withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


العنصر الأول: سبب هذه الغزوة.

العنصر الأول: سبب هذه الغزوة.


الخطبة الخامسة والأربعون: غزوة مؤتة

أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة مؤتة.

عباد الله! غزوة مؤتة وقعت في السنة الثامنة للهجرة وكانت نصراً وفتحاً للمسلمين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "فأخذ الراية خالد ففتح الله عليه".

غزوة مؤتة رفعت من شأن المسلمين، وقذفت الرعب في قلوب الكافرين.

عباد الله! وحديثنا عن غزوة مؤتة سيكون حول العناصر التالية:

,

العنصر الأول: سبب هذه الغزوة.

العنصر الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في المدينة قبل التحرك إلى الشام.

العنصر الثالث: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى أرض الشام.

العنصر الرابع: أحداث الغزوة.

العنصر الخامس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة مؤتة.

العنصر الأول: سبب هذه الغزوة.

سبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني -أحد أمراء قيصر إلى

أرض الشام- فأوثقه رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه. ولم يُقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول غيره، فاشتد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نُقلت إليه الأخبار لأن الرسل لا يُقتلون، فجهز لغزو الروم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب (1).

العنصر الثاني: رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في المدينة قبل التحرك إلى الشام.

عباد الله! أَمَّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الجيش الكبير زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وقال - صلى الله عليه وسلم - للجيش: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" (2).

ووصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمير في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك دائماً إذا أرسل جيشاً في سبيل الله.

عن بريدة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَّرَ أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً .. " الحديث (3).

عباد الله! وودع المسلمون الجيش، وسلموا على الأمراء فبكى عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه - فقالوا له: ما يبكيك يا ابن رواحة؟

فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله

__________

(1) "الرحيق المختوم" (ص 369)، "زاد المعاد" (3/ 381).

(2) رواه البخاري (رقم 4261).

(3) رواه مسلم (رقم 1731).

- صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم: 71]، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟

فقال المسلمون للجيش: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين -أي: سالمين-.

فقال عبد الله بن رواحة يرد على هذا الوداع:

ولكنني أسألُ الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ (1) تقذف الزَّبدا

أو طعنةً بيدي حَرَّان مجهزة ... بحربةٍ تنفذ (2) الأحشاء والكبدا

حتى يُقال إذا مرَّوا على جَدثي (3) ... يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا (4)

عباد الله! وودع النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستودع الجيش: قال "أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم" (5).

العنصر الثالث: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى أرض الشام:

عباد الله! تحرك الجيش الإِسلامي بقيادة زيد بن حارثة - رضي الله عنه - قاصدين أرض الشام، فلما وصلوا إلى "معان" - وهي مدينة معروفة على الحدود

__________

(1) أي ذات سعة.

(2) أي تخترق.

(3) أي قبري.

(4) "زاد المعاد" (3/ 382).

(5) "صحيح سنن أبي داود" (2266).

الأردنية-، وصلتهم الأخبار أن الروم قد تجهزوا لهم بمئتي ألف مقاتل لقتالهم؛ مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب.

عباد الله! وجيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل فقط، وكأن النسبة واحد إلى سبعين. وبات الجيش الإِسلامي بمعان ليلتين يتشاورون في الأمر، أيتقدمون للهجوم على عدوهم على بركة الله، معتصمين بالله، واثقين به؟ أم يبعثون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يخبره الخبر فيرى رأيه، فإما أن يمدهم بمدد من عنده، وإما أن يأمرهم بأمره فيمضوا له.

فقام عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - خطيباً في الجيش فقال: يا قوم: والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وإنا ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظفر -أي نصر- وإما شهادة.

فقال الناس: صدق والله ابن رواحه، ثم تشجعوا وتحركوا نحو العدو (1).

,

العنصر الثالث: أحداث الغزوة

عباد الله! وصل الجيش الإِسلامي إلى وادي حنين، وكان مالك بن عوف -قائد جيش الشرك والوثنية حينئذ- قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وصنع كميناً للمسلمين في الطرق والمداخل والشعاب والمضايق، وأصدر أمره للجيش بأن يرشقوا المسلمين إذا طلعوا عليهم ثم يشدوا عليهم شدة رجل واحدٍ.

عباد الله! وبالسَّحرِ عبأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جيشه، وعقد الألوية والرايات وفرقها على الناس، وفي عماية الصبح -أي ظلامه-، استقبل المسلمون وادي حنين وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي.

فبينما هم ينحطون إذا هم تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدَّتْ عليهم شدَّة رجلٍ واحد، فانشمر المسلمون راجعين -أي انفضوا وانهزموا- لا يلوى أحدٌ على أحدٍ، وكانت هزيمة منكرة، وشمت الأعداءُ بهزيمة المسلمين، فقال بعضهم: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر -يريد أن المسلمين هُزموا هزيمة لا قائمة لهم بعدها أبداً-، وقال آخرُ: ألا بطل السحرُ اليوم، وقال ثالث: اليوم أدركُ ثأري من محمدٍ، اليوم أقتلُ محمداً.

عباد الله! وانحاز النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين وأخذ ينادي: أين أيها الناس؟ هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمَّد بن عبد الله فلا يردُ عليه أحدٌ، وركبت الإبل بعضها بعضاً وهي موليةٌ بأصحابها.

ولم يبق حول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عددٌ قليل من المهاجرين والأنصار، وأهل

بيته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركض بغلته قبل الكفار، ويقول:

أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب

يقول العباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم - العباس -وكان جهير الصوت- أن ينادي: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان، فأجابوا لبيك لبيك، حتى إذا اجتمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ منهم، استقبلوا العدو واقتتلوا وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة القتال، وقد احتدم القتالُ فقال: "الآن حَمِيَ الوطيسُ" وتوجه النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى ربه بالدعاء فقال - صلى الله عليه وسلم -:

"اللهم نزل نصرك"، ثم أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب محمَّد" وقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله إنساناً من الكفار إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة- وولوا من أرض المعركة مدبرين، والمسلمون يحصدونهم حصداً-

يقول العباس: فوالله ما هو إلا أن رماهم حتى رأيت حدَّهم كليلاً، وأمرَهم مدبراً، وفي غزوة حنين نزل قول الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25 - 26].

عباد الله! ولَّى المشركون الأدبار، واعتصموا بناحيةٍ يقالُ لها: (أوطاس) فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعقابهم أبا عامر الأشعري فقاتلهم حتى قُتِلَ فأخذ

الراية منه ابنُ أخيه أبو موسى الأشعري فما زال يقاتل العدو حتى بدَّد شملهم وهُزموا شر هزيمةٍ.

ومالك بن عوف- قائد المشركين يومئذ- ومن معه من رجالات قومه قرروا أن يمضوا في الفرار حتى يصلوا إلى "الطائف"، فيتحصنوا بحصنها تاركين في هذا الفرار مغانم هائلة، فخلف العدو في أرض المعركة أربعة وعشرين ألفاً من الإبل، وأكثر من أربعين ألفاً من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، هذا إلى جانب ستة آلاف من السبي (1).

عباد الله! وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقسم على الناس هذه الغنائم، وتأنى يبتغي أن يرجع القوم إليه تائبين، فيأخذوا ما فقدوا، ومكث ينتظرهم بضع عشرة ليلة فلم يجئه أحد، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الغنائم في (الجعرانة) وعين عليها حارساً، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - بنفسه حتى أتى حصن الطائف الذي تحصن به مالك بن عوف ومن معه، وحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وطال الحصار، فلما طال الحصار ولم ينزلوا، رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين.

,

العنصر الخامس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة مؤتة

:

أولاً: المسلمون ينتصرون على أعدائهم في المعارك بالإِسلام العظيم الذي أكرمهم الله به، وهذا يؤخذ من قول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - عندما قال لأصحابه في غزوة مؤته: والله ما نقاتل القوم -أي العدو- بعدَّة ولا عدد ولا كثرة، والله ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فامضوا يا قوم على بركة الله، فهي والله إحدى الحسنيين: إما الظفر وإما الشهادة".

ويؤخذ أيضاً من قول ثابت - رضي الله عنه - لأبي هريرة عندما قال له: "يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة. قال أبو هريرة: أي والله، قال ثابت: إنك لم تشهد معنا بدراً، إنا لا ننصر بالكثرة".

ففي بدرٍ نصر الله المسلمين وهم قلة قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].

ويوم حنين أُعجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغنِ عنهم شيئاً.

قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ

__________

(1) "زاد المعاد" (3/ 384).

مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25 - 26].

فالنصر من عند الله تعالى؛ ولو كان المسلمون قلة إذا رجعوا إلى دينهم ونصروا الله في أنفسهم، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].

وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].

وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} [محمد: 7 - 8].

وقال- صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (1).

ثانياً: رحمة النبي- صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، ويؤخذ ذلك من حزنه وبكائه عندما نعى الأمراء الذين استشهدوا في غزوة مؤته، وعيناه تذرفان -أي تدمعان-.

عباد الله! وقد تكرر ذلك منه- صلى الله عليه وسلم -، يوم أرسلت إليه إحدى بناته تقول له: إن ابني قد احتُضر فاشهدنا، فردّ مع رسولِها يقول: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب".

فأرسلت إليه تُقسمُ عليه ليأتينها، فأتاها في نفرٍ من أصحابه، فرُفع إليه

__________

(1) "السلسلة الصحيحة" (رقم 11)، "صحيح الجامع" (416).

الصبيّ ونفسه تقعقع، فذرفت عيناه - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟

فقال: "هذه رحمة، جعلها الله في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" (1).

ولما دخل - صلى الله عليه وسلم - على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه بكى أيضاً وقال: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون ولا نقول إلا ما يرضى ربنا" (2)، كيف لا والله -عز وجل- يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}.

وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

عباد الله! وفي هذا دلالة على جواز البكاء والحزن على الميت من غير نياحة، ولا رفع للصوت لأن ذلك حرامٌ.

ثالثا: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤته.

المعجزة الأولى: أنه حين عيّن الأمراء أشار من طرفٍ خفىٍّ إلى استشهادهم حيث أمّر زيد بن حارثة ثم قال، فإن أصيب فجعفر، ثم قال: فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة.

المعجزة الثانية: أن الله أطلعه على كل ما دار في أرض المعركة بمؤته، وأراهُ ما كان فيها، فنعى الشهداء إلى أهليهم قبل أن يأتيه الخبر من أرض المعركة.

اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين.

__________

(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1284)، ومسلم (رقم 923).

(2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1303)، ومسلم (رقم 2315).

,

العنصر الرابع: أحداث الغزوة

:

عباد الله! وصل جيش الإسلام إلى "مؤتة" وعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال في ثلاثة آلاف مقاتل، ووصل جيش الروم بقوته في مئتي ألف مقاتل يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -وهو ممن أسلموا بعد صلح الحديبية، وكانت مؤتة أول غزوة يحضرها-: "شهدت مؤتة فلما دنا المشركون -أي الروم- رأيت ما لا قبل لأحد به، رأيت عدداً وعدة وسلاحاً وخيلاً، وديباجاً وحريراً وذهباً، فبرق بصري.

فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جُموعاً كثيرة؟

__________

(1) "زاد المعاد" (3/ 382)، "مختصر سيرة ابن هشام" (ص 215).

قال: إي والله.

فقال له ثابت: إنك لم تشهد معنا بدراً، إنا لا نُنصر بالكثرة" (1).

وصدق ثابت - رضي الله عنه - لأن الله قال في كتابه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].

وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 26].

عباد الله! وهناك في "مؤتة" التقى الجمعان، وبدأ القتال المرير، ودخل ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين في مئتي ألف مقاتل من المشركين، معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.

عباد الله! أخذ الراية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يقاتل بضراوة وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإِسلام، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم -أي: سال دمه- فقتل - رضي الله عنه -.

ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقاتل على فرسه الشقراء حتى أرهقه القتال، فنزل عن فرسه فعقرها -أي: ضرب قوائمها بالسيف وهي قائمة- ورفع الراية بيده، والسيف في يده الأخرى وأخذ يقاتل القوم وهو يقول:

__________

(1) "البداية والنهاية" (4/ 244) وعزاه للبيهقي.

يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إن لاقيتها ضِرابها

عباد الله، فما زال - رضي الله عنه - يقاتل القوم حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل - رضي الله عنه -، فعوضه الله عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.

"ولذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا سلم على عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (1).

ولذلك لقب جعفر بن أبي طالب بجعفر الطيار.

عباد الله، يقول ابن عمر -رضي الله عنهما- "وقفت على جعفر يومئذ، وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره- يعني في ظهره" (2).

وفي رواية أخرى: يقول - رضي الله عنه - "كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورميةٍ" (3).

عباد الله، لما قتل جعفر بن أبي طالب أخذ الراية عبد الله بن رواحة الأمير الثالث المعين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفعها، فوجد في نفسه تردداً عن

__________

(1) رواه البخاري (رقم 3709).

(2) رواه البخاري (رقم 4260).

(3) رواه البخاري (رقم 4261).

الاقتحام فأكرهها على النزول وقال:

أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنّه ... إن أجلب الناسُ وشدُّوا الرنَّه

لتنزلنه أو لتكرهنّه ... مالي أراك تكرهين الجنة

وقال أيضاً:

يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي! ... هذا حمام الموت قد صليت!

وما تمنيت فقد أُعطيت! ... إن تفعلي فعلهما هُديت!

ثم نزل، فأتاه ابن عم له بِعَرْقٍ من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك فقد لقيت ما لقيت، فنهس منه نهسه، ثم سمع جلباً -أي صوتاً- فقال: وأنت في الدنيا -يعني القتال دائر بين المسلمين والمشركين وأنت يا ابن رواحة في الدنيا- ثم رمى بقطعة اللحم، وأخذ سيفه، ودخل في صفوف المشركين فقاتل حتى قتل - رضي الله عنه -.

عباد الله! تقدم ثابت بن أرقم - رضي الله عنه - فرفع الراية وقال: يا قوم اصطلحوا على أميرٍ منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، لست لها، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وكانت هذه الغزوة أول غزوة يشهدها خالد في صفوف المسلمين؛ لأنه أسلم بعد صلح الحديبية.

عباد الله! أخذ خالد - رضي الله عنه - الراية وقاتل قتالاً مريراً.

يقول خالدٌ - رضي الله عنه -: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة لي يمانية" (1)، ولذلك سماهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومها سيف الله،

__________

(1) رواه البخاري (4266).

قال - صلى الله عليه وسلم -: "فأخذها سيف من سيوف الله ففتح الله له" (1).

عباد الله! ولما كان الليل أعاد خالد بن الوليد - رضي الله عنه - تنظيم الجيش وغير فيه وبدل، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدَّمة ساقة، والساقة مقدمة، ووضع خطة للانسحاب بالجيش في صباح اليوم التالي في عزة وكرامة دون أن يُشعر العدو أنه منسحب، فلما طلع النهار وتراءى الجمعان رأى العدو أن الجيش قد تغير وتبدّل، فقذف الله الخوف في قلوب الكفار، فظنوا أن خالداً قد أُمِدَّ بمددٍ من المدينة لأنَّ صورة الجيش قد تغيرت، وأخذ خالد يقاتل وهو يرجع إلى الوراء بالجيش قليلاً قليلاً قليلاً، فألقى الله الرعب أيضاً في قلوب الكفار، وظنوا أن خالداً يريدُ استدراجهم ليبيدهم، فانسحبوا قبل المسلمين، وقتل المسلمون من المشركين كثيراً، وأوقع جيش الإِسلام بالعدو خسائر كبيرة، وولَّي العدو مهزوماً واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه.

وكانت النتيجة في غزوة مؤته لصالح المسلمين، وكانت نصراً وفتحاً.

عباد الله! ومن أرض المعركة بمؤته إلى المدينة حيث قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر المسلمين في المدينة بنتائج المعركة.

يقول أنس - رضي الله عنه -: خطب النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: أخذ الراية زيدٌ فأصيب -أي: قتل-، ثم أخذها جعفر فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها خالد بن الوليد مِن غير إمرة ففتح الله له وعيناه تذرفان (2).

عباد الله! فلما جاءه من يخبره قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تُخبرني أم أُخبرك؟

__________

(1) رواه البخاري (4262).

(2) رواه البخاري (رقم 4262).

قال: أخبرني أنت يا رسول الله؟ فأخبره بما كان، فقال الصحابيُّ: والله يا رسول الله ما نقصت مما دار حرفاً. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4] (1).



كلمات دليلية: