withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


بيعة العقبة الثانية_16880

بيعة العقبة الثانية


ذكر العقبة الثانية

قال ابن إسحاق «1» : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.

حدث كعب بن مالك «2» ، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:

خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور «3» سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء: يا هؤلاء، إنى قد رأيت رأيا وو الله ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا. فقلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إنى لمصل إليها. فقلنا له: لكنا لا نفعل.

فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع، قال لى: يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت فى سفرى هذا فإنه والله لقد وقع فى نفسى منه شىء لما رأيت من خلافكم إياى فيه، فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. فقال: هل تعرفان العباس عمه؟ قلنا: نعم. وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا.

قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

__________

(1) انظر: السيرة (2/ 48- 49) .

(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2231) ، الإصابة الترجمة رقم (7447) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، تهذيب الكمال (1147) ، تاريخ الإسلام (2/ 243) ، تهذيب التهذيب (8/ 440، 441) ، خلاصة تذهيب الكمال (321) ، طبقات خليفة (103) .

(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (171) ، الإصابة الترجمة رقم (622) ، أسد الغابة الترجمة رقم (392) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 146) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، العبر (1/ 3) ، الاستبصار (142) .

ألشاعر؟ قال: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا نبى الله، إنى خرجت فى سفرى هذا وقد هدانى الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وخالفنى أصحابى فى ذلك، حتى وقع فى نفسى منه شىء فماذا ترى يا رسول الله؟

قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس كما قالوا، نحن أعلم به منهم «1» .

قال كعب «2» : ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام «3» ، أبو جابر، سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا.

ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا. فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رجالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب أم عمارة «4» ، إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت [عمرو بن عدى بن نابى] «5» ، أم منيع»

، إحدى نساء بنى سلمة، فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

__________

(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 461) ، صحيح ابن خزيمة (429) ، الهيثمى فى المجمع (6/ 42، 43) .

(2) انظر: السيرة (2/ 49- 50) .

(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1633) ، الإصابة الترجمة رقم (4856) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3086) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 325) ، تاريخ الإسلام (2/ 205) ، سير أعلام النبلاء (1/ 324) ، حلية الأولياء (2/ 4) ، الأعلام (4/ 11) .

(4) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3624) ، الإصابة الترجمة رقم (12183) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7550) ، تهذيب التهذيب (12/ 474) ، خلاصة تذهيب الكمال (499) .

(5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عدى بن عمرو» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب.

(6) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3263) ، الإصابة الترجمة رقم (6712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3274) .

فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها، إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده.

فقلنا له: قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب فى الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟.

قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم.

فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، من الخزرج:

أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع «1» ، وعبد الله بن رواحة «2» ، ورافع بن مالك

__________

(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (936) ، الإصابة الترجمة رقم (3161) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1994) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 77) ، تاريخ خليفة (71) ، الجرح والتعديل (4/ 82- 83) ، الاستبصار (114) .

(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1548) ، الإصابة الترجمة رقم (4694) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2943) ، الثقات (3/ 221) ، حلية الأولياء (1/ 118، 121) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 310) ، تهذيب التهذيب (5/ 212) ، تهذيب الكمال (2/ 681) ، تقريب التهذيب (1/ 415) ، خلاصة تذهيب (2/ 55) ، الوافى بالوفيات (17/ 168) ، سير أعلام النبلاء (1/ 230) ، الأعلام (4/ 86) .

ابن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة بن دليم «1» ، والمنذر بن عمرو «2» . ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعد ابن خيثمة «3» ، ورفاعة بن عبد المنذر «4» .

قال ابن هشام «5» : وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفاله الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم «6» .

وحدث «7» عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة، أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا

__________

(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (949) ، الإصابة الترجمة رقم (3181) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2012) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 142) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (201) ، تهذيب الكمال (474) ، تهذيب التهذيب (3/ 475) ، خلاصة تذهيب الكمال (2134) ، شذرات الذهب (1/ 28) .

(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2523) ، الإصابة الترجمة رقم (8242) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5114) ، الثقات (3/ 386) ، الاستبصار (100) ، الأعلام (7/ 294) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 95) .

(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (934) ، الإصابة الترجمة رقم (3155) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1986) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، سير أعلام النبلاء (1/ 266) ، الوافى بالوفيات (15/ 216) ، الأعلام (3/ 84) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 213) .

(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (780) ، الإصابة الترجمة رقم (2675) ، أسد الغابة الترجمة (1692) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 184) ، سير أعلام النبلاء (1/ 135، 185) ، الوافى بالوفيات (14/ 171) ، تهذيب التهذيب (3/ 282) ، تقريب التهذيب (1/ 251) ، حلية الأولياء (1/ 366) ، خلاصة تذهيب (1/ 327) .

(5) انظر: السيرة (2/ 54) .

(6) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 292) ، تاريخ الطبرى (1/ 562، 563) .

(7) انظر: السيرة (2/ 55) .

نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟

قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه «1» .

قال عاصم: والله، ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أعناقهم.

وقال غيره: ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم. فالله أعلم أى ذلك كان.

قال ابن إسحاق «2» : فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.

وفى حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله، عن أبيه قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب، وهى المنازل، هل لكم فى مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب، ويقال ابن أزيب، أتسمع أى عدو الله، أما والله لأفرغن لك» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضوا إلى رحالكم» ، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أومر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا فى منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

فانبعث من هنالك من مشركى قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شىء، وما علمناه.

وصدقوا، لم يعلموه، وبعضنا ينظر إلى بعض.

ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومى «3» ، وعليه نعلان له جديدان فقلت

__________

(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 48) ، مسند الإمام أحمد (4/ 119، 120) ، تاريخ الطبرى (1/ 563) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) .

(2) انظر: السيرة (2/ 56- 57) .

(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (452) ، الإصابة الترجمة رقم (1509) ، أسد الغابة الترجمة رقم (979) ، تهذيب الكمال (223) ، تذهيب التهذيب (1/ 116) ، خلاصة تذهيب الكمال (69) ، تهذيب ابن عساكر (4/ 8) ، العقد الثمين (4/ 32) .

له كلمة، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلى هذا الفتى من قريش؟! فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلى فقال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه. قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه «1» .

وفى حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبى سلول، فقالوا: مثل ما ذكر كعب من القول، فقال لهم: إن هذا لأمر جسيم، ما كان قومى ليتفوتوا على بمثل هذا، وما علمته كان، فانصرفوا عنه.

ونفر الناس من منى، فتنطس «2» القوم الخبر، فوجدوه قد كان، وخرجوا فى طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع «3» رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.

قال سعد: فو الله، إنى لفى أيديهم إذ طلع علىّ نفر من قريش فيهم رجل وضىء أبيض شعشاع حلو من الرجال، قال فقلت فى نفسى: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا منى، رفع يده فلكمنى لكمة شديدة، فقلت فى نفسى: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير، فو الله إنى لفى أيديهم يسحبوننى إذ أوى إلى رجل ممن معهم، فقال لى: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد؟ فقلت: بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى، وللحارث بن حرب ابن أمية. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.

قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله، إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم

__________

(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 181) ، فتح البارى لابن حجر (3/ 262) .

(2) تنطس القوم: تنطس عن الأخبار أى بحث وكل مبالف فى شىء متنطس وتنتطست الأخبار تجسستها. انظر: اللسان (مادة تنطس) .

(3) النسع: هو سير يضفر على هيئة لأعنة النعال تشد به الرحال، والجمع أنساع ونسوع ونسع، والقطعة منه نسعة، وقيل: هو سير مضفور يجعل زماما وغيره وقد تنسج عريضة تجعل على صدور البعير. انظر: اللسان (مادة نسع) .

أن يظلموا ببلده، قال: فجاآ فخلصا سعدا من أيديهم، وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو «1» .

قال ابن هشام: والذى أوى له أبو البحترى بن هشام.

قال ابن إسحاق «2» : فكان أول شعر قيل فى الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب ابن مرداس «3» ، أخو بنى محارب بن فهر. قال:

تداركت سعدا عنوة فأخذته ... وكان شفاء لو تداركت منذرا

ولو نلته ظلت هناك جراحة ... وكان حقيقا أن يهان ويهدرا

فأجابه حسان بن ثابت «4» فقال:

ولست إلى عمرو ولا المرء منذر ... إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا

فلولا أبو وهب لمرت قصائد ... على شرف البرقاء يهوين حسرا

أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا

فلا تك كالوسنان يحلم أنه ... بقرية كسرى أو بقرية قيصرا

ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل ... عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا

ولا تك كالشاة التى كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا

ولا تك كالعاوى فأقبل نحره ... ولم يخشه سهم من النبل مضمرا

فإنا ومن يهدى القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا

قال «5» : فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم، وكان

__________

(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 44، 449) ، مسند الإمام أحمد (3/ 460، 462) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 45) ، مستدرك الحاكم (3/ 252) .

(2) انظر: السيرة (2/ 58- 59) .

(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1260) ، الإصابة الترجمة رقم (4193) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2563) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 271) ، الثقات (3/ 200) ، الوافى بالوفيات (16/ 363) ، تاريخ بغداد (1/ 200) .

(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1/ 400) الترجمة رقم (525) ، الإصابة الترجمة رقم (1709) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1153) .

(5) انظر: السيرة (2/ 60) .

قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه، ويطهره، فلما أسلم فتيان بنى سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل فى فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه.

فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم، من عدا على آلهتنا هذه الليلة، ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله، لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته، فإذا أمسى ونام عمرو، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده فى مكانه.

فخرج يتتبعه حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك، وما أبصره من أمره، ويشكر الله الذى أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:

والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر فى قرن «1»

أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك من سوء الغبن «2»

الحمد لله العلى ذى المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين

هو الذى أنقذنى من قبل أن ... أكون فى ظلمة قبر مرتهن

قال ابن إسحاق «3» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى، والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم

__________

(1) القرن: بفتح القاف والراء، قيل: هو شىء من لحاء شجر يفتل منه حبل، وقيل: الحبل من اللحاء، وقيل: هو الخصلة المفتولة من العهن.

(2) مستدن: أى ذليل مستبعد، وقال السهيلى فى الروض الأنف: هو من السدانة وهى خدمة البيت. والغبن: يكون فى الرأى تقول غبن رأى فلان كما تقول سفهت نفس فلان.

(3) انظر: السيرة (2/ 74- 75) .

عن بلادهم، فهم من بين مفتون فى دينه وبين معذب فى أيديهم وبين هارب فى البلاد، منهم بأرض الحبشة، ومنهم بالمدينة وفى كل وجه.

فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت فى إذنه فى الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، فيما بلغنى عن عروة بن الزبير، وغيره من العلماء «1» ، قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 39، 41] .

ثم أنزل الله عليه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193] أى وحتى يعبد الله لا يعبد غيره.



كلمات دليلية: