withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


حلف الفضول_12940

حلف الفضول


حلف الفضول

هَذَا قبل الْبَعْث بِعشْرين سنة، وَكَانَ أكْرم حلف وأشرفه. وَأول من تكلم بِهِ ودعا إِلَيْهِ الزبير بن عبد الْمطلب، وَكَانَ سَببه أَن رجلا من زبيد قدم مَكَّة ببضاعة، فاشتراها مِنْهُ العَاصِي بن وَائِل، وَكَانَ ذَا قدر بِمَكَّة وَشرف، فحبس عَنهُ حَقه، فاستعدى عَلَيْهِ الزبيدِيّ الأحلاف: عبد الدَّار، ومخزوما، وجمح، وَسَهْما، وعدي بن كَعْب، فَأَبَوا أَن يعينوه على العَاصِي، وزبروه (انتهروه) .

فَلَمَّا رأى الزبيدِيّ الشَّرّ، أَو فِي على أَبى قبيس عِنْد طُلُوع الشَّمْس، وقريش فِي أَنْدِيَتهمْ حول الْكَعْبَة، فصاح بِأَعْلَى صَوته:

يَا آل فهر لمظلوم بضاعته ... بِبَطن مَكَّة نائى الدَّار والنفر

ومحرم أَشْعَث لم يقْض عمرته ... يَا للرِّجَال وَبَين الْحجر وَالْحجر

إِن الْحَرَام لمن تمت كرامته ... وَلَا حرَام لثوب الْفَاجِر الْغدر

فَقَامَ فِي ذَلِك الزبير بن عبد الْمطلب، وَقَالَ: مَا لهَذَا مترك. فاجتمعت هَاشم، وزهرة، وتيم بن مرّة فِي دَار ابْن جدعَان، فَصنعَ لَهُم طَعَاما وتعاقدوا، وَكَانَ حلف الفضول. وَكَانَ بعْدهَا أَن أنصفوا الزبيدِيّ من العَاصِي. (عَن الرَّوْض الْأنف) .

أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ.

(حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْفُضُولِ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ [1] التَّيْمِيُّ [2] أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ [3] حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ [4] وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ.

(نَازَعَ الْحُسَيْنُ الْوَلِيدَ فِي حَقٍّ، وَهَدَّدَ بِالدَّعْوَةِ إلَى حِلْفِ الْفُضُولِ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [5] بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللَّيْثِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْن إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيَّ حَدَّثَهُ:

أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبَيْنَ الْوَلِيدِ ابْن عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ أَمَّرَهُ عَلَيْهَا عَمُّهُ مُعَاوِيَةُ

__________

[1] هُوَ مُحَمَّد بن زيد بن المُهَاجر بن قنفذ التَّيْمِيّ الجدعانى الْمدنِي. روى عَن عبد الله بن عمر، وَعُمَيْر مولى آبى اللَّحْم، وأبى سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهم. وروى عَنهُ مَالك بن أنس، وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني، وَبشر بن الْمفضل، وَحَفْص بن غياث، وفضيل بن سُلَيْمَان النميري، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة. (تراجم رجال) .

[2] زِيَادَة عَن أ، وتراجم رجال.

[3] هُوَ عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم، ويكنى أَبَا زُهَيْر. وَهُوَ ابْن عَم عَائِشَة رضى الله عَنْهَا، وَلذَلِك قَالَت لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن ابْن جدعَان كَانَ يطعم الطَّعَام، ويقرى الضَّيْف، فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدَّين. وَكَانَ ابْن جدعَان فِي بَدْء أمره صعلوكا ترب الْيَدَيْنِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِك فاتكا لَا يزَال يجنى الْجِنَايَات، فيعقل عَنهُ أَبوهُ وَقَومه، حَتَّى أبغضته عشيرته ونفاه أَبوهُ، وَحلف أَلا يؤويه أبدا لما أثقله بِهِ من الْغرم وَحمله من الدِّيات، ثمَّ كَانَ أَن أثرى ابْن جدعَان بعثوره على ثعبان من ذهب، وَعَيناهُ ياقوتتان، فأوسع فِي الْكَرم حَتَّى كَانَ يضْرب بِعظم جفنته الْمثل، ومدحه أُميَّة بن أَبى الصَّلْت لكرمه.

[4] أَي لَا أحب نقضه، وَإِن دفع لي حمر النعم فِي مُقَابلَة ذَلِك.

[5] هُوَ يزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَادِي اللَّيْثِيّ الْمدنِي أَبُو عبد الله. روى عَن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَغَيرهمَا. وروى عَنهُ يحيى بن أَيُّوب، وَاللَّيْث وَآخَرُونَ. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث توفى بِالْمَدِينَةِ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. (رَاجع تراجم رجال) .

ابْن أَبِي سُفْيَانَ- مُنَازَعَةً فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا بِذِي الْمَرْوَةِ [1] . فَكَانَ الْوَلِيدُ تَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِسُلْطَانِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَحْلِفُ باللَّه لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْوَلِيدِ حِينَ قَالَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ: وَأَنَا أَحْلِفُ باللَّه لَئِنْ دَعَا بِهِ لَآخُذَنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يُنْصَفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. قَالَ: فَبَلَّغْتُ الْمِسْوَرَ ابْن مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَّغْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ حَقِّهِ حَتَّى رَضِيَ.

(سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ وَدُخُولِهِمَا فِي حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْهُ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللَّيْثِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ قَالَ:

قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ- وَكَانَ مُحَمَّدُ ابْن جُبَيْرٍ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ- عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ، يَعْنِي بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِيَّ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي حِلْفِ الْفُضُولِ؟ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لِتُخْبِرَنِّي يَا أَبَا سَعِيدٍ بِالْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، لَقَدْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ مِنْهُ! قَالَ: صَدَقْتَ.

تَمَّ خَبَرُ حَلِفِ الْفُضُولِ.

(وِلَايَةُ هَاشِمٍ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ وَمَا كَانَ يَصْنَعُ إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلِيَ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ كَانَ رَجُلًا سِفَارًا قَلَّمَا يُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ مُقِلًّا ذَا وَلَدٍ، وَكَانَ هَاشِمٌ مُوسِرًا فَكَانَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- إذَا حَضَرَ الْحَاجُّ قَامَ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ

__________

[1] ذُو الْمَرْوَة: قَرْيَة بوادي الْقرى، وَقيل بَين خشب ووادي الْقرى. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .

قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ يَأْتِيكُمْ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ زُوَّارُ اللَّهِ وَحُجَّاجُ بَيْتِهِ، وَهُمْ ضَيْفُ اللَّهِ، وَأَحَقُّ الضَّيْفِ بِالْكَرَامَةِ ضَيْفُهُ، فَاجْمَعُوا لَهُمْ مَا تَصْنَعُونَ لَهُمْ بِهِ طَعَامًا أَيَّامَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهَا، فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ لِذَلِكَ مَا كَلَّفْتُكُمُوهُ» . فَيُخْرِجُونَ لِذَلِكَ خَرْجًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كُلُّ امْرِئِ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، فيصنع بِهِ للحجّاج طَعَامًا حَتَّى يُصْدَرُوا مِنْهَا.

(شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ هَاشِمٍ) :

وَكَانَ هَاشِمٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرِّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشِ: رِحْلَتَيْ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.

وَأَوَّلَ مَنْ أَطْعَمَ الثَّرِيدَ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُهُ عَمْرًا، فَمَا سُمِّيَ هَاشِمًا إِلَّا بهشمه الْخَبَر بِمَكَّةَ [1] لِقَوْمِهِ. فَقَالَ شَاعِرٌ [2] مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ:

عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ [3]

سُنَّتْ إلَيْهِ الرِّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا ... سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الْأَصْيَافِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ:

قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ

[4]

__________

[1] وَمِمَّا يذكر فِي هَذَا أَن هاشما- وَقد كَانَ يَسْتَعِين بِقُرَيْش على إطْعَام الْحَاج- أَصَابَته وأصابت قومه أزمة شَدِيدَة، فكره أَن يُكَلف قُريْشًا أَمر الرفادة، فَاحْتمل إِلَى الشَّام بِجَمِيعِ مَاله، فَاشْترى بِهِ أجمع كعكا، ثمَّ أَتَى الْمَوْسِم فهشم ذَلِك الكعك كُله هشما، ودقه وصنع مِنْهُ للْحَاج طَعَاما شبه الثَّرِيد. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .

[2] هُوَ عبد الله بن الزبعري، وَكَانَ سَبَب مدحه لبني عبد منَاف، مَعَ أَنه سهمي، أَنه كَانَ قد هجا قصيا بِشعر كتبه فِي أَسْتَار الْكَعْبَة، فَاسْتَعدوا عَلَيْهِ بنى سهم، فأسلموه إِلَيْهِم، فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إِلَى صَخْرَة، فاستغاث قومه فَلم يغيثوه، فَجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فَأَطْلقهُ بَنو عبد منَاف مِنْهُم وأكرموه، فمدحهم بِهَذَا الشّعْر، وبأشعار كَثِيرَة. وَيُقَال: إِن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أَبْيَات لمطرود بن كَعْب ستجيء فِيمَا بعد من هَذَا الْكتاب أَولهَا:

يَا أَيهَا الرجل المحول رَحْله ... هلا نزلت بآل عبد منَاف

[3] المسنتون: الَّذين أَصَابَتْهُم السّنة، وَهِي الْجُوع والقحط. والعجاف: من العجف، وَهُوَ الهزال والضعف. وَذَلِكَ أَن قومه من قُرَيْش كَانَت أَصَابَتْهُم لزبة وقحط، فَرَحل إِلَى فلسطين، فَاشْترى مِنْهَا الدَّقِيق، فَقدم بِهِ مَكَّة، فَأمر بِهِ فخبز لَهُ، وَنحر جزورا، ثمَّ اتخذ لِقَوْمِهِ مرقة ثريد بذلك الْخبز. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .

[4] ويروى:

وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف

(ولَايَة الْمطلب الرفادة وَالسِّقَايَةِ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ هَلَكَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بِغَزَّةَ [1] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ تَاجِرًا، فَوَلِيَ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ وَفَضْلٍ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّيهِ الْفَيْضَ لِسَمَاحَتِهِ وَفَضْلِهِ.

(زَوَاجُ هَاشِمٍ) :

وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَتَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي عَدِيِّ ابْن النَّجَّارِ [2] ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ [3] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: الْحَرِيسُ- ابْنُ جَحْجَبِي بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ ابْن الْأَوْسِ. فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ، وَكَانَتْ لَا تَنْكِحُ الرِّجَالَ لِشَرَفِهَا فِي قَوْمِهَا حَتَّى يَشْتَرِطُوا لَهَا أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، إذَا كَرِهَتْ رَجُلًا فَارَقَتْهُ.

(مِيلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِ كَذَلِكَ) :

فَوَلَدَتْ لِهَاشِمِ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَسَمَّتْهُ شَيْبَةَ [4] . فَتَرَكَهُ هَاشِمٌ عِنْدَهَا حَتَّى كَانَ وَصِيفًا [5] أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ لِيَقْبِضَهُ فَيُلْحِقَهُ بِبَلَدِهِ وَقَوْمِهِ، فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى: لَسْتُ بِمُرْسَلَتِهِ مَعَكَ، فَقَالَ لَهَا الْمُطَّلِبُ: إنِّي غَيْرُ مُنْصَرَفٍ حَتَّى

__________

[ () ] وعَلى هَذِه الرِّوَايَة يكون فِي الشّعْر إقواء. وَلَعَلَّ هَذِه الرِّوَايَة عَن غير أهل الْعلم بالشعر من أهل الْحجاز، الَّذين أَخذ عَنْهُم ابْن هِشَام الرِّوَايَة الأولى، ورفض الثَّانِيَة: لِأَنَّهَا لم تستقم فِي نظره، وأدلى بِعُذْرِهِ فِي أَنه أَخذهَا عَن أهل علم بالشعر، وَلم يكن لَهُ بِهِ دراية تَامَّة، فيقيم نَفسه فِي هَذَا الميدان حكما.

[1] غَزَّة (بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه وفتحه) : مَدِينَة فِي أقْصَى الشَّام من نَاحيَة مصر، بَينهَا وَبَين عسقلان فرسخان أَو أقل. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .

[2] وَيُقَال: إِنَّه بِسَبَب هَذَا النّسَب، رحب سيف بن ذِي يزن، أَو ابْنه معديكرب بن سيف ملك الْيمن، بِعَبْد الْمطلب بن هَاشم، حِين وَفد عَلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش، وَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا بِابْن أُخْتنَا: لِأَن سلمى من الْخَزْرَج، وهم من الْيمن من سبإ، وَلِأَن سَيْفا من حمير بن سبإ

[3] وَيُقَال: إِن كل من فِي الْأَنْصَار بِهَذَا الِاسْم، فَهُوَ حريس (بِالسِّين الْمُهْملَة) إِلَّا هَذَا فَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة. (رَاجع شرح السِّيرَة وَالرَّوْض الْأنف) .

[4] سمى شيبَة لشيبة كَانَت فِي رَأسه، ويكنى بِأبي الْحَارِث أكبر وَلَده. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .

[5] الوصيف (كقتيل) : الْغُلَام دون المراهقة.

أَخْرُجَ بِهِ مَعِي، إنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ بَلَغَ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ فِي قَوْمِنَا، نَلِي كَثِيرًا مِنْ أُمُورِهِمْ، وَقَوْمُهُ وَبَلَدُهُ وَعَشِيرَتُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهِمْ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ شَيْبَةُ لِعَمِّهِ الْمُطَّلِبِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-: لَسْتُ بِمُفَارِقِهَا إلَّا أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأَذِنَتْ لَهُ، وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ مُرْدِفَهُ مَعَهُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ابْتَاعَهُ، فَبِهَا سُمِّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ الْمُطَّلِبُ: وَيْحَكُمْ! إنَّمَا هُوَ ابْنُ أَخِي هَاشِمٍ، قَدِمْتُ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ.

(مَوْتُ الْمُطَّلِبِ وَمَا قِيلَ فِي رِثَائِهِ مِنْ الشِّعْرِ) :

ثُمَّ هَلَكَ الْمُطَّلِبُ بِرَدْمَانَ [1] مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَبْكِيهِ:

قَدْ ظَمِئَ الْحَجِيجُ بَعْدَ الْمُطَّلِبِ ... بَعْدَ الْجِفَانِ وَالشَّرَابِ المُنْثَعِبْ [2]

لَيْتَ قُرَيْشًا بَعْدَهُ عَلَى نَصَبْ

[3] وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيُّ، يَبْكِي الْمُطَّلِبَ وَبَنِيَّ عَبْدِ مَنَافٍ جَمِيعًا حِينَ أَتَاهُ نَعْيُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ نَوْفَلٌ آخِرَهُمْ هُلْكًا:

يَا لَيْلَةً هَيَّجَتْ لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيَ الْقَسِيَّاتِ [4]

وَمَا أُقَاسِي مِنْ هُمُومٍ وَمَا ... عَالَجْتُ مِنْ رُزْءِ الْمَنِيَّاتِ

إذَا تَذَكَّرْتُ أَخِي نَوْفَلًا ... ذَكَّرَنِي بِالْأَوَّلِيَّاتِ

ذَكَّرَنِي بالأزر الْحمر و ... الأردية الصُّفْرِ الْقَشِيبَاتِ

أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ سَيِّدُ ... أَبْنَاءِ سَادَاتٍ لِسَادَاتِ

مَيْتٌ بِرَدْمَانَ وَمَيْتٌ بِسَلْمَانَ ... [5] وَمَيِّتٌ عِنْدَ غَزَّاتِ [6]

__________

[1] ردمان (بِفَتْح أَوله) : مَوضِع بِالْيمن. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .

[2] المنثعب: الْكثير السَّيْل، يُقَال: انشعب المَاء: إِذا سَالَ من مَوضِع حصر فِيهِ.

[3] النصب: التَّعَب وَالْعَذَاب.

[4] كَذَا فِي الأَصْل. والقسيات: الشدائد. ويروى: العشيات. والعشيات: المظلمات.

[5] سلمَان: مَاء قديم جاهلى، وَبِه قبر نَوْفَل بن عبد منَاف، وَهُوَ طَرِيق إِلَى تهَامَة من الْعرَاق فِي الْجَاهِلِيَّة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .

[6] هِيَ غَزَّة، وَلَكنهُمْ يجْعَلُونَ لكل نَاحيَة، أَو لكل ربض من الْبَلدة اسْم الْبَلدة، فَيَقُولُونَ:

غزات فِي غَزَّة، كَمَا يَقُولُونَ فِي بغدان بغادين كَقَوْل بعض الْمُحدثين:

وَمَيِّتٌ [1] أُسْكِنَ لَحْدًا لَدَى ... الْمَحْجُوبِ شَرْقِيِّ الْبُنَيَّاتِ [2]

أَخْلَصُهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ فَهُمْ ... مِنْ لَوْمِ مَنْ لَامَ بِمَنْجَاةِ

إنَّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ

[3] وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُغِيرَةَ، وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ هُلْكًا هَاشِمٌ، بِغَزَّةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ عَبْدَ شَمْسٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ الْمُطَّلِبَ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ثُمَّ نَوْفَلًا بِسَلْمَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ.

فَقِيلَ لِمَطْرُودِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-: لَقَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ، وَلَوْ كَانَ أَفْحَلَ مِمَّا قُلْتَ كَانَ أَحْسَنَ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي لَيَالِيَ، فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ:

يَا عَيْنُ جُوى وَأَذْرِي الدَّمْعَ وَانْهَمِرِي ... وَابْكِي عَلَى السِّرِّ مِنْ كَعْبِ الْمُغِيرَاتِ [4]

يَا عَيْنُ وَاسْحَنْفِرِي بِالدَّمْعِ وَاحْتَفِلِي [5] ... وَابْكِي خَبِيئَةَ نَفْسِي فِي الْمُلِمَّاتِ [6]

وَابْكِي عَلَى كُلِّ فَيَّاضٍ أَخِي ثِقَةٍ ... ضَخْمِ الدَّسِيعَةِ وَهَّابِ الْجَزِيلَاتِ [7]

مَحْضِ الضَّرِيبَةِ عَالِي الْهَمِّ مُخْتَلِقٌ ... جَلْدِ النَّحِيزَةِ نَاءٍ بِالْعَظِيمَاتِ [8]

صَعْبِ الْبَدِيهَةِ لَا نِكْسٍ وَلَا وَكِلٍ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مِتْلَافِ الْكَرِيمَاتِ [9]

__________

[ () ]

شربنا فِي بغادين ... على تِلْكَ الميادين

والّذي عِنْد غَزَّة هُوَ هَاشم بن عبد منَاف.

[1] وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي مُعْجم الْبلدَانِ فِي الْكَلَام على ردمان:

وميت مَاتَ قَرِيبا من ... الْحجُون من شَرق البنيات

قَالَ ياقوت: « ... والّذي بِقرب الْحجُون عبد شمس بن عبد منَاف» .

والحجون: جبل بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد مدافن أَهلهَا.

[2] البنيات: الْكَعْبَة.

[3] الْمُغيرَات: بَنو الْمُغيرَة.

[4] السِّرّ: الْخَالِص النّسَب.

[5] اسحنفرى: أديمى. واحتفلى: أَي اجمعيه، من احتفال الضَّرع، وَهُوَ اجْتِمَاع اللَّبن فِيهِ.

[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والخبيئة: الشَّيْء المخبوء. يُرِيد أَنه كَانَ ذخيرته عِنْد نزُول الشدائد.

وَفِي أ: «خبيئات» .

[7] الْفَيَّاض: الْكثير الْمَعْرُوف. وضخم الدسيعة: كثير الْعَطاء. والجزيلات الكثيرات.

[8] الضريبة: الطبيعة. والمختلق: التَّام الْخلق. والنحيزة: الطبيعة أَيْضا. وناء: ناهض.

[9] النكس: الدنىء من الرِّجَال. والوكل: الضَّعِيف الّذي يتكل على غَيره.

صَقْرٍ تَوَسَّطَ مِنْ كَعْبٍ إذَا نُسِبُوا ... بُحْبُوحَةَ الْمَجْدِ وَالشُّمِّ الرَّفِيعَاتِ [1]

ثُمَّ اُنْدُبِي الْفَيْضَ وَالْفَيَّاضَ مُطَّلِبًا ... وَاسْتَخْرِطِي بَعْدَ فَيْضَاتٍ بِجُمَّاتِ [2]

أَمْسَى بِرَدْمَانَ عَنَّا الْيَوْمَ مُغْتَرِبًا ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَيْهِ بَيْنَ أَمْوَاتِ [3]

وَابْكِي، لَكَ الْوَيْلُ، إمَّا كُنْتِ بَاكِيَةً ... لِعَبْدِ شَمْسٍ بِشَرْقِيِّ الْبُنَيَّاتِ

وَهَاشِمٍ فِي ضَرِيحٍ وَسْطَ بَلْقَعَةٍ ... تَسْفَى الرِّيَاحُ عَلَيْهِ بَيْنَ غَزَّاتِ

وَنَوْفَلٌ كَانَ دُونَ الْقَوْمِ خَالِصَتِي ... أَمْسَى بِسَلْمَانَ فِي رَمْسٍ بِمَوْمَاةِ [4]

لَمْ أَلْقَ مِثْلَهُمْ عُجْمًا وَلَا عَرَبًا ... إذَا اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ أُدْمُ الْمَطِيَّاتِ [5]

أَمْسَتْ دِيَارُهُمْ مِنْهُمْ مُعَطَّلَةً ... وَقَدْ يَكُونُونَ زَيْنًا فِي السَّرِيَّاتِ [6]

أَفْنَاهُمْ الدَّهْرُ أَمْ كَلَّتْ سُيُوفُهُمْ ... أَمْ كُلُّ مَنْ عَاشٍ أَزْوَادُ الْمَنِيَّاتِ [7]

أَصْبَحْتُ أَرْضَى مِنْ الْأَقْوَامِ بَعْدَهُمْ ... بَسْطَ الْوُجُوهِ وَإِلْقَاءَ التَّحِيَّاتِ

يَا عَيْنُ فَابْكِي أَبَا الشُّعْثِ الشَّجِيَّاتِ [8] ... يَبْكِينَهُ حُسَّرًا مِثْلَ الْبَلِيَّاتِ [9]

__________

[1] البحبوحة: وسط الشَّيْء. والشم: الْعَالِيَة.

[2] استخرطى: استكثرى. والجمات: الْمُجْتَمع من المَاء، فاستعاره هُنَا الدمع.

[3] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 1 ص 138 من هَذَا الْجُزْء)

[4] الموماة: القفر.

[5] الْأدم من الْإِبِل: الْبيض الْكِرَام.

[6] السريات: جمع سَرِيَّة، وَهِي الْقطعَة من الْجَيْش أقصاها أَربع مائَة، تبْعَث إِلَى الْعَدو. سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم.

[7] ويروى: «أوراد» . يُرِيد الْقَوْم الَّذين يُرِيدُونَ الْمَوْت، شبههم بالذين يردون المَاء.

[8] الشجيات: الحزينات. وينكر بعض أهل اللُّغَة تَشْدِيد يَاء الشجى وَيَقُولُونَ بِأَن يَاء الشجى مُخَفّفَة وياء الخلي مُشَدّدَة، وَقد اعْترض ابْن قُتَيْبَة على أَبى تَمام الطَّائِي فِي قَوْله:

أيا وَيْح الشجى من الخلي فَإِنَّهُ ... وويح الدمع من إِحْدَى بلَى

وَاحْتج بقول يَعْقُوب فِي ذَلِك. فَقَالَ لَهُ الطَّائِي: وَمن أفْصح عنْدك: ابْن الجرمقانية يَعْقُوب، أم أَبُو الْأسود الدؤَلِي حَيْثُ يَقُول:

ويل الشجى من الخلي فَإِنَّهُ ... وصب الْفُؤَاد بشجوه مغموم؟

وَالْقِيَاس لَا يمْنَع من أَن يكون هُنَاكَ شج وشجى، لِأَنَّهُ فِي معنى حزن وحزين.

[9] البليات: جمع بلية، وَهِي النَّاقة الَّتِي كَانَت تعقل عِنْد قبر صَاحبهَا إِذا مَاتَ حَتَّى تَمُوت جوعا وعطشا، وَيَقُولُونَ: إِن صَاحبهَا يحْشر رَاكِبًا عَلَيْهَا، وَمن لم يفعل مَعَه هَذَا حشر رَاجِلا. وَهَذَا على مَذْهَب من كَانَ يَقُول مِنْهُم بِالْبَعْثِ.

يَبْكِينَ أَكْرَمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... يُعْوِلْنَهُ بِدُمُوعٍ بَعْدَ عَبَرَاتِ [1]

يَبْكِينَ شَخْصًا طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ ... آبِي الْهَضِيمَةِ فَرَّاجِ الْجَلِيلَاتِ [2]

يَبْكِينَ عَمْرَو الْعُلَا إذْ حَانَ مَصْرَعُهُ ... سَمْحَ السَّجِيَّةِ بَسَّامَ الْعَشِيَّاتِ [3]

يَبْكِينَهُ مُسْتَكِينَاتٍ عَلَى حَزَنٍ ... يَا طُولَ ذَلِكَ مِنْ حُزْنٍ وَعَوْلَاتٍ

يَبْكِينَ لَمَّا جَلَّاهُنَّ الزَّمَانُ لَهُ ... خُضْرُ الْخُدُودِ كَأَمْثَالِ الْحَمِيَّاتِ [4]

مُحْتَزِمَاتٍ عَلَى أَوْسَاطِهِنَّ لِمَا ... جَرَّ الزَّمَانُ مِنْ أَحْدَاثِ الْمُصِيبَاتِ

أَبِيتُ لَيْلِي أُرَاعِي النَّجْمَ مِنْ أَلَمٍ ... أَبْكِي وَتَبْكِي مَعِي شَجْوِي بُنَيَّاتِي

مَا فِي الْقُرُومِ لَهُمْ عِدْلٌ وَلَا خَطَرٌ ... وَلَا لِمَنْ تركُوا شروى بقبّات [5]

أَبْنَاؤُهُمْ خَيْرُ أَبْنَاءٍ وَأَنْفُسُهُمْ ... خَيْرُ النّفوس لَدَى جِهَاد الْأَلِيَّاتِ [6]

كَمْ وَهَبُوا مِنْ طِمِرٍّ سَابِحٍ أَرِنٍ ... وَمِنْ طِمِرَّةٍ نَهْبٍ فِي طِمِرَّاتِ [7]

وَمِنْ سُيُوفٍ مِنْ الْهِنْدِيِّ مُخْلَصَةٍ ... وَمِنْ رِمَاحٍ كَأَشْطَانِ الرَّكِيَّاتِ [8]

وَمِنْ تَوَابِعِ مِمَّا يُفْضِلُونَ بِهَا ... عِنْدَ الْمَسَائِلِ مِنْ بَذْلِ الْعَطِيَّاتِ

فَلَوْ حَسَبْتُ وَأَحْصَى الْحَاسِبُونَ مَعِي ... لَمْ أَقْضِ أَفَعَالَهُمْ تَلِكَ الْهَنِيَّاتِ

هُمْ الْمُدِلُّونَ إمَّا مَعْشَرٌ فَخَرُّوا ... عِنْدَ الْفَخَّارِ بِأَنْسَابٍ نَقِيَّاتٍ

زَيْنُ الْبُيُوتِ الَّتِي خَلَّوْا [9] مَسَاكِنَهَا ... فَأَصْبَحَتْ مِنْهُمْ وَحْشًا خَلِيَّاتٍ

__________

[1] كَانَ الْوَجْه أَن يَقُول «عبرات» بِالتَّحْرِيكِ: إِلَّا أَنه أسكن للتَّخْفِيف ضَرُورَة.

[2] الهضيمة: الذل وَالنَّقْص. والجليلات: الْأُمُور الْعِظَام.

[3] السجية: الطبيعة. وبسام العشيات: يُرِيد أَنه يتبسم عِنْد لِقَاء الأضياف، لِأَن الأضياف أَكثر مَا يردون عَشِيَّة.

[4] الحميات: الْإِبِل الَّتِي حميت المَاء: أَي منعت.

[5] القروم سَادَات النَّاس، وَأَصله الفحول من الْإِبِل. وَالْعدْل: الْمثل. والخطر: الْقدر والرفعة.

وشروى: مثل، يُقَال: هَذَا شروى هَذَا، أَي مثله.

[6] الأليات: الشدائد الَّتِي يقصر الْإِنْسَان بِسَبَبِهَا، وَهِي أَيْضا جمع ألية، وَهِي الْيَمين.

[7] الطمر: الْفرس الْخَفِيف. وسابح: كَأَنَّهُ يسبح فِي جريه، أَي يعوم. وأرن: نشط. والنهب:

مَا انتهب من الْغَنَائِم.

[8] الأشطان: جمع شطن، وَهُوَ الْحَبل. والركيات: جمع ركية، وَهِي الْبِئْر.

[9] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حلوا» بِالْحَاء الْمُهْملَة.

أَقُولُ وَالْعين لَا ترقى مَدَامِعُهَا [1] ... لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَصْحَابَ الرَّزِيَّاتِ

[2] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفَجْرُ: الْعَطَاءُ. قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ [3] :

عَجَّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ

[4] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَبُو الشُّعْثِ الشَّجِيَّاتِ: هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ.

(وِلَايَةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ) :

قَالَ: ثُمَّ وَلِيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ بَعْدَ عَمِّهِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقَامَهَا لِلنَّاسِ، وَأَقَامَ لِقَوْمِهِ مَا كَانَ آبَاؤُهُ يُقِيمُونَ قَبْلَهُ لِقَوْمِهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَرُفَ فِي قَوْمِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ، وَأَحَبَّهُ قَوْمُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ فِيهِمْ.

ذِكْرُ حَفْرِ زَمْزَمَ وَمَا جَرَى مِنْ الْخُلْفِ فِيهَا

(الرُّؤْيَا الَّتِي أُرِيهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ) :

ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ [5] بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ مَرْثَدِ [6] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

__________

[1] لَا ترقا: لَا تَنْقَطِع، وَأَصله الْهَمْز فَخفف فِي الشّعْر.

[2] الرزيات: جمع رزية، لُغَة فِي الرزيئة، بِمَعْنى الْمُصِيبَة والإصابة بالانتقاص. وَيُرِيد بأصحاب الرزيات: من أصيبوا وانتقصوا وَأصْبح شَأْنهمْ كَمَا وصف.

[3] وَهَذَا الْبَيْت مطلع قصيدة لأبى خرَاش قَالَهَا فِي قتل زُهَيْر بن الْعَجْوَة أخى بنى عَمْرو بن الْحَارِث، وَكَانَ قَتله جميل بن معمر بن حبيب بن حذافة بن جمح بن عَمْرو بن هصيص، يَوْم حنين.

[4] كَذَا فِي الْأُصُول. وعجف: حبس عَن الطَّعَام. يُرِيد: أجاعهم. وَفِي أشعار الهذليين المخطوط وَالْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم (6 أدب ش) : «فجع» .

[5] هُوَ يزِيد بن أَبى حبيب سُوَيْد أَبُو رَجَاء الْأَسدي الْمصْرِيّ عَالم أهل مصر، مولى شريك بن الطُّفَيْل الْأَزْدِيّ، وَقيل أَبوهُ مولى بنى حسل، وَأمه مولاة لتجيب. روى عَن عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ، وَابْن الطُّفَيْل الْكِنَانِي، وأبى الْخَيْر مرْثَد الْيَزنِي وَغَيرهم. (عَن تراجم الرِّجَال) .

[6] هُوَ مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي (بِفَتْح الْيَاء والزاى) أَبُو الْخَيْر الْمصْرِيّ الْفَقِيه. روى عَن عقبَة بن عَامر الجهنيّ، وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ، وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهمَا. وروى عَنهُ غير يزِيد هَذَا ربيعَة بن جَعْفَر، وَكَعب بن عَلْقَمَة، وَعبد الرَّحْمَن بن شماسَة وَغَيرهم. توفى سنة تسعين. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .

ابْن زُرَيْرٍ [1] الْغَافِقِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحَدِّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَفْرِهَا، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إنِّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: احْفِرْ طَيْبَةَ [2] .

قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طَيْبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ [3] . قَالَ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ [4] .

قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ؟

قَالَ: لَا تَنْزِفُ [5] أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ [6] ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ [7] ، عِنْدَ قَرْيَةِ [8] النَّمْلِ.

(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ الْحَارِثُ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عِنْدَ حَفْرِهِمَا زَمْزَمَ) :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ شَأْنُهَا، وَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ صُدِّقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ

__________

[1] هُوَ عبد الله بن زرير (بِالتَّصْغِيرِ) الغافقي الْمصْرِيّ. روى عَن على وَعمر. وَعنهُ أَبُو الْخَيْر مرْثَد الْيَزنِي وَأَبُو الْفَتْح الهمدانيّ، وَغَيرهمَا. مَاتَ فِي خلَافَة عبد الْملك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقيل سنة ثَمَانِينَ.

(رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .

[2] قيل لزمزم طيبَة، لِأَنَّهَا للطيبين والطيبات من ولد إِبْرَاهِيم.

[3] قيل لَهَا برة، لِأَنَّهَا فاضت على الْأَبْرَار وغاضت عَن الْفجار.

[4] قيل لَهَا مضنونة، لِأَنَّهَا ضن بهَا على غير الْمُؤمنِينَ فَلَا يتضلع مِنْهَا مُنَافِق.

[5] لَا تنزف: لَا يفرغ مَاؤُهَا وَلَا يلْحق قعرها.

[6] لَا تذم: أَي لَا تُوجد قَليلَة المَاء، تَقول: أذمت الْبِئْر: إِذا وَجدتهَا قَليلَة المَاء.

[7] الأعصم من الْغرْبَان: الّذي فِي جناحيه بَيَاض، وَقيل غير ذَلِك.

[8] إِنَّمَا خصت بِهَذِهِ العلامات الثَّلَاث لِمَعْنى زَمْزَم ومائها. فَأَما الفرث وَالدَّم، فان ماءها طَعَام طعم، وشفاء سقم، وَأما عَن الْغُرَاب الأعصم، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا ورد عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليخربن الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة» . وَأما قَرْيَة النَّمْل، فَفِيهَا من المشاكلة أَيْضا والمناسبة أَن زَمْزَم هِيَ عين مَكَّة الَّتِي يردهَا الحجيج والعمار من كل جَانب، فيحملون إِلَيْهَا الْبر وَالشعِير وَغير ذَلِك، وَهِي لَا تحرث وَلَا تزرع، وقرية النَّمْل كَذَلِك لَا تحرث وَلَا تبذر وتجلب الْحُبُوب إِلَى قريتها من كل جَانب.

(رَاجع الرَّوْض الْأنف وَمَا يعول عَلَيْهِ فِي قَرْيَة النَّمْل) .

غَيْرَهُ، فَحَفَرَ فِيهَا. فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطَّيَّ [1] كَبَّرَ، فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ، فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، إنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، إنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا، قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ، قَالُوا:

كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٌ [2] ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ [3] الشَّامِ. فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ. قَالَ: وَالْأَرْضُ إذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ. قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إنَّا بِمَفَازَةٍ، وَنَحْنُ نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ وَمَا يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأْيُنَا إلَّا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمْ الْآنَ مِنْ الْقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا، قَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ.. فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَفَرَ حُفْرَتَهُ، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطَشًا، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاَللَّهِ إنَّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَلَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا، لَعَجْزٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ، ارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلُوا. حَتَّى إذَا فَرَغُوا، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، تَقَدَّمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا. فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ، انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّرَ

__________

[1] الطى: الْحِجَارَة الَّتِي طوى بهَا الْبِئْر.

[2] كَذَا فِي أ. والطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: سعد بن هذيم وَهُوَ تَحْرِيف «لِأَن هذيما لم يكن أَبَاهُ، وَإِنَّمَا كفله بعد أَبِيه فأضيف إِلَيْهِ» . (رَاجع شرح السِّيرَة والمعارف) .

[3] أَشْرَاف الشَّام: مَا ارْتَفع من أرضه.

عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلِئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: هَلُمَّ إلَى الْمَاءِ، فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ، فَاشْرَبُوا وَاسْتَقَوْا، فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا. ثُمَّ قَالُوا: قَدْ وَاَللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجِعْ إلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا. فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَمْزَمَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ:

ثُمَّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرِّوَى [1] غَيْرِ الْكَدِرْ ... يَسْقِي حَجِيجَ [2] اللَّهِ فِي كُلِّ مَبَرْ [3]

لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ

[4] فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: تَعَلَّمُوا أَنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَحْفِرَ لَكُمْ زَمْزَمَ، فَقَالُوا: فَهَلْ بُيِّنَ لَكَ أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا:

فَارْجِعْ إلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مِنْ اللَّهِ يُبَيَّنُ لَكَ، وَإِنْ يَكُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إلَيْكَ. فَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى مَضْجَعِهِ فَنَامَ فِيهِ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمَ، إنَّكَ إنْ حَفَرْتهَا لَمْ تَنْدَمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمِ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ، مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ [5] لَمْ يُقْسَمْ، يَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمٍ، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمٍ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمُ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ (رِضْوَانُ

__________

[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «رواء» . وهما بِمَعْنى، فَيُقَال: مَاء روى (بِالْكَسْرِ وَالْقصر) ورواء (بِالْفَتْح وَالْمدّ) : أَي كثير.

[2] الحجيج: جمع حَاج.

[3] مبر: يُرِيد مَنَاسِك الْحَج ومواضع الطَّاعَة، وَهُوَ مفعل من الْبر.

[4] عمر: بَقِي، أَي مَا عمر هَذَا المَاء فَإِنَّهُ لَا يُؤْذى وَلَا يخَاف مِنْهُ.

[5] الحافل: الْكثير.

10- سيرة ابْن هِشَام- 1

اللَّهِ عَلَيْهِ) [1] فِي حَفْرِ زَمْزَمَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ» إلَى قَوْلِهِ: «عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ» عِنْدَنَا سَجْعٌ وَلَيْسَ شِعْرًا.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قِيلَ لَهُ:

عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يُنْقَرُ الْغُرَابُ غَدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.

فَعَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ: إسَافٍ وَنَائِلَةٍ، اللَّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ذَبَائِحَهَا. فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ، فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ حِينَ رَأَوْا جِدَّهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أحفر، فو الله لَأَمْضِيَنَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ. فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَازِعٍ [2] ، خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَحْفِرْ إلَّا يَسِيرًا، حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ، فَكَبَّرَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ.

فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَهُمَا الْغَزَالَانِ اللَّذَانِ دَفَنَتْ جُرْهُمٌ فِيهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً [3] وَأَدْرَاعًا، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمَّ إلَى أَمْرٍ نَصَفٍ [4] ، بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ: نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ [5] ، قَالُوا: وَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ:

__________

[1] زِيَادَة عَن أ.

[2] يُقَال: نزع عَن الْأَمر نزوعا (وَرُبمَا قَالُوا: نزاعا) : إِذا كف وانْتهى.

[3] قلعية: نِسْبَة إِلَى القلعة (بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون) : قيل جبل بِالشَّام. وَقَالَ مسعر بن مهلهل فِي خبر رحلته إِلَى الصين: « ... ثمَّ رجعت من الصين إِلَى كلة، وَهِي أول بِلَاد الْهِنْد من جِهَة الصين، وإليها تَنْتَهِي المراكب ث




كلمات دليلية: