withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار_15547

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار


المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

:

وكان موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المهاجرين -بعد أن تركوا وطنهم وخرجوا من ديارهم وأموالهم- موقفا دقيقا يتطلب الإخلاص والتضامن، ويقتضي أن يسود التعاون بينهم وبين إخوانهم الأنصار.

وكان الأنصار -وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم- يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان

بهم خصاصة1.

ولا غرو فقد شعروا بحاجة إخوانهم المهاجرين، وقدروا ظروفهم العصيبة، فأوَوْهُم ونصروهم، وضربوا في الإخلاص لهم والتفاني في خدمتهم أروع الأمثال، حتى لقد وصفهم الله -عز وجل- بذلك الوصف الرائع حيث يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2، أي يفضلون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، مهما كان فقرهم، ومهما اشتدت حاجتهم.

وكانت سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الظروف القاسية سياسة القائد المحنك الرشيد، فقد عمل على تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، فربط بينهم برباط قوي متين، وذلك أنه عقد تلك الأخوة النادرة المثال بين الأنصار والمهاجرين، وجعل لها من الحقوق والواجبات ما لأخوة النسب3، فكان أبو بكر الصديق أخا لخارجة بن زهير الأنصاري، وكان أبو عبيدة بن الجراح أخا لسعد بن معاذ الأنصاري، وكان عبد الرحمن بن عوف أخا لسعد بن الربيع الأنصاري، وكان عثمان أخا لأوس بن ثابت الأنصاري4.. وهكذا أصبح المهاجرون والأنصار بنعمة الله إخوانا. وقد أظهر الأنصار من الكرم والتسامح ما خفف عنهم آلام الغربة، وعوَّضهم عن فراق الأهل والعشيرة، حتى ليروى أن سعد بن الربيع الأنصاري عرض عليه أخيه عبد الرحمن بن عوف -وكان لا يملك بيثرب شيئا- أن يشاطره ماله5، فأبى عبد الرحمن

__________

1 أي حاجة وفقر كما جاء القرآن بذلك.

2 سورة الحشر، الآية 9.

3 فكان الواحد يرث أخاه إذا مات حتى نزل قول الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} .

4 انظر ذلك في: "طبقات ابن سعد" 1/ 259 ترتيب طبقاته، و"البداية" 3/ 266 وما بعدها، فإنه أطال في ذكر الروايات في ذلك.

5 بل وأكثر من ذلك، وهو أن يطلق سعد إحدى زوجتيه، ويزوجها لعبد الرحمن، والقصة في "صحيح البخاري" 3781 وغيره.

وطلب إليه أن يدله على السوق، وبدأ ببيع الزبد والجبن في سوق المدينة، فنما ماله واتسعت ثروته وأصبحت له قوافل تجارية عظيمة، وصنع غير عبد الرحمن من بعض المهاجرين الذين لهم خبرة بالتجارة كما صنع عبد الرحمن، فيسر الله عليهم وبارك لهم. أما المهاجرون الذين لم تكن لهم دراية في التجارة فقد عملوا في أراضي الأنصار، واشتغلوا بالزراعة بطريق المزارعة مع ملاك الأرض، وكانوا يلقون كثيرا من الشدة والتعب في حياتهم، ولكنهم يأبون أن يكونوا كلا وعالة على إخوانهم الأنصار، مهما كلفهم ذلك من جهد وآلام.

المعاهدة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- واليهود

كانت المؤاخاة التي عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في المدينة أساسا لتقوية المسلمين، وتوكيدا لوحدتهم وألفتهم وضمانا لحياة كريمة صافية، وعيشة راضية.

وكان اليهود يقيمون بجوار المسلمين في المدينة وهم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكان هؤلاء اليهود أعداء للأوس والخزرج -الأنصار قبل أن يدخلوا الإسلام- فلما دخلوا الإسلام وقوي أمرهم بمجيء إخوانهم المهاجرين ازدادت عدواتهم وحقدهم عليهم. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 1، فكان من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن تدبيره أن يبدأ هؤلاء اليهود بالمودة، ويبسط لهم يد الأخوة، ويتفق معهم على التضامن والتعاون حتى تكون المدينة كلها صفًّا واحدًا وقوة واحدة، وحتى لا يطمع في المدينة طامع وينال منها عدو.

وقد كتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- معاهدة بين فيها حقوق المسلمين وواجباتهم وحقوق اليهود وواجباتهم، وكان أساس هذه المعاهدة الأخوة في السلم، والدفاع عن المدينة وقت الحرب، والتعاون التام بين الفريقين إذا نزلت شدة بأحدهما أو كليهما.

وقد جاء في هذه المعاهدة 2: وأن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم

__________

1 سورة المائدة، الآية 82.

2 أورد المؤلف بعضًا منها، وقد ذكرها ابن إسحاق بطولها، ونقلها عنه الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 224- 225، ثم ذكر أن أبا عبيد القاسم بن سلام تكلم على شرح هذا الكتاب في "غريب الحديث".

قلت: وابن إسحاق لم يسند الواقعة، ولا رأيت الاتفاق من وجه متصل صحيح. انظر "الروض الأنف" 2/ 250 وما بعدها.

وللمسلمين دينهم، ومن ظلم أو أثِمَ منهم؛ فإنه لا يوتغ -لا يهلك- إلا نفسه وأهل بيته، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة1، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى".

وقد كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه المعاهدة معاهدات خاصة مع اليهود تتجه إلى هذه الأهداف، وتدور حول تلك الأغراض.

وقد دلت هذه المعاهدات الجلية على سمو تفكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن سياسته، فهي تقرر حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرمة المدينة، وتحرم الجرائم، وتحارب الظلم والإثم، وقد وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ قرابة أربعة عشر قرنا من الزمان، ولكن لا تزال إلى هذا العصر الذي نعيش فيه نبراسا يهتدي به الساسة والقادة إذا اضطربت الأمور وأظلم السبيل.

ولا شك أن هذه المعاهدات الخالدة2 كانت ذات أثر كبير في تقوية عزائم المسلمين، وحفظ المدينة من مطامع المشركين المعتدين، ولولا أن اليهود غدروا وخانوا العهد والمواثيق، وبدأوا بالعدوان على المسلمين، لما وقف

__________

1 يعني المسلمين واليهود.

2 كثيرا ما يطلق المؤلف هذه العبارة على الأمور المهمة، وكأنه يريد بذلك تعظيمها، أما الخلود فذاك شأن آخر.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون منهم موقف العداء، ولظلت المدينة يغمرها الوئام والصفاء.

ولكن اليهود غدروا وخانوا وبدأوا بالعدوان، فرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون على إساءتهم وظلمهم بما جعلهم عبرة أمام القرون والأجيال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم ظالمين.

إعلاء العصبية 1 بين الأوس والخزرج:

يتجه الإسلام في علاج الأمراض الأخلاقية والمشكلات الاجتماعية إلى أقوم طريق، ويوجه الغرائز البشرية والطبائع الإنسانية إلى المنهج السوي الصالح، فهو لا يقاوم الرغبات، بل يقومها، ولا يناهض الطبائع والعادات بل ينهض بها، ولا يقتل الحيوية الموجودة في النفوس إذا ما جمحت، أو ينزل به إلى الدرك الأسفل، وإنما هو يحييها ويسموا بها ويعليها.

ولقد عالج الإسلام العصبية القبلية في نفوس العرب على هذا الأساس السليم، فوجهها إلى الناحية الصالحة المستقيمة، وحول ذلك التيار القوي الذي كان يغذيها إلى اتجاه يوصل إلى غاية مجيدة ... فبعد أن كانت غاية المرء في الجاهلية هي نصرة قبيلته، والدفاع عن أهله وعشيرته مهما نأوا عن الحق وتشبثوا بالباطل، أصبحت الغاية في الإسلام هي نصرة الحق على الباطل -ولو حارب المرء في هذا السبيل أهله وبنيه، وتبرأ من أمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وبذلك صارت الحمية في الجاهلية عزة إسلامية وأخوة دينية، وأصبح التنافس القبلي البغيض تنافسا رشيدا يسعى إلى التعمير لا التدمير، ويهدف إلى الإنشاء.

__________

1 إعلاء العصبية عند علماء النفس هو توجيهها إلى الوجهة النافعة -المؤلف.

والهناء، لا إلى الهدم والإفناء، وغدا التسابق على المادة أو الجاه والسلطان تسابقًا في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ورفع لواء الإسلام.

ولقد كانت العصبية القبلية بين الأوس والخزرج قبل الإسلام معول هدم وتدمير يهدد القبيلتين بأسوأ مصير، وكان اليهود ينتهزون الفرصة فيشعلون النار كلما خمدت، ويحركون الفتنة كلما همدت، لينالوا من العرب، ويقيموا على أنقاض هذا الضعف قوة لهم. وفي وسط هذا الشر المطبق والفتن المتكاثفة، ومن خلال هذا الضباب المتراكم لاح بريق الأمل، وأقبل الحق المطارد في مكة يسعى إلى يثرب، يسوقه الباطل بجحافله كما تسوق الرياح العاتية الصيب الهتون، وجاء محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بالهدى والرشاد، فقضى على الفرقة وجمع الشتات، وأحيا الله به القلوب الموات: { ... وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.

وكان من الطبيعي أن يحول الإسلام ذلك التيار القوي الذي يغذي العصبية القبلية في نفوس الأوس والخزج إلى وجهة كريمة هي الغيرة المحمودة والتنافس الشريف الذي يسعى لأجَلِّ قصد وأنبل غاية، وهي إعلاء كلمة الإسلام والقضاء على أعدائه الألداء في كل مكان، فصار الأوس والخزرج يتجهون إلى هدف واحد هو إرضاء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكن يتسابقون في هذا السبيل ويتنافسون، ويأبى كل فريق منهما أن يسبقه الآخر بميزة، أو يتقدم عليه بفضل أو يزيد عنه في تضحية وجهاد، وفي ذلك يقول ابن هشام: وكان مما صنع الله

__________

ــ

1 سورة الأنفال، الآية 63.

لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين، ولا تصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك 1.

وكانت مظاهر هذه المنافسة كثيرة، وسوف نكتفي بتسجيل مظهر واحد منها يتجلى فيه كيف كان التنافس بين الأوس والخزرج في القضاء على زعيمين من زعماء اليهود، كانا من ألد أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأكبر خصوم الإسلام. وذلك أن الأوس كان لهم الفضل والشرف الأكبر في قتل عدو الله كعب بن الأشرف 2، وإنما قتله الأوس جزاء غدره وخيانته وظلمه وعدوانه.

ومن ذلك أنه حينما علم بانتصار المسلمين في غزوة بدر جزع وحزن، وتألم وتبرم، وقال لمن معه من أصحابه: أترون محمداً قتل هؤلاء؟ يعني المشركين الذين قتلوا يوم بدر إنهم أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.

ثم انطلق عدو الله حتى قدم مكة، وجعل يحرض على قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.

ولم يكتف ابن الأشرف بتحريض المشركين في مكة، بل إنه رجع إلى المدينة وأخذ يشبب بنساء المسلمين حتى أوذي المسلمون وضجروا، وحتى قال رسول

__________

1 "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 209.

2 وكعب كان من زعماء يهود بني النضير.

وقد أخرج قصة قتله البخاري 3811، ومسلم 1801، وأبو داود 2768، من حديث جابر.

الله -صلى الله عليه وسلم: "من لي بكعب بن الأشرف؟ " فأجابه من الأوس محمد بن مسلمة قائلا: أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله. قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". ففكر ابن مسلمة في هذا الأمر وأعد له عدته مع طائفة من إخوانه، فاجتمع في قتله خمسة رجال من الأوس، هم: محمد بن مسلمة، وسلمان بن سلامة أبو نائلة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعبدة بن بشر، والحارث بن أوس، وأبو عيسى بن جبر1. وقد ذهبوا إلى منزله واستدرجوه إلى الخارج حتى اطمأن إليهم -والحرب خدعة- ثم صاح أبو نائلة قائلا: اقتلوا عدو الله. فاختلف عليه أسيافهم حتى وقع صريع غدره وبغيه، وفي ذلك يقول القائل:

وغودر منهم كعب صريعًا ... فذلت بعد مصرعه النضير

وحينئذ عز على الخزرج أن يسبقهم الأوس إلى هذه التضحية، ويصلوا إلى مثل هذه الغاية دونهم، فقالوا: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا أبدًا، فبحثوا عن رجل من يهود بني النضير -كذلك- يوازي كعب بن الأشرف في عداوته للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين، فوجدوا سلام بن أبي الحقيق2 فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، فأذن لهم.

وكان سلام قد رحل إلى خيبر بعد أن طرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهود بني النضير من ديارهم في السنة الرابعة من الهجرة، ومنذ ذلك الوقت أخذ سلام يثير النفوس ضد المسلمين حتى إنه ذهب على رأس وفد إلى مكة يحرض قريشا على قتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ويحزب الأحزاب عليه3.

__________

1 في البخاري ومسلم كما مضى أبو عبس بن جبر.

2 وقيل: اسمه عبد الله أيضا، وكنيته أبو رافع.

3 وعبارة البخاري في صحيحه 3813 من حديث البراء: وكان أبو رافع يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعين عليه.

ولقد قالوا لقريش: إنا سنكون معكم على محمد حتى نستأصله.

فقالت قريش لهم: يا معشر يهود: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد؛ أفديننا خير أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق.

وقد فرحت قريش بهذا القول من اليهود واستجابوا لدعوتهم، وجمعوا جموعهم وتجهزوا لحرب الرسول -صلى الله عليه وسلم.

ثم جاء اليهود إلى قبيلة غطفان وحرضوا رجالها وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوافقوهم على حرب المسلمين وتجهزوا لذلك وكانت غزوة الأحزاب 1، وفيها ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، ولولا لطف الله لاقتحم المشركون عليهم المدينة، ولقضوا عليهم القضاء الأخير.

فليس بغريب بعد هذا كله أن يرى الخزرج في ابن أبي الحقيق العدو المبين الذي لا يقل عن صاحبه كعب بن الأشرف في الكيد للإسلام والمسلمين.

وهنا تحركت الغيرة الكريمة في نفوسهم وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم الأوس فيما قدموا من تضحية وما سبقوهم به من فضل وشرف، فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، فأذن لهم.

وقد خرج إليه من الخزرج خمسة نفر أيضًا، هم: عبد الله بن عتيك 2 ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، والحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود،

__________

1 سيأتي الكلام عليها مفصلًا.

2 وكان أميرًا عليهم، وفي رواية للبخاري: "فبعث عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة...."

وقد أوصاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يقتلوا وليدًا أو امرأة، فخرجوا حتى قدموا خيبر وأتو دار ابن أبي الحقيق ليلًا.

يقول قائلهم: فلما دخلنا عليه ابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة -قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.

وهكذا كانت نهاية ابن أبي الحقيق، كما كانت نهاية صاحبه ابن الأشرف من قبله، وهكذا تكون نهاية الغدر والخيانة والظلم والعدوان. وفي هذا يقول حسان بن ثابت وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام بن أبي الحقيق:

لله در عصابة لاقيتهم ... ابن الحقيق وأنت يابن الأشرف

ييسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحًا كأسد في عرين مغرف

حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفًا ببيض ذفف

مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف1.

وبعد فهذه صورة واحدة من صور كثيرة تبين لنا حالة الأوس والخزرج، بعد أن صقل الإسلام نفوسهم وطهرها من شوائب العصبية القبلية البغيضة، وكيف أصبحوا إخوة متضامنين، ينافس بعضهم بعضًا في العمل الذي يعلي كلمة الحق، ويدعم بناء الدولة الإسلامية الكبرى.

__________

1 ذكر ذلك ابن إسحاق، وعنه الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 138، وأصل القصة في صحيح البخاري كما مضى دون ذكر شعر حسان.



كلمات دليلية: