withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


صلح الحديبية_16898

صلح الحديبية


غزوة الحديبية

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة من سنة ست معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذى صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت.

فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.

حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبى «1» فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم

__________

(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (646) ، أسد الغابة ترجمة رقم (411) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 48) ، الوافى بالوفيات (10/ 133) ، العقد الثمين (9/ 367) ، تقريب التهذيب (2/ 95، 160، 4/ 294) .

لو خلوا بينى وبين سائر العرب فإن هم أصابونى كان الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة؛ فما تظن قريش؟

فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» «1» .

ثم قال: «من رجل يخرج بنا على غير طريقهم؟» «2» فقال رجل من أسلم: أنا، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» . فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها» «3» .

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهرى الحمص فى طريق تخرج على ثنية المرار «4» » ، فهبط الحديبية من أسفل مكة. فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش هدة الجيش قد خالفوا عن طريقهم وكفوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت.

فقال: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسلون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها «5» » ، ثم قال للناس:

«انزلوا» . قيل: يا رسول الله، ما بالوادى ماء ننزل عليه. فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل فى قليب من تلك القلب، فغرزه غى جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء فى رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذى جاء له، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثم قال لهم نحوا قال لبسر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم وقالوا:

إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فلما رآه رسول

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11307) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .

(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .

(3) انظر الحديث السابق.

(4) ثنية المرار: حشيشة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت مشافرها.

(5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .

الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «هذا رجل غادر» «1» . فلما انتهى إليه وكلمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه. فرجع إلى قريش فأخبرهم. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة- وكان يومئذ سيد الأحابيش- فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه» «2» . فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى؛ فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس. فإنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر القوم، والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟! والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفى فقال: يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفت أنكم والد وأنى ولد- وكان لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيتك لتقضهابهم؟! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فرد عليه أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقال:

أنحن ننكشف عنه! ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كلمة والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول:

اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» «3» . قال: أى غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس! يريد أن المغيرة

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) .

(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) .

(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، المطالب العالية لابن حجر (4347) ، تفسير ابن كثير (7/ 329) .

كان قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.

وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا حربا فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال:

يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى فى ملكة وقيصر فى ملكه والنجاشى فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصابه! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا فروا رأيكم.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعى «1» فحمله على بعير له وبعثه إلى قريش ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعته الاحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا أخذا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى سبيلهم.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها وغلظتى عليها، ولكنى أدلك على رجل أعز بها منى: عثمان بن عفان.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته؛ فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره.

وقال له فيما ذكره غير ابن إسحاق: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم.

فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا له حين فرغ: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل

__________

(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2238) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1428) ، الثقات (3/ 107) ، الطبقات الكبرى (4/ 139) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 157) ، المغازى للواقدى (600) ، الجرح والتعديل (3/ 392) ، تاريخ الطبرى (3/ 631) ، الوافى بالوفيات (13/ 301) .

حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال حين بلغه ذلك: «لا نبرح حتى نناجز القوم» «1» .

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم على الموت. وكان جابر يقول: بايعنا على ألانفر.

فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يختلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس لصق بإبط ناقته يستتر بها من الناس.

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذى كان من أمر عثمان باطل. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان: ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: «هذه يد عثمان» .

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو وقالوا: إيت محمدا فصالحه ولا يكون فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا.

فأتى سهيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» «2» .

فلما انتهى إليه سهيل تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية»

فى ديننا! قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه فإنى أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: «بلى» . قال:

أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» . قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» «4» . قال: فعلام

__________

(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 167) .

(2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 145) .

(3) الدنية: الذل والصغار والخسيس من الأمر.

(4) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لا بن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) .

نعطى الدنية فى ديننا؟! قال: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعنى» «1» .

فكان عمر يقول: مازلت أتصدق واصوم واصلى وأعتق من الذى صنعت- يومئذ- مخافة كلامى الذى تكلمت به حين رجوت أنه يكون خيرا.

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» «2» ، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهم» «3» . فكتبها ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال «4» ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» «5» .

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم.

__________

(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 201) ، صحيح مسلم فى كتاب النكاح (135) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 229) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 217) ، تفسير ابن كثير (4/ 69، 7/ 330) ، زاد المسير لابن الجوزى (7/ 425) ، موارد الظمآن للهيثمى (1305، 1705، 2128) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 356) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 109، 113) .

(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 268، 4/ 86، 325، 330) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 220، 227) ، مصنف عبد الرزاق (9720) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 145، 146) ، تفسير ابن كثير (1/ 36، 7/ 324) ، تفسير الطبرى (26/ 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (1627، 30151، 30154) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 175) .

(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 86، 325، 330) ، تفسير ابن كثير (7/ 324) ، تفسير الطبرى (26، 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (5/ 331، 7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (30154) .

(4) الأسلال: أى السرقة الخفية. والأغلال: أى الخيانة.

(5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 342، 4/ 87) ، تفسير الطبرى (13/ 101) .

«وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب: السيوف فى القرب لا تدخلها بغيرها» .

فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل ابن عمرو يرسف «1» فى الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون فى الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما يحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.

فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبة ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيتى وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونى فى دينى؟! فزاد الناس ذلك إلى ما بهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلذك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدرهم» «2» .

فوثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! - ويدنى قائم السيف منه- يقول عمر:

رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.

فلما فرغ من الكتاب اشهد رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين، أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد ابن أبى وقاص ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلى بن أبى طالب وهو كان كاتب الصحيفة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا فى الحل وكان يصلى فى الحرم، فلما فرغ من الصلح

__________

(1) انظر ترجمته فى: الثقات (5/ 568) ، الإصابة ترجمة رقم (9699) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5775) .

(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 325) ، تفسير ابن كثير (7/ 330) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 135) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 169) .

قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وأهدى عامئذ فى هداياه جملا لأبى جهل فى رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين. فلما رآه الناس قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وكان فيهم- يومئذ- من قصر فقال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» «1» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال:

«والمقصرين» «2» . فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟

قال: «لم يشكوا» «3» .

ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة ذلك قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً.

ثم ذكر القصة فيه وفى أصحابه، حتى إذا انتهى إلى ذكر البيعة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. ثم ذكر من تخلف عنهم من الأعراب فاستوفى قصتهم. ثم قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ. عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. ثم قال: وَهُوَ

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353، 2/ 16، 4/ 70، 6/ 402) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 134) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 144) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 101) ، كنز العمال للمتقى الهندى (12738، 12739) ، البدآية والنهاية لابن كثير (4/ 169، 5/ 189) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) .

(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (945، 649) ، سنن الترمذى (912) ، سنن ابن ماجه (3044) ، مسند الإمام أحمد (1/ 253، 2/ 79، 138، 231، 411، 4/ 70، 5/ 381، 6/ 393، 402) ، سنن الدارمى (2/ 64) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، موطأ مالك (395) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) ، المعجم الكبير للطبرانى (19/ 275) ، شرح السنة للبغوى (7/ 202) .

(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353) .

الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، يعنى النفر الذين وجهت قريش بهم ليصيبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فلم ينالوا شيئا وأخذوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتهم وسيقوا إليه فخلى سبيلهم.

ثم قال بعد: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ يعنى سهيل ابن عمرو حين حمى أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله:

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها، أى التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد ورسوله.

ثم قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أى لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التى رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف. وقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعض من كان معه: ألم تقل يا رسول الله أنك تدخل مكة آمنا؟ قال: «بلى» ، قال:

«أفقلت لكم من عامى هذا؟» قالوا: لا. قال: «فهو كما قال لى جبريل» «1» فحقق له سبحانه من موعده ما أنجزه له بعد وصدقه بقوله جل قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ معه فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً صلح الحديبية.

يقول الزهرى: فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك وأكثر.

قال ابن هشام «2» : والدليل على ما قال الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة فى قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين فى عشرة آلاف.

وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أولئك فقال:

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، تفسير ابن كثير (8/ 120) .

(2) انظر السيرة (3/ 296) .

«بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أتنسون يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم فى أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» «1» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح، والله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وأمره منا.

وفى الصحيح من حديث سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أراد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته والله ورسوله أعلم.

وخرج البخارى من حديث البراء بن عازب قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.

وعن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا يشرب إلا ما فى ركوتك. قال: فوضع النبى صلى الله عليه وسلم يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضانا؛ فقلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «2» .

__________

(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 160) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 68) .

(2) الحديث عن نبع الماء من بين أصابع النبى صلى الله عليه وسلم وانبجاسه وتدفقه وفورانه متعدد المواضع لتكرر حدوثه، وهو محكى فى البخارى الصحيح ج 1 ص 89، 100، 102 (كتاب الوضوء) ، ج 5 ص 35، 36، 38 (كتاب المناقب) ، ج 4 ص 260، (باب غزوة الحديبية) ، مسلم. الجامع الصحيح ج 2 ص 138- 141 (كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها) ، ج 7 ص 59 (كتاب الفضائل، باب معجزات النبى صلى الله عليه وسلم) ، ج 8 ص 235، 236 (كتاب الزهد والرقائق، حديث جابر الطويل وقصة أبى اليسر) . وراجع: ابن جماعة، المختصر الصغير (ص 60) .

وذكر ابن عقبة عن ابن عباس قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كلمة بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفى الناس ظهر فانحروه لنا فلنأكل من لحومه ولندهن من شحومه ولنحتذ من جلوده. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا أنطاعكم وعباءكم» «1» ففعلوا، ثم قال:

«من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره» ودعا لهم، ثم قال لهم: «قربوا أوعيتكم» «2» .

فأخذوا ما شاؤا.

قال ابن إسحاق «3» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة- يعنى من الحديبية- أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن حارثة «4» - وكان ممن حبس بمكة- فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤى ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» «5» .

فانطلق معهما حتى إذا كان بذى الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير. أصارم سيفك هذا يا أخا بنى عامر؟ فقال: نعم. قال أنظر إليه قال: إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله.

وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذى سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: وصارم سيفك هذا؟ فقال: نعم.

فقال: ناولنيه أنظر إليه؛ فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد. قال: ويقال: بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر، فجمز مرعوبا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه يطن الحصباء من شدة سعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» . قال ابن

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 354) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 116) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (5/ 479) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 46) .

(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 119) .

(3) انظر السيرة (3/ 296) .

(4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9633) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5734) .

(5) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 227) .

إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك مالك؟» «1» قال: قتل صاحبكم صاحبى.

فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتنى بيد القوم وقد امتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يعبث بى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلمه محش حرب «2» لو كان معه رجال» «3» .

ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش التى كانوا يأخذوا إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتسبوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بصير: «ويلمه محش حرب لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبى بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم.

وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذى رد على قريش مكرها يوم القضية هو الذى انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير وكرهوا الثواء بين أظهر قومهم، فنزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام. قال: وكان أبو بصير- زعموا- وهو فى مكانه ذلك يصلى لأصحابه، فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم.

واجتمع إلى أبى جندل ناس من غفار وأسلم وجهينه وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا يمر بهم عير لقريش إلا اخذوها وقتلوا أصحابها. وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة:

أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنا بذى المروة بالساحل

فى معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل

يأبون أن يبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل

أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل

فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل

__________

(1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (4519) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 226) .

(2) محش حرب: أى أنه يوقد الحرب ويهيجها ويشعل نارها.

(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (3/ 257) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد باب (167) ، مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221، 222، 226، 228) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 107، 673) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 78) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 176) ، مصنف عبد الرزاق (9720) .

فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبى بصير وإلى أبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره.

فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من ابيه بعد القضية أن طاعة رسول الله خير فيما أحبوا وفيما كرهوا، وأن رأيه أفضل من رأيهم ومن رأى من ظن أن له قوة ورأيا، وعلم أن ما خص الله به نبيه من العون والكرامة أفضل.

وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- زعموا- على أبى جندل وأبى بصير وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده يقترئه. فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا.

وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش.

فلم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح، ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى صلوات الله عليه وسلامه وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أول إمارة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فمكث بها أشهر ثم خرج مجاهدا إلى الشام وخرج معه ابنه أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك، يرحمهما الله.

وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط «1» ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش فى الحديبية، فلم يفعل، أبى الله ذلك وأنزل فيه على رسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَ

__________

(1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (12231) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7585) ، الطبقات الكبرى (8/ 230) ، تهذيب التهذيب (12/ 476) .

أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 9- 10] .



كلمات دليلية: