (5/ 61) .

(2) راضخهم: رماهم.

(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 512) .

وقاتل أبو دجانة «1» سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، حتى أمعن فى الناس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسيف عنده: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به فى العدو حتى ينحنى» «2» . قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه. فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يتبختر:

«إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» «3» .

وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه، فقال: وجدت فى نفسى حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركنى! والله لأنظرن ما يصنع، فأتبعه، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار:

أخرج أبو دجانة عصابة الموت! وهكذا كانت تقول له إذا تعصب لها، فخرج وهو يقول:

أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل

أن لا أقوم الدهر فى الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول «4»

فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان فى المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه: فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت الله ورسوله أعلم.

__________

(1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (5863) ، الإصابة ترجمة رقم (9866) ، تنقيح المقال (3/ 15) ، ريحانة الأدب (7/ 95) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) .

(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 123) ، مستدرك الحاكم (3/ 230) ، مصنف ابن أبى شيبة (12/ 206، 14/ 401) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 109، 9/ 124) ، كنز العمال للمتقى الهندى (10972، 10973) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) .

(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 234) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) .

(4) الكيول: آخر الصفوف فى الحرب.

وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.

وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بنى عبد الدار، وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة ابن عدى المقتول يوم بدر، قال وحشى: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطىء بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى الغبشانى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إلى يا بن مقطعة البظور. وكانت أمه ختّانة بمكة، قال: فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوى فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم تكن لى بغيره حاجه، إنما قتلته لأعتق.

فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف فكنت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب، فو الله إنى لفى ذلك إذ قال لى رجل: ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل فى دينه، فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق، فلما رآنى قال: أو حشىّ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة، فحدثته فلما فرغت قال: ويحك! غيب عنى وجهك. فكنت أتنكّبه صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله تعالى.

فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتى التى قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما فى يده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشدّ عليه الأنصارى فضربه بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتلت شر الناس!

وذكر ابن إسحاق «1» بإسناد له إلى عبد الله بن عمر، وكان شهد اليمامة قال:

سمعت يومئذ صارخا يقول: قتله العبد الأسود.

__________

(1) انظر السيرة (3/ 33) .

قال ابن إسحاق: فبلغنى أن وحشيا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان.

فكان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يقول: قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.

قال ابن إسحاق «1» : وقاتل مصعب بن عمير «2» دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، قتله ابن قميئة الليثى، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.

فلما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء على بن أبى طالب، فقاتل على ورجال من المسلمين.

ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار وأرسل إلى على أن قدم الراية، فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبى طلحة: هل لك يا أبا القصم فى البراز من حاجة؟ قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلنى بعورته فعطفتنى عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله.

ويقال: إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار، كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم. فخرج إليه علىّ فاختلفا ضربتين فقتله علىّ. وقد قيل: إن سعد بن أبى وقاص هو الذى قتل أبا سعد هذا.

وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح «3» ، فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة، كلاهما يشعره سهما «4» فيأتى أمه فيضع رأسه فى حجرها فتقول: يا بنى من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول رمانى: خذها وأنا ابن أبى الأقلح. فندرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا، فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع- ماء لهذيل- إن شاء الله تعالى.

__________

(1) انظر السيرة (3/ 34) .

(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8020) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4936) .

(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4365) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2665) .

(4) يشعره سهما: أى يصيبه به فى جسده، فيصير له مثل الشعار، والشعار ما ولى الجسد من الثياب.

والتقى يوم أحد حنظلة بن أبى عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن صاحبكم- يعنى حنظلة- لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة» «1» .

ثم أنزل نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا.

وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة، وكانت الهزيمة لا شك فيها.

فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس هنا لشىء، قد أهلك الله العدو، وإخواننا فى عسكر المشركين، فتركوا منازلهم التى عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا، وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا، ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم، فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم.

قال الزبير بن العوام رضى الله عنه: والله، لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذا مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتتنا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.

وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، ويقال: إن الصارخ هو الشيطان.

وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة. حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج فى وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» «2» .

__________

(1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 15) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 246) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 167) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1/ 581) .

(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (4027) ، مسند الإمام أحمد (3/ 206) ، الدر المنثور-

فأنزل الله عليه فى ذلك: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] .

وكان الذى كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبى وقاص وشجه عبد الله بن شهاب الزهرى فى جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع صلوات الله عليه فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان والد أبى سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مس دمه دمى لم تصبه النار» «1» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة» «2» .

ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين.

وكان سعد بن أبى وقاص يقول: والله، ما حرصت على قتل رجل قط حرصى على قتل عتبة بن أبى وقاص- وهو أخوه- وإن كان ما علمت لسىء الخلق مبغضا فى قومه، ولقد كفانى منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: «من رجل يشرى لنا نفسه؟» فقام زياد بن السكن فى نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقولون: إنما هو عمارة بن زياد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا، يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه،

__________

- للسيوطى (2/ 71) ، إتحاف السادة المتقين (7/ 92) ، تفسير ابن كثير (2/ 98) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 366) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (2/ 352) ، أخلاق النبوة (72) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 23) .

(1) انظر الحديث فى: تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 24) .

(2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (1/ 76) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 614) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33369) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 80) .

(3) انظر الحديث فى: موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 265) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 30) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدنوه منى» «1» . فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقاتلت أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية، يومئذ قالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلىّ.

قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جراحا أجوف له غور فقلت: من أصابك بهذا، قالت: ابن قميئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا. فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.

وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل.

ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: «أرم فداك أبى وأمى» «2» حتى إنه ليناولنى السهم ماله من نصل فيقول: «ارم به» .

ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها.

وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان «3» فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.

__________

(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 235) .

(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 47، 5/ 124، 8/ 52) ، صحيح مسلم فى كتاب فضائل الصحابة (41، 42) ، سنن الترمذى (2829، 3753) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 162) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 239) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 27، 8/ 72) .

(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7091) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4277) ، طبقات خليفة (81، 96) ، تاريخ خليفة (153) ، التاريخ الكبير (7/ 184، 185) ، تاريخ الفسوى (1/ 320) ، الجرح والتعديل (7/ 132) ، تاريخ ابن عساكر (14/ 200) ، تهذيب الكمال (1123) ، تاريخ الإسلام (2/ 50) ، العبر (1/ 27) ، تهذيب التهذيب (8/ 357، 358) ، خالصة تذهيب الكمال (315) ، شدرات الذهب (1/ 34) .

وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها فى رجله فعرج.

وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمى، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا:

قد قتل محمد رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، رحمه الله تعالى.

وروى حميد عن أنس، أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر، فقال:

غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين لئن أشهدنى الله قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنى أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المشركين، وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المسلمين، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أى سعد، والذى نفسى بيده إنى لأجد ريح الجنة دون أحد! واها لريح الجنة. فقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه.

قال أنس: كنا نقول أنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فيه وفى أصحابه.

قال ابن إسحاق «1» : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله: كعب بن مالك الأنصارى، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمون أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.

فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد: لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: «دعوه» «2» .

__________

(1) انظر السيرة (3/ 46) .

(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 624) ، سنن ابن ماجه (530) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 19) .

فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء من ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.

وكان أبى بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد، إن عندى العوذ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أقتلك إن شاء الله» «1» .

فلما رجع إلى قريش وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال: قتلنى والله محمد! فقالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك. فو الله لو بصق على لقتلنى.

فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله يومئذ: «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله» «2» . فسحقا لأصحاب السعير.

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب خرج على بن أبى طالب حتى ملأ درقته من المهراس، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم فصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» .

فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذا علت عالية من قريش الجبل فقال: «اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا» «4» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.

ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع، وقد كان بدن

__________

(1) انظر الحديث فى: تفسير القرطبى (7/ 385) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 35) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 32) .

(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (4/ 275) ، شرح السنة للبغوى (12/ 337) ، كنز العمال للمتقى الهندى (29885، 29887) .

(3) سبق تخريجه.

(4) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (4/ 90) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 36) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) .

وظاهر بين درعين فجلس تحته بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:

«أوجب طلحة» «1» .

وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر- يومئذ- قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.

ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن قيس فى الآكام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا اب لك! ما ننتظر؟ فو الله إن بقى لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة معه؟ فأخذا اسيافهما ثم خرجا حتى دخلا فى الناس ولم يعلم بهما.

فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه، فقال حذيفة: أبى! قالوا: والله إن عرفناه. وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده عند رسول الله خيرا.

وكان ممن قتل يوم أحد مخيرق من أحبار اليهود، وقد تقدم خبره وكيف قال- يومئذ- ليهود: لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. فتعللوا عليه بأنه يوم السبت، فقال لهم: لا سبت لكم. وأخذ سيفه وعدّته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فمالى لمحمد يصنع فيهما يشاء. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«مخيريق خير يهود» «2» .

وكان عمرو بن ثابت وقش أصيرم بنى عبد الأشهل يأبى الإسلام على قومه، فلما

__________

(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3738) ، مسند الإمام أحمد (1/ 165) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 370، 9/ 46) ، مستدرك الحاكم (3/ 25، 373) ، موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 281) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 361، 12/ 91) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6112) ، شرح السنة للبغوى (14/ 120) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 155) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 612) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33364) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) .

(2) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 183) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (1/ 18) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 237، 4/ 36) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 245، 10/ 87) .

كان يوم أحد بدا له فى الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فغزا حتى دخل فى عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينا رجال من بنى الأشهل يلتمسون قتلاهم فى المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث.

فسألوه ما جاء بك عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة فى الإسلام؟ قال: بل رغبة فى الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفى فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابنى ما أصابنى. ثم لم يلبث أن مات فى ايديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» «1» .

وكان أبو هريرة يقول: حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط؟ فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بنى عبد الأشهل؟

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فو الله إنى لأرجو أن أطأ بعرجتى هذه فى الجنة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» . وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» «2» فخرج معه فقتل، يرحمه الله.

ووقعت هند بنت عتبة «3» والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الاذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة- رضى الله عنه- فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها:

نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر «4»

ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمه وبكر

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 428، 429) .

(2) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين (10/ 332) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 37) .

(3) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11860) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7350) ، الثقات (2/ 439) ، أعلام النساء (5/ 239) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 310) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1008) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (319) ، ودر السحابة (824) .

(4) السعر: أى الالتهاب.

شفيت نفسى وقضيت نذرى ... شفيت وحشى غليل صدرى

فشكر وحشى علىّ عمرى ... حتى ترم أضلعى فى قبرى

فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب، فقالت:

خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا منه وقاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر ... بالهاشمين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلى صقرى

إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضبا منه ضواحى النحر

ونذرك السوء فشر نذر

وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش، مر بأبى سفيان وهو يضرب فى شدق حمزة بن عبد المطلب بزح الرمح ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما. فقال: ويحك، اكتمها عنى فإنها كانت زلة.

ثم إن أبا سفيان حين أراد الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته:

أنعمت فعال، إن الحرب سجال يوم بيوم بدر، اعل هبل. أى ظهر دينك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار» «1» .

وفى الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان قال: إنه لنا العزى ولا عزى لكم.

فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» . قالوا: ما نقول؟ قال قالوا: «الله مولانا ولا مولى لكم» «2» .

وفيه أيضا: أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال: أفى القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه.

فقال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه. قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال:

كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك.

قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلى يا عمر، فقال رسول

__________

(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 38) .

(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 80) ، مسند الإمام أحمد (4/ 293) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 213) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 398) .

الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ايته فانظر ما شأنه» «1» . فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر:

أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قميئه وابر. لقول ابن قميئة لهم: إنى قد قتلت محمدا، ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان فى قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل: «نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «2» .

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: «اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» «3» ؛ فخرج على فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة.

وفرغ الناس لقتلاهم وانتشروا يبتغونهم، فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به إلا حنظلة ابن أبى عامر فإن أباه كان مع المشركين فتركوه له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره بقدمه وقال: قد تقدمت إليك فى مصرعك هذا، ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالدة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟» «4» فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل. فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق، قال فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك السلام عنى وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف. قال: ثم لم أبرح حتى مات. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

__________

(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (2/ 90) .

(2) انظر الحديث فى: التاريخ لابن كثير (4/ 38) ، تاريخ الطبرى (2/ 71) .

(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 138) ، المغازى للواقدى (1/ 298) .

(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 285) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) .

وفى سعد هذا يقول أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد دخل عليه رجل وعلى صدره بنت لسعد جارية صغيرة يرشفها ويقبلها فقال الرجل: من هذه؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه: بنت رجل خير منى، سعد بن الربيع، كان من النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى: «لولا أن تحزن صفية ويكون سنّة من بعدى لتركته حتى يكون فى بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى مواطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» «1» .

فلما رأى المسلمون حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثله لم يمثلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى، فيما قاله من ذلك رسوله صلوات الله عليه وسلامه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 126، 127] ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.

ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقف على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا» «2» . ثم قال: «جاءنى جبريل فأخبرنى أن حمزة مكتوب فى أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله» «3» .

ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجى ببرده، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى، يوضعون إلى حمزة وصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.

وأقبلت صفية بنت عبد المطلب «4» إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله

__________

(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) .

(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (1/ 371) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) .

(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) .

(4) انظر ترجمتها فى: طبقات ابن سعد (8/ 41) ، طبقات خليفة (331) ، تاريخ خليفة (147) ، المعارف (128) ، تاريخ الإسلام (3812) ، الإصابة ترجمة رقم (11411) .

صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» . فقال لها: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعى. قالت ولم؟ وقد بلغنى أن قد مثّل بأخى، وذلك فى الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما أخبر الزبير بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «خل سبيلها» . فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له.

ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن.

وزعم آل عبد الله بن جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن عبد الله بن جحش مع حمزة فى قبره، وهو ابن أخته أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به كما مثل بخاله حمزة، إلا أنه لم يبقر عن كبده وجدع أنفه وأذناه، فلذلك يقال له: المجدع فى الله.

وكان فى أول النهار قد لقى سعد بن أبى وقاص فقال له عبد الله: هلم يا سعد فلندع الله وليذكر كل واحد منا حاجته فى دعائه وليؤمن الآخر. فقال سعد: يا رب إذا لقيت العدو فلقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى ثم ارزقنى الظفر عليه حتى أقتله وأسلبه سلبه. فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم ارزقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى فيقتلنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك غدا قلت لى: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك يا رب وفى رسولك. فتقول لى: صدقت. فأمن سعد على دعوته.

قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتى، لقد رأيته النهار وإن أذنيه وأنفه معلقان فى خيط، ولقيت أنا فلان من المشركين فقتلته وأخذت سلبه.

وذكر الزبير أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فعاد فى يده سيفا منه، فقاتل به فكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل هذا يتوارث حتى بيع م



كلمات دليلية: