withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


صلح الحديبية_15589

صلح الحديبية


الحنين إلى مكة

:

وكان المسلمون منذ هجرتهم من مكة إلى يثرب يحنون لرؤية وطنهم الذي أخرجوا منه ظلمًا وبغير حق، ويتشوقون لزيارة المسجد الحرام الذي تمتلئ نفوسهم بتقديسه وتعظيمه، وكان بلال بن رباح يتغنى بآثار مكة كلما لج به الشوق إليها فيقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج1 وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنة؟ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل2

__________

1 فج: موضع خارج مكة.

2 شامة وطفيل جبلان في مكة، وانظر "سيرة ابن هشام" 2/ 53 وغيرها.

فلما سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه هذا الكلام ورأى أثر الحنين إلى مكة في نفوس المسلمين قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كمحبة مكة أو أشد" 1.

وعلى الرغم من الانتصارات التي تمت للمسلمين في كثير من الغزوات والمعارك التي خاضوها ضد قريش وغيرها من القبائل، والتي أشعرت المسلمين بعزتهم وكرامتهم، وألقت الرعب في قلوب أعدائهم، إلا أن قريشًا كانت تحول بين المسلمين وبين دخول مكة لزيارة المسجد الحرام، لأنها لا تراهم يستحقون هذا الشرف ما داموا يجعلون الآلهة إلهًا واحدًا، وما داموا لا يؤمنون بهبل، واللات والعزى، ومناة، ولأنها تخشى أن يدخل المسلمون مكة فيطيب لهم المقام بها، ويصعب إخراجهم منها.

وبينما كان المسلمون مجتمعين في المسجد النبوي ذات صباح إذ طلع عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنبأهم بما رآه في نومه من أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، وأخبرهم أنه يريد أداء العمرة معهم، ففرحوا واستبشروا واستعدوا للخروج منتظرين ما يأمرهم به نبيهم الكريم2.

__________

1 حديث صحيح، أخرجه البخاري 3/ 30، ومسلم 480، وأحمد 6/ 56، والبيهقي في "السُّنن" 2/ 332، ومالك في "الموطأ" 891، البغوي في "شرح السُّنة" 7/ 317، وغيرهم.

2 ذكر هذا السبب صاحب "السيرة الحلبية" 2/ 688 ولم أقف عليه من وجه صحيح ولكن من وجوه مرسلة كثيرة وإنما الذي صح عن عمر في البخاري وغيره أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: ألم تخبرنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به، قال: "نعم"، أقلت: العام؟ ... الحديث.

فهو -صلى الله عليه وسلم- أخبرهم بأنه يريد العمرة، من دون أن يوقف على الدافع من ذلك. والله أعلم. على أن هذه الرؤيا ذكرها غير واحد، وهي ثابتة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ... } .

خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين للعمرة وموقف قريش: 1

وخرج الرسول وفي صحبته المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وكانت عدتهم ألفًا وأربعمائة2،وقد ساقوا الهدي أمامهم ولم يحملوا السلاح إلا السيوف في أغمادها، وذلك لأنهم لا يريدون حربًا أو قتالًا، وإنما يريدون زيارة المسجد الحرام وأداء نسك العمرة، وكان ذلك في أول ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة3.

وحينما علمت قريش بخروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين للعمرة، امتلأت نفوسهم بالغيظ والحقد على محمد -صلى الله عليه وسلم- وداخلهم همّ عظيم وخوف شديد، لأنهم ظنوا أنها خدعة دبرها محمد -صلى الله عليه وسلم- ليتمكن من دخول مكة بعد أن صدهم عن دخول المدينة وصمموا على منعهم والوقوف في سبيلهم، وجهزوا لذلك جيشًا قويًّا على رأسه خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل.

وقد علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأراد أن يتجنب الشر والخطر، وأن يبعد

__________

1 انظر قصة الحديبية في:

"طبقات ابن سعد" 2/ 95، "سيرة ابن هشام" 3/ 265، "مغازي الواقدي" 1/ 383، "صحيح البخاري" 2581، و"صحيح مسلم" 2544، وروايات كثيرة لها تجدها في "جامع الأصول" رقم 6108 وما بعده، و"تاريخ الطبري" 2/ 620، و"الدرر" لابن عبد البر 191، و"السيرة" لابن حزم 207، و"البداية" 4/ 164،و"نهاية الأرب" 17/ 217،و"عيون الأثر" 2/ 148، و"المواهب اللدنية" 1/ 489 و"شرح المواهب" 4/ 164، و"السيرة الشامية" 5/ 55، و"الحلبية" 2/ 681، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 90، و"منتقى القاري" ص 278، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 136، و"الرحيق المختوم" ص 308، و"مجمع الروائد" 6/ 144.

2 وزيادة، وقيل أقل، وقيل أكثر، وهذا هو المرجح على رأي الحافظ ابن حجر في "الفتح" 7/ 144 وغيره.

3 وهو الصحيح الذي قال به جمهور المحدثين، إلا من شذ.

بالمسلمين عن القتال ما داموا لم يتهيئوا له، ولم يخرجوا من أجله، فقال لأصحابه: "هل من رجل أخذ بنا على غير طريقهم؟ " فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى سهل مستوٍ يحاذي مكة من أسلفها.. فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر، وبين لهم أن محمدًا لا ينوي شرًّا، وأن سلوكه هو ومن معه من أصحابه يدل على حبهم للسلام، ورغبتهم في تحقيق الغاية التي خرجوا من أجلها، وهي زيارة المسجد الحرام.

حابس الفيل:

وحينما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ثنية المرار1 بركت القصواء -وهي ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأت القصواء2، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما ذلك لها بخلق3، ولكن حبسها ,

حابس الفيل

4. والذي نفس محمد بيده: لا تدعوني قريش لخصلة5 فيها تعظيم لحرمات الله إلا أجبتهم إليها".

ولا شك أن هذه الكلمة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشير إلى معنى كريم فطن إليه المسلمون واطمأنت إليه نفوس الكثير منهم، وهو أن الله لا يريد للمسلمين أن يؤدوا نسك العمرة في هذه المرة، ومن أجل ذلك حبس الناقة عن المضي إلى الكعبة، وبذلك كف أيدي قريش عن المسلمين، كيلا تنتهك حرمات البيت الذي

__________

1 بضم الميم، وتخفيف الراء، مكان قرب الحديبية.

2 القصواء: اسم الناقة، وخلأت: أي حرنت فلم تعد تأتمر بأمر صاحبها.

3 أي ليس من عادتها وطبعها.

4 أي حبسها ومنعها من الحركة الذي حبس الفيل ومنعه، وهو الله تعالى، يريد أنه منعها من ذلك لأمر مهم أراده.

5 أو لخطة، كما في روايات أخرى.

أراد الله أن يكون بعد عامين حرمًا آمنا، وأن يكون مثابة للمسلمين من كل فج يوطدون دعائم أُخوّتهم في ظلاله الوارفة.

تبادل الرسل بين قريش ومحمداً صلى الله عليه وسلم

...

تبادل الرسل بين قريش ومحمدٍ -صلى الله عليه وسلم:

وقد بعثت قريش رسلها إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- واحدًا بعد الآخر تستطلع أخباره، وترى عن كثب حقيقة الهدف الذي يقصده، وكان أولهم بديل بن ورقاء الخزاعي. وقد أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يريد بقريش شرًّا، وإنما جاء مع أصحابه لأداء العمرة. فلما رجع بديل إلى قريش وأخبرهم بذلك لم يثقوا به. ومن ناحية أخرى لم يوافقوا على تلبية طلب محمد -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أيريد أن يدخل علينا في جنوده معتمرًا وتسمع العرب بأنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، والله لا يكون هذا أبدًا وفينا عين تطرف.

ثم أرسلوا بعد ذلك حليس بن علقمة، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا من قوم يعظمون الهدي، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه"، ففعلوا ذلك واستقبله الناس يلبون.

فلما رأى حليس ذلك رجع وقال: سبحان الله. ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا، أتحج لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكت قريش ورب البيت إن القوم أتوا معتمرين ...

فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له:

اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد ... ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله وقال: يا محمد، قد جمعت أوباش الناس ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لتقضها بهم، إنها قريش قد خرجت

تعاهد الله ألا تدخلوا عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك أي تخلوا عن نصرتك.

فنال منه أبو بكر وقال: ويحك!! أنحن ننكشف عنه؟

وكان عروة يتكلم وهو يلمس لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ...

ثم رجع عروة وقد رأى موقف أصحاب الرسول من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكيف كانوا يتنافسون على وضوئه يمسحون به أجسامهم، وإذا تكلموا أمامه لا يرفعون أصواتهم، ولا يحدون النظر إليه، فقال لقومه: والله لقد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في عظمته فما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا، فانظرًا رأيكم واقبلوا ما عرض عليكم، وإني لكم ناصح، وأخشى إن قاتلتموه ألا تنصروا عليه. فقالت قريش: لا تتكلم بهذا ولكننا نرده في هذا العام ويرجع في العام الذي يليه.

وقد استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وانتهى الرأي إلى اختيار عثمان بن عفان رسولًا إلى قريش ومعه عشرة من المسلمين استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة أقاربهم، وحمل عثمان رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش تفصح عن مقصده والغرض الذي خرج من أجله، ورسالة أخرى إلى المستضعفين من المسلمين يبلغهم فيها أن الحق آتٍ لا ريب فيه وأن نصر الله قريب ...

وحينما التقى عثمان بقريش، وبلّغهم الرسالة التي حملها إليهم، رفضوا السماح للرسول -صلى الله عليه وسلم- بدخول مكة، وسمحوا لعثمان أن يطوف بالبيت، فرفض في حزم وإباء وقال: لا أطوف ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممنوع..

ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين: أن عثمان قد قتل. فقال -عليه السلام-

حينما سمع ذلك: "لا نبرح حتى نناجزهم الحرب ... ".

بيعة الرضوان:

ثم كانت ,

صلح الحديبية

:

وقد بدأت قريش من جانبها تفتح طريقًا جديدًا يقرب المسافة بين الطرفين، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- على استعداد للتفاهم مع قريش على أساس عادل سليم، لأنه يؤمن بأن السلم في هذا الجو أنفع بكثير من حرب لم تكتمل لها العدة اللازمة، والظروف الملائمة، ومن أجل ذلك فرح واستبشر حينما أرسلت قريش رسولها الأخير، سهيل بن عمرو، وتيمن باسمه وقال لأصحابه: "قد سهل الله لكم من أمركم".

وقد بدأ سهيل كلامه فقال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا، بل شيء قام به السفهاء منا..

ثم عرض سهيل الشروط التي ترضى عنها قريش وهي:

1- أن توقف الحرب بين المسلمين وبين قريش عشرة أعوام.

2- أن من جاء إلى المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريش من المسلمين لا تلزم قريش برده.

3- أن يرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسملون من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه، بعد أن تخرج منها قريش فيقيمون بها ثلاثة أيام، ليس معهم إلا القوس والسيف في القراب1.

4- من أراد أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.

__________

1 أي في الغمد.

وهذه الشروط التي تبدو في ظاهرها مجحفة بالمسلمين كانت موضع الرضا والقبول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعض أصحابه، وقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أساسًا متينًا يمكن أن يُبنى عليه المستقبل العظيم الذي يرجوه للإسلام عمّا قليل من الزمان.

وأما الغالبية العظمى من المسلمين فقد داخلهم منها همٌّ عظيم وقالوا سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلمًا، ولا يردون إلينا من جاءهم مرتدًا؟

وقد أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله1 ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا".

وأما الشرط الذي يمنع المسلمين من العمرة هذا العام ويؤجلها إلى العام الذي يليه، فقد ظن البعض من المسلمين أنه يخالف الرؤيا التي رآها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووعد أصحابه تحقيقها، وهي أنهم سوف يدخلون المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، وغفل هؤلاء عن أمر مهم وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد زمنًا خاصًّا لدخول المسلمين إلى المسجد الحرام..

ومهما يكن من شيء فقد كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه -عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: اكتب باسمك اللهم. فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ثم قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب، محمد بن عبد الله. فأمر -عليه السلام- عليًّا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله. فامتنع فمحاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتبت نسختان: نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.

__________

1 يعني هو شر أراحنا الله منه.

وقد شاء الله أن يبدأ التطبيق العملي لشروط هذا الصلح من جانب المسلمين منذ اللحظات الأولى لإتمامه وذلك أن أبا جندل بن سهيل جاء إلى المسلمين وهو يتعثر في قيوده، وكان من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فانتهز فرصة وجود المسلمين عند الحديبية وهرب إليهم ليحموه.

فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنا قد عقدنا العزم بين القوم صلحًا، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدًا فلا نغدر بهم ... ".

وطبق الطرفان شرطًا آخر من شروط هذا الصلح منذ اللحظات الأولى كذلك حيث دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخلت قبيلة بكر في عهد قريش.

ولما انتهى الأمر، أمر -عليه السلام- أصحابه أن يحلقوا رءوسهم وينحروا الهدي ليتحللوا من عمرتهم، فكان ذلك صدمة عنيفة للمسلمين في جملتهم، إذ كانوا مدفوعين بحماس بالغ ضد قريش. وكانوا يرون أن شروط الصلح لا تحقق العدل والإنصاف لرسول الله والمسلمين، ولذلك لم يبادروا بالامتثال لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فدخل -عليه السلام- على أم سلمة -رضي الله عنها- وقال لها: "هلك المسلمون، أمرتهم فلم يمتثلوا"، فقالت: يا رسول الله: اعذرهم، فقد حملت نفسك أمرًا عظيمًا في الصلح. ورجع المسلمون من غير فتح، فهم لذلك مكروبون. ولكن اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك. فتقدم -عليه السلام- إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون توثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة وهم مؤمنون بأن الله قد أراد الخير بهم، حيث لم يتعرضوا للحرب والقتال في مثل هذه الظروف القاسية.

,

استثناء النساء من شروط الصلح

:

وقد أراد الله أن تُستثنى النساء من بعض هذه الشروط خوفًا عليهم من الفتنة، لأن المرأة يسهل التأثير عليها وتغيير رأيها إذا تعرضت لعوامل الرغبة أو الرهبة، وكان من ذلك: أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان لأمه، جاءت إلى المسلمين عقيب صلح الحديبية فارة من المشركين. فطلبها المشركون تنفيذًا للعقد المبرم بينهم وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني امرأة وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني. فلم يشأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يخالف العهد الذي التزمه، ولكن الله وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة للطريق الذي يسير عليه، فأنزل هذه الآيات الكريمة:

{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1.

وتنفيذًا لهذا الأمر الإلهي كانت المرأة المهاجرة تستخلف: أنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، ولا بغضًا في زوج، ولا لالتماس دنيًا، وأنها ما خرجت إلا حبًّا في الله ورسوله، ومتى حلفت لا ترد، بل يعطي لزوجها المشرك ما أنفقه عليها، ويجوز للمسلم أن يتزوجها.

__________

1 سورة الممتحنة، الآية 10.

مناقشة شروط الصلح:

تبدو هذه الشروط أول الرأي وكأنها مجحفة بحقوق المسلمين، وهذا هو الذي دفع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أن يستفسر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بطريقة تتجافى عن الأسلوب الرقيق الذي تعوده الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه المخلصين، فلقد ذكر الرواة1: أن عمر بن الخطاب حينما تم الصلح بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش يوم الحديبية، تألم لقبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الشروط ودارت بينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- مناقشة يرويها عمر فيقول: "أتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا نبي الله، ألست بنبي الله حقًّا؟ قال: " بلى". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري"، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ " قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به ... "

والحق أن هذه الشروط تعتبر مغنمًا للمسلمين، ونقطة تحول في حياتهم، ومبدأ عهد جديد وضحت فيه قوتهم، إذ أصبحوا يقفون من قريش موقف الند للند، واعترفت لهم قريش بذلك ... وأصبحت القبائل في سائر الجزيرة العربية لا تتهيب الانضمام إلى المسلمين ما دامت قريش قد التزمت بتأمين من يدخلون في حماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحلفه.

__________

1 بسند صحيح عند البخاري 2581 وغيره.

وأما رجوع المسلمين دون أن يؤدوا نسك العمرة في هذا العام، وتأخيرهم إلى العام الذي يليه، فهو حل متوسط ليس فيه ميل إلى أحد الجانبين.

وأما الشروط التي يلزم المسلمين برد من ذهب إليهم مسلمًا من قريش، ولا يلزم قريشًا برد من ارتد عن الإسلام إلى المدينة، فهو شرط في مصلحة المسلمين، لأن من يرتد عن الإسلام يصبح وجوده في صفوف المسلمين كالمرض في الجسم السليم، فالشر في وجوده لا ريب فيه، والتخلص منه خير من بقائه.. وأما من يسلم من قريش فإن رجوعه إليهم بعد إسلامه خير للمسلمين وضرر على القرشيين، ولا غرو، فقد يهدي الله به قومًا آخرين إلى الحق، على أنه مهما طال الزمن، فإن الله سوف يجعل له مخرجًا من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وقد كشف المستقبل القريب بعد ذلك على أن هذا الشرط الذي فرحت به قريش قد سبب لها كثيرًا من المتاعب، حتى أرسلت إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- طالبة إليه أن يبطله، وألا يرد إليهم من جاءه مسلمًا.

وذلك أن أبا بصير بن أسيد الثقفي -رضي الله عنه- تمكن من الفرار من قريش بعد إسلامه، فلما وصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره -عليه السلام- بالرجوع معهما، فقال: يا رسول الله أتردني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلصني الله منهم؟ فقال: "إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجًا". فلم يجد بدًّا من اتباعه. فرجع مع الرجلين، فلما قارب ذا الحليفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب الآخر منه 1.

وحينئذٍ رجع أبو بصير إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، أما أنا

__________

1 والقصة في البخاري 2581 وغيره، وانظر ما قدمنا من المصادر أول الغزوة.

فنجوت، فقال له: اذهب حيث شئت ولا تُقم بالمدينة. فذهب إلى محل بطريق الشام تمر به تجارة قريش فأقام به واجتمع معه عدد من المسلمين الذين فروا -كذلك- من قريش، واجتمع إليهم عدد من الأعراب وقطعوا طريق التجارة على قريش وأثاروا الرعب بينهم.

فأرسلت قريش تستغيث بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وتطلب منه إبطال هذا الشرط، وتعطيه الحق في إمساك من جاءه مسلمًا، فقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم، وأراح الله المسلمين من هذا الشرط الذي كانوا متألمين منه.. وعلموا أن رأي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم وأفضل من رأيهم.

وبذلك يتبين لنا أن شروط الصلح في حقيقتها نصر للمسلمين وفتح مبين، حتى قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.

ولكن الناس قصر رأيهم عمّا كان بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد ...

وصدق الله العظيم، فلقد سمي صلح الحديبية: فتحًا مبينًا وأنزل في شأنه سورة الفتح، وقال في أولها:

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} .



كلمات دليلية: